بعد أن ذكر المصنف رحمه الله الأصلين السابقين، انتقل إلى بيان المثلين المضروبين في الرد على نفاة الصفات، وهما مثلان عقليان يقودان إلى ضرورة عقلية قطعية، وهي: أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص بين المخلوقات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى.
والمثل الأول هو: الجنة وما فيها من النعيم، فإنها تشترك مع بعض ما في الدنيا في الأسماء؛ من اللذة أو النعيم أو نحو ذلك، فحصل اشتراك في الاسم، وحصل اشتراك في المسمى الكلي الذهني، ولم يلزم من ذلك بعد الإضافة والتخصيص -أي: إذا قلت: خمر الدنيا وخمر الآخرة- لم يلزم أن تكون خمر الدنيا مماثلة أو على حقيقة وماهية خمر الآخرة، ولا الثانية كالأولى.
وبهذا المثل يتبين أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص، وهو بين المخلوقات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى، بل بين الخالق والمخلوق يكون ممتنعاً.
وهؤلاء هم الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان، وهذا هو الذي عليه جمهور المسلمين، وهو الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، مع العلم أن الحقائق في اليوم الآخر تختلف عن الحقائق والصفات في الدنيا، فمن باب أولى أن الصفات في حقه تختلف عن صفات مخلوقاته.
قال المصنف رحمه الله: [والفريق الثاني: الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، ونفوا كثيراً مما أخبر به من الصفات، مثل طوائف من أهل الكلام: المعتزلة، ومن وافقهم].
علم الكلام منهج تندرج تحته مدارس عدة، ومن أخص مدارسه: المعتزلة، والماتريديه... ونحوهم، والمتكلمون لم يشتغلوا بالتأويل في باب اليوم الآخر؛ بل يرون أن اليوم الآخر حق على حقيقته وظاهره ولا يحتاج إلى تأويل، فيقول المصنف: كما أنكم أقررتم باليوم الآخر، مع أن ثمة اشتراكاً ولم يلزم منه مطابقة، فيلزمكم أن تقروا بالصفات من باب أولى.
قال المصنف رحمه الله: [والفريق الثالث: نفوا هذا وهذا، كالقرامطة الباطنية، والفلاسفة أتباع المشائين، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر].
هؤلاء ينفون الأمرين جميعاً، وهذه طريقة ابن سينا ومن وافقه من المتفلسفة، ولذلك كتب الرسالة الأرحوية في تأويل المعاد، فإنه يؤويل المعاد تأويلاً روحانياً، ولا يقر بالنعيم ولا بالعذاب، وغيرها من الحقائق البدينة، فهو رجل يميل إلى تقرير مسألة الأرواح في هذا الباب، وأن باب اليوم الآخر باب روحاني وليس من باب الحقائق الجسدية أو الجسمانية المشاهدة على حقيقتها، كما قرر ذلك في الرسالة الأرحوية.
وابن رشد يقارب بعض هذا المقام، وإن كان يتهيب من كثير من التصريح، لكنه يشارك في بعض هذه المادة.
هؤلاء هم الغلاة من الباطنية الذين يسقطون التشريع، فيزيدون على هذا بتأويل أو إسقاط الشرائع أيضاً، وهذا لا يسلكه إلا الغلاة من الباطنية.
وهذا يفيد في مسألة إطلاق الأحكام، فإذا نسب لطائفة أن لها حقائق معينة بعيدة عن الشريعة الإسلامية، فلا يلزم أن كل من انتسب إلى هذه الطائفة يدان بكل هذه الحقائق، مع أن مجرد انتسابه إلى هذه الطائفة، وتعظيمه لها ولشيوخها، يصيبه بقدر من البدعة والضلالة، وهذا لا جدال فيه، إنما الذي يراد تقييده: أن انتساب أحد إلى طائفة معينة قد يكون انتساباً من حيث اللفظ العام، ومن حيث الكليات العامة التي يتداولها عامتهم، ولا يلزم أن يكون ملتزماً بتلك الدقائق التي يرى أئمتهم كتمانها عن العامة، فإذا كانوا يقررون في كتبهم أنها سر مكتوم عن العامة، فلا يجوز أن يُحكم على العامة بها وهم لم يصرحوا بالتدين أو الأخذ بها.
فهذا باب يجب فيه الإدراك؛ لأن بعض الناس قد يقول: إن عوام الطائفة الفلانية -مثلاً- كفار خارجون من الملة.. لماذا؟ قال: لأنهم من هذه الطائفة، وهذه الطائفة من عقائدها كذا وكذا.
وهنا لا بد أن يتأكد هل هذه العقائد فعلاً موجودة عند العامة، أم أنها سطرت في كتب وأضيفت إلى قوم من غلاتهم أو قوم من خاصتهم؟ فإنه لا يحكم على معين بكفر إلا بعد أن يعلم أن هذا الكفر الذي نسب إلى طائفته موجود عنده، وهو عارف به، وإلا فقد يوجد عند بعض أئمتهم من الغلو ما لا يعرفه هؤلاء العامة، فلا يدان العامة بحكم هذا الرجل.
قال المصنف رحمه الله: [وقد يقولون: إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم، رفعوا عنه الواجبات، وأباحوا له المحظورات].
يبين المصنف رحمه الله أن الباطنية إذا وصل الرجل عندهم إلى مرحلة معينة، وصار من عارفيهم ومحققيهم، كشفوا له الباطن، وهذه إشارة من المصنف إلى أن هؤلاء لا يكشفون هذا الباطن في تفسيرهم للشرائع أو ما إلى ذلك للعامة، وعليه فلا يحكم على العامة بهذا الحكم من هذا الوجه، وإن كان لك أن تحكم على العامة بحكم أنهم ينتسبون لبدعة، وأنهم يقولون بكذا، فهذه أحكام أخرى.
قال رحمه الله: [وقد يوجد في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخلُ في بعض هذه المذاهب. وهؤلاء الباطنية الملاحدة أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى].
قوله: (وقد يوجد...) أي: يوجد في بعض المتصوفة الغلاة قوم يميلون إلى بعض الباطنية.
فمثلاً: ابن عربي ، المعروف أنه صوفي، ويأتي في درجات الصوفية المتقدمة في الغلو، لكن هناك كثير من المسلمين يعظمون ابن عربي ، سواء ممن تصوف على طريقته -طريقة وحدة الوجود- أو ممن كان متصوفاً وليس على طريقته، فهل يلزم أن من يعظم شأن ابن عربي ، أو من يدافع عنه أو ينتصر له أو يثني عليه، هل يلزم بالضرورة أن يكون مداناً بالحقائق المفصلة التي يقول بها ابن عربي ؟
الجواب: لا. فهذه مسائل لا بد من إدراكها، فمن يقول: أنا على طريقة ابن عربي ، لكنه لا يعرف ما هي طريقة ابن عربي ، فلا يلزم أن تقول: ما دام أنه ينتسب إلى ابن عربي إذاً يحكم عليه بحكمه، ولذلك فإن بعض أهل العلم الفضلاء ما تجرأ على الكلام في ابن عربي ؛ لأنه كان مشتغلاً بعلم الحديث والرواية والرجال، ولما سئل عن ابن عربي رأى أن في كلامه بعض الرمز وبعض الإشارة التي لا يلزم الجزم بظاهرها؛ بل إن ابن تيمية رحمه الله ذكر في كلام له في فتاواه: أنه كان في أول طلبه وفي أول إقدامه وسلوكه قال: "كنت أجتمع أنا وإخوة لي نقرأ في كلام ابن عربي في الفتوحات المكية، وكنا نرى في بعض كلامه خيراً وكلاماً حسناً مفيداً في مسائل السلوك"، فالرجل له أحياناً كلام مفيد وصحيح، فهل هذا الكلام الصحيح هو الذي يمثل ابن عربي ؟ لا. كما أن الكلام الغلط الذي عند ابن عربي لا يجوز أن ينسب إلى كل من أخذ بشيء من تعظيمه أو ما إلى ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [وما يحتج به أهل الإيمان والإثبات على هؤلاء الملاحدة، يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والإثبات على من يشرك هؤلاء في بعض إلحادهم، فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات، كما دل على ذلك الآيات البينات، كان ذلك هو الحق الذي يوافق المنقول والمعقول، ويهدم أساس الإلحاد والضلالات].
يقول المصنف: إن المتكلمين يعارضون المتفلسفة في مسألة اليوم الآخر، ويطالبون المتفلسفة بإثباته على التحقيق، يقول: فهذا مما يمكن أن يقلب عليهم، فإن المتفلسف يمكن أن يقول لهم: وأنتم قد تأولتم باب الصفات!!
قياس التمثيل: هو قياس الفرع على الأصل، وقياس الشمول: هو القياس الكلي، وقياس التمثيل ينتهي في الحقيقة إلى قياس الشمول، لكن التفريق بينهما هو من باب التقسيمات.
فالله سبحانه ينزه عن قياس التمثيل، وينزه عن قياس الشمول، وهو القياس الذي يقود لنتائج كلية، وإنما يستعمل في حقه تعالى المثل الأعلى، وهو ما يسميه بعض المصطلحين: (قياس الأولى)، وقد سبق أن قياس الأولى من الدرجة الثالثة من الكلمات وهي: التي يجوز استعمالها عند الحاجة إليها، أما قبل الحاجة إليها فلا يعبر بها، وإنما يعبر بأن الله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى، وله الوصف الأعلى.. وما إلى ذلك.
وقياس الأولى: هو أن كل كمال اتصف به المخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو الكمال الإضافي في حق المخلوق، فإن الخالق أولى به. وهذا من قواعد الإثبات العقلية، وذلك كصفة الكلام والسمع والبصر، ولذلك قال الله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ [الأعراف:148] وغير ذلك من الآيات.
قال المصنف رحمه الله: [فإذا كان المخلوق منزه عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقة في الاسم].
فكما أن من النقص أن يتصف الرب بصفات المخلوقات، فإن من النقص أن يكون معطلاً عن الصفات، فإذا قلتم: إن هذا التشبيه نقص، قيل: ونفي الصفات أيضاً نقص؛ لأنه تعطيل عن الكمال.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر