بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار، أما بعد:
فيقول الله عز وجل في الآية الثامنة والثلاثين من سورة الشورى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الشورى:38].
هذه الآية في معرض الثناء على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، تذكر أنهم استجابوا لربهم فاتبعوا رسله، وأطاعوا أمره، واجتنبوا زجره، وأقاموا الصلاة وهي أعظم العبادات لله عز وجل، وأنهم لا يبرمون أمراً حتى يتشاوروا فيه، ومما رزقهم الله عز وجل ينفقون؛ بالإحسان إلى خلق الله الأقرب فالأقرب.
قال ابن العربي رحمه الله: مدح الله المشاورة في الأمور، ومدح القوم الذين يمتثلون ذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمور المتعلقة بمصالح الحروب، وذلك في الآثار كثير، ولم يشاورهم في الأحكام؛ لأنها منزلة من عند الله على جميع الأقسام: من الفرض والندب والمكروه والمباح والحرام.
أيها الإخوة الكرام! (الشورى) هذه الكلمة القرآنية فيها جملة مباحث:
المبحث الأول: الشورى في اللغة مأخوذة من قولهم: شار العسل يشوره شوراً، أي: استخرجه وأخذه من موضعه.
أما في الاصطلاح؛ فقالوا: هي الاجتماع على الأمر ليستشير كل واحد صاحبه ويستخرج ما عنده، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المستشار مؤتمن ).
المبحث الثاني: الشورى أدب إسلامي في الحياة الأسرية، قال الله عز وجل: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا[البقرة:233]، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم علياً و أسامة رضي الله عنهما في قصة الإفك.
وكذلك أصحابه كانوا يستشيرونه في أمورهم الأسرية، كما فعلت فاطمة بنت قيس لما خطبها معاوية و أبو جهم، فأشار عليها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج أسامة بن زيد رضوان الله عليهم.
المبحث الثالث: في القرآن الكريم أمر للحاكم والأمير بأن يستشير وجهاء الناس وأهل العلم، قال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159].
قال ابن عطية رحمه الله: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، قال تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[الشورى:38]، وهذه الصفة جاءت مقرونةً بالصلاة والزكاة وهما فريضتان عظيمتان لا يتم إسلام المرء إلا بهما، وقد قال أهل الأصول: (القران في النظم يدل على القران في الحكم).
المبحث الرابع: في السنة القولية جملة أحاديث تؤكد أن الشورى كانت دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدبه، قال لـأبي بكر و عمر : ( وايم الله! لو أنكما تتفقان على أمر واحد ما خالفتكما في مشورة ).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما رأيت أحداً أكثر مشورةً لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها ).
وأما في السنة العملية فقد استشار صلوات ربي وسلامه عليه أصحابه يوم بدر في شأن القتال.
واستشار الحباب بن المنذر في أمر النزول على ماء بدر.
واستشار أبا بكر و عمر و عبد الله بن رواحة في شأن الأسرى.
واستشارهم يوم أحد في خروجه للقاء المشركين وبقائه بالمدينة.
واستشار السعدين يوم الأحزاب.
واستشار أم سلمة يوم الحديبية.
قال المودودي رحمه الله: وهناك أمثلة لا تحصر، تبين أن المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عرفوا بقرينة واضحة أو بتصريح منه صلى الله عليه وسلم أنه إنما يشير عليهم بأمر من تلقاء نفسه، يبدون رأيهم فيه بكل حرية، وكان ذلك أحب الأمور إليه، وكثيراً ما تنازل عن رأيه إزاء رأي أصحابه.
المبحث الخامس: كذلك كان الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتشاورون فيما بينهم:
قال الإمام البخاري رحمه الله: كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك استشارة أبي بكر للصحابة في قتال المرتدين.
قال ابن عباس : وكان القراء هم أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أم شباناً، والقرّاء في كلام ابن عباس هنا هم العلماء العباد.
واستشار عثمان الصحابة في أمر عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان وغيره ظناً منه أن لهم في قتل أبيه رضي الله عنه مدخلاً.
المبحث السادس: العقل يقضي بأن الشورى سبب الصواب؛ لأنها نتاج العقل ومسبار العقول، قال ابن عبد البر رحمه الله: الشورى محمودة عند عامة العلماء.
قال ابن عاشور : ولا أعلم أحداً رضي الاستبداد إلا رجل مفتون مخادع لمن يطلب عنده فائدة، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة، وكلا الرجلين فاسق.
المبحث السابع: قال بوجوب الشورى من علماء الإسلام: ابن خويز منداد و أبو بكر بن العربي و أبو زكريا النووي ، ونسب القول بالوجوب إلى محقق الشافعية أبي حامد الغزالي ، و أبي بكر الجصاص من الحنفية، ومن المعاصرين: السيد رشيد رضا ، والشيخ: عبد الوهاب خلاف ، والشيخ محمود شلتوت ، والاستاذ عبد القادر عودة ، والشيخ محمد أبو زهرة ، والاستاذان محمد أسد و سيد قطب رحمة الله عليهم أجمعين.
شاور صديقك في الخفي المشكل واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذاك نبيه في قوله شاورهم وتوكل
هل الشورى هي الديمقراطية؟ الجواب: لا.
لأن هناك فروقاً شرعيةً بين الشورى والديمقراطية أبينها في الآتي:
أولاً: الديمقراطية كلمة يونانية تتكون من مقطعين:
الأول: بمعنى شعب.
والثاني: بمعنى حكم.
ويقصد بها: النظام السياسي الذي يكون فيه للشعب نصيب في حكم أقاليم الدولة بطريقة مباشرة أو شبه مباشرة.
ثانياً: يوجد بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية أربعة فروق رئيسية:
الفرق الأول: أنه لا شورى مع نص قاطع من كتاب أو سنة، بخلاف الديمقراطية التي تستشير في كل شيء؛ فلا يتشاور المسلمون مثلاً في مساواة الأنثى بالذكر في الميراث، أو تحليل الربا، أو ترك الحكم بالإسلام، بينما هذه القضايا كلها خاضعة للتصويت في النظام الديمقراطي، والذين يصوتون أناس مختلفون فيهم المسلم والكافر والمنافق والعلماني والشيوعي والوثني، فالديمقراطية بهذا المفهوم كفر بواح.
الفرق الثاني: الحكم في الإسلام لله، والديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب وللشعب، وهذه قضية عقدية لا تحتمل مساومة، قال تعالى: إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ[يوسف:40]، ومن مخالفة الديمقراطية الواضحة للإسلام في هذا الباب: أن النظام الديمقراطي يقوم على إنشاء مؤسسات دستورية وتشريعية تعمل على إقرار الدساتير وسن القوانين في كل مجالات الحياة.
الفرق الثالث: المستشير في النظام الإسلامي - حاكماً كان أو غيره - ليس ملزماً دائماً برأي الأغلبية، لكنه يعمل بما يدين الله به وما يراه أقرب إلى الحق؛ بدليل أن أبا بكر رضي الله عنه لما أراد قتال المرتدين ومانعي الزكاة استشار عمر و أبا عبيدة و سالماً مولى أبي حذيفة ، فلما لم يوافقه على رأيه أحد ترك قولهم وعمل بما رآه صواباً.
وكذلك عمر لما استشار الناس حين وقع الطاعون ببلاد الشام سنة سبع عشرة من الهجرة عمل بما رآه أقرب إلى الحق.
أما في النظام الديمقراطي فكل الأمور خاضعة لرأي الأغلبية.
الفرق الرابع: الشورى قاصرة على أهل الفضل، وأهل الحل والعقد، فلا ينبغي أن يستشار كل من هب ودب، قال ابن العربي : ينبغي أن يكون المستشار عاقلاً، كما ينبغي أن يكون عابداً.
أخرج الخطيب عن علي رضي الله عنه قال: ( قلت يا رسول الله! الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء؟ قال: اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد ).
قال الإمام القرطبي رحمه الله: قال العلماء: وصفة المستشار إن كان في الأحكام: أن يكون عالماً ديناً، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل، وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً. انتهى كلامه رحمه الله.
أما الديمقراطية فإنه يؤخذ فيها برأي كل أحد دون اعتبار للعدالة أو العلم أو الفضل.
نسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر