قال المصنف رحمه الله: [ لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم ].
يعني: مناسبة الآية لما قبلها أنه سبحانه وتعالى بيَّن نعمه عليهم في دفع النقم، بحيث إن الله أماتهم ثم أحياهم، فقد عوقبوا بالصعق، وعوقبوا بالتيه في صحراء سيناء بين مصر وفلسطين، فلما عوقبوا بالتيه أنعم الله عليهم بنعم عظيمة وهم في شدة الحر في صحراء ليس فيها شيء، فكانت السحاب تأتيهم وتظللهم، فهذه من نعم الله عليهم، وكذلك كان ينزل عليهم المن والسلوى كما سيأتي، والمن شيء يشبه العسل، والسلوى طائر، وكذلك أيضاً كان موسى يحمل الحجر، فإذا ضربه بعصاه انفجر منه اثنا عشر عيناً، فكل قبيلة لها عين؛ حتى لا يختصموا، فهذه نعم عظيمة في التيه، وهم معاقبون بالتيه بسبب امتناعهم ورفضهم عن فتح بيت المقدس، ومع ذلك أنعم الله عليهم بهذه النعم في التيه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فقال: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وهو جمع غمامة؛ سمي بذلك لأنه يغم السماء، أي: يواريها ويسترها، وهو السحاب الأبيض، ظُللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس، كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون، قال: (ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام).
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحاك والسدي نحو قول ابن عباس .
وقال الحسن وقتادة : وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ كان هذا في البرية، ظلل عليهم الغمام من الشمس.
وقال ابن جرير : قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا وأطيب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، ولم يكن إلا لهم.
وهكذا رواه ابن جرير عن المثنى بن إبراهيم عن أبي حذيفة ، وكذا رواه الثوري وغيره عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وكأنه يريد والله أعلم أنه ليس من زي هذا السحاب، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظراً، كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: قال ابن عباس : وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ قال: غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله فيه، في قوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210].
وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر، قال ابن عباس : وكان معهم في التيه ].
ظاهر الآية أن الغمام المذكور هو السحاب المعروف، هذا هو ظاهر الآية وهو الأصل؛ لأن الله تعالى خاطب العرب بما يعرفون، فقوله: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ، وهو السحاب المعروف، وهذا السحاب إذا كان في شدة الشمس وفي شدة الحر فهو نعمة عظيمة، فيظلل ويقي من الشمس ووهجها وشدة حرارتها.
فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : كان المن ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا.
وقال مجاهد : المن: صمغة.
وقال عكرمة : المن: شيء أنزله الله عليهم مثل الطل، شبه الرُّب الغليظ.
وقال السدي قالوا: يا موسى! كيف لنا بما هاهنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجرة الزنجبيل، وقال قتادة : كان المن ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق، حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته، ولا يطلبه لشيء، وهذا كله في البرية.
وقال الربيع بن أنس : المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه.
وقال وهب بن منبه وسئل عن المن، فقال: خبز رقاق مثل الذرة أو مثل النقي.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني أحمد بن إسحاق البزار حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا إسرائيل عن جابر الجعفي عن عامر وهو الشعبي ، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءاً من المن.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه العسل.
ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت حيث قال:
فرأى الله أنهم بمضيع لا بذي مزرع ولا مثمورا
فسناها عليهمُ غاديات ويرى مزنهم خلايا وخورا
عسلاً ناطفاً وماء فراتاً وحليباً ذا بهجة مزموراً ].
يعني: أن المن كان ينزل من السماء كالطل على شجر أو حجر، ويحلو ويعقد عسلاً، ويجف جفاف الصمغ كالشيرخشت والترنجبين.
والمعروف أن المن هو ما وقع على شجر البلوط، وهو معتدل نافع للسعال الرطب والصدر والرئة.
وقد جاء في الحديث الصحيح: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) يعني: المن شيء ينزل ويشبه العسل، ويستعملونه للأكل والحلوى، فهو نعمة امتن الله بها عليهم، وهو مأكول يشبه العسل، ويستعمل مع غيره ويستفاد منه، وأما اللحم فأنزل الله عليهم السلوى وهو طائر، فالله أعطاهم نوعاً من الطعام ونوعاً من اللحوم، فالسلوى طائر، والمن طعام، وكان المن يغنيهم عن الطعام، فهو يشبه العسل، فهو طعام وحلوى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فالناطف هو السائل، والحليب المزمور الصافي منه، والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد ].
يعني: أن المن طعام وشراب كان يأتي عليهم وليس لهم فيه تعب، فكان ينزل عليهم من السماء، كما أن السلوى طائر ليس لهم فيه يد، وهذا من منة الله تعالى عليهم، فيأتيهم طعام لذيذ وشراب وحلوى، ويأتيهم أيضاً من اللحوم وهو هذا الطائر السلوى من غير كد ولا تعب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاماً وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شراباً طيباً، وإن ركب مع غيره صار نوعاً آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده، والدليل على ذلك قول البخاري : حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) ].
يعني: المن هو طعام وشراب لذيذ امتن الله به عليهم، وكان يكفيهم عن الطعام والشراب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود من طرق عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وقال الترمذي : حسن صحيح.
ورواه البخاري ومسلم من رواية الحكم عن الحسن العرني عن عمرو بن حريث به، وقال الترمذي : حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، تفرد بإخراجه الترمذي ، ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن محمد بن عمرو ، وإلا من حديث سعيد بن عامر عنه.
وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر كذا قال.
وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من طريق آخر عن أبي هريرة ، فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري حدثنا أسلم بن سهل حدثنا القاسم بن عيسى حدثنا طلحة بن عبد الرحمن عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وطلحة بن عبد الرحمن هذا السلمي الواسطي يكنى بـأبي محمد ، وقيل: أبو سليمان المؤدب ، قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي : روي عن قتادة أشياء لا يتابع عليها ].
أول الحديث ثابت في البخاري كما سبق: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، وإن كان هذا الطريق فيه كلام.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ثم قال الترمذي : حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة : (أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم) ].
هذا الحديث ضعيف منقطع؛ لأن شهر بن حوشب لم يسمع من أبي هريرة ، وقوله: (الكمأة جدري الأرض) هذا الذي استنكر منه، وأما: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) فهو ثابت في البخاري .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهذا الحديث قد رواه النسائي عن محمد بن بشار به، وعنه عن غندر عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة به، وعن محمد بن بشار عن عبد الأعلى عن خالد الحذاء ، عن شهر بن حوشب ، بقصة الكمأة فقط.
وروى النسائي أيضاً وابن ماجة من حديث محمد بن بشار عن أبي عبد الصمد بن عبد العزيز بن عبد الصمد عن مطر الوراق عن شهر : بقصة العجوة عند النسائي ، وبالقصتين عند ابن ماجة ، وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة ، فإنه لم يسمع منه، بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي هريرة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة، وبعضهم يقول: جدري الأرض، فقال: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) ].
يعني: صار عبد الرحمن بن غنم بين شهر وأبي هريرة ، فدل على أن شهراً لم يسمع من أبي هريرة ، وشهر بن حوشب فيه كلام، فالرواية الأولى منقطعة، وشهر منهم من وثقه ومنهم من ضعفه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم).
وقال النسائي في الوليمة أيضاً: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، ثم رواه أيضاً ابن ماجة من طرق عن الأعمش عن أبي بشر عن شهر عنهما به.
وقد رويا أعني النسائي من حديث جرير، وابن ماجة من حديث سعيد بن أبي سلمة كلاهما عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد، رواه النسائي ، وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين).
ورواه ابن مردويه عن أحمد بن عثمان عن عباس الدوري عن لاحق بن صواب عن عمار بن رزيق عن الأعمش كـابن ماجة .
وقال ابن مردويه أيضاً: حدثنا أحمد بن عثمان حدثنا عباس الدوري حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي سعيد الخدري قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت، فقال: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين).
وأخرجه النسائي عن عمرو بن منصور عن الحسن بن الربيع به، ثم ابن مردويه رواه أيضاً عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام عن عبيد الله بن موسى عن شيبان عن الأعمش به.
وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن عبيد الله بن موسى.
وقد روي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه كما قال ابن مردويه قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا حمدون بن أحمد حدثنا جوثرة بن أشرس حدثنا حماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن أنس: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تداروا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فقال بعضهم: نحسبه الكمأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم)، وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة .
وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئاً من هذا، والله أعلم.
وروي عن شهر عن ابن عباس ، كما رواه النسائي أيضاً في الوليمة، عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد عن عبد الله بن عون الخراز عن أبي عبيدة الحداد عن عبد الجليل بن عطية عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين).
فقد اختلف كما ترى فيه على شهر بن حوشب ، ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه الطرق كلها، وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم، فإن الأسانيد إليه جيدة، وهو لا يتعمد الكذب، وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم من رواية سعيد بن زيد رضي الله عنه ].
يعني: كما تقدم في رواية البخاري : (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) وهذه الروايات الكثيرة التي أطال فيها المؤلف رحمه الله كلها تأخذ وقتاً طويلاً.
نقول: لابد أن يراجع أهل الخبرة وأهل التجارب؛ لأن بعض الناس قد يستعمل الكمأة في غير ما يستعمل في التجارب فتضره، فقد يضع الكمأة في العين فتضر العين وقد تعمى، لكن هناك طريقة عند أهل التجارب، فأظن أنهم يحمونها على النار ويأخذون شيئاً من ماء الكمأة على العين.
إذاً فتستعمل على حسب التجارب وعلى حسب معرفة أهل الخبرة.
وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: السلوى طائر يشبه السمانى.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبد الصمد بن الوارث حدثنا قرة بن خالد عن جهضم عن ابن عباس قال: السلوى هو السمانى، وكذا قال مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى.
وعن عكرمة : أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو ذلك.
وقال قتادة : السلوى كان من طير أقرب إلى الحمرة، تحشرها عليهم الريح الجنوب، وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه.
وقال وهب بن منبه : السلوى طير سمين مثل الحمامة، كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت، وفي رواية عن وهب قال: سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحماً، فقال الله: لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض، فأرسل عليهم ريحاً فأذرت عند مساكنهم السلوى -وهو السمانى- مثل ميل في ميل قيد رمح في السماء، فخبئوا للغد، فنتن اللحم، وخنز الخبز.
وقال السدي : لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام: كيف لنا بما هاهنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57]. وقوله: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60] ].
الحاصل أن الله سبحانه وتعالى امتن على بني إسرائيل في التيه بنعم عظيمة، ذكّر الله بها أحفادهم وأولادهم الموجودين في المدينة في زمن نزول الوحي، فقال تعالى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57]، فهذه من نعم الله عليهم، وهم معاقبون في التيه لما امتنعوا من فتح بيت المقدس، وقال لهم موسى: احملوا عليهم حملة واحدة فقد وعدني الله بالنصر، ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21] ، قاتلوا هؤلاء الكفرة العماليق، فأبوا ورفضوا وامتنعوا، وقالوا لنبيهم قولاً سيئاً قالوا: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فعاقبهم الله بالتيه، قال الله: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26]، والتيه هي الصحراء التي بين فلسطين وبين مصر، كانوا يسيرون فيها ولا يهتدون إلى البلد، فقد حرمها الله عليهم تحريماً قدرياً، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26]، والتحريم يكون شرعياً ويكون قدرياً، فالتحريم القدري، مثل قوله تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12]، فتحريم المراضع على موسى تحريم قدري، وأما التحريم الشرعي فمثل قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3] وقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23]، فهذا تحريم شرعي.
فحرم الله عليهم دخول البلد أربعين سنة يتيهون في الأرض، ومع ذلك لما صاروا في التيه أنعم الله عليهم بهذه النعم، ولكنهم قوم عتاة عصاة، فأنعم الله عليهم بالمن وهو ينزل عليهم كالزنجبيل، وهو إذا جعل مع غيره صار شراباً وصار فاكهة، والسلوى هو طائر يشبه السمانى، وهذا كالإجماع عند المفسرين، أو قول جماهير المفسرين؛ لأن هناك من يرى أنه غير اللحم، والصواب: أن السلوى طائر، وأن الزنجبيل غذاء.
وجعل الله الغمام مظللاً عليهم من حر الشمس، وهذه من نعمه عليهم، وكانوا يحملون معهم حجراً فيضربه موسى بعصاه فتنفجر منه اثنا عشر عيناً، لكل قبيلة ولكل سبط عين، حتى لا يتنازعوا، فهذه من نعم الله عليهم، ولهذا قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60].
ومع ذلك حصل منهم ما حصل من العتو والعناد، ولما انتهت الأربعون السنة وسار بأحفادهم يوشع بن نون الذي كان نبياً، وهو فتى موسى، فدخلوا بيت المقدس وقاتلوا العماليق، وكاد أن يتم الفتح قرب غروب الشمس من يوم الجمعة ليلة السبت، ويوم السبت هو يوم عيدهم، فحبس الله الشمس ليوشع بن نون فقال: (اللهم إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبسها عليهم، ووقفت حتى تم الفتح قبل أن يدخل يوم السبت)، وهذا الحديث ثابت في الصحيح، فلم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون، وهذه يلغز بها مسألة فقهية: من الذي حبست له الشمس؟ فلم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون، وجاء في أحاديث ضعيفة لا تصح أنها حبست لـعلي رضي الله عنه، لكنها لا تصح.
فدخلوا بيت المقدس، ومع ذلك لما دخلوا بيت المقدس قال الله تعالى: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58] كما سيأتي، فغيروا بالقول وبالفعل، فدخلوا على أستاهم يزحفون على أدبارهم، وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58] يعني: حط يا الله عنا ذنوبنا واغفر لنا، فغيروا وقالوا: حنطة، فزادوا فيها نوناً، فهذا من تغييرهم بالقول وبالفعل، ولهذا قال: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا [البقرة:59] يعني: عذاباً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [البقرة:59]، فهذا من عتوهم وتمردهم وعنادهم لأنبيائهم، نسأل الله السلامة والعافية.
وأما أصحاب نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فإنهم خير أصحاب الأنبياء؛ فإنهم صبروا رضي الله عنهم، وجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في ساعة العسرة، وكانوا في شدة عظيمة، وجوع شديد، ومفازة عظيمة، وأصابهم جهد من قلة الطعام، ولم يتعنتوا كما تعنت بنو إسرائيل، بل قالوا: (يا رسول الله! لو جمعنا ما عندنا من الطعام فدعوت لنا، فجمعوا ما عندهم من الطعام، فدعا وبرك، وبارك الله فيه وملئوا كل وعاء)، وكذلك لما قل الماء أتي النبي صلى الله عليه وسلم بماء قليل فوضع أصابعه فيه فنبع الماء من بين أصابعه، فتوضئوا واغتسلوا وملئوا كل وعاء رضي الله عنهم وأرضاهم.
وفي يوم بدر قالوا لنبيهم: (لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وأمامك ومن خلفك، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروي عن وهب بن منبه وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي .
وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس : خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن ].
قوله: (لا تخرق ولا تدرن) يعني: لا تتقطع ولا تتدنس، والدرن هو الدنس، وهذا من أخبار بني إسرائيل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال ابن جريج : فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسداً.
قال ابن عطية : السلوى طير بإجماع المفسرين، وقد غلط الهذلي في قوله: إنه العسل ].
يعني: قول الأكثر؛ لأن هناك اختلافاً كما سيأتي؛ فالمقصود بالإجماع قول الأكثرين، والصواب أن السلوى طائر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأنشد في ذلك مستشهداً:
وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما أشورها ].
في القرطبي : إذا ما نشورها.
أنشد الهذلي هذا البيت على أن السلوى طعام وليس طائراً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال: فظن أن السلوى عسل.
قال القرطبي : دعوى الإجماع لا تصح؛ لأن المؤرج بن عمرو السدوسي أحد علماء اللغة والتفسير قال: إنه العسل، واستدل ببيت الهذلي هذا، وذكر أنه كذلك في لغة كنانة؛ لأنه يسلى به، ومنه عين سلوان.
وقال الجوهري : السلوى العسل، واستشهد ببيت الهذلي أيضاً، والسلوانة بالضم خرزة كانوا يقولون: إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا، قال الشاعر:
شربت على سلوانه ماء مزنة فلا وجديد العيش يا ميَُ ما أسلو ].
ياميَ أو ياميُ، يخاطب امرأة. فهؤلاء يقولون: إن السلوى العسل، فهذا يدل على أن المراد بالإجماع قول الأكثرين، والصواب أن هناك فرقاً بين المن والسلوى، وكون المن عسل والسلوى عسل هذا بعيد، والصواب أن المن هو العسل، وهو إذا خُلط مع غيره يكون فاكهة ويكون حلوى، والسلوى طائر، فهو لحم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ واسم ذلك الماء السلوان، وقال بعضهم: السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو، والأطباء يسمونه المفرح، قالوا: والسلوى جمع بلفظ الواحد، أيضاً كما يقال: سمانى للمفرد والجمع وتتلى كذلك.
وقال الخليل : واحده سلواة وأنشد:
وإني لتعروني لذكراكَ هزة كما انتفض السلواة من بلل القطر.
وقال الكسائي : السلوى واحدة وجمعه سلاوى، نقله كله القرطبي ].
لقد أطال المؤلف رحمه الله في هذا إطالة زائدة، فالصواب هو قول الجماهير: إنه الطائر، وبعضهم قال: إنه العسل، لكن هذا قول مرجوح.
وقوله تعالى: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة:57] أي: أمرناهم بالأكل مما رزقناهم، وأن يعبدوا كما قال: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ [سبأ:15]، فخالفوا وكفروا، فظلموا أنفسهم، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات، والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات.
ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم، مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة، ولا إيجاد أمر، مع أن ذلك كان سهلاً على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم، فجمعوا ما معهم، فجاء قَدْرَ مَبرك الشاة، فدعا الله فيه وأمرهم فملئوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة، فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملئوا أسقيتهم، ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر، فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مع قدر الله مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ].
كذلك في غزوة الحديبية كانت هناك بئر فنزحوها فنضبت فلم يبق شيء، فشكا الناس العطش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء قليل فيه شيء قليل، فوضع أصابع يده وفرجها فنبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، فشربوا وتوضئوا واغتسلوا، وملئوا كل وعاء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر