هذه الجملة يستعملها بعض أصحاب السنة والجماعة، وهي جملة مجملة، يمكن أن تفسرها فيكون تفسيرك لها صحيحاً بأن تقول: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) أي: أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون بآحاد الكبائر، ولا بالكبائر، ومراده بالذنب هنا ما دون الكفر، فإن أهل السنة والجماعة لا يكفرون بالكبيرة إلا إن استحل العبد ذلك.
لكن هذه الجملة ليست محكمة على التمام، فإن العبد قد يكفر بالذنب وهو غير مستحل له، ولهذا جاء في حديث عبد الله بن مسعود كما في الصحيحين قال: (قلت: يا رسول الله! أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعو لله نداً وهو خلقك) فسماه ذنباً، فهذا الإطلاق ليس حسناً على كل حال، لكن يعبر به بعض أصحاب السنة والجماعة، وإذا عبروا به فسر مرادهم بأن المقصود بذلك الذنوب التي دون الكفر بالله.
هذه الجملة تؤثر عن بعض المرجئة، وإن كان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: (وهذه الجملة تحكى عن غلاة المرجئة، ولا أعلم أحداً من الأعيان المعروفين صح عنه القول بهذه الجملة)، ولكن الأشعري في (مقالاته) وأبو محمد ابن حزم في (الفِصل) نسبا هذه الجملة إلى مقاتل بن سليمان ، إلا أن هذا لا يصح عنه، فـشيخ الإسلام رحمه الله لم يكن خفياً عليه ما قاله الأشعري وابن حزم أنها قول لـمقاتل بن سليمان ، ولهذا قال في منهاج السنة النبوية: (وينسب هذا لـمقاتل بن سليمان عند بعض أهل المقالات ولكنها لا تصح عنه)، فهذه جملة يقال: إنها تنسب لغلاة المرجئة ولا يصح عن معين أنه التزم هذا المذهب.
هذا من مقامات العبادة وهو: مقام الرجاء ومقام الخوف، وعبادته سبحانه وتعالى عند أهل السنة معتبرة بثلاثة أصول:
الأصل الأول: الاستحقاق، ومن أخص مقاماته المحبة، ومعنى هذا أن الله سبحانه وتعالى يُعبد ويُسأل ويُدعى ويُتقرب إليه استحقاقاً، أي: لكونه مستحقاً للعبادة، وهذا هو أشرف أصول العبادة.
الأصل الثاني: الرجاء، وهو أصل واسع.
الأصل الثالث: الخوف، وهو أصل واسع أيضاً، أي: واسع المتعلق، وعليه: فإن من يفسر الرجاء برجاء الجنة ويكون مدار كلامه إذا ذكر الرجاء على مدار الجنة وثواب الآخرة، فلا شك أن تفسيره يكون قاصراً، فإن من أخص مقامات الرجاء رجاء محبته سبحانه وتعالى، ورجاء رضاه سبحانه وتعالى، إلى غير ذلك، ومن مقامات الرجاء رجاء الجنة.
وكذلك الخوف، فكما أن الخوف من النار من الخوف الشرعي الذي شرعه الله ورسوله، إلا أن من مقامات الخوف أيضاً الخوف من سخطه وغضبه سبحانه وتعالى.
فيكون فقه هذين الأصلين: (الخوف والرجاء) لا يختص بالنعيم أو بالعذاب المادي، بل بما يتعلق بما بين العبد وبين ربه من محبته ورضاه أو سخطه وغضبه ومقته، والعبد كما أنه يرجو النعيم في الجنة فإنه قبل ذلك وأهم من ذلك يرجو محبة الله سبحانه وتعالى ورضاه، ولهذا قال سبحانه وتعالى لما ذكر النعيم: وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ [التوبة:72] ، فالرضا أعظم من هذا النعيم الذي أعده الله سبحانه وتعالى، وإن كان طلب النعيم والخوف من العذاب مشروعاً.
ومن هدي أهل السنة أنهم يرجون للمحسنين أي: من استقاموا على الإيمان ظاهراً وباطناً، ويخافون على المسيئين وهم من حقق أصل الإيمان ولكنهم اقترفوا ما اقترفوا من الكبائر، فهؤلاء المسيئون يُخاف عليهم، ولكن لا يعطلون من مقام الرجاء، وأهل الإحسان وإن كان يُرجى لهم إلا أنهم لا يعطلون من مقام الخوف، ولكن الأصل في أهل الإحسان هو الرجاء، والأصل في أهل الإساءة هو الخوف، وأما أن يقصر أهل الإساءة على مقام الخوف وحده فلا، بل يُخاف عليهم ويرجى لهم، ولهذا لما ذكر الله سبحانه وتعالى العصاة قال: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة:102] .
وقالت طائفة من المتقدمين: إن من استفاض ذكره وإمامته وديانته في الأمة شهد له بعينه بالجنة، وهذا قاله بعض المتقدمين من السلف، والجماهير على خلافه، ويحتج أصحاب هذا القول بما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: (لما مُرَّ بجنازة وأثني عليها خيراً فقال: وجبت وجبت وجبت، ثم مُرَّ بجنازة فأثني عليها شراً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وجبت وجبت وجبت، ثم قال: أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وأثنيتم عليه شراً فوجبت له النار) .
وهذا الحديث ليس فيه دلالة على أن من استفاض الثناء عليه بالخير أنه يعين بالجنة، فإن قوله: (وجبت له الجنة) حكم مطلق، لا يلزم منه العلم المختص الذي يتعلق بغير من أوحي إليه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون هذا من الموجبات، وأما أن يكون الموجب معيناً فلا، فإن من آمن وصلى وجبت له الجنة، ومع ذلك إذا علمته مؤمناً مصلياً لا يجوز لك أن تشهد له بالجنة، مع أن الصلاة موجب للجنة أعظم من إيجاب ثناء الناس، وثناء الناس بخير من موجبات الجنة، فإنه نوع من الشهادة بالعدل، ولكن هذا شيء مرده إلى الله سبحانه وتعالى.
وعليه فالاستدلال بالحديث ليس جيداً، ولهذا فإن عامة السلف لا يرون ذلك، وهناك خلاف لفظي بين الإمام أحمد ويحيى بن معين ، وقد كان يحيى بن معين يقول: أنا أقول عمن قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم إنه في الجنة كـأبي بكر : إنه في الجنة، ولا أشهد بذلك، وكان الإمام أحمد يقول له: إنك إن قلت: إنه في الجنة فقد شهدت، فهذا خلاف لفظي، وكأنه تحرز عن كلمة الشهادة بلفظها.
الأمن: هو الأمن من مكر الله، والإياس: هو الإياس من روح الله، ومراده بما ينقل عن ملة الإسلام هو: الأمن المطلق، فمن أمن مكر الله مطلقاً فهو كافر، وكذلك من قنط أو يئس من رحمة الله مطلقاً فهو كافر، وأما التقصير في هذا المقام بأن يعرض للعبد قدرٌ من الأمن الذي لا يكون مستحكماً عنده، ولا يعطِّل عنده مقام الرجاء ومقام الخوف والتعلق بالله، فهذا من كبائر الذنوب، ويكون من أعمال القلوب المخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان من فقه ابن مسعود أن قال: (إن أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، واليأس من روح الله).
وكما أن الشرك فيه ما هو أكبر وما هو دون ذلك، فإن الأمن والإياس كذلك، فمن أمن مكر الله مطلقاً فهو كافر ومن يئس من روح الله مطلقاً فهو كافر، ولكن من عرضت له أحوال في هذا المقام أو هذا المقام لا تنازع أصول الإيمان من كل وجه، فإن هذا شيء من أعمال القلوب القاصرة التي يوافي العبد بها ربه على أصل التوحيد والإيمان، وقد يكون بعضها من مقامات المعصية، وبعضها من مقامات الكبائر.
وقوله: (وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة) أي: الوسط بين مقام الأمن ومقام اليأس هو الأخذ بمقام الخوف والمحبة والرجاء.
ظاهر كلام أبي جعفر أن الكفر لا يكون إلا بالجحود، وهذه كلمة مجملة في معنى الجحود المراد هنا، وهي متضمنة لكون العمل لا يقع به الكفر، وهذا بناءً على أصل المؤلف في مسمى الإيمان من أن الإيمان هو: الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وهذا أحد أقوال المرجئة، وإن كان هو أحسن أقوال المرجئة وأقربها إلى السنة والجماعة، وهو القول الذي قاله حماد بن أبي سليمان ، وتبعه عليه أبو حنيفة وطائفة من أصحابه، وبعض من مال عن مذهب الأشعري وجمهور أصحابه من الأشاعرة، فإنهم مالوا إلى مثل هذا المذهب، وكذلك طوائف من الماتريدية الذين مالوا عن مذهب أبي منصور الماتريدي .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر