اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ثم أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة الزمر: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:53-59].
يذكر الله سبحانه في هذه الآيات رحمته العظيمة الواسعة التي وسعت كل شيء، قال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أي: لا تيئسوا من رحمة الله، فالقنوط بمعنى: اليأس، والذي ينبغي على المسلم وهو يعيش في هذه الدنيا أن يرجو رحمة الله سبحانه، ويعلم أنه لا يدخل الجنة إلا بفضل الله وبرحمته سبحانه, ورحمته وسعت كل شيء, فلا ييئس من رحمة الله ومن روحه وكرمه سبحانه تبارك وتعالى, بل لا بد أن يلجأ ويتوب إليه سبحانه من كل الذنوب، فإنه يغفر الذنوب جميعاً, ومعلوم أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها ويعاقب عليها، وأن الذي يملك أن يدخل عباده الجنة هو الذي يملك أن يعذبهم في النار سبحانه، فلذلك ينبغي على العبد أن يتوب إلى الله سبحانه وأن يكون بين الخوف والرجاء, بين حب الله والذل بين يديه سبحانه، بين الأمل أن يدخله جنته والخوف أن يمكر به ويدخله ناره.
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الزمر:53] أي: تجاوزوا حدهم ووقعوا في الذنوب وأسرفوا فيها، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] أي إن الله لا يتعاظمه ذنب أن يغفره, فمهما أذنب العبد ثم تاب إلى الله فإن الله يتوب عليه حتى من الكفر ومن الشرك به سبحانه تبارك وتعالى, أما إذا مات العبد على الشرك فـ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، بل مهما عمل من أعمال ظنها صالحة ومات على الكفر بالله أو مات على الشرك بالله ولم يأت بأصل الإيمان والتوحيد ولم يأت بلا إله إلا الله فإن عمله لا ينفعه كائناً ما يكون هذا العمل، قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] والخطاب في الآية للكفار والمشركين، أما المؤمن الذي وحد ربه سبحانه ولم يقع في الشرك ومات على الإيمان والإسلام والتوحيد فإنه حتى لو وقع في كبائر الذنوب فيرجى له رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنه يغفر الذنوب جميعاً وهو الغفور الرحيم.
ثم يوجههم باتباع شرعه ودينه فيقول: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:54] لقد أنزل الله سبحانه الأحكام الشرعية من السماء، فأنزل القرآن وأنزل من قبله التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، فكان هذا القرآن العظيم أحسن ما نزل من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولما أمر بالاتباع حذر من المخالفة فقال سبحانه: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً [الزمر:54] أي: فجأة بغير مقدمات، فإذا أتى على العبد فلا يستطيع حينها أن يتوب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فعادة ما ينزل العذاب بغتة فيأخذ الله عز وجل العصاة فيهلكهم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، وقال سبحانه في سورة هود: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
والنداء هنا يحمل معنى الاستغاثة والندب، والمعروف أن الإنسان يندب حظه ويصوت على نفسه، وقد يبكي على ما فرط وقصر.
وفي قوله تعالى: (يا حسرتا) قراءات، فيقرؤها أبو جعفر : (يا حسرتاي على ما فرطت في جنب الله) بخلاف ابن وردان فإنه يقرأ: (يا حسرتآي على ما فرطت) يُصوت على نفسه يوم القيامة فيقول ذلك (يا حسرتي)، فالأصل فيها بالياء وقلبت ألفاً للتخفيف، إذ إن الذي يُصوت يمد صوته من شدة حسرته فيقول: يا حسرتآه يمد صوته فيها، ويقف عليها رويس عن يعقوب : (يا حسرتاه) بهاء السكت عليها، ويميلها حمزة والكسائي وخلف ، ويقللها الأزرق عن ورش والدوري.
وقوله سبحانه: عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أي: في ذات الله وذكره وطاعته سبحانه تبارك وتعالى، وهو حين يقول: يا حسرتاه، يستحضر ما كان في الدنيا، فيتذكر أنه كان من الممكن أن يجيره الله سبحانه ففرط في جوار الله سبحانه، ويتذكر أنه كان من الممكن أن يجعل الله سبحانه من يشفع له عنده ففرط، وقصر في ذلك.
وكل إنسان مؤمناً كان أو كافراً، باراً كان أو فاجراً، يرى أنه يوم القيامة قد ظلم نفسه، ويرى نفسه مفرطاً في جنب الله سبحانه, فالمؤمن يقول: كان يمكنني أن أعمل أكثر من ذلك، فأحظى بدرجة أعلى مما أنا فيه في الجنة، فيرى نفسه مغبوناً، والغبن: أن يرى الإنسان نفسه استعجل أو تسرع في الشيء فخسر, كمن استعجل في الشيء فاشتراه بثمن غالٍ، وكان بإمكانه أن يشتريه بمثمن أرخص أو استعجل في بيع شيء فباعه بثمن بخس ولو انتظر لباعه بثمن أعلى، فكلاهما يسمى مغبوناً، ولذا سمي يوم القيامة: يوم التغابن؛ لأن كل إنسان يرى نفسه مغبوناً في ذلك اليوم، ولو سئل: من الذي خدعك؟ لوجد أنه هو الذي خدع نفسه، فحينها يتحسر ويتألم ويخاطب نفسه: كان أمامي وقت كثير ضيعته في النوم واللهو واللعب، كم من ساعات قضيتها في الكلام الفارغ فغبنت نفسي! وقد كان بإمكاني أن أجلس وأقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] عشر مرات فيبني الله لي قصراً في الجنة! وكان بإمكاني أن أقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة فتغفر ذنوبي ولو كانت مثل زبد البحر, أو لو كنت قلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. مائة مرة كانت لي عدل عشر رقاب أعتقتها الآن -يوم القيامة-، فيرى نفسه مغبوناً قد غبن نفسه يوم القيامة؛ ولذا ينادي: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56] والمعنى: لقد فرطت كثيراً في جنب الله، وكان من الممكن أستغل عمري أكثر مما استغللته.
أما الكافر فيرى نفسه خاسراً ضائعاً يقول: فرطت في جنب الله.. فرطت في الإسلام.. فرطت في لا إله إلا الله.. فرطت في كلمة التوحيد.. وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي: لمن المستهزئين، فقد كنت أسخر من المؤمنين وأستهزئ بما جاءني من عند رب العالمين.
ومعلوم أن كلمة: (لو) في الدنيا تفتح عمل الشيطان، أما في الآخرة فإن الإنسان ييئس من هذه الكلمة، وإن كررها فهو من أهل النار والعياذ بالله، وذلك جزاء بما قدم قال تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:56-57] أي: لكنت عملت ما أتقى به رب العالمين، وكنتُ اتقيت المعاصي والذنوب، ولكنه لم يفعل ولذا لا ينفعه قوله حين يقول: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57].
والهدى من الله على نوعين: هدى بمعنى الدلالة، وهذا لجميع خلقه، وهذا الذي لا يستطيع أن ينكره العبد يوم القيامة، وإن قال القائل يوم القيامة: لو أن الله حولني وعاملني كما يعامل هؤلاء المؤمنين، فسيجاب: المؤمن قد قدم في هذه الدنيا ما بسببه رحمه الله فاستحق أن يزيده هدى، قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، فالمؤمنون قد أراد الله عز وجل بهم الخير فدلهم على الطريق ثم أعانهم ففهموا هذا الطريق الحق فعملوا، فزادهم الله عز وجل إيماناً وهدى، أما الكافر فإنه لما دله الله عز وجل على الطريق، أخذ يستهتر ويأنف من اتباع الحق، بل أخذ يتبع الشيطان والهوى، ولذا استحق أن يطمس الله على نوره وبصيرته، فأصبح لا يرى حقاً ولا يجتنب باطلاً، قال الله عز وجل لهذا الكافر: قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ [الزمر:59] أي: استكبرت عليها وأنفت أن تطيع الله سبحانه تبارك وتعالى، وكفى المستكبر عقوبة أنه لا يدخل الجنة أبداً، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكبر فعرفه بأنه: (بطر الحق وغمط أو وغمص الناس) والمعنى: أنه يرفض الحق ويأبى أن يدخل فيه وأن يتبعه، فكان من كبر المستكبرين أنهم إذا دعوا لا يطلبون أن يدلهم الله على الحق وإنما يقول قائلهم كـأبي جهل وأمثاله: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32], ومن الكبر كما جاء في الحديث غمص الناس أي: احتقار الناس، ولذا يأتي المتكبرون يوم القيامة مثل النمل، وجاء في سنن الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر من الصغار في صور الرجال) فمن استكبر بقوته أو بضخامة جسده في الدنيا؛ فإنه يحشر يوم القيامة مثل النمل من الهوان، فإذا دخل النار كبر الله جثته وكبر حجمه ليناله العذاب في نار جهنم مفرقاً في جسده قطعة قطعة.
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يغشاهم الذل من كل مكان) ولأن الكافر كان في الدنيا منيع الجانب، متعززاً على المؤمنين، فإنه يحشر يوم القيامة ذليلاً ويقال له تبكيتاً: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، كان الكفار في الدنيا كـأبي جهل وغيره يقول قائلهم: أنا عزيز في قومي، أنا منيع الجانب في قومي، أنا كريم على قومي لا يسلمونني لأحد أبداً، وكان في يوم بدر في مثل الحرجة قد أحاطه الكفار يدافعون عنه برماحهم وسيوفهم، مثل الحرجة أي: في مثل الغابة الكثيفة من كثرة من حوله ممن يحمونه ويدافعون عنه، فإنه يعذب يوم القيامة ويقال له: (ذق) أي: ذق العذاب (إنك أنت) أي: لأنك كنت تقول عن نفسك ذلك (إنك أنت العزيز الكريم)، فذق يا عزيز، ذق يا كريم! فما كنت تدعيه في الدنيا من عزة وكرامة عذبت به في نار جهنم والعياذ بالله! ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء المستكبرين: (يحشرون يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس) وبولس: اسم سجن في جهنم ثم قال صلى الله عليه وسلم: (تعلوهم نار الأنيار) أي: أفضع النار والعياذ بالله! ثم قال صلى الله عليه وسلم: (يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال) طينة الخبال: أي يسقيهم الله صديد أهل النار والعياذ بالله، والحديث قال عنه الترمذي : حسن صحيح، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر