وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه اليوم والأيام الثلاثة بعده ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع فاتحة سورة المائدة، وقد تناولنا بالدراسة منها الآيتين الأوليين، وما استوفيناهما دراسة وفهماً وعملاً وتطبيقاً، فإليكم تلاوة الآيتين وتأملوا وتدبروا:
بسم الله الرحمن الرحيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:1-2].
قال: إن أصحاب الكندي -والكندي هذا من فلاسفة العرب- قالوا له: أيها الحكيم! اعمل لنا كتاباً مثل القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه. تلطف، ما ادعى الدعوى الكاملة، فاحتجب أياماً كثيرة في بيته، ثم خرج إلى الناس إلى أتباعه وتلامذته من المشركين فقال: والله ما أقدر ولا أطيق ولا يطيق هذا أحد، قال: إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، قال: فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحل تحليلاً عاماً ثم استثنى استثناءً بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد! ما هو في جلد واحد بل في عدد من الجلود، وهو تعالى جاء به في سطرين! هذا قول حكيم من حكماء العرب.
أولاً: عرفنا أن الله عز وجل تفضل علينا -وله الحمد والمنة- إذ نادانا بعنوان الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:1]، قلنا: لبيك اللهم لبيك.
وقد لا يشعر بعضنا بفضيلة نداء الرب تبارك وتعالى، فالبشر لو يناديه ملك من الملوك أو سلطان من السلاطين يكاد يطير من الفرح، وذو الجلال والإكرام رب السموات والأرض رب العالمين ينادينا وما نفرح؟! من نحن وما نحن حتى ينادينا؟ لو اجتمعنا كلنا ما كنا ككوكب في السماء.
ونادانا بعنوان الإيمان لسر عرفناه والحمد لله: وهو أن المؤمن حي يسمع النداء، والكافر ميت، المؤمن الصادق في إيمانه والله إنه لحي يعي ويفهم ويسمع ويبصر وينطق ويأتي ما يدعى إليه ويفعل، وينتهي عما نهي عنه ويترك، وذلك لكمال حياته، أما الكافر فهل يجيب إذا ناديته؟ يسمع (حي على الصلاة) على المآذن فهل يجيب النداء ويشهد صلاة الجمعة؟ الجواب: لا.
وبعبارة واضحة: المسلمون إذا كان تحت رايتهم ذميون من أهل الكتاب هل يكلفونهم بأعمال الإسلام؟ يأمرونهم بالصيام والصلاة والحج والجهاد والرباط والزكاة؟ والله ما يأمرونهم، لماذا؟ هل هم خائفون منهم؟ إنهم تحت دولتهم، فلماذا ما يأمرونهم؟ ما أمرهم الله ورسوله بذلك، لماذا؟ لأنهم أموات، والميت لا يكلف أبداً لا بأمر ولا نهي، فإذا نفخت فيهم روح الإيمان وسارت في أجسادهم أصبحوا أهلا لأن يفعلوا ويتركوا وذلك لكمال إيمانهم.
إذا عقد المؤمن عقداً فلن يحله أبداً، وإذا عاهد فلن يخون عهده ولن ينكثه، وحسبنا أن يأمرنا الله تعالى بقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، ما بقي مؤمن ينكث عهداً ولا ينقض عقداً ولا يحل عقداً، وهذا هو الواقع الذي نعرفه.
وشيء آخر: من خلق الإبل والبقر والغنم؟ هل أمهاتنا وآباؤنا؟ هل نحن الذين أخرجناها من المصانع؟ من يملكها؟ الله، وقد أذن لنا في أكلها، إذاً: فالحمد لله.
إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1]، هذا الاستثناء اللطيف الذي تعجب منه الحكيم: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1] أي شيء يتلى علينا مما حرم علينا أكله، وقال: يُتْلَى [المائدة:1]، وبعد آيتين فقط يأتي ما يتلي عليكم، في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3]، فهذه العشر تلاها علينا أم لا؟ تحمل بيان محرمات اللحوم.
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1]، أما إن كنتم حلالاً فصيدوا فقد أذن لكم في الصيد، وأي صيد؟ هو ما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكله، كل الصيد حلال إلا ما كان من ذوات الأنياب كالسباع وذوات المخالف، إذ النبي صلى الله عليه وسلم ( حرم أكل كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطيور )، حرم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى له بذلك أنابه عنه في أن يحرم على المؤمنين والمؤمنات أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطيور؛ لحكمة يعلمها الله عز وجل.
إذاً: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1]، وهنا أيضاً علمنا أن الحرمين الشريفين مكة والمدينة لا يحل لنا الصيد فيهما ولو جعنا، لا يحل لنا الصيد، أي: لا يحل لأحدنا أن يصيد حمامة أو طائراً أو يصيد أي حيوان في الحرمين، بل الواجب إذا مررت بذئب أو بثعلب أو بأي حيوان تحت ظل شجرة ألا تزعجه، دعه في ظله، إلا ما كان يؤذي، فالذي يؤذي المؤمنين يقتل، لا يسمح له بالبقاء.
قلت له: نعم.
فقال: لم ما بينت؟
فقلت: في الحقيقة نحن ما بينا؛ لأننا لسنا دارسين لهذا الحديث، ولكنه عارضة عرضت، ولا بأس أن نبين فنقول:
الذي يفتح استوديوهاً في مكة أو المدينة للتصوير هذا والله لقد أحدث حدثاً من أقبح الأحداث، وهو كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، إما أن يتوب ويتوب الله عليه وإلا فهو آيس من الرحمة، لقوله: ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، لا فرض ولا نفل.
فهل يسمح الرسول لأحد أن يحدث في مدينته هذا الحدث، وهو الذي يقول: ( إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون )، من هو المصور الحق؟ أليس الله؟ اقرءوا آخر سورة الحشر في أسمائه تعالى، فهل يرضى أن يقال لك: أنت المصور؟تنازع الله عز وجل؟ فهذه وحدها كافية.
والذي يفتح دكاناً لبيع أشرطة الأغاني أغاني العواهر وفجار الرجال، ويبيع ذلك في المدينة ويشيعه بين بيوتها أما أحدث حدثاً؟ أي حدث أقبح من هذا الحدث؟!
والذي يفتح صندوقاً مالياً ويقول: تعالوا لترابوا معنا! خذوا العشرة بأحد عشر إلى شهر أو سنة، أليس هذا قد أحدث حدثاً؟
والذي يفتح صالون الحلاقة يحلق وجوه الرجال، صالون حلاقة مهمته أن يحلق وجوه الفحول، أما أحدث هذا؟ أيرضى الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحدث؟ هل كان موجوداً هذا؟ هل أذن الله به؟
إذاً: والذي يأتي بطريقة من طرق الهابطين ويأخذ يدعو الناس إليها في الحرمين، وعلى سبيل المثال: التجانية التي يقولون فيها: إن صلاة الفاتح مرة واحدة تعدل سبعين ختمة من القرآن، صلاة الفاتح تلك الصيغة التي ابتدعها من ابتدعها يقول: تعدل سبعين ختمة من القرآن، ومعنى هذا: لا تقرءوا القرآن أبداً، لا حاجة إليه.
وصلاة الفاتح هي: اللهم صل على محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم. هذه الصيغة تعدل سبعين ختمة من القرآن، فهل يبقي من يقرأ القرآن؟! ما الفائدة؟ نقرأ سبعين ختمة حتى نعطى أجر هذه الصلاة!
ومعنى هذا إغلاق الباب عن كتاب الله حتى ما يقرأ، وأعظم من هذا أنهم يقولون: إن صلاة الفاتح أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً للشيخ فلان، خرج في اليقظة وأعطاه صلاة الفاتح! كذبوا على رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، وكذبوا على المؤمنين والمؤمنات.
هذا مثال وإلا فكل الطرق فيها من الباطل والشرك ما لا يذكر، فمن الخير أن نسلك سبيل سلفنا الصالح، ما عندنا طريقة إلا طريقة محمد صلى الله عليه وسلم، أنا مسلم فقل لي: قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
والذي يسلك الطريقة الحديثة طريقة التكفير والهجرة، ويأخذ ينشرها في الحرمين، وعثر عليهم وهم يوقدون نيران الفتنة في العالم، أليس هذا من أعظم الأحداث؟! هذه تكفر المؤمنين، قالوا: الحكام يحكمون بغير ما أنزل الله فهم كفار، والعلماء علموا ذلك وسكتوا فهم كفار، والأمة علمت بذلك وما حاربت فهي كافرة، ولم يبق من مسلم إلا ذلك الرجل الذي يحمل هذه البدعة!
وقد قلت غير ما مرة: من لم يستطع أن يستقيم في الحرمين فليخرج، يلتحق بأي بلاد، أما أن ينزل في مكة والمدينة ويتعاطى الخمر والحشيش والربا والزنا والباطل والمنكر؛ فهذا غير مسموح له أن يدخل في الحرمين الشريفين إلا عن توبة صادقة، ما استطعت أن تستقيم فالتحق ببلاد أخرى، هذا حرم رسول الله، وذاك حرم الله عز وجل.
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1] هو لا ما تريدونه أنتم، مع العلم أنه لا يحل إلا ما فيه خير البشرية وسعادتها، ولا يحرم إلا ما فيها خسرانها وشقاؤها؛ لأنه ربهم مولاهم سيدهم، عبيده لا يريد لهم إلا السعادة والكمال.
ومن شعائر الإسلام مناسك الحج كلها، من (لبيك اللهم لبيك) إلى تعرية الرأس إلى أن تعود إلى بلدك، لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ [المائدة:2]، أية شعيرة من دين الله يجب أن لا تهمل ولا تضيع وألا يصرف عنها الناس، يجب أن يقام بها في الناس ليعبدوا الله بها.
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ [المائدة:97]، وأشهر الحرم أربعة، إذا كان الشهر الحرام لا تسمع قعقعة السلاح أبداً، أهل الجزيرة يتجولون من شرقها إلى غربها لا يخافون أحداً؛ لأن القتال حرام، ألقى الله في قلوبهم هذا.
والإشعار -كما علمتم-: أن يجرح سنام البعير من الجهة اليمنى ويلطخ بالدم الوبر، إذا رآها العربي يقول: هذه مهداة، ولا يعترضها أبداً.
والقلائد أن توضع في رقبة الشاة قلادة لأنها لا تشعر، يقولون: هذه مهداة إلى الحرم، والرجل نفسه إذا علق لحاء من شجر الحرم في عنقه في كتفه في يده يمشي بين القبائل العربية لا يؤذيه أحد، يلتقي بقاتل أبيه أو أخيه فيغمض عينيه ولا يلتفت إليه، وبذلك يسود الأمن وتستريح الأمة فترة من الزمن، وهذا تدبير الله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97].
إذاً: حرمة القتال في الشهر الحرام نسخت، أذن الله لرسوله والمؤمنين أن يقاتلوا في الشهر الحرام إذا قوتلوا، وأما فالحرم فحرمته باقية على ما هي عليه.
إن الذين يفعلون ذلك ما عرفوا الله ولا آمنوا الإيمان المطلوب، أمؤمن ويقتل أخاه؟ أمؤمن ويسلب مال أخيه؟ أمؤمن ويروع أخاه المؤمن؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، ( كل المسلم على المسلم حرام ) ما هناك جزء حلال، دمه، عرضه، ماله.
وتعاونوا على ماذا؟ على الخير وفعله، وعلى تقوى الله باجتناب ما حرم الله وفعل ما أمر الله، والذي يلهم هذه يسعد في الدارين، الذي يأتي البر وينشره بين الناس ويتقي الله عز وجل يسعد ويكمل في الحياتين معاً.
وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، إياكم أن تتعاونوا على فعل الذنوب والآثام كما بينا، هذا يستورد كذا وهذا ينشر كذا وهذا يعمل كذا، والعدوان: الاعتداء، اعتدى أحد على أحد نوقفه عند حده، نقف إلى جانب المعتدى عليه حتى نرفع العدوان عنه.
وأخيراً يقول تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2] إي والله إنه لشديد العقاب، أما ذقنا عذابه؟ أما أذل الله المسلمين وسلط عليهم الكافرين، فاستعمروهم واستغلوهم واستعبدوهم وأذلوهم وأهانوهم؟ فهل هو شديد العقاب أم لا؟ وكل مؤمن ومؤمنة يخرج عن طاعة الله يعذبه الله ويذيقه عذابه في الدنيا قبل الآخرة.
وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:2] لا تخرجوا عن طاعته، فإنه تعالى شديد عقابه، إذا عاقب فعقابه قاس وشديد.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ معنى الآيتين:
ينادي الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:1]، أي: يا من آمنتم بي وبرسولي ووعدي ووعيدي أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فلا تحلوها، وبالعهود فلا تنكثوها، فلا تتركوا واجباً ولا ترتكبوا منهياً، ولا تحرموا حلالاً ولا تحلو حراماً، أحللت لكم بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم إلا ما يتلى عليكم وهي الآتية في آية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]، فلا تحرموها ]، تلك التي أحللتها لكم فلا تحرموها [ وحرمت عليكم الصيد وأنتم حرم فلا تحلوه ] أي: لا تصيدوه [ وسلموا الأمر لي فلا تتنازعوا فيما أحل وأحرم فإني أحكم ما أريد.
هذا ما تضمنته الآية الأولى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1].
أما الآية الثانية فقد تضمنت أحكاماً بعضها نُسخ العمل به ] كما علمتم [ وبعضها محكم يعمل به إلى يوم الدين، فمن المحكم والواجب العمل به: تحريم شعائر الله، وهي أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب، ونهى وحرم، فلا تستحل بترك واجب، ولا بفعل محرم، ومن ذلك مناسك الحج والعمرة.
ومن المنسوخ الشهر الحرام؛ فإن القتال كان محرماً في الأشهر الحرم ثم نسخ بقول الله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] الآية ].
ومن المنسوخ أيضاً: هدي المشركين وقلائدهم، والمشركون أنفسهم ] أيضاً [ فلا يسمح لهم بدخول الحرم ولا يقبل منهم هدي، ولا يجيرهم من القتل تقليد أنفسهم بلحاء شجر الحرم، ولو تقلدوا شجر الحرم كله ] لا ينفعهم الآن.
[ هذا معنى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [المائدة:2]، والمراد بالفضل: الرزق بالتجارة في الحج، والمراد بالرضوان: ما كان المشركون يطلبونه بحجهم من رضا الله ] تعالى [ ليبارك لهم في أرزاقهم ويحفظهم في حياتهم.
وقوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] خطاب للمؤمنين، أذن لهم في الاصطياد الذي كان محرماً وهم محرمون، أذن لهم فيه بعد تحللهم من إحرامهم.
وقوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2] ينهى عباده المؤمنين أن يحملهم بغض قوم صدوهم يوم الحديبية عن دخول المسجد الحرام أن يعتدوا عليهم بغير ما أذن الله تعالى لهم فيه، وهو قتالهم إن قاتلوا وتركهم إن تركوا.
ثم أمرهم تعالى بالتعاون على البر والتقوى، أي: على أداء الواجبات والفضائل، وترك المحرمات والرذائل، ونهاهم عن التعاون على ضدها، فقال عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، ولما كانت التقوى تعم الدين كله فعلاً وتركاً أمرهم بها، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:2] بالإيمان به ورسوله وبطاعتهما في الفعل والترك، وحذرهم من إهمال أمره بقوله: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2] فاحذروه بلزوم التقوى ].
الآن أرجو أن يكون أكثر السامعين والسامعات فهموا معنى هذه الآيات، وهم مستعدون للتطبيق والعمل إن شاء الله، فقولوا: إننا عاملون.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ هداية الآيتين: من هداية الآيتين:
أولاً: وجوب الوفاء بالعهود التي بين الله تعالى وبين العبد، والمحافظة على العقود التي بين العبد وأخيه العبد لشمول الآية ذلك ].
مما دلت عليه الآية الأولى: وجوب الوفاء بالعهود التي بين الله تعالى وبين العبد، والمحافظة على العقود التي بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبينا هذا في كل العقود.
[ ثانياً: إباحة أكل لحوم الإبل والبقر والغنم إلا الميتة منها.
ثالثاً: تحريم الصيد في حال الإحرام ] فالمحرم لا يصيد. [ وحليته بعد التحلل من الإحرام وهو صيد البر لا البحر ]، أما صيد البحر فمأذون فيه: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96]، والصيد الذي حرم في الإحرام وأحل بعد الإحرام هو صيد البر لا البحر.
[ رابعاً: وجوب احترام شعائر الدين كلها أداء لما وجب أداؤه، وتركاً لما وجب تركه ].
وقد قلت لكم: حتى في الأكل والشرب، حتى في الركوب والهبوط، إذا ركبت تقول: باسم الله، سبحان الذي سخر لنا هذا ...إلخ، إذاً: لا تترك هذه الشعيرة وتنسها وتغفلها، [وجوب احترام شعائر الدين كلها أداءً لما وجب أداؤه، وتركاً لما وجب تركه]، حرم الله الكذب فلا تكذب، حرم الله الغيبة فلا تغتب، كل معالم الدين، المحرمات من حرمها؟ الله. لماذا حرمها؟ لضررها، إذاً: فيجب تركها وهي من شعائر الدين.
[ خامساً: حرمة الاعتداء مطلقاً ] حتى [ على الكافر ].
حرمة الاعتداء على الغير مطلقاً حتى ولو كان المعتدى عليه كافراً، وهل يجوز الاعتداء على الكافر؟ بالنسبة للمؤمنين لا يحل لهم أن يعتدوا على يهودي، ولا نصراني، ولا مجوسي، لا اعتداء أبداً، فإن اعتدي عليهم فحينئذ أذن الله لهم: فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، أما أنك المؤمن الرباني الولي فتهبط هبوط الكلاب والحيات وتؤذي هذا الإنسان فهذا ليس من شأن المؤمنين، أما هو فنعم، لأنه هابط، كافر، ميت، قد يعتدي، أما أنت فلا، أنت إمام وسيد.
فهنا: حرمة الاعتداء مطلقاً حتى على الكافر من الناس، والكافرة كالكافر.
[ سادساً: وجوب التعاون بين المؤمنين على إقامة الدين، وحرمة تعاونهم على المساس به ]، وإزهاقه وإبطاله وإسقاطه، من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
فعزموا على أن ينزلونا ويهبطونا من سماء عليائنا إلى الأرض حتى أصبحنا مثلهم، ولما ساويناهم ركبوا على ظهورنا، وما زال العالم الإسلامي في غفلته، فهل يتدارس المؤمنون مثل هذه الآيات؟ الجواب: لا.
وعندي كلمة أخرى: رسالة كتبناها وقرأناها على الحاضرين، كتاب مفتوح إلى مسئولي أمة الإسلام علماء وحكاماً، ووزعت هذه الرسالة، وإلى الآن ما أخذها عالم وقدمها إلى حاكمه، ولا أخذها عالم وجمع أهل قريته ليأخذهم بتلك التعاليم الربانية فيكملوا ويسعدوا.
رسالة رسمت فيها خطة النجاة والخلاص من هذه المحنة، النجاة من هذا الهبوط والسقوط، ليتحقق قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] وتتحقق تقوى الله عز وجل.
فوالله! ما هناك عالم رفعها إلى وزيره أو إلى حاكمه، ولا عالم قرأها وقال: أنا أبدأ في قريتي في جبل أو في سهل وجمع أهل القرية نساء ورجالاً، وأخذ يعلمهم الكتاب والحكمة، ليزكوا وتطيب نفوسهم، ويتآخوا ويتحابوا.
فلهذا نبكي أو نضحك؟ ما أجدانا البكاء، فكيف يجدينا الضحك؟ ولكن البكاء خير، ولعل الله يثيبنا على آلامنا في نفوسنا، والله تعالى أسأل أن يحيي موتانا وأن يوقظ نائمينا، وأن يجمع متفرقينا، وأن يعود بنا إلى صراطه المستقيم.
حقق اللهم لنا ذلك يا رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر