إخواني في الله! أحييكم في هذه الليلة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون من الليالي المشهودة في صفحات أعمالنا عنده عز وجل، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل ملائكته السيارين الذين يبحثون عن حلقات العلم والذكر، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الملائكة تحفنا بأجنحتها، وأن تحط رحالها في حلقتنا هذه.
إخواني! موضوعنا في هذه الليلة يتعلق بأعمال القلوب ويتعلق بالأمور الإيمانية التي حصل فيها إهمال وتقصير من جمهور المسلمين في هذه الأيام، وقضية قسوة القلوب موضوع طال الكلام فيه، ولكن أعمال القلوب دائماً تعتمد على التطبيق العملي أكثر مما تعتمد على الكلام النظري، وهذا الموضوع الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة إن شاء الله، قبل أن أدخل فيه أحب أن أنبه إلى ثلاث مسائل:
الأولى: دعوية.
الثانية: تربوية.
الثالثة: عقدية.
فالفقه في هذه القضية يسبب المزيد من النجاح في استجلاب الأعداد الكثيرة الغفيرة إلى طريق الهداية، والدين لا ينتشر بغير فعل فاعل، لا يكفي القرآن فقط حتى ينتشر الإسلام في الأرض ولا السنة فقط، ولكن لابد من رجال يحملون القرآن والسنة وينطلقون بهما في الأرض يفتحون قلوب الناس قبل بلدانهم، ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف.
أقول هذا الكلام لأن بعض الإخوان قد يوجد عندهم شعور أنه قد بلغ مرتبة اليقين في التربية وأن قضية التكاليف القلبية مثل التوبة وغيرها قد سقطت عنه، وأنه الآن في أعمال هامة للمسلمين وأنه يطلب العلم ويتفقه في الأصول والعلوم الصعبة، وأنه يشتغل بقضايا مصيرية للأمة، وأنه لا يحتاج إلى قضية التوبة والاستغفار وهذه الأشياء التي هي لعامة الناس، هذا مدخلٌ شيطاني خطير ينبغي أن نتنبه إليه.
إذا كنا من المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأنك أنت يا أيها المسلم كامل الإيمان، إذا أنت معتقد أنك كامل الإيمان ما الذي سيدفعك إلى التوبة والاستغفار؟ إذا لم تعتقد أن الإيمان يزيد وينقص ما الذي يدفعك في لحظات الضعف أن تبادر مستغفراً لله عز وجل طالباً منه المعونة؟ فإذاً: مثل هؤلاء المرجئة اللعَّابين بالدين كما قال الشاعر:
ولا تك مرجياً لعوباً بدينه ألا إنما المرجي بالدين يمزح |
إذا كنا من هؤلاء من أصحاب هذه العقيدة فما الذي سيدفعنا إلى التوبة؟ وما الذي سيجعلنا نتحسس نقص الإيمان في قلوبنا؟ مرتبطة وقضية التوبة مرتبطة أيضاً بجانب آخر من العقيدة وهي مسألة الأسماء والصفات، فإذا لم نفقه قضية توحيد الأسماء والصفات، فما الذي يجعلنا نتجه إلى التوبة ونحن لا نعرف معنى الرحمن ومعنى الرحيم؟ ما الذي سيلجئنا إلى التوبة ويدفعنا إليها ويجذبنا إلى هذا الباب الإيماني الواسع ونحن لا نفقه معنى التواب، أو الحليم، أو السميع الذي يسمع آهات التائبين وأناتهم وهم يصرخون مستغيثين بربهم؟ وما الذي سيدفع الإنسان إلى الخوف من الله فيتوب وهو لم يعقل بعد أن الله شديد العقاب؟!
إذاً: أيها الإخوة المسألة فيها تكامل، ومن الناحية الأخرى نجد أن الناس الذين لا يعتقدون بالعقيدة الصحيحة وأن عندهم أنواعاً من الشركيات عندهم في باب التوبة انحرافات خطيرة، فمثلاً: بعض غلاة الصوفية يتوب الفرد منهم في ذلك الطريق الصوفي يتوب إلى شيخه وليس لله عز وجل، ولذلك عندهم شيء اسمه: التوبة للشيخ، قال ابن القيم رحمه الله: وهذا شرك عظيم.
وملاحظة أخرى أيضاً: أن هذا الكلام أو هذا الدرس هو موجه للصادقين في توبتهم وليس إلى المستهترين ولا إلى المصرين، ولهذا -أيها الإخوة- تعمدت أن أترك أحاديث صحيحة مهمة في باب التوبة خشية أن يفهم بعض ضعاف النفوس غير المقصود الصحيح عند عرضها، وبهذا نصحني بعض أفاضل العلماء وأنا أتباحث معه في بعض هذه الأحاديث.
الناس الآن في موضوع التوبة عندهم إشكالات، فبعضهم يمنعه من التوبة أشياء مثل ماذا؟
إن الشخص عندما يفكر بالذنوب والمعاصي التي فعلها في الماضي يتذكر عدد الفواحش التي اقترفها من زنا ولواط وغيره، والمحرمات التي شربها كالخمر والمخدرات وغيرها، والمال الحرام الذي أكله من ربا وسحت ورشوة وأكل مال اليتيم ومال مغصوب ومسروق، عندما يفكر بهذا الكم الهائل من المعاصي التي قارفها، يستبعد أن رحمة الله عز وجل تمحو هذه الأشياء، هذا اعتقاد عند بعض الناس، يقول لك: يا أخي أنا عملت أشياء عظيمة جداً، كيف يغفر الله هذه كلها؟ معقول! يمكن أن أصدق أن الله يغفر هذه كلها؟ هذا يكون حاجزاً في نفسه يمنعه من التوبة.
وآخر مسلم مستقيم سلك سبيل الاستقامة فترة من الزمن ثم عمل معصية، وقع في معصية من المعاصي فاحشة من الفواحش، فيقول في نفسه: الله عز وجل سيغفر لي أنا الداعية إلى الله والمستقيم على شرع الله الذي ظللت فترة من الزمن، الآن وقعت، يعني: هل يعقل أن هذه العثرة يمكن أن أنهض منها؟ هل يتجاوز الله عنها؟ وأنا الذي أعلم الناس وأنا الذي أدعو الناس إلى التوبة وأدعو الناس إلى ترك الذنوب وأنبههم على خطورة الفواحش والكبائر، والآن أنا وقعت، أهذا معقول؟ يعني: أنا الذي علمت وفقهت أكثر من غيري أمعقول أن يقبل الله مني توبتي؟ فيستبعد القبول، وربما يتزايد الانحراف ويترك الطريق بالكلية.
بعض الناس عنده نفسية اليأس من رحمة الله وأن الله قد كتبه في عداد أهل النار ولا محالة هكذا يظن، ييأس من رحمة الله، وبعضهم يمنعه عن التوبة خشية أن يفضحه أهل السوء الذين كان مخالطاً لهم، وهذه الشلل المنتشرة الآن في المجتمع، وهذه المجموعات التي تلتف على بعضها من أصحاب السوء، رافق بعضهم بعضاً ويعرف بعضهم خبايا بعضٍ وأسرار بعضهم الآخر، وربما تكون عندهم مستندات صور عن الجرائم التي اقترفوها في بلدان العالم المختلفة، وقد يكون عند أحدهم رسالة من آخر وهكذا فيها اعترافات بأشياء، فيأتي إنسان يريد أن يتوب يتنبه من الغفلة، فيقول له أصدقاء السوء: لو تركتنا وتركت ما نحن عليه فإننا سنشهر بك وسنفعل وسنفعل، وسنظهر جميع هذه المستندات ونفضحك بين الناس، فهو تحت هذا الضغط النفسي من هؤلاء الفسقة يُسقط في يدهم ولا يتوب، هو يريد التوبة لهذا السبب.
إذاً: هناك عند الناس إشكالات كثيرة، هناك عند الناس مشاكل في قضية التوبة تحتاج إلى علاج، ينبغي منا نحن معشر الذين نحاول أن ندعو ونفقه الدعوة إلى الله أن نحل لهم هذه العقد، هذه مهمتنا.
إذاً: انظر إلى الرحمة الواسعة الآن، إنه باب عريض جداً لا يغلق إلى قيام الساعة، ويمكن أن تتوب ما لم تصل إلى مرحلة الغرغرة وما لم تطلع الشمس من مغربها، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ هذه نقطة أساسية في القناعة بأن التوبة ممكنة مهما عظم الجرم، ويقول عليه الصلاة السلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) حديث صحيح، ويقول عليه الصلاة السلام مبيناً كيف أن الله يمهل العاصي: (إن صاحب الشمال -الملك الذي يكتب السيئات- ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها ولم يكتبها -ست ساعات- وإلا كتبت واحدة) رواه الطبراني عن أبي أمامة وحسنه الألباني وهو في أحاديث السلسلة الصحيحة .
وعرَّف بعض العلماء التوبة فقال: هي "الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان" أي: عدم العودة إلى المعصية، إضمار عقد القلب على عدم العودة إلى المعصية.
"ومهاجرة سيئ الإخوان": لابد من الخروج من الوسط السيئ، "وإرجاع حقوق بني الإنسان"، إذا كانت الحقوق للعباد فلابد من إرجاعها.
فإذاً: الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيئ الإخوان، وإرجاع حقوق بني الإنسان.
ومن ضمن الناس الذين قد يتجاوزون أناسٌ أبيح لهم النظر للضرورة فتوسعوا فيه مثل: الطبيب والخاطب، امرأة لم تجد طبيبةً مسلمةً مؤهلةً للنظر في ذلك المرض، فذهبت إلى الطبيب، يباح للطبيب أن ينظر من المريضة إلى الموضع الذي يحتاج أن ينظر إليه للعلاج، وقد يتوسع الطبيب أكثر من ذلك، فبعض الأطباء قد يتساهل، والخاطب يباح له أن ينظر إلى مخطوبته حتى يرى ما يدعوه إلى نكاحه منها، فإذا رأى وقرر وانتهينا وعرف النتيجة، ثم طلب أن يرى مرة ثانية وأنه جلس معها فترة طويلة ساعة أو ساعتين وهو لا يحتاج إلى هذه الفترة، فإذاً: هذا إنسان متعدٍ ينبغي له أن يتوب من هذه الزيادة.
وهذا الاستصغار يولد الاستهتار والوقوع في الكبائر، ويترك الإنسان الخوف ويستهين بالمعصية، سألني أحد الناس سؤالاً عن معصية، قال: ما حكم كذا؟ قلت له: هذه حكمها حكم المسألة أو بالدليل من كلام العلماء أنها محرمة فهي حرام، فقال: حرام، يعني: حرام كثير أم قليل؟ فيها سيئات كثير وإلا كم؟ لماذا يسأل بعض العامة هذه الأسئلة؟ لأن عندهم مبدأ الاستهانة بالصغائر، ومحقرات الذنوب هذه مسألة لا يلتفتون إليها ولا يلقون لها بالاً.
وقال ابن القيم رحمه الله: وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها من رتبتها؛ من رتبة الكبائر.
وبعضهم سأل الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله سؤالاً قال: إني قد زنيت هل يجب علي أن أذهب إلى إمام المسجد مثلاً أو أحد الناس فأقول له اجلدني الحد حد خمر أو حد زنا اجلدني خفية؟ فقال الشيخ حفظه الله تعالى ونفع به المسلمين: لا يجب عليه ذلك، فلا يفعل هذا، وإنما تكفيه التوبة بينه وبين الله، لا يحتاج أن يضربه أحد لا في بيت ولا في مسجد ما لم تصل المسألة إلى الحاكم أو القاضي فإنه يجب عند ذلك إقامة الحد.
وفي حديث أبي ذر : (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) سبحانه وتعالى ما أحلمه! ما أرحمه! ما أشد عفوه! وما أوسع مغفرته! لو قال إنسان: يا أخي هذه من الناحية النظرية أنت تأتيني بآيات وأحاديث، لكن أعطني مثالاً واقعياً على أناس اشتدت بهم الفواحش ثم غفر الله لهم، نقول لك: نعم يا أخي يوجد، والحمد لله، ورصيد التجربة وهو رصيد مهم للأمة الإسلامية ولجيل الصحوة، رصيد التجربة رصيد موجود والحمد لله، في القرآن والسنة ما نقل إلينا من السابقين ومن سيرة المسلمين التي نحن الآن نقرؤها، مثل: حديث قاتل المائة النفس حادث عملي، وشيء وقع، شخص قتل مائة نفس قتلها كلها ظلماً وعدواناً، فهو معتد ظالم، وبعد ذلك يقول له العالم وليس العابد الجاهل: وما الذي يحول بينه وبين التوبة؟ نعم. لك توبة، ثم يتوب فيتوب الله عليه وتختصم فيه الملائكة فيكون من نصيب ملائكة الرحمة، وقد قتل مائة نفس.
إذاً: حتى نقرب المسألة عملياً إلى الأذهان نقول: نعم، هناك أمثلة عملية، فهذا قتل مائة نفس، فهل عندك جريمة مثل هذه؟ قتل مائة نفس! والعلماء يصنفون الذنوب: الشرك ثم البدعة ثم قتل النفس ثم الفواحش الأخرى، قتل النفس عظيم، وقول ابن عباس رحمه الله فيه أنه خالد مخلد في جهنم، والعلماء لهم فيها أقوال بسطها ابن القيم رحمه الله في المدارج وغيرها ورجح فيها.
وقال ابن القيم رحمه الله: إما أن تبدل بالسيئات حسنات من ناحية الصفة، يعني: أن يبدل الله بالشرك الإيمان، وبالزنا عفةً وإحصاناً، وبالكذب صدقا، وبالخيانة أمانة، هذا أحد المعاني: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70] من المعاني أيضاً: تبديل السيئات التي عملوها في الدنيا بحسنات يوم القيامة، وهذا الأخير قد يقل وقد يكثر، يعني: لو أن شخصاً عنده مليون سيئة فقد تبدل بحسنات مثلها في العدد، أو أقل منها، أو أكثر منها، أو أنها أكثر في الكيفية أو أقل أو مثلها في الكيفية كما أنها في الكمية على حسب ماذا؟ على حسب استقامة الشخص والأعمال الصالحة التي فعلها بعد ارتكاب تلك الفواحش.
ومسألة رغبة الناس أن يكونوا عند الهداية قد مُسِح عنهم الماضي فهي رغبة عند كثيرين من مريدي التوبة، يريدون مسح الماضي بأي وسيلة، فكثير من الشباب الذين هداهم الله عز وجل والكبار الذين هداهم الله عز وجل والنساء اللاتي هداهن الله عز وجل يأتون يقول لك: أنا أريد أن أهتدي، لكن ماذا عن سيئاتي الماضية هل تمحى أم لا؟ هذا سؤال مصيري يهمني، أريد أن أعرف هل يمكن أن يمسح الماضي أم لا؟ أنا قلق على الماضي، أنا لا أزال أتذكر تلك الفواحش، ماذا سيحدث؟ يعبر عن هذه النفسية الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: (فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي -غريب لماذا قبض
ويعبر عن هذه النفسية أيضاً نفسية إرادة مسح الماضي بالكلية الحديث الآتي: عن ابن عباس ( أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن -كلامك جميل جداً ونحن مقتنعون به- فلو تخبرنا، أن لما عملنا كفارة، فنـزل قول الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً [الفرقان:68] ونزل قول الله عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] ).
ولكن المقصود أن المسلم مهما كان مستقيماً ومهما كان قد تلقى من التربية يمكن أن يقع في يومٍ من الأيام في فاحشة، فلو وقع ماذا يفعل؟ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فقط المسألة بسيطة.
فبعض الناس عندهم هذه النفسية، يقول: هذه الصيفية أنا أذهب إلى البلد الفلاني وأفسق وأفجر وأفعل وأفعل وبعد ذلك أرجع وأذهب إلى مكة وأعتمر، لذلك خط سير بعض الناس عجيب: بانكوك، ومكة ، أو العكس، يقول: الآن أريد حسنات كثيرة، وبعض الناس لهم عجائب في الموضوع يذهب إلى مكة والحرم ويحجز هناك ويجلس في مكة ويحجز حجزين في الطائرة واحد في آخر رمضان وواحد في أول شوال إلى مكة ثم إلى بانكوك ، تصور!!
فلماذا هذه الازدواجية؟ لأن الناس لم تترب التربية الصحيحة، لا يمكن لواحد تربى التربية الإسلامية الصحيحة أن يفعل هذا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، فقال: اضربوه -اضربوه الحد- قال
هذه مسألة مهمة يجب أن يكون موقفنا تجاه المذنب عندما يقام عليه الحد، أو عندما يأخذ جزاءه، أو عندما تصح توبته وفعلاً يستقيم، فلا نقول: هذه فعلة فعلتها سود الله وجهك، وهذا عمل أخزاك الله تفعله، وهذا كذا، هذا العمل ما الذي يفعل في نفس المذنب؟ إنه يرى أن الناس كلهم ينظرون إليه بمنظار أسود، بالرغم من أنه تاب وأقيم عليه الحد وطهر، فكيف يقال له: أخزاك الله؟! فإذاً ينفر من الوسط ويترك ولا يجلس مع الصالحين فنعين عليه الشيطان، إذاً: مراعاة شعور التائب إذا صلح حاله، نقطة هامة فتجب مراعاة شعور التائب إذا صلح حاله.
وحديث المرأة المخزومية وهذا طريق من طرق حديث هذه المرأة، فشأن هذه المرأة فيه فائدة مهمة، فقد سرقت المرأة المخزومية وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع يدها، فكلم الناس أسامة أن يشفع عند الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وخطب خطبةً مهمة وقال القاعدة الإسلامية في هذا الموضوع وأمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها، قالت عائشة رضي الله عنها [فحسنت توبتها بعد -المرأة المخزومية هذه التي قطعت يدها حسنت توبتها بعد- وتزوجت وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، انظر حسنت التوبة، فلما حسنت التوبة استقبل الصحابة المرأة هذه استقبالاً حسناً فوجدت مكاناً في المجتمع المسلم، فصارت تأتي إلى عائشة وتجلس عند عائشة وتزوجت وصلح حالها، وعائشة طبعاً ترفع أمرها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لولا أن المرأة وجدت مكانة في المجتمع هل كانت ستأتي وتجلس عند عائشة وتتحدث عندها، فحسن استقبال الصحابة للتائب هذا يؤدي إلى أن يكون التائب لبنة صالحة في المجتمع، الآن خطأ بعض الدعاة إلى الله وبعض الناس أنهم يستقبلون التائب استقبالاً سيئاً يقولون: اذهب أنت بعد كل هذه الأعمال تأتي الآن، اذهب من هنا، لا مكان لك عندنا، ماذا يحدث عند الشخص؟ يفور وربما رجع وانتكس انتكاسةً أشد من الأولى، من هو السبب؟ أنت السبب، أنت الذي نفرته، هذه المشكلة، المشكلة الأسلوب، المشكلة مشكلة الأسلوب عند الكثيرين، فلو دخل واحد إلى طريق الاستقامة، وحصل سوء تفاهم بينه وبين واحد من إخوانه الدعاة، فصار فيه كلام فذهب لشخص ثانٍ يشكو حاله، يقول له: لقد حصل بيني وبين فلان خلاف وكذا، وأنه أخطأ علي بكذا وقال كذا وكذا، فقال الشخص الثاني كلمة واحدة فقط فصلت الموضوع، قال له: أحسن، تستاهل، طبعاً باقي القصة متوقعة، تائب جديد يلجأ لمن؟ لقد أغلقت الطريق أمامه فإلى أين يذهب؟
وحتى في الردة في الحديث الصحيح عن ابن عباس قال: كان رجلٌ من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ ندم مع أنه ارتد، لكنه ندم، فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن فلاناً قد ندم وإنه أمرنا أن نسألك هل له من توبة، فنزلت: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ [آل عمران:86].. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا [البقرة:160] هؤلاء الله عز وجل لهم غفور رحيم، حتى لو ارتد يرجع.
شخص سافر إلى الخارج، كان مسلماً واعتنق الأفكار العلمانية، ثم جاءنا كافراً، ثم بعد ذلك تاب، وقال: أنا يا جماعة كنت في يوم من الأيام ملحداً فهل لي من توبة؟ نقول: نعم لك توبة، لا أحد يمنعك من التوبة، تعال، نعلمه ونرفق به ونتلقاه تلقياً حسناً، فلا يلبث أن يكون داعيةً إلى الله.
وقد يكون تعيير المسلم لأخيه بذنب فعله أعظم إثماً من المذنب لما فيه من إظهار الطاعة وتزكية النفس وتبرئتها من العيوب، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا زنت أمة أحدكم، فليقم عليها الحد ولا يثرب) لا يثرب يعني: لا يعير، في الحديث الصحيح، وورد عن بعض السلف قوله: "إن من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله"، وقال بعضهم: "لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك"، فإذاً: أنت لابد أن تحس يا أخي أنك يمكن أن تقع في نفس ما وقع فيه هذا الشخص، فعندما تعيره بالفاحشة فقد تقع في الفاحشة، وعندما تعيره بالكذب فقد تقع في الكذب وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [الإسراء:74] هذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقال له هذا الكلام، وقال يوسف: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33] هذا النبي يوسف يقول لربه لو لم تصرف عني كيد هؤلاء النسوة أقع في الفاحشة، وكان عامة يمينه صلى الله عليه وسلم: لا. ومقلب القلوب.
ولذلك الرجل الذي جاء لمذنب وقال: إني أنصحك عشرين مرة ولا فائدة، أنت تصر على المعصية، أنت .. أنت .. لا يغفر الله لك، في الحديث الصحيح: (إن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، قال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك) هذا تعدٍّ على حق من حقوق الله، من الذي يغفر؟ إنه الله عز وجل هو الذي يغفر، أنت لا تعطي الناس كروتاً إلى جهنم والجنة توزع عليهم تقول: أنت يغفر لك وأنت لا يغفر لك، ليست من صلاحياتك.
بعض الناس لا يرتاحون حتى يقول بالتفصيل، فقد جاءني مرة شخص قال: أنا طبعاً الذي يفعل هذا الأمر لا يدري كيف يفتح الموضوع أصلاً، لابد أن نعرف كيف نعامل عامة الناس، هذه نقطة مهمة، جاء يفتح الموضوع فتأثر ثم بكى، ثم بدأ يقول: أنا فعلت شيئاً ولا أدري ماذا أفعل لأن هذا الشيء في داخله مسألة ولا أدري كيف أحلها، طبعاً الكلام غير واضح، فأنت تقول له: يا أخي! تذكره برحمة الله وبوجوب التوبة، فقال الرجل: يا أخي أنا مشكلتي لا تنتهي بقضية أني أتوب وأستغفر، لأن المسألة وراءها أشياء، فالرجل يتلكلك في الكلام ويتلعثم، ثم قال: مشكلتي أني فعلت الفاحشة، ولا زال السؤال حائراً في ذهن الرجل، ما هو السؤال؟ ليست قضية التوبة فقط، إذاً هناك شيء آخر، قال: والمرأة التي فعلت فيها الفاحشة قد عقد عليها منذ أيام، والمهم في النهاية قال: وأنا الآن والله ما أدري ربما كانت حاملاً مني وستدخل في الرجل الجديد، سبحان الله يا جماعة! المعصية شؤم تبقى تطارد الواحد وأسواط المعصية تلسع، طبعاً تلسع الصادق أما ذاك المستهين فلا.
الآن مثل هذا الرجل عنده مشكلة لا يمكن أن تتحقق بقضية أنه فقط فعل الفاحشة يقول: هل أخبر زوج المرأة؟ صحيح ربما كانت حاملاً مني، يمكن أن يدخل بها الآن، طبعاً الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره) ما معنى الحديث؟ مزارع عنده بستان وفيه ساقية تسقي عنده في البستان وتذهب إلى جاره سمع الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره) قال: أنا أولى أن أطبق الحديث، فقطع الماء عن جاره، لماذا يا فلان؟ وترافعا إلى القاضي، قال: هذا حديث صحيح: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي بمائه زرع غيره) يجب أن تعلم ما هو شرح الحديث، ما هي أقوال أهل العلم، طبعاً الشرح: أنك أنت لا تدخل بامرأة طلقت أو مات عنها زوجها ولما يستبرئ الرحم ولما تتبين براءة الرحم لأنه يمكن أن يكون فيها شيء من زوجها الأول، فلو دخلت فيها تسقي بمائك "المني" زرع غيرك (الرجل الأول) هذا معنى الحديث.
فالآن الرجل عنده مسألة العقدة الآن، كيف أتخلص؟ هل يجب علي؟ أنا لا أطيل عليكم بشرح الأحكام وسألنا الشيخ الفلاني وقال كذا، إنما أقول هذا مثالاً على أن بعض الناس لابد أن تعلمه وتوضح له وتشرح له وتستقبله وتستفرغ ما في نفسه من الأشياء.
إن الذنوب تحدث فيها أحياناً أشياء إيجابية في النفس، وهي لا يجوز فعلها، لكنها وقعت، فعند بعض الناس يكون للذنوب أثر إيجابي في النفس، كيف؟
هذا الانكسار الذي يحدث للمذنب التائب العائد إلى الله وليس المتكبر المستهين أصلاً الذي لا يحصل له خير نهائياً، هذا رجل حصل منه الذنب وتاب إلى الله، ماذا يحصل له؟ يحصل له انكسار وذلة وخضوع بين يدي الله ويتخلص من الكبر، بعض الناس يتخلص من الكبر بطريقة عجيبة: فهو إنسان مستقيم ولكن عنده كبر ويرى نفسه أنه أحسن من الناس وأن الناس هؤلاء يذنبون، فهو أحسن منهم، ويتكبر ويتعالى عليهم، وبعد فترة يقع في ذنب هو نفسه يقع في ذنب، فإذا وقع في الذنب يتبين له حقارة نفسه، ويتبين له قيمتها، ويتبين أيضاً أن الشيء الذي كان يذم الناس به ويتعالى عليهم قد وقع هو فيه، فتذهب صفة العجب، أو يكون هذا الذنب فيه علاج لصفة الكبر الذي في نفسه، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجر المسبحين المتفاخرين، أيهم أحب إلى الله شخص مسبح يتعالى ويتفاخر في التسبيح ويرائي به، أم إنسان انكسر بين يدي الله لذنب فعله وهو يئن الآن ويستغيث بالله أن ينجيه من هذا الهم والكرب الذي وقع فيه؟
فعليك أن تدرك يا أخي أن هذا المذنب لعل الله قد أسقاه بهذا الذنب دواءً استخرج به داءً قاتلاً هو فيه ولا تشعر كما قال ابن القيم رحمه الله: وهذا الانكسار بين يدي الله له أهمية عظيمة، ولذلك أنت تجد في حديث (يا بن آدم! مرضت ولم تعدني، قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما إن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما لو عدته لوجدتني عنده) لماذا؟ بينما الجائع والعطشان قال: (لوجدت ذلك عندي) أما عند المريض قال: (لوجدتني عنده) يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً: فتأمل هذه اللفظة لماذا؟ للكسرة الحاصلة في نفس المريض من المرض ولو كان أكبر متكبر إذا مرض، يعني: مرضاً شديداً جداً أقعده يحصل عنده نوع من الانكسار، ولذلك تجد الله عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وهذا والله أعلم السبب في استجابة دعوة المظلوم والمسافر والصائم، لأن المظلوم انكسرت نفسه بالظلم، والصائم انكسرت نفسه بالجوع، فانكسرت حدة هذه النفس السبعية الغضبية التي لا تشبع، وهذا المسافر انكسرت نفسه بالغربة، ولذلك تجد الله يستجيب دعاء هؤلاء الناس المسافر والصائم والمظلوم، وكذلك المريض.
ويقول ابن القيم رحمه الله أيضاً: وقد يكون ذنبٌ عند بعض الناس أعظم أثراً من طاعة، كيف؟ يقول: يعمل الذنب فلا يزال هذا الدنب نصب عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى ذكر ذنبه، فيُحدِث له انكساراً وتوبةً وندماً، فيكون ذلك سبب نجاته وفي المقابل شخص محسن وضع الحسنة أمام عينيه يراها دائماً، يقول: ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى كلما ذكرها أورثته عجباً، وكبراً ومنةً فتكون سبب هلاكه، فيكون الذنب موجباً لترتب طاعات وحسنات لأنه يرى السيئة أمام عينيه دائماً فيعمل طاعات ويعمل حسنات، ويخاف الله ويستحي منه ويطرق بين يديه منكسراً خجلاً باكياً نادماً مستقبلاً ربه، حتى يقول الشيطان -اسمع هذه الطرفة- يقول ابن القيم رحمه الله: هذا المذنب الذي يضع السيئة أمام عينيه حتى تحدث له كل هذه الأشياء، حتى يقول الشيطان: يا ليتني لم أوقعه فيها، لما يرى من ترتب الحسنات والعودة العظيمة إلى الله، فيندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه، لكن شتان ما بين الندمين.
والذنب أيضاً يحدث الاعتذار إلى الله واللجوء إلى الله ومناجاة الله عز وجل، فالله! ما أحلى قول المذنب في هذه الحالة: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه.
هذه المناجاة التي تحدث عقب الذنب، لأن الإنسان يحس بالخطأ يحس بالندم، فيدفعه إلى هذه الأشياء التي يقبل بها على ربه، وهذا هو موضع الحكاية المشهورة التي جاءت عن بعضهم أنه شرد وأبق من سيده، فرأى في باب السكك باباً قد فتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، لاحظ تطابق هذا المثال مع المذنب، فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يئويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً فوجد الباب مرتجاً مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه بعد وقت فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي أين ذهبت عني؟ ومن يئويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادة الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت.
يقول ابن القيم رحمه الله -هذا الرجل العظيم الذي قلما أنتجت الأمة الإسلامية مثله في طب القلوب- يقول: فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) وأين تقع رحمة الوالدة هذه التي في القصة الآن من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟
مرةً قابلت موظفاً أتكلم معه يقول لي: والله أنا أكثر السفر وأنا أصارحك أني ما شربت الخمر مطلقاً برغم أني جلست على موائد فيها خمر، ما شربت الخمر، ولكن الصراحة أني قد زنيت، لماذا؟ يقول: لأن الخمر أريد أن أشربها في الجنة -هذا منطق، أناس عندهم طرق عجيبة في التفكير- فيقول: أنا تبت من هذا، أتيت بهذا المثال لكي أوضح كي لا يفهم بعض الناس ويقول: إذاً نتوب من بعض الذنوب ونبقى على الذنوب الأخرى، لأن هذه الاستهانة مصيبة يمكن أن تمحق العمل كله. وقد يعدل الإنسان عن معصية إلى معصية أخرى لأسباب، فمنها:
إما أن يترك معصية ويصر على أخرى، لأن الأخرى وزرها أخف، يقول مثلاً: أنا تبت عن الزنا لكن لا أريد أن أتوب عن النظر إلى المسلسلات والصور المحرمة، لماذا؟ يقول: لأن هذه إثمها أقل، لذلك أنا تبت عن هذه، لكن أبقى على هذه.
أو لغلبة دواعي الطبع عليه، فهناك شخص مثلاً قد لا يسبل، يترك معصية الإسبال لأنها ليست متعلقة بشهوة كما قال أحدهم، قال: أنا قد أعفي لحيتي وأقصر ثوبي لأني لا أجد فيها مقاومة للنفس، لكن بصراحة لا يمكن أن أترك النظر إلى المرأة الأجنبية، لماذا؟ لأن نفسه تلك ما فيها مقاومة، هذه ليست فيها مقاومة للنفس، فلذلك قد لا يستطيع أن يتركها.
وبعض المعاصي أسبابها حاضرة بين يديه فمثلاً يمكن بسهولة أن يضع فيلماً ويشغله ويراه بسهولة، لكن مثلاً المخدرات يقول: كيف أحضرها؟ ومن أين أبحث عنها؟ صعبة!! ولذلك هو يترك ذلك الذنب ويصر على هذا لأن أسباب تحصيل هذا متوفرة، وأسباب تحصيل ذلك الذي تركه صعبة، فمثل هذا لا يكون صادقاً مع الله.
أو أن بعض أقران السوء وخلطائه لا يدعونه يتوب من المعصية، لماذا؟ لأنه قد يترك جاهه، فقد يكون مترئساً مجموعة يفعلون فعلاً، أو هو الذي يجلب لهم المنكر الذي يقارفونه، وهذا موجود، فهو الآن عندهم زعيم عظيم ووجيه، لو تاب فقد الزعامة، فبعض الناس يحب الرئاسة بأي طريقة حتى لو بحصب جهنم، المهم أن يكون هو الذي ينظر إليه، فمثل هذا مثل أبي نواس الشاعر الفاجر الذي نصحه أبو العتاهية ولامه على تهتكه في المعاصي، فقال أبو نواس :
أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي |
أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهي |
بعض الناس يتوبون -وهذه مسألة مهمة أيها الإخوة- نتيجة عبادة من العبادات مؤقتة أو حدث معين، بعض الناس يذهب إلى الحج أو العمرة ويرجع متغيراً، تاب إلى الله وتجده الآن قد تحسن مظهره وتغير شكله، أو شخص أصابه حادث سيارة ونجا منه، طبعاً رق قلبه للحادث وكيف حصل وكيف أنجاه الله، فتحسنت أحواله والتزم بطاعة الله، أو مثلاً مرض مرضاً شديداً ثم شفي منه، تجد بعض الناس يتحسنون، لكن لا يستغلون هذا التحسن في تنمية إيمانهم والمزيد من العبادات، يبقى على حاله حتى يخف تدريجياً مع الزمن حتى يعود كما كان، ولذلك لابد من استغلال هذه الأشياء.
رجل تاب لحفظ حاله وقوته، شخص ترك الزنا مثلاً واللواط خشية مرض الإيدز والهيربس، ليس خشيةً لله، هل توبته صحيحة؟ فكر يجب أن يكون الدافع للتوبة لله لا خشية الأشياء الدنيوية.
شخص ذهب ليسرق بيتاً، فلم يجد منفذاً، ووجد سيارة الشرطة، فخاف ورجع، هل توبته صحيحة؟ إنسان جاء شخص يعطيه رشوة فامتنع عن هذه الرشوة، لماذا؟ قال: أخاف أن يكون هذا المال الذي يعطيني الرجل من هيئة مكافحة الرشاوي والفساد الإداري، ولذلك أنا لا آخذ الرشوة، فهو ما ترك أخذ الرشوة لله وإنما خشية من هيئة مكافة الرشاوي، ولذلك يا جماعة يركز المسئولون الصالحون دائماً على قضية الرقابة الذاتية لأنها هي التي تكفل استقامة الناس.
لو أن بعض الناس مثلاً يتوبون إلى الله بعد حصول شيء عندهم يفقدهم القدرة عن المعصية، فشخص كاذب أصيب بشلل في لسانه، ما عاد يستطيع أن يتكلم ولا يكذب، أو زان فقد القدرة على الوقاع، أو سارق فقد أطرافه في حادث، الصحيح أن هؤلاء إذا تابوا إلى الله توبة صحيحة أنها تقبل إذا تابوا لله ليس لأنه مجرد فقد الأدوات، تاب لله، فتوبته إن شاء الله صحيحة.
إلى هذا الشخص نقول هذا الكلام الذي ذكره ابن القيم رحمه الله: وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية ويعطيه النفقة وهو القيم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه في حاجة له -الأب بعث الابن في حاجة له- فخرج عليه -على الولد- في طريقه عدو فأسره وكتفه وشد وثاقه، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة فتهيج في قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد ذبحه في نهاية المطاف إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه، فرأى أباه منه قريباً، فسعى إليه وألقى نفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه ودموعه تسيل على خديه، قد اعتقنه والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه، وهو ملتزم لوالده ممسك به، فهل تقول إن والده يسلمه مع هذه الحالة إلى عدوه مرةً أخرى ويخلي بينه وبينه؟ -تظنون هذا يا جماعة؟- فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها؟ إذا فرَّ عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه.
شخص يكون ماشياً في طريق الاستقامة ويأتي الشيطان ويستحوذ عليه ويحرفه عن سبيل الله، ثم يبصر طريق الهداية مرة أخرى يريد أن يرجع، فإذا رجع إلى الله رجع صادقاً وصحيحاً، تظنون أن الله يسلمه إلى الشيطان مرة أخرى إذا كان صادقاً.
إذا فرَّ عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه يقول: يا رب! يا رب ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك، لا ملجأ له ولا منجى منك إلا إليك، أنت معاده وبك ملاذه:
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره |
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره |
إذا خاف الواحد من أحد من البشر فإنه يهرب منه، لكن أنت إذا خفت الله تذهب إلى من؟ ترجع إليه وهو الذي خفت منه، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا وترحمنا، وأن ترزقنا التوبة النصوح، وأن تعفو عنا، وأن تتجاوز عن سيئاتنا بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.
هذا الدرس الذي اقترح عنوانه بعض الإخوان "أريد أن أتوب ولكن" أساس الدرس الكلام على العوائق التي تحول بين بعض الناس وبين التوبة، يعني: يقول: أريد أن أتوب ولكن كيف يغفر الله هذه الذنوب كلها؟ أريد أن أتوب ولكن أصدقاء السوء لا يدعوني سيشهرون بي، أريد أن أتوب ولكن لا أعرف كيف أتوب؟ أنا تركت صلوات وتركت زكاة وتركت كذا، وسرقت مالاً وعندي أموال ربوية، لا أعرف كيف أتوب.
فإذاً: نحن -أيها الإخوة- ركزنا أصلاً في الدرس حول هذه النقاط التي هي تشكل عقبة في طريق التائبين، أو أمور تزيل ذلك الحرج الذي لا يجعل الشخص ينتج في المجتمع المسلم نتيجة الكابوس الذي يبقى فوق رأسه، وقبل أن نبدأ بأسئلتكم، وأنا لا أنوي الإطالة بالأسئلة حتى لا يحصل الملل أكثر مما حصل.
أريد أن أذكر بعض الأحكام قبل أن تأتي الأسئلة لأن الأحكام التي سنذكرها ربما تجيب أصلاً عن بعض الأسئلة المطروحة، وهذه الإجابات على هذه الأسئلة قد جمعتها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم وبعض الأشياء سألت فيها الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين ، والشيخ عبد الله بن جبرين .
أو كذلك رجل ترك الطمأنينة في الصلاة، رجل صلاته كنقر الغراب، ثم تاب إلى الله وعرف أن الطمأنينة ركن كيف يفعل؟ استدلالاً بحديث المسيء صلاته لا يجب عليه أن يعيد وإنما يستأنف الآن الصلاة بطمأنينة.
ورجل ترك الصيام، هذا الرجل إن كان تركه للصيام حاصلاً وهو يصلي ولم يرتكب مكفراً، يعني: ترك الصيام ولم يزل مسلماً، فهذا عليه أن يقضيه الآن، يقضي الصيام الماضي الذي تركه، أما إذا كان أصلاً كافراً مستهزئاً بالدين مرتداً عن الإسلام تاركاً للصلاة بالكلية، فهذا لا يؤمر بإعادة الصيام لأنه كان عند تركه للصيام كافراً، والرسول صلى الله عليه وسلم ما طلب من الصحابة الذين أسلموا أن يعيدوا الصيام الذي فاتهم مثلاً، وكذلك الزكاة، ولكن نضرب مثالاً بمسألة تحصل ويسأل عنها بعض النساء، تقول المرأة مثلاً: أنا عندما بلغت لم أخبر أحداً ببلوغي لأني خجلت ممن حولي، وتظاهرت بالإفطار وأفطرت حتى لا يحسوا بأنها قد بلغت لأنه أمرٌ مخزٍ عندها، وما أعلمتهم وتركت الصيام، وبعد مرور سنوات طويلة تقول: ماذا أفعل بصيامي الذي تركته، فالجواب: إن توبتها إلى الله عز وجل تقضي بأن تصوم هذه المرأة ما فاتها من الأيام في بداية بلوغها أو بعده مثلاً: تركت الصيام سنتين فتصوم شهرين، فهذه تصوم أيام الحيض التي تقضيها أصلاً [كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة] تصوم أيام الحيض وغيرها، يعني: تصوم الشهر كاملاً الذي تركته، وإن كانت صامت بعضاً وأفطرت بعضاً، فإنها تصوم ما فاتها منها.
ولكن إذا أخرت ذلك الصيام حتى جاء رمضان الذي بعده ولما تقضه بعد، فعليها بالإضافة إلى قضاء الصيام إطعام مسكين عن كل يوم، يقول الشيخ عبد العزيز : وهذه فتوى ستة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أخر صيام رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده، فإن عليه بالإضافة إلى قضاء الصيام إطعام مسكين عن كل يوم أخره من رمضان هذا إلى الذي بعده، وقد يقول قائل: أنا مر علي عشرون رمضاناً، ولم أصم منها إلا ثلاثة، فهل تتضاعف الكفارة؟ فنقول: لا. كما أجاب عن ذلك أهل العلم، لا تتضاعف الكفارة، تقضي ما فاتك في الماضي وتطعم عن كل يومٍ مسكيناً.
امرأة تركت زكاة ذهب الحلي، فيقول الشيخ عبد العزيز حفظه الله: إن كانت تركته لشبهة كأن تركتها لعلمها أنه لا زكاة فيه، كانت مقتنعة من قبل أنه لا زكاة فيه، فهذه ليس عليها إعادة إخراجها للشبهة التي حصلت عندها في الحكم، لكن لما تغيرت قناعتها وعرفت بالدليل على وجوب الزكاة في الحلي، فإنه يجب من عند تلك اللحظة أن تخرج الزكاة التي عليها ولو لسنوات مضت تقدرها تقديراً إن استحال تعيين المبلغ.
وقضية البيان مهمة، وبها نرد على من قال: إن ابن سينا الملحد تاب -طبعاً هناك أناس أصلاً لا يعرفون أنه ملحد- لكن إذا قال شخص: ابن سينا تاب، كيف ندري أنه تاب؟
وطه حسين عميد الأدب العربي -أستغفر الله، عميد قلة الأدب العربي- تاب، كيف نعرف ذلك؟ هل قدم لنا شيئاً مكتوباً أنه تاب، هل كتب شيئاً نقض فيه ما كان يعتقده وينشره بين الناس، وأن يسخر قلمه هذا من كمال التوبة، وأن يسخر قلمه لنصرة هذا الدين والرد على أعداء الله وعلى شبه الكفار والملاحدة، وأنه لو كان نشر في الرذيلة فيكتب الآن في الفضيلة، ولو نشر في البدعة فيكتب الآن في السنة، ولو نشر في الشرك فيكتب الآن في التوحيد وغيره، لكن هذه بالتركيز لأنه كان قد قصدها في الماضي، هذا من كمال توبته، ولو أن إنساناً ضلل شخصاً آخر مثلاً: أقنعه باللواط والعياذ بالله، أو بمقدماته، قال: هذه لا شيء فيها، فذاك المسكين كان قد غرر به، يجب عليه أن يبين له: يا أخي ما قلته لك سابقاً خطأ وكان من الشيطان، وأنا أستغفر الله منه وهذا حرام، وهذه لا تجوز، لأنه كان قد ضلله، إذا لم ينتبه الشخص الآن ولم تتغير الفكرة لديه وما زالت في ذهنه أنها ليس فيها شيء وأنه شيء شرعي مثلاً، فعليه عليه أن يبين له ما قد أقنعه به في الماضي.
وأحياناً تجد من يفتري على إنسان مستقيم فيقول: هذا يفرق صفوف المسلمين، هذا صاحب بدعة -أي تهمة من التهم- فإذا أراد أن يتوب إلى الله عليه أن يبين، يقول: لا يا جماعة، أنا كنت قد رميته بأنه يفرق صفوف المسلمين كلا، إنه يجمعها، رميته بأنه مبتدع، كلا. إنه صاحب سنة، قلت إنه كذاب، لا، إنه صادق، أو إني لا أعرف حاله أنا افتريت عليه، عليه أن يبين، لاحظوا هذه الأشياء قد يقع فيها طائفة من الناس الذين ظاهرهم الاستقامة، بل وحتى الدعوة إلى الله عليهم أن ينتبهوا إلى كيفية التوبة من هذه الأشياء وهذه قضية خطيرة وحساسة.
وكذلك إذا كان الذنب في حق آدمي مثل القذف الذي بدأنا به الآن، أو الاتهام بأشياء باطلة سواء رجل اتهم امرأة، أحياناً يتهم امرأة يقول: فلانة فيها كذا، فلانة كذا، يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، فعليه أن يتوب إلى الله وأن يبين سلامة تلك المرأة من القذف الذي قذفها به، أو امرأة كذبت على رجل، فتبين سلامة الرجل، أو أن شخصاً شكك في شخص ليس بناءً على أشياء محسوسة وواقعية، فعليه الآن أن يبين: يا جماعة أنا شككت فيه عن هوى، عن تسويل الشيطان، وليس عندي في الحقيقة مستند لظن السوء.
فإذاً: حقوق الآدميين إما في العرض أو في المال، فيجب عليه أن يتحلل منهم.
وهناك أشياء تتعلق بالعرض فلو أن رجلاً زنى أو فعل الفاحشة بشخص ويريد الآن أن يتوب، فإن كان الشخص المقابل راضياً فلا يتحلل منه لأنه راض وتكفيه توبته فقط، أما إن كان مغصوباً فيجب عليه أن يتحلل منه بطريقة لا تؤدي إلى المفسدة، فقد يقول تائب: أنا غصبت امرأة مثلاً، فهل أتحلل منها بأن أكلمها وأراسلها حتى أتحلل منها؟ وقد أقع فيها، نقول: لا. إذا كنت ستقع لا تطرق هذا الباب، فهذه المسألة فيها حساسيات معينة، وفيها إحراجات كثيرة، ولذلك لا أرى الآن من المناسب أن أطرح هذا الموضوع وأتوسع فيه لأنه غير مناسب، فالمسألة فيها أشياء، وقد يخون شخص جاره في زوجته، فهل يذهب إلى الجار ويكلم المرأة، ماذا تفعل مع زوجها؟ هذه مشكلة المعاصي والفواحش، وبعد هذا تصبح مشكلة كبيرة جداً، ولذلك الذي عنده سؤال خاص بهذا الموضوع، فعليه أن يسأل أهل العلم عن هذه الجزئية في الموضوع، لأن هذه ستدور في الأذهان كيف أفعل؟ ماذا أقول؟ كيف أعمل؟ إنما أكتفي بما قلت فيكفي التوبة بينه وبين الله، يتوب إلى الله عز وجل ويستقيم.
وأما إن كانت المعصية في غيبة أو نميمة، يعني: في العرض أيضاً فحصل أيضاً خلاف بين أهل العلم في المسألة هل يجب عليه أن يخبره أم لا؟ وحتى لا نطيل فالقول الوسط كما ذكر شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: لا يشترط الإعلام بما ناله في عرضه من قذف واغتياب، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدل بغيبته مدحاً وثناءً عليه وذكراً لمحاسنه، ويبدل قذفه للشخص الآخر بذكر عفته وإحصانه ويستغفر له بقدر ما اغتابه وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية رحمه الله؛ لأن إعلام الشخص بالغيبة والنميمة والقذف الذي فعلته في حقه وفي عرضه إذا جئت وعلمته بالمسألة قلت: فعلت كذا وقلت عليك كذا وكذا، فإنها مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقاً وغماً، وقد كان مستريحاً قبل سماعه، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله، وربما كان إعلامه به سبباً للعداوة، فلا يصفو له أبداً، وينتج عنه شر أكبر من الغيبة نفسها، ويوجد التقاطع بين المسلمين.
خلاصة المسألة: إذا كنت تظن أنك إذا أخبرت الشخص أنك قلت عنه كذا وكذا وكذا، فتزيد الأمور تعقيداً وسوءاً فلا تفعل، أما إذا كنت تعتقد أنه من النوع المتسامح، أنه لن يأخذ في نفسه، فقل له: يا أخي! أنا أخطأت عليك -بكلام عام- سامحني! وإذا عرفت أنه يقول: ما هو الكلام بالضبط، وقد إذا قلته وأخبرته بالتفصيل تتفاعل المسألة في نفسه وتقع العداوة، فلا يجب عليك إخباره ولكن تجب عليك أشياء أخرى، أن تذكره بضد ما اغتبته فيه، وأن تدافع عنه في المجالس التي يغتاب فيها وأن تستغفر له، وأن تبين محاسنه، وبهذا تكون قد استكملت توبتك من الغيبة أو القذف.
الأول: حق لله.
الثاني: وحق للقتيل.
الثالث: وحق لورثة القتيل.
فأما حق الله فبالتوبة، إذا تبت إلى الله قضي عنك حق الله، وأما بالنسبة للورثة فإنك يجب عليك أن تسلم نفسك إليهم لأن لهم حقاً وهم يستوفون حقهم منك إما بالمال (الدية) أو بالعفو مجاناً يطلقونك لوجه الله، أو يقولون: لابد لنا من القصاص، لابد أن نقتص منك وتقتل أنت لأنك قتلت صاحبنا، فحق الورثة لا يسقط إلا إذا سلم نفسه إليهم وهم الآن بالخيار إما أن يعفوا عنه مجاناً، أو يأخذوا منه مالاً، أو أن يطلبوا القصاص، وبقي حق القتيل، حق القتيل كيف تقضيه؟ لا يمكن، ولذلك حصل خلاف بين العلماء في هذه المسألة، الأوسط فيها أن الإنسان القاتل إذا تاب إلى الله توبة صادقة صحيحة فإن الله يتحمل عنه حق القتيل ويعطي القتيل في الآخرة من الحسنات أو من العوض ما يعوضه عن حقه على القاتل، هذه رحمة الله عز وجل.
قد يقول بعض الناس: أنا أتحرج، أنا عندي المسروق، عندي المبلغ لكن أتحرج أن أرده إلى المسروق منه، فقد يسأل شخص سؤال يقول: أنا كنت أسرق من جيب أبي، وأنا الآن كبرت وأنا موظف وعندي مال، لكن من الصعب أن أذهب إلى أبي، وأقول: يا أبي أنا كنت أسرق منك، أو مثلاً: موظف في شركة يستحي أن يقول لمدير الشركة: أنا قد سرقت من الشركة، فكيف هذا؟ فيقول أهل العلم: لا يجب عليه الذهاب والمصارحة وإنما يرده إليهم بطريقة حتى لو لم يعلموا، مثلاً: يذهب إلى جيب أبيه فيضع فيه المبلغ الذي سرقه ولو أراد أن يضعه على مراحل حتى لا يكتشفه الأب فهذا ممكن، أو مثلاً: يذهب إلى الشركة يقول: إن فلاناً واحد من الناس لا يريد ذكر اسمه -وهو يعني نفسه- قد سرق منكم والمبلغ هذا وأنا الآن أرده بالنيابة عنه، أو إنه أعطاني إياه لأرده إليكم، فخذوه، أو أرسله بظرف مختوم، أو أي شيء آخر بطريقة من الطرق فهذا حسن، إذا كان لا يستطيع أن يقول لهم: سرقت منكم، فالمهم الآن هو إرجاع الحق لأصحابه، أو مثلاً: شركة مساهمة، كيف يذهب ويدور على المساهمين يعتذر منهم واحداً واحداً؟ هذا أمر صعب، فالمهم الآن أن يرجع المال المسروق إلى الشركة بطريقة من الطرق.
ولو غصب مالاً، شخص غصب مال أيتام وأخذه بالقوة فاتجر به وربح ونما المال، فماذا عليه؟
بعض العلماء يقولون: النماء للمالك الأصلي، وبعضهم يقولون: النماء للمنمي (السارق) وبعضهم يقول وهو القول الوسط: رأس المال يعني: المبلغ المسروق أو المغصوب الأصلي يرجع لصحابه مع نصف الأرباح، وهو يأخذ النصف الآخر، الغاصب يأخذ نصف النماء أو نصف الأرباح ويرجع رأس المال مع نصف الأرباح ونصف النماء إلى صاحب المال الأصلي للتوبة، وهو رواية عن أحمد واختيار شيخنا رحمه الله يعني: يقصد ابن تيمية ، وهو أصح الأقوال.
وهذا مثل شخص غصب ناقة أو غصب شاة فأنتجت أولاداً فإنه يردها ونصف أولادها إلى صاحب المال الأصلي، لو ماتت هذه المغصوبة مثلاً الناقة أو الشاة، فيدفع ثمنها مع نصف النتاج إلى صاحب المال الأصلي، وهذا أيضاً ما ذكره الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله في هذه المسألة، يرجع أصل المال ونصف النماء.
وإذا ما وجد الرجل صاحب الشركة أو الرجل المغصوب قد مات، فهذه الأموال لمن ترجع؟ ترجع إلى الورثة، وإن مات الورثة فإلى ورثتهم، فالحق باقٍ.
وقال ابن القيم رحمه الله: ولقد سئل شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه، سأله شيخٌ فقال: هربت من أستاذي وأنا صغير -ما معنى أستاذي؟ أستاذي كانت تطلق على مالك العبيد أو صاحب العمل أو رئيس الخدم في الماضي، من إطلاقاتها، وأيضاً تطلق على العالم الكبير، ولذلك الشافعية عندهم أبو إسحاق يلقب بالأستاذ عند الشافعية- فقال: هربت من أستاذي وأنا صغير، وإلى الآن لم أطلع له على خبر، -عبد هرب من سيده، الآن كبر وصار عمره خمسين أو ستين سنة ويريد أن يتوب، لكن ما وجد السيد، بحث عنه فلم يجده كيف يكون- وأريد براءة ذمتي وقد خفت الله عز وجل، وأريد براءة ذمتي من حق أستاذي من رقبتي، يعني: أنا ما زلت ملكاً له، وقد سألت جماعة من المفتين فقالوا لي: اذهب فاقعد في المستودع -ما دمت لم تجده- فاذهب اجلس هناك، فضحك شيخنا ابن تيمية رحمه الله، وقال: تصدق بقيمتك أعلى ما كانت عن سيدك، ولا حاجة لك بالمستودع تقعد فيه عبثاً في غير مصلحة، إضراراً بك وتعطيلاً عن مصالحك، ولا مصلحة لأستاذك في هذا ولا لك ولا للمسلمين، أو نحو هذا الكلام.
ولو أن زانيةً أخذت أموالاً على الزنا أو مغنياً أخذ أموالاً على الغناء، أو بائع خمر مثلاً، أو رجلاً يتاجر بالمخدرات أخذ أموالاً على تجارته، أو شاهد زور أخذ مقابلاً، فهل هذه الأموال أموال حلال أم حرام؟ إنها حرام، فإذا كانت معهم الآن فيجب عليهم إخراجها، يتخلصون منها.
وهل ترجع الزانية للزاني ماله؟ والذي اشترى الخمر يرجع إلى تاجر الخمر ماله؟ والذي شهد الزور يرجع للذي رشاه حتى يشهد الزور ماله؟ وهل يرجعون المال إليهم؟
الجواب: لا.
أولاً: فيه إعانة لهم على المعصية.
ثانياً: جمعوا لهم بين العوض والمعوض وهذا غير ممكن.
فلذلك ماذا يفعلون به؟
يتصدقون به، ويتخلصون منه.
ولو أن إنساناً اختلط ماله الحلال بماله الحرام وتعذر عليه تعيينه فإنه يقدر كم الحرام هل بقدر خمسين بالمائة من المال أو ثلاثين بالمائة أو عشرين بالمائة ويتخلص منه.
وإذا قم مرتش بأخذ رشوة، فينظر هل أخذها والراشي له حق أو أنه ليس له حق؟ فإن كان للراشي حق ولا وسيلة لتحصيل الحق إلا دفع الرشوة فدفعها، والآن المرتشي تاب فماذا يفعل بالمال؟
يعيده إلى صاحبه، لأنه دفعه مرغماً في تحصيل حق له، فإن كان المرتشي قد أخذ المال من الراشي بغير حق، يعني: الراشي ليس له حق ودفع رشوة لتحصل مكاسب، فهل يعيده إليه؟ لا. وإنما يتصدق به.
هذه طائفة من الأحكام المتعلقة بالتوبة لعلها تكون قد أجابت عن بعض الأسئلة في أذهان بعض الإخوان، وعلى العموم نسمع الآن بعض الأسئلة.
الأول: الخوف من هؤلاء الأصدقاء.
الأمر الثاني: أنه يلتذ بالمعاصي ويشعر بعدم استغنائه عن أصدقائه ويقول: إنه يأنس بهم ويرتاح إليهم، لا لشيء إلا لمجرد المعصية التي تقع بينهم، فما رأيكم في كيفية التخلص في مثل هذا؟
الجواب: الحمد لله، هذا السؤال يا أخي فيه غرابة، شخص يريد أن يتوب بصدق وهو يقول بلسانه يمنعني من التوبة أني ألتذ بالمعصية، وأني جالس مع هؤلاء لأني ألتذ معهم بالمعصية؟! فإذا كنت تلتذ معهم بالمعصية يجب عليك أن تكره هذا الأمر وتنفر منه نفوراً شديداً، بعض السلف يقولون: إذا رأيت امرأة فأعجبتك فتذكر مناتنها، يعني: فلو رأى شخص امرأة فنظر في السوق نظرة من نظرات إبليس، فرأى امرأة فأعجبته فليتذكر على سبيل المثال عرقها ووخمها والخارج منها من السبيلين ويشغل باله فيه، وهذا سيذهب الأثر بالكلية، صحيح، تأمل مناتنها كما قال بعض السلف: إذا رأيت امرأة فأعجبتك فتذكر مناتنها، فعليك أن تطبق هذا، لو أنك -لو سمح الله- وقعت على نظرة، ثم تذكرت مناتنها، لنفرت منها، أو فاحشة اللواط، أصحاب الفطرة السليمة لاشك أنه سينفر، فإذا بدأ يكره المعصية، هذا بداية التصحيح، بداية طريق التصحيح أن تكره المعصية لا أن تلتذ بها ثم تقول: أريد أن أتوب، وعلى العموم: المسألة هكذا أو هكذا تحتاج إلى مجاهدة.
النقطة الأخرى يا أخي: قاتل مائة نفس ماذا قال له العالم؟ واذهب إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها أناساً صالحين يعبدون الله فاعبد الله معهم، لم يقل له: اجلس في الوسط السيئ، فلا يمكن أن تتوب وأنت جالس في الوسط السيئ وأنت فلان زميلك وفلان زميلك وفلان، هم الذين يزينون لك الفاحشة، عليك أن تقطع علاقتك بهم نهائياً، لا تكلمهم ولا تسلم عليهم، وإذا اتصلوا بك فأغلق السماعة، إذا قاطعتهم هنا تكون البداية، أما أن تجلس في الوسط السيئ ثم تقول: كيف أتوب! هذا أولاً.
ثانياً: أنا ذكرت في بداية المحاضرة قلت: بعض الناس يضغطون على الشخص يقولون: لو تبت، لو خرجت من عندنا من وسطنا سننشر عنك وسنفضحك ونخبر الناس عن مخازيك وأفعالك، فالمؤمن لا يهمه كلام الناس مهما قالوا عنه وإن الله سيدافع عنه، ولذلك فإن عمر بن الخطاب كان يفعل ويفعل ثم تاب فتاب الله عليه، دع الأمور هذا خير لك يا أخي من أن تستمر في المعصية لأنهم سيضغطون عليك من نواحي ويعلمون الناس عنك بأشياء، فارجع إلى الله ولا عليك من هذه الضغوط، وأنت لو صبرت في البداية تنتهي المشكلة، اصبر عند الصدمة الأولى تنتهي المشكلة، مهما كلفتك الأمور فأقدم ولا يرهبك هذا الضغط الذي يمارسونه معك.
الجواب: بالنسبة للوسوسة هذا مرض، تكلم عنه ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان ، وذكره ابن قدامة رحمه الله في رسالة مستقلة أيضاً عن الوسوسة وذم الموسوسين، وممن أعرف أنهم تكلموا عنه في هذه الأيام الشيخ سلمان العودة حفظه الله في شريط "رسالة إلى موسوس" فأنا أوجهك يا أخي إلى هذين الكتابين وهذا الشريط ولعل الله أن يبرئك مما أنت فيه.
وعلى العموم: هذه مسألة شديدة وخطيرة فبعض الناس فعلاً عنده وسواس يعني: غير وضوء الطهارة تصل إلى أشياء مضحكة أحياناً، يعني: بقضايا الطلاق بعض الناس يوسوس هل طلق زوجته أم لا؟ ويجلس يوسوس، هل قلت: طالق؟ وبعضهم يغلق أذنيه حتى لا يسمع كلمة طالق من كثرة الوسوسة التي في نفسه، يقول: أنا طلقت أم لا؟ ويغلق أذنيه يقول: حتى لا أسمعها، فهذا مرض نفسي ناتج عن أمور تتعلق بالإيمان ليست فقط قضية مرض نفسي، القضية هذه تتعلق بالإيمان والجزم والهمة والعزيمة التي ينتجها الإيمان.
وعليك أن ترجع إلى ما ذكرته لك من الأشياء.
وختاماً أيها الإخوة: قضية العلم الشرعي مهمة جداً في علاج كثير من المسائل، فأوصي نفسي ثم أوصيكم بتقوى الله عز وجل وطلب العلم الشرعي.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وحسن الخاتمة وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر