أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم لك الحمد على ما أوليت، ولك الحمد على ما أعطيت، ولك الشكر يا رب العالمين.
ما زلنا مع سورة المائدة المباركة الميمونة، وما زلنا مع الآيات الثلاث التي درسنا الآية الأولى منها، وها نحن مع باقي الآيات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:35-37].
الأولى: التقوى، والتقوى عرفناها ولا حاجة إلى تكرارها، وكيف نتقي الله؟ الجواب: أن تخافه بقلبك خوفاً يحملك على أن تطيعه ولا تعصيه، وبهذا تتقي غضبه وعذابه.
وهل علمنا أوامر الله ونواهيه حتى نفعل المأمور ونترك المنهي؟ الجواب: المفروض أننا عرفنا هذا، من ساعة أن دخلنا في الإسلام وشهدنا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونحن نتعلم في كل يوم -بله في كل ساعة- أوامر الله ما هي وكيف نؤديها، ونواهي الله وكيف نتركها ونتجنبها، والقرآن يفيض بهذه الأوامر والنواهي، وما التبس علينا فرسوله صلى الله عليه وسلم يبين ويشرح، إذ من المستحيل أن تتقي الله وأنت لم تعرف أوامره ولا نواهيه، ومن هنا تقررت القاعدة النبوية: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ).
وبينا التوسل الباطل وحذرنا منه، وهو توسل الجهال والضلال بالذبح والنذر للأولياء والعكوف على قبورهم وزيارتهم من بلد إلى بلد، والاستغاثة بهم، ونداؤهم: يا سيدي فلان، ويا مولاي فلان! هذه -والله- ما هي بالوسيلة التي طلب الله من عباده أن يتوسلوا بها، نعم عطفك على فقير، مسحك دموع حزين، تنظيفك الطريق للمؤمنين هذه وسائل تتوسل بها إلى الله، أما أن تعرض عنه وتقبل على مخلوق من مخلوقاته فتستغيث بأعلى صوتك وتناديه وتقسم به وتحلف؛ فهذا شرك وما هو بوسيلة.
والأمر الثالث: الجهاد، وحمدنا الله أنه أراحنا اليوم من الجهاد، فالحمد لله.. الحمد لله، من منكم عنده مدفع في بيته أو نفاثة في سطحه يطير عليها ويجاهد؟
إذاً: ما نحن الآن في حاجة إلى حمل السلاح، لكن لم لا نكون لجنة إسلامية عليا يشارك فيها كل بلد إسلامي، وبطريق سري خفي؛ حتى لا نوقظ دعاة الماسونية أو الصليبية أو المجوسية، لجنة عليا يشارك فيها كل بلد إسلامي بعالم، فتكون لجنة مكونة من أربعين عالماً من خيرة العلماء المسلمين، ثم توضع خريطة للعالم بأسره من الشرق إلى الغرب، ونعرف في كل بلد كافر كم فيه من أعداد المسلمين، وكم مسجداً، وكم مركزاً، ونعرف حاجياتهم، وعندنا كتاب الله وسنة رسول الله والعالم الرباني ولي الله الذي يشرح ويبين الهدى ويدعو إليه.
ولا بد لهذه اللجنة من ميزانية فخمة ضخمة كأكبر ميزانية يساهم فيها كل مؤمن بدينار، لا بد من هذا، فريضة الجهاد، وتأخذ تلك اللجنة على الفور فتوجد مجلساً لتخريج الدعاة، لستة أشهر فقط، والكتاب موحد: منهاج المسلم، عقيدة المؤمن، أيسر التفاسير، كتاب المسجد وبيت المسلم، نداءات الرحمن، هذه الكتب ما فيها تعصب قبلي ولا إقليمي ولا وطني ولا مذهبي، المسلمون أمرهم واحد؛ لأنا لا نريد أن يبقى إخواننا في الشرق والغرب هذا حنفي وهذا مالكي وهذا شافعي وهم متباعدون متناحرون، انتهى أمر هذا، لا معنى له اليوم أبداً، الكتاب متوافر فيه: قال الله وقال رسوله، والعالمون بذلك متوافرون، فيدرسون الكتاب والسنة لكمالهم ورقيهم في آدابهم وأخلاقهم، بعد تصحيح عقائدهم وبعد إقبالهم على الله جل جلاله وعظم سلطانه.
إذاً: لا أحسب أنه يمضي ربع قرن إلا وقد لاحت أنوار الإسلام في الشرق والغرب، والحمد لله الذي أراحنا من السيف والقتال، وفتح لنا أبواب العالم.
قلت: وإننا لتحت رقابة الله تعالى، إذا لم نستجب لدعوة الله ونجاهد أنفسنا لنقيمها في الشرق والغرب؛ فسيأتي يوم يأخذون إخوانك المسلمين ويرمونهم في البحار ويطردونهم، ولا يسمحون لمن يقول: لا إله إلا الله، فالظروف مواتية، لكن من جعلها مواتية؟ الله مدبر كل شيء، كان من المستحيل أن يدخل الرجل إلى بلاد الكفر ويبيت فيها هكذا إلا غازياً أو مجاهداً، والآن يؤذن ويصلي ويكبر؟!
أقول: إنها فرصة ذهبية نخشى أن تفوت، وإن فاتت تحمل إثمها وتبعتها المسلمون الموجودون من أهل القدرة على العمل، والحمد لله الذي أراحنا الله من الدماء وسفكها.
والفلاح عرفناه، سمعنا ربنا يقول: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، وما الفلاح إلا الفوز، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، ما معنى: (أَفْلَحَ)؟ فاز. بم فاز؟ بجائزة نوبل؟ فاز بأن زحزح عن النار وأدخل الجنة دار الأبرار، هذا هو الفلاح والفوز، ما هو الربح في الشاة ولا البعير ولا الدينار ولا الدرهم، فهل أصبح هذا نوراً في قلوبنا معشر المستمعين والمستمعات أم لا؟ فليلتين ونحن مع هذه الآية، فهل استقر هذا في أذهاننا؟
لو دعاك داع إلى الجهاد فقل: أين الجهاد هذا؟
إن بعض الشباب يهربون الآن إلى الشيشان للجهاد؛ لأن نفوسهم ضاقت وتألمت وما وجدت من يشرح تلك الصدور ولا ينير تلك القلوب، والهمجية والبربرية والشهوات العارمة، فماذا يصنعون؟ فهموا الجهاد ليموتوا في الشيشان. الجهاد الذي ندعو إليه أن يقوم إمام مبايع من عامة المسلمين ونمشي وراءه يقودنا العام والأعوام وهو يربي ويهذب ويكمل، وحينئذٍ إذا رأى نفسه قادرة على أن يغزو ليفتح ديار الكفر وينيرها للإسلام فإنه يقول: الجهاد، هذا هو الجهاد.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [المائدة:36] والعياذ بالله، هذا يقابل الذين آمنوا، كأن سائلاً يقول: وما شأن غير المؤمنين؟ فربنا نادى المؤمنين ووضع لهم الطريق وبين لهم السبيل وقال: أنتم المفلحون، وغير المؤمنين ما حالهم؟
فكان الجواب: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:36]، ولا بد من ساعة نقف فيها حتى نعرف ما الكفر الذي كفروه.
وكذلك التكذيب بكتب الله التي أنزلها على رسله الذين اصطفاهم لها، وقد عرفنا منها أربعة كتب من أعظمها: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، فمن قال: لا أؤمن بآية واحدة فهو كافر مكذب، الصحف التي أنزلها الله على شيث ثلاثون صحيفة، وصحف إبراهيم وموسى آمنا بها، ومن قال: أنا لا أؤمن بما أنزل على شيث فهو كافر.
وكذلك الإيمان بشرائع الله وما تعبد به عباده وما أنزله من أحكام لتكميلهم وإسعادهم، لتطهيرهم وتصفيتهم، لإنقاذهم من هوة الباطل والشر والخبث والفساد، من أنكر حكماً واحداً وقال: أنا لا أؤمن به فقد كفر وهو كافر مع الكافرين، لو قال قائل: أنا أؤمن بالشريعة إلا أن قطع اليد لا أؤمن به ولا أعترف بهذا فهو كافر، من قال: أنا أؤمن بشرائع الله، إلا أن الإذن بأن يتزوج الرجل أربع نسوة لا أؤمن به ولا أقره فوالله إنه لكافر.
وكذلك القضاء والقدر، من قال: أنا لا أؤمن بقضاء سبق ولا قدر، ولكن الأمور تحدث بأسبابها ونحن نشاهد، وقال: لا أؤمن بأن الله كتب كل شيء في كتاب المقادير ثم نفذه في وقته، في كيفيته، في حاله كما هو؛ فقد كذب بالقضاء والقدر فهو كافر، ولو كذب فقط فقال: أعمال الإنسان لا دخل للقضاء والقدر فيها، هو إن شاء صلى وإن شاء غنى، فلا قضاء ولا قدر؛ فهو كافر ما هو بمؤمن.
خلاصة القول: تكذيب العبد بوجود الله، تكذيب العبد بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا، لو نفى صفة من صفات الله، قال: أنا لا أؤمن بأن لله قدماً، أنا لا أؤمن بأن الله يجيء في عرصات القيامة، أنا لا أؤمن بأن الله يسمعنا ويرانا في كل مكان؛ فهو كافر؛ إذ الإيمان: التصديق الجازم بكل ما أخبر تعالى به وأخبر به رسوله، أطقته واتسعت دائرة عقلك له، أو ضاقت وما أدركت، قل: آمنت بالله وأمسك بلحيتك، وقد فعل هذا رسول الله أمامنا يعلم أصحابه الكتاب ولحكمة، فقال وهو يعلم: ( لقد أوحي إلي أن بقرة في بني إسرائيل يركبها فلاح ) من الفلاحين، والبقر لا يركب عندنا نحن العرب، إنما تركب البغال والحمير والإبل والخيل، فالبقرة هذه ( رفعت رأسها وقالت: ما لهذا خلقت! فأمسك رسول الله بلحيته وقال: آمنت به.. آمنت به.. آمنت به، وآمن به
فإذا بلغك عن الله من طريق سليم صحيح من كتاب الله وهدي الرسول فإياك أن تفتح المجال لعقلك وتقول: كيف؟ قل: آمنت به.. آمنت به، ويستحيل أن يكون غير ما أخبر الله به أو أخبر به رسوله.
فالذين كفروا يعيشون على ظلمة أم لا؟ وعلى خبث نفس أم لا؟ لأنهم ما اتقوا الله ففعلوا أوامره واجتنبوا نواهيه، ولا زادوا فوق ذلك فتملقوا إلى الله وتزلفوا إليه بالأعمال الصالحة حتى تحولت أرواحهم إلى كتلة من نور، وزادوا فوق ذلك الجهاد لأنفسهم وأعداء الله طول حياتهم، هؤلاء هم المفلحون، والكافرون ما فعلوا شيئاً من هذا، إذاً: ما حكم الله فيهم؟
تأمل الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:36]، موجع أشد الإيجاع، وصنوف العذاب اقلب صفحات القرآن وشاهد فستشاهد العجب في هذا العذاب.
معاشر الأبناء والإخوان! عرفتم الطريق؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، المؤمن إذا عرف ربه أمكنه أن يتقي الله وأن يبتغي إليه الوسيلة وأن يجاهد في سبيله، لكن إذا ما عرف فأنى له أن يعرف الله أو يطلب إليه الوسيلة ويجاهد؟! فهيا بنا إلى العلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر