وتكلمنا أيضاً عن شروط الحج وأنه يشترط له شروط هي: البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والاستطاعة، أما المراد بالاستطاعة فأهل العلم رحمهم الله اختلفوا في ذلك على رأيين.
فقوله: (يعتبر) يعني: يشترط لوجوب الحج والعمرة على المرأة أن يوجد محرم لها؛ ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي خرجت حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك ).
النوع الأول: زوج المرأة، كما دلت على ذلك السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إلا مع زوجها أو مع ذي محرم ).
قال: [ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب].
النوع الثاني: من تحرم عليه على التأبيد بنسب، ومن تحرم عليه المرأة على التأبيد بنسب سبعة:
الأول: أبو المرأة وإن علا: كجدها، وجد جدها.. إلى آخره فهذا محرم لها.
والثاني: ابنها وإن نزل: كابن ابنها وابن بنتها.. إلى آخره.
والثالث: أخوها من أي جهة، سواءً كان أخاً شقيقاً أو من جهة الأب أو من جهة الأم.
والرابع: عمها مطلقاً، سواء كان عماً لأبٍ أو عماً لأمٍ أو عماً شقيقاً.
والخامس: خالها أيضاً مطلقاً، سواء كان لأبٍ أو لأمٍ أو شقيقاً.
والسادس: ابن أخيها وإن نزل: كابن ابنه وابن بنته.. إلى آخره.
والسابع: ابن أختها وإن نزل.
فهؤلاء السبعة يحرمون على المرأة على التأبيد بالنسب.
ولم يذكر المؤلف رحمه الله المصاهرة، فنقول:
النوع الثالث: من يحرمون على المرأة على التأبيد بسبب المصاهرة، وهم:
الأول: ابن زوج المرأة فإنه يحرم على زوجة أبيه، فزوجة الأب محرمة على الابن بالإجماع، وهذا التحريم بمجرد العقد، فيكون محرماً لزوجة أبيه.
والثاني: أبو زوج المرأة، وهذا أيضاً محرم بالإجماع، فيكون محرماً بمجرد العقد.
والثالث: زوج الأم، ويكون محرماً لبناتها، لكن لا يكون محرماً لبناتها إلا بالدخول بالأم.
والرابع: زوجة الابن، فأبو الابن محرم لها بمجرد أن يعقد الابن على هذه المرأة، فإنها تحرم على أبيه وإن علا.
فأصبح الذين يكونون محارم للمرأة من جهة المصاهرة أربعة.
النوع الرابع: قال المؤلف رحمه الله: [أو سببٍ مباح].
يعني إذا كان هناك سبب مباح كالرضاع، ففي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فالسبعة الذين سبقوا في النسب يأتون هنا في الرضاع، فنقول: الأب من الرضاع محرم، والابن من الرضاع محرم، والأخ من الرضاع والعم والخال وابن الأخ وابن الأخت، فهؤلاء كلهم محارم من جهة الرضاع.
وقوله: (مباح) يخرج السبب المحرم، فإذا كان هناك سبب محرم فإنه لا يكون به الإنسان محرماً، يعني: حرم النكاح لوجود سببٍ محرم، فنقول: لا يكون به الرجل محرماً، ومثل ذلك على المشهور من المذهب أنهم يقولون بأنه يحرم بالسفاح ما يحرم بالنكاح، فإذا زنى بامرأة فإنه يحرم عليه بنتها، ويحرم عليه أمها، كما لو عقد على امرأة عقداً صحيحاً فإن أمها تكون محرمةً عليه، وإذا دخل بهذه المرأة فإن بنتها تكون محرمةً عليه بالدخول، وأيضاً الربيبة تحرم بالدخول، فالمشهور من المذهب أنهم يقولون: السفاح كالنكاح، يعني: إذا زنى بامرأة لا يجوز له أن يتزوج أم هذه المرأة، ولا يجوز له أن يتزوج بنتها، مع أنهم يقولون: يجوز له أن يتزوج زانية إذا تابت، وهذا فيه نظر، لكن على كل حال إذا زنى بهذه المرأة وقلنا بأنه لا يجوز له أن يتزوج أمها فإنه لا يكون محرماً لأمها، وإذا قلنا بأنه لا يجوز له أن يتزوج بنتها فإنه لا يكون محرماً لبنتها.
لو أنه فرط حتى مات، هل يخرج من تركته ما يحج به عنه ويعتمر أو لا يخرج؟
هذه المسألة فيها ثلاثة آراء للعلماء رحمهم الله:
الرأي الأول: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا كان مستطيعاً للحج ثم بعد ذلك ترك الحج تهاوناً وكسلاً حتى مات فإنه يخرج من تركته ما يحج به عنه، وكذلك أيضاً ما يعتمر به عنه؛ لأنهم يرون أن العمرة واجبة، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اقضوا، فالله أحق بالوفاء ) .
والرأي الثاني: التفصيل في هذه المسألة، وهذا قال به مالك والشافعي رحمهم الله، فقالوا: إن أوصى فإنه يخرج من تركته ما يحج به عنه، وإن لم يوص فإنه لا يخرج، وإذا أوصى قالوا: يخرج لوجوب تنفيذ الوصية كما قال الله عز وجل: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]، وأيضاً قول الله عز وجل: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11] .
والرأي الثالث: وهو ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله أنه إذا فرط فلا يخرج من تركته، يعني: أنه إذا فرط في الحج فلم يحج حتى مات فإنه لا يخرج من تركته.
والأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله أن الإنسان إذا فرط فلم يحج حتى مات فإنه يخرج من تركته.
تقدم الكلام عليه في الدرس السابق، فالكافر لا يجب عليه الحج وجوب أداء ولا يصح منه؛ ويدل لذلك قول الله عز وجل: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] وأيضاً قول الله عز وجل: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54]. فالكافر فاقد للأصل، وإذا كان كذلك فإنه لا يصح منه.
وقوله: (ولا مجنون).
أيضاً المجنون لا يصح منه وهذا بالاتفاق؛ ويدل لهذا حديث: ( رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم-: المجنون حتى يفيق ). ولأن المجنون هذا ليس له قصد معتبر فلا يصح منه.
لو أن الصبي حج فإن حجه صحيح؛ ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن امرأة رفعت صبياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر ).
ولا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام، فإذا بلغ فعليه أن يحج حجة أخرى، وأجر الحج يكون للصبي ولوليه أجر؛ لقول الله عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت:46]. وهذا عمل صالحاً فيكون للصبي، وأما وليه فله أجر لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولك أجر ).
أيضاً العبد يصح منه ولا يجزئه عن حجة الإسلام، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله؛ لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما عبدٍ حج ثم عتق فعليه حجة أخرى، وأيما صبيٍ حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى ). وهذا الحديث مختلف بين رفعه ووقفه، والأقرب أنه موقوف، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا أذن له سيده فإنه يجزئه ذلك عن حجة الإسلام.
إذا كان إنسان غير مستطيع فلا يجب عليه الحج، وتقدم أن ذكرنا تفسير الاستطاعة أنه إذا كان غير مستطيع فإن حجه غير واجب، لكن لو أن هذا الشخص ذهب وتكلف وحج فنقول بأن حجه صحيح ويبرؤه ذلك، يعني: يجزئه ذلك عن حجة الإسلام وتبرأ ذمته؛ لأنه أتى بالحج بشروطه وأركانه وواجباته.
وقوله: (والمرأة بغير محرم) أيضاً المرأة كما سلف لا يجب عليها الحج إلا مع وجود محرم، فلو أنها ذهبت وسافرت بلا محرم فنقول بأن حجها صحيح ويجزئها ذلك عن حجة الإسلام، لكنها تأثم لكونها تركت السفر بلا محرم.
هنا مسألتان:
المسألة الأولى: حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه، فهل يجزئه ذلك أو لا يجزئه؟ هذا شخص حج عن أبيه -مثلاً- أو حج عن أمه ولم يكن حج عن نفسه، فهل نقول: الحج يكون له أو لمن ناب عنه؟
هذا فيه رأيان للعلماء رحمهم الله:
الرأي الأول: وهو المذهب كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وهو قول أبي حنيفة : أن هذه الحجة تكون عن نفسه، فإذا لبى عن أبيه وهو لم يحج عن نفسه تنقلب هذه الحجة لنفسه، فإذا قال: لبيك عن أبي وحج عنه، قالوا: بأنها تكون عن نفس الحاج ولا تكون عمن حج عنه.
واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يلبي عن
الرأي الثاني: رأي مالك والشافعي أن هذه الحجة تكون للشخص الذي استنيب عنه، أي: الذي حج عنه، فمثلاً: لو حج عن أبيه وهو لم يحج عن نفسه فإنه يقع عن أبيه.
واستدلوا على ذلك بقصة الخثعمية -كما في الصحيحين- التي جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حجها عن أبيها وذكرت: (أن أباها أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي عنه ) ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل حجت عن نفسها أو لم تحج عن نفسها؟
وأيضاً يدل لذلك ما في الصحيحين من حديث عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات ). وهذا الشخص إنما نوى عن ذلك الشخص ولم ينو عن نفسه، وهذا القول هو الأقرب، إلا إذا ثبت حديث ابن عباس في قصة شبرمة ؛ لأن حديث ابن عباس في قصة شبرمة بعض أهل العلم يرفعه وبعضهم يقف فيه ولا يصححه مرفوعاً، فإن ثبت الحديث قيل به، وإن لم يثبت مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم فما ذهب إليه مالك والشافعي يكون أقرب.
هذه المسألة فيها رأيان للعلماء رحمهم الله، وصورتها كما تقدم: رجلٌ لم يحج حجة الإسلام وعليه حجة منذورة، ثم شرع في الحج المنذور، هل نقول بأنه ينقلب إلى حجة الإسلام؟ أو نقول بأنه يكون عن حج هذه الحجة المنذورة ثم يحج حجة الإسلام؟ فهذه المسألة فيها رأيان للعلماء رحمهم الله:
الرأي الأول: مذهب أحمد وأبي حنيفة أن هذه الحجة تنقلب عن حجة الإسلام كما تقدم.
والرأي الثاني: رأي مالك والشافعي أن هذه الحجة تكون عن حجة النذر ثم بعد ذلك يحج عن حجة الإسلام، والدليل كما تقدم في المسألة السابقة.
وأما في الاصطلاح: فهو زمان العبادة ومكانها، وعلى هذا يكون المراد من قول المؤلف رحمه الله: (باب المواقيت) أزمنة العبادة وأمكنتها، فأراد المؤلف رحمه الله في هذا أن يبين زمان الإحرام في الحج ومكان الإحرام بالحج، وزمان الإحرام بالعمرة ومكان الإحرام بالعمرة كما سيأتي.
القسم الأول: مواقيت مكانية.
والقسم الثاني: مواقيت زمانية.
وبدأ المؤلف رحمه الله بمواقيت الحج، وهي المواقيت المكانية، وسيأتي إن شاء الله ما يتعلق بالمواقيت الزمانية.
قال رحمه الله: [وميقات أهل المدينة ذو الحليفة].
ابتدأ المؤلف رحمه الله بميقات أهل المدينة -وهو ذو الحليفة- اتباعاً للنص الوارد، فإن في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ).
وميقات ذي الحليفة هو أبعد المواقيت عن مكة، والحليفة: تصغير الحلفة، وهو شجر في ذلك المكان، فسمي هذا المكان باسم ذلك الشجر.
قال رحمه الله: [وأهل الشام والمغرب ومصر الجحفة].
أهل الشام والمغرب ومصر يحرمون من الجحفة، والجحفة هذه قرية خربة، وسبب تسميتها بهذا الاسم قيل: لأن السيل اجتحفها وهجرت، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كانت محمومة، فأصاب الصحابة رضي الله تعالى عنهم شيء من حماها، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحبب إليه وإلى الصحابة المدينة وأن ينقل حماها إلى الجحفة، وكانت الجحفة في ذلك الزمن يسكنها اليهود، فاستجاب الله عز وجل دعوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فنقل حماها إلى الجحفة، ثم بعد ذلك زال عنها الحمى بزوال اليهود.
والعلماء يقولون: لما اندثرت هذه القرية وخربت واجتحفها السيل، أصبح الناس يحرمون من رابغ، فرابغ هذه مدينة معروفة كبيرة وهي قبل الجحفة بشيءٍ يسير، والآن الجحفة بني فيها ميقات ومسجد، فأصبح الناس الآن يحرمون من الجحفة.
قال رحمه الله: [واليمن يلملم].
ويقال: ألملم ويرمرم، وهو اسم جبل هناك.
قال رحمه الله: [ولنجدٍ قرن].
يعني: قرن المنازل، والقرن: الجبل، وهو جبل أحمر هناك، وسمي الوادي الذي فيه ذلك الجبل باسم ذلك الجبل، فقيل: قرن المنازل، ويسمى بالسيل الكبير، ويحرم منه أهل نجد، وعلى محاذاته وادي محرم من جهة الطائف.
وقال رحمه الله: [وللمشرق ذات عرق].
والعرق هو: الجبل الصغير، فأهل المشرق يحرمون من ذات عرق، وذات عرق اختلف فيه أهل العلم رحمهم الله من الذي وقتها؟ هل الذي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم أو عمر ؟ في ذلك رأيان للعلماء رحمهم الله: ففي حديث جابر وحديث عائشة أن الذي وقت ذات عرق هو النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أثر ابن عمر كما في البخاري أن الذي وقتها هو عمر رضي الله تعالى عنه.
وعلى كل حال، سواء قلنا بأن الذي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم، أو قلنا بأن الذي وقتها عمر رضي الله تعالى عنه، فالخلاف في هذه المسألة لا يترتب عليه ثمرة؛ لأن الإجماع منعقد على أن ذات عرق ميقات أهل المشرق، فنقول: الإجماع منعقد على أن ذات عرق هي ميقات أهل المشرق.
هذه المواقيت التي عددها المؤلف رحمه الله كما ورد ذلك في حديث ابن عباس وأيضاً عن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس : ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن، وأهل اليمن من يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ).
فالنجدي إذا مر من ذي الحليفة فإنه يحرم من ذي الحليفة، والشامي إذا مر من ذي الحليفة فإنه يحرم من عند ذي الحليفة، لكن اختلف أهل العلم رحمهم الله: هل له أن يؤخر إلى ميقاته؟ يعني لو أن الشامي جاء المدينة ومر بميقات ذي الحليفة، فهل له أن يؤخر الإحرام إلى أن يجيء إلى ميقاته -وميقاته هو الجحفة- أو ليس له أن يؤخر؟ في هذا رأيان للعلماء رحمهم الله:
فالرأي الأول: وهو قول أكثر أهل العلم أنه ليس له أن يؤخر، بل إذا مر بذي الحليفة وجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ). فقالوا بأنه ليس له أن يؤخر.
والرأي الثاني: قال به الإمام مالك وأيضاً اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنه له أن يؤخر، يعني: الشامي لو ترك الإحرام من ذي الحليفة وأخر ذلك إلى الجحفة فإن هذا جائز؛ لأنه رجع إلى ميقاته الأصلي.
إذا كان إنسان منزله دون الميقات، مثل: أهل الشرائع وأهل بحرة وخليص ووادي فاطمة وعسفان، ممن يكون منزله بين مكة وهذه المواقيت، فمن كان دون هذه المواقيت فإنه يحرم من مكانه ولا يلزمه أن يخرج إلى تلك المواقيت؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ومن كان دون ذلك فمهله من أهله ).
لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وأهل مكة يهلون من مكة ) وهذا موضع اتفاق، لكن اختلف أهل العلم رحمهم الله لو أن المكي خرج من مكة وأحرم، مثلاً: أحرم بعرفات أو أحرم في منى، فهل يجزئه ذلك أو لا يجزئه؟
هذا موضع خلاف بين أهل العلم والصواب أنه يجزئه، وسيأتينا إن شاء الله أن من أحرم قبل الميقات فإن إحرامه صحيح، وقال بعض العلماء: يكره كراهة تنزيه، وبعضهم قال: يكره كراهة تحريم.
قال رحمه الله: [ويهلون للعمرة من أدنى الحل].
يعني: أهل مكة يهلون للعمرة من الحل، يعني: المكي إذا أراد أن يعتمر فإنه يخرج إلى الحل، كذلك أيضاً من ورد مكة لغرض ثم نوى العمرة أو اعتمر ثم أراد أن يكرر العمرة على خلاف في تكرار العمرة، لكن لو فرض أنه أراد أن يكرر العمرة، فإنه يخرج إلى الحل، وهذا قول الأئمة الأربعة أن المكي ميقاته للعمرة هو الحل، وعلى هذا لا بد أن يخرج إلى الحل.
والرأي الثاني: وهو قول الصنعاني وظاهر صنيع البخاري رحمه الله أنه يحرم من مكة حتى للعمرة.
والذين قالوا بأنه يحرم من الحل استدلوا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها كما في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
والذين قالوا بأنه يحرم للعمرة من مكة استدلوا على ذلك بحديث ابن عباس : ( أهل مكة يهلون من مكة ).
والصواب هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم أن المكي لا بد أن يخرج لحديث عائشة ، فإن قيل بأن عائشة ليست من أهل مكة وإنما من أهل المدينة، أي أنها آفاقية ليست من أهل مكة، فكونها خرجت لا يستدل به، فكيف الجواب عن ذلك؟
نقول: الجواب عن ذلك أن الآفاقيين لما وردوا مكة أخذوا حكم أهل مكة بدليل أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أحرموا للحج من البطحاء، فدل ذلك على أن الآفاقي إذا ورد مكة فإنه يأخذ حكم أهل مكة، بدليل أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما حلوا من عمرتهم لم يخرجوا إلى المواقيت، وإنما أحرموا للحج من أماكنهم فأصبحوا كالمكيين، فدل ذلك على أن أهل مكة بالنسبة للعمرة حكمهم أنهم يخرجون إلى الحل.
وأيضاً الاستقراء كما ذكر الشيخ ابن تيمية رحمه الله: من يستقرئ المناسك يجد أن الناسك يجمع في نسكه بين الحل والحرم، فالحاج يجمع بين الحل والحرم وكذلك أيضاً المعتمر، وحتى المكي يجمع بين الحل والحرم، فيخرج إلى عرفات ثم يرجع إلى مكة، كذلك أيضاً المكي إذا اعتمر فإنه أيضاً يجمع بين الحل والحرم، فيخرج إلى الحل ثم بعد ذلك يرجع.
وقال رحمه الله: (من أدنى الحل) ولم يقل: من التنعيم؛ لأن التنعيم ليس متعيناً، بل الإنسان ينظر ما هو الأسهل له، فقد يكون الأسهل من التنعيم لكونه قريباً منه، وقد يكون الأسهل عرفات لكونه قريباً من عرفات، فالمهم أن الإنسان ينظر إلى الأسهل له، ولهذا لم يقل المؤلف رحمه الله: من التنعيم، وإنما قال: من الحل، فينظر أسهل الحل فيأخذ به.
إذا كان الإنسان ليس طريقه على ميقات فإنه ينظر إلى حذوها إليه، يعني: أقربها إليه، ويدل لهذا أثر ابن عمر في البخاري أنه لما فتحت الكوفة والبصرة أتوا عمر رضي الله تعالى عنه، فقال: انظروا حذوها من طريقكم. فنقول بأن الذي لا يمر على ميقات فإنه يحرم إذا حاذى أقربها إليه.
فإن لم يحاذ ميقاتاً وهذا مثله العلماء رحمهم الله بمن يجيء من مدينة سواكن في السودان إلى جدة، فيقولون: إنها لا تحاذي ميقاتاً، فهنا قالوا: يحرم قبل مكة بمرحلتين، ومثله أيضاً الآن الذي يكون على الطائرة فهذا يحرم إذا حاذى الميقات.
يعني: هل يجوز أن يدخل مكة بغير إحرام أو لا؟ يقول المؤلف رحمه الله: لا يجوز أن يدخل مكة إلا بإحرام مطلقاً، سواء أراد الحج أو لم يرد الحج، أراد العمرة أو لم يرد العمرة، فلا يجوز له أن يتجاوز الميقات إلا بإحرام، لكن استثنى وقال: إذا كان صاحب حاجة تتكرر كالحطاب ونحوه فيدخل ويخرج فإن هذا فيه مشقة عليه، وهذا أولاً.
ثانياً: إذا كان هناك قتال مباح فإنه يعفى عن ذلك، ولهذا قال المؤلف: (إلا لقتالٍ مباح).
ثالثاً: في حال الخوف.
هذه ثلاثة مسائل مستثناة، وما عدا ذلك فإنه لا يجوز له أن يدخل إلا بإحرام، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله وهو أيضاً مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى، وهو الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي الشافعي رحمه الله أنه يجوز أن يدخل مكة بلا إحرام إلا إذا كان مريداً للحج أو العمرة، وهذا القول هو الصواب؛ لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ).
يعني: لو أن الإنسان دخل بلا إحرام إما لقتالٍ مباح أو كحطاب أو لخوف، ثم بعد ذلك إذا أراد النسك فإنه يحرم من موضعه، وسبق أن ذكرنا أن الراجح هو قول الشافعي أنه يجوز للإنسان أن يدخل مكة بغير إحرام ما لم يكن مريداً للحج أو العمرة، فإذا كان مريداً للحج أو العمرة فإنه يجب عليه أن يحرم من الميقات، وإن كان غير مريدٍ للحج والعمرة ثم طرأت عليه نية الإرادة فإنه يحرم من مكانه، يعني إذا كان أصلاً غير مريد ثم بعد ذلك لما قدم مكة أراد، فنقول بأنه يحرم من مكانه.
إذا جاوز الإنسان الميقات غير محرم يجب عليه أن يرجع ويحرم من الميقات، ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس أنه إذا جاوز الميقات يقال له: أنت بالخيار؛ إما أن ترجع وليس عليك دم، أو عليك دم، وهذا خطأ؛ فلا يجوز التخيير فيه، فنقول: يجب عليك أن ترجع إلى الميقات وتحرم منه. فلو أنه أحرم من موضعه هنا يقال بأنه عليه دم كما ذكر جمهور أهل العلم رحمهم الله، أما أن يقال: أنت بالخيار؛ إما أن ترجع وتحرم من الميقات، أو عليك دم إذا أحرمت من هنا فإن هذا خطأ، بل يقال: يجب عليك أن ترجع؛ لأن الإحرام من الميقات حكمه واجب، ففي حديث ابن عباس : ( يهل أهل المدينة... ) هذا خبر بمعنى الأمر، أي: ليهل أهل المدينة، وأيضاً حديث ابن عمر الصريح: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجد قرن ) فهذا يدل على الوجوب، وأن الإنسان يجب عليه أن يحرم من الميقات.
وقال رحمه الله: (فإن أحرم من دونه فعليه دم، سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع).
إذا أحرم من دون المواقيت فهذا عليه دم؛ لأنه ترك واجباً من واجبات الحج، لكن الأصل يجب عليه أن يرجع، لكن لو لم يرجع فنقول بأن عليه دم كحكم وضعي، وأيضاً عليه التوبة كحكم تكليفي لأنه آثم؛ فهذا الذي أحرم دون الميقات ترك واجباً، فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر