الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي هذا اليوم يوم الأحد يوم العشرين من جمادى الآخرة لعام خمسة وثلاثين بعد الأربعمائة والألف نكمل الأحاديث المتعلقة بأبواب الجنائز، وتكلمنا على شيء من أحكام الدفن، وفي هذا المجلس نتكلم على شيء من أحكام العزاء، وشيء من أحكام صلاة الجنائز.
أول هذه الأحاديث: هو حديث عبد الله بن جعفر عليه رضوان الله أن جعفر بن أبي طالب لما قتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم ).
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في المسند، وأبو داود ، و الترمذي ، و النسائي ، و الدارقطني ، و البيهقي ، وغيرهم يروونه من حديث خالد بن سارة عن عبد الله بن جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث معروف من حديث سفيان بن عيينة عن جعفر بن خالد بن سارة المخزومي القرشي عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه عن سفيان بن عيينة جماعة من الرواة من الأئمة الثقات كـالحميدي والإمام أحمد و مسدد وغيرهم يروونه عن سفيان بن عيينة عن جعفر بن خالد بن سارة به، وهذا الحديث قد تكلم فيه، وموضع الكلام فيه هو في خالد بن سارة المخزومي وذلك أنه مستور الحال ولا يعرف له إلا حديثان: هذا الحديث، وحديث آخر يرويه عنه ابنه جعفر بن خالد بن سارة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل اثنين من ابني عبد المطلب على راحلته )، وهذان الحديثان مستقيمان من جهة المتن، وأما من جهة الإسناد فإن خالد بن سارة مستور، والعلماء عليهم رحمة الله تعالى منهم من يقوي هذا الحديث ويأخذ به، ومنهم من يقول بعدم الأخذ به وذلك للجهالة في إسناده.
و خالد بن سارة كما أنه مستور إلا أنه من أشراف العرب، ولما أخرج الحاكم رحمه الله هذا الحديث في كتابه المستدرك، قال: خالد بن سارة المخزومي قرشي من وجوه قريش، قال: وكما قال شعبة : اكتبوا عن الأشراف فإنهم لا يكذبون، والمراد بقول شعبة بن الحجاج : اكتبوا عن الأشراف فإنهم لا يكذبون، أن الذي يسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما يدفعه إلى الجسارة بالحديث حب الوجاهة والصدارة في الناس، فإذا كان الإنسان شريفاً في نفسه فهذا دافع نفسي ضعيف، فهو وجيه من غير هذا الأمر.
وأيضاً فإن الأئمة عليهم رحمة الله يجعلون العربي أضبط من غيره، وذلك أن العرب أميون يعتمدون على الحفظ وعلى الذاكرة، والقلم عندهم متأخر بخلاف الأمم الأخرى، ولهذا تجد بعض الأعاجم ممن دخل الإسلام وكان من أهل الرواية يعتمد على مكتوبه أكثر من محفوظه، وأما العرب فيعتمدون على المحفوظ، ولهذا الضبط لديهم أكثر، وإذا اعتمد غيرهم على محفوظه وقع عنده الوهم والغلط، واعتماد العرب على المحفوظ أضبط، وقد أشار إلى هذا الإمام أحمد رحمه الله، والحاكم في كتابه معرفة في علوم الحديث، وابن عبد البر رحمه الله.
وفي قول شعبة : إن الأشراف لا يكذبون، المراد بهذا: أن العرب تستقبح الكذب ولا تتعمده، ولهذا قل ما يكذبون حتى على الخصوم، ولهذا فإن أبا سفيان حينما كان مشركاً وسئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصفه وذكر ما فيه من حق، فإنهم يستثقلون الكذب.
ومن وجه آخر فإن الأشراف وأسياد القوم لا يحبون أن يذكروا بسوء، والكذب في ذلك من أقبح أخلاق أهل السوء، ولو لم يدفعهم إلى ذلك ديانة فيدفعهم إلى ضبط المنقول حب الاستقامة، وحمد الناس وعدم ذمهم والسلامة أيضاً من قدحه، وهذا من القرائن التي يقوي فيها بعض الحفاظ هذا الحديث ويجعل الجهالة في ذلك لا تضر، وهل جهالة خالد بن سارة المخزومي هنا ترتفع أم لا؟
نقول: عند النظر في الجهالة لا بد من النظر إلى وجوه متعددة تدفع الجهالة أو تكون سبباً في رد الحديث لجهالة الراوي ومن ذلك الطبقة، وطبقة خالد بن سارة المخزومي ليست من الطبقات الأولى من متقدمين التابعين.
ومن القرائن التي ينظر فيها في أبواب الجهالة: قرينة القربى، وهنا هو قرشي، و جعفر بن خالد بن سارة قرشي مخزومي ومن أسياد قريش والعرب، ويروي في هذا عن عبد الله بن جعفر.
ومن القرائن: أن خالد بن سارة يروي حديثين هذا أحدهما، ومعلوم أن من وجوه معرفة ضبط الراوي من عدمه هو استقامة المتن، وقد أشرنا مراراً إلى أن الراوي إذا كان مجهولاً وله أحاديث متعددة فهو أقرب إلى معرفة حاله من جهة ضبط حفظه ممن لا يروي إلا حديثاً أو حديثين، وله هنا حديثان: له هذا الحديث وله حديث آخر: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام حمل اثنين من ابني عبد المطلب على راحلته )، ومتنهما مستقيم وليس فيه نكارة، وهذا من قرائن القبول.
وكذلك ينظر إلى من روى عن ذلك المستور أو المجهول، وقد روى عنه هنا جعفر بن خالد وهو ابنه وهو ثقة، وروى عنه عطاء كما ذكر البخاري رحمه الله أنه روى عنه عطاء بن أبي رباح ، وهذا نوع تعديل له.
ومن القرائن: ورود الحديث من مخرج آخر، فإذا ورد الحديث من مخرج آخر فهذا قرينة على ضبط الحديث واستقامة متنه، هذا الحديث قد جاء من طرق أخرى، فقد أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المسند، وابن ماجه في السنن من حديث محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن أم عيسى عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر عن أسماء بنت عميس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً ).
وهذا الحديث في إسناده جهالة، ولكن مخرجه يختلف، فإنه ترويه أم عيسى عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر عن أسماء، و أم عيسى و أم جعفر تسمى أم جعفر وتسمى أم عون وهي امرأة محمد بن الحنفية تروي عن أسماء بنت عميس عليها رضوان الله، وهذا مخرج آخر، والإسناد في ذلك أيضاً مجهول.
وقد جاء هذا الحديث من غير هذا الوجه من غير رواية محمد بن إسحاق له، فقد أخرجه الواقدي من حديث مالك بن أبي الرجال عن عبد الله بن أبي بكر ، وأخرجه عبد الرزاق في كتابه المصنف من حديث رجل عن عبد الله بن أبي بكر عن أسماء ولم يذكر الواسطة، ومتن هذا الحديث في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم ما يشغلهم ).
وقد جاء في حديث جرير عليه رضوان الله قال: ( كنا نعد الاجتماع للميت ووضع الطعام من النياحة )، وسيأتي الكلام على هذا الحديث.
فهل هذا الحديث يعارض حديث عبد الله بن جعفر في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً )؟ نقول: صناعة الطعام بعد موت الميت على صورتين:
الصورة الأولى: أن يصنع لآل الميت طعاماً وذلك لشغل بالهم وأنفسهم بالحزن على الميت فليس في نفوسهم ما يدفعهم إلى صناعة الطعام، فيدفع الجيران والأقارب والأرحام إلى صناعة الطعام لهم.
الصورة الثانية: أن يصنع أهل الميت أو غير أهل الميت طعاماً للناس فيجتمعون، فهذا الموضع شبيه بالوليمة فيدعى لها الناس، والصورة الأولى هي المعنية في حديث عبد الله بن جعفر حينما قال: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم )، ويحمل حديث جرير وسيأتي الكلام عليه وهو معلول أيضاً على صناعة الطعام لمن يقدم إلى العزاء، أو دعوة الناس إلى الغداء أو العشاء في العزاء، وبعضهم يتوسع في هذا فيجعل ذلك صدقة للميت، ويجعلون ذلك على ثلاثة أيام.
فالثاني هو البدعة، صناعة الوليمة حتى يجتمع الناس ويتداعى إليه، فيقول: احضر إلى وليمة فلان أو طعام فلان أو عشاءهم فيجتمع الناس، فهذا هو البدعة الذي لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الصورة الأولى فهي مستحبة، وعليها يحمل حديث عبد الله بن جعفر ، والذي يظهر لي والله أعلم أن حديث عبد الله بن جعفر حديث مستقيم وله ما يشهد له ويأتي ذلك بعد قليل بإذن الله تعالى.
وأما الصورة الثانية: وهو أن توضع وليمة ويدعى الناس إليها سواءً كان الداعي أهل الميت أو كان الداعي الأرحام أو الجيران، فهذا يقال: إنه لا أصل له بل منهي عنه، لكن أن الإنسان إذا صنع طعاماً أو صنع له طعام ثم جاء الناس على سبيل الاعتراض فتناولوا الطعام مع أهل الميت فهذا مما لا بأس به شريطة ألا يكون في ذلك دعوة فتصنع الوليمة كولائم الأفراح فهذا لا أصل له، ويدل على صناعة الطعام للميت: أن النبي عليه الصلاة والسلام حث على صناعة الطعام للمحزون والمريض، كما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصناعة التلبينة للمريض والمحزون فقال: فإنها تجم الفؤاد وتذهب الحزن )، والتلبينة: نوع من الطعام يصنع من الدقيق ويطحن ويوضع معه شيء من الحليب أو اللبن أو نحو ذلك، فهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بصناعته للمريض، وكانت عائشة عليها رضوان الله تعالى كما في الصحيحين تصنعه إذا مات أحد من أهلها، كما جاء في البخاري و مسلم أنها كانت: إذا مات الميت من أهلها وذهب النساء يعني: من اجتمع في العزاء يعني: أنها لا يصنع لهم، وهذا يجمع بينه وبين حديث عبد الله بن جعفر، ويفرق بينه وبين حديث جرير، قال: فتصنع لهم التلبينة، وهذا يؤيد التفريق بين الصورتين.
وكذلك لا حرج من صناعة الطعام لمن انشغل بالميت إما بتكفينه وغسله والذهاب به وحفر القبر ودفنه ونحو ذلك وصناعة الطعام له فهذا مما لا حرج فيه، قد دل الدليل على هذا، كما جاء عند أبي داود في سننه من حديث عاصم بن كليب عن أبيه قال: أخبرني رجل من الأنصار ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قبر رجل من أصحابه، فقال لمن يدفنه: وسع من عند رأسه ووسع من عند رجليه، قال: فلما دفن قال أتاه داعي امرأته، يعني: داعي امرأة الميت إلى طعام، فجاء هو وأصحابه فأكلوا )، وهذا ليست وليمة للعزاء ونحو ذلك ولكن تصنع لمن قام بشأن الميت ولو لم يكن من أهل الميت.
الحديث الثاني في هذا: في حديث عبد الله بن جعفر هنا في قوله: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً ) جاء من طرق أخرى عن النبي عليه الصلاة والسلام، جاء من حديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى.
وحديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما أصيب جعفر قال: اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم ).
حديث عبد الله بن عمر أخرجه ابن عدي في كتابه الكامل من حديث سعيد بن الصباح عن ورقاء بن عمر عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد به سعيد بن الصباح يرويه عن عمر بن ورقاء عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله، وهذا الحديث حديث منكر بهذا الإسناد، أنكره ابن عدي في كتابه الكامل، ووجه النكارة أن هذا الحديث يرويه سعيد بن الصباح ، سأذكر الإسناد وأذكر البلدان، سعيد بن الصباح النيسابوري يرويه عن ورقاء بن عمر الكوفي العراقي عن عمرو بن دينار المكي عن عبد الله بن عمر المدني فهذا الحديث قطع مفاوز سعيد بن الصباح نيسابوري، و ورقاء بن عمر كوفي عراقي جاء من نيسابور إلى العراق، ومن العراق إلى عمرو بن دينار مكي عن عبد الله بن عمر مدني، وهؤلاء ثقات لكن يقول ابن عدي رحمه الله في كتابه الكامل: وهذا الحديث بهذا الإسناد غريب جداً وأراد أن ينسبه فقال: إنما هو ابن عيينة في مكة عن جعفر عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: ما خرج من الحجاز فهذا الدوران في هذه البلدان لا يناسب هذا الحديث، وهذا تنبيه للذين ينظرون إلى الأسانيد وينظرون إلى الرواة منفردين ولا ينظرون إلى تباين البلدان، وما أخرج هذا الحديث من المدينة، ثم لا يبقى فيهم هذا أمارة على النكارة، وهذا الحديث تفرد به سعيد بن الصباح عن ورقاء بن عمر عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر ونقول: إنه حديث منكر بهذا الإسناد، والصواب أنه من حديث سفيان بن عيينة عن جعفر بن خالد بن سارة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث الثالث: جاء من حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله، هذا الحديث جاء من حديث هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن أبي صالح عن عبد الله بن عباس ، أخرجه الخطيب البغدادي في كتابه المتفق والمفترق من هذا الوجه، وهذا الحديث في إسناده هشام بن محمد بن السائب الكلبي يرويه عن أبيه، وهو وأبوه متروكان، قد تفرد بهذا الحديث، وعلى هذا نقول: إن هذا الحديث حديث منكر بهذا الإسناد، ويغني عنه ما جاء في حديث عبد الله بن جعفر السابق.
الحديث الرابع: هو حديث جرير بن عبد الله البجلي عليه رضوان الله قال: ( كنا نعد الاجتماع على الميت ووضع الطعام من النياحة ).
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، و ابن ماجه في السنن من حديث هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث ظاهر إسناده أن رواته ثقات، ولكن تفرد به هشيم وعنعنه وهو متهم بالتدليس، وهذا الحديث تكلم فيه بعض الأئمة في سماع هشيم من إسماعيل بن أبي خالد، قالوا: وقد روي هذا الحديث عن هشيم عن شريك عن إسماعيل بن أبي خالد ، وقد أشار إلى هذا الإمام أحمد رحمه الله و الدارقطني.
فجاء في سؤالات أبي داود للإمام أحمد قال: سألت أحمد عن حديث هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير قال: يقولون هو من حديث هشيم عن شريك عن إسماعيل ، قال: وهذا الحديث لا أصل له، كأن الإمام أحمد رحمه الله يرى أن هذا الحديث لا أصل له سواءً من طريق هشيم عن إسماعيل أو من طريق هشيم عن شريك عن إسماعيل عن قيس عن جرير ، فيرى أن الحديث بطريقيه لا أصل له، وهذا هو الأظهر، فـهشيم يدلس، ووصف بعض العلماء تدليسه بالقبح، وذلك أنه يدلس عن الضعفاء مع ثقته، فربما حمل حديثه على السماع وليس كذلك، وهذا الحديث قد وقع فيه اختلاف من جهة الإسناد، واختلاف من جهة المتن، أما من جهة الإسناد فعلى ما تقدمت الإشارة إليه أن هذا الحديث اتهم فيه فيرويه هشيم عن إسماعيل عن قيس عن جرير ، وجاء أنه من حديث هشيم عن شريك عن إسماعيل عن قيس عن جرير ، وهذا اختلاف فيه.
وأما من جهة المتن فقد خولف هشيم في متنه، أخرجه الطبراني في المعجم الكبير من حديث عباد بن العوام عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله أنه قيل له: أهل الميت يعددون؟ قال: ذاك من النياحة، ومعنى يعددون: يعني: يعددون محاسن الميت ويذكرونها بعد وفاته، قال: ذاك من النياحة، يعني: مما نهي عنه، وهذا مخالف للمتن الذي رواه هشيم عن إسماعيل عن قيس عن جرير ، وحديث عباد بن العوام موقوف على جرير، وهو أصح من حديث هشيم، وإن كان هشيم ثقة إلا أن غلبة الظن في عدم سماعه من إسماعيل رد حديثه، ولم يقع في ذلك خلاف كيف وقد خولف من حديث عباد بن العوام ! وعلى هذا نقول: إن الاختلاف في المتن دليل على عدم ضبط الرواة للحديث، ومعلوم أن هذا الحديث الذي يرويه هشيم في ذلك قد غير معناه وقلبه فجعل صناعة الطعام والاجتماع على ذلك من النياحة، وهذا إجمال يخالف في ذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن جعفر ، وما جاء أيضاً في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى في اجتماع أهل بيتها وصناعة الطعام لهم.
وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في صناعة الطعام للميت والاجتماع عليه والخلاف في ذلك قديم، وجاء عن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في ذلك روايتان: رواية بالكراهة، ورواية بالجواز والاستحسان، وبنحو هذا أيضاً عن الإمام الشافعي رحمه الله، والأظهر والله أعلم أن الاجتماع لمن ظهر حزنه ليعان على ذلك أن هذا أمر مستحسن.
وأما إذا لم يكن ثمة حزن أو كان من أهل التجلد فالأولى ألا يكون فيه اجتماع، الأولى ألا يكون في هذا اجتماع؛ لأنه يثير حزن الإنسان ويتذكر وغير ذلك، وربما كان مدعاة إلى تذكر ما لا يتذكره لو كان وحده فرأى أصحاب أبيه أو أصحاب إخوانه أو غير ذلك أو رأى القرابات فذكروه بأمور ماضية أو نحو ذلك، فكان داعياً إلى حزنه، ولهذا كرهه بعض العلماء، ولا أعلم نهياً صريحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة الاجتماع، وإنما الأمر في ذلك على المصلحة المقصودة، فإذا كان حزن أهل الميت شديد كبعض المصائب التي تقع في الناس وذلك أن تحرق دار على أطفال على جماعات، أو تكون حوادث جماعة أو نحو ذلك فهذه مصائب شديدة وكروب عظيمة، فالاجتماع لتسليتهم ورفع الهم والحزن عنهم حتى لو امتدت في ذلك أيام، فالمصائب في ذلك تتباين فهذا أمر جائز، أما أن تجعل عادة في العزاء حتى من غير هم أو حزن، وذلك أن بعض الموتى ونحو ذلك ممن غلب عليه المرض كالذي يموت دماغياً ويبقى في المستشفيات لأعوام ونحو ذلك حتى نفوس أهله قد ضعفت تجاهه من التعلق به لأنهم يعلمون أنه إلى الموت أقرب، فيصنع الناس العزاء على كل حال ولا يفرقون بين شدائد الأحوال وغيرها حتى يتخذ ذلك ديدناً وعادة فهذا خلاف السنة.
الحديث الخامس: هو حديث أبي هريرة عليه رضوان الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه في التكبيرة الأولى على الجنازة ثم وضع اليمنى على اليسرى على صدره ).
هذا الحديث أخرجه الدارقطني في كتابه السنن من حديث يزيد بن سنان أبي فروة عن زيد بن أبي أنيسة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حديث منكر أخرجه الدارقطني من حديث يحيى بن العلاء عن يزيد بن سنان به، والحديث معلول أيضاً بعدة علل:
أول هذه العلل: تفرد يزيد بن سنان بروايته وهو ضعيف، وقد ضعفه جماعة من الأئمة كـيحيى بن معين والإمام أحمد و النسائي و الدارقطني وغيرهم، وكذلك فإنه يرويه عنه يحيى بن يعلى وهو ضعيف.
ومن العلل أيضاً: أن هذا الحديث تفرد بإخراجه الدارقطني رحمه الله في كتابه السنن عن أصحاب الأصول، وهذا من قرائن الإعلال، وظاهره أن الدارقطني رحمه الله يعل هذا الحديث فإنه لا يورد في كتابه السنن وما يتفرد بإخراجه غالباً إلا وهو منكر عنده عند المحدثين، فإنه إنما قصد بالإخراج في كتابه السنن ما استغرب واستنكر من أحاديث الأحكام.
الحديث السادس: هو حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه في التكبيرة الأولى من صلاة الجنازة ثم لا يعود ).
هذا الحديث أخرجه الدارقطني رحمه الله في كتابه السنن من حديث معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس ، وهذا الحديث تفرد به الفضل بن السكن عند الدارقطني و الفضل بن السكن لا تعرف حاله، وقد اختلف في هذا الحديث في وقفه ورفعه، فجاء موقوفاً عند سعيد بن منصور في كتابه السنن، ولم أقف على إسناده، وإنما ذكره ابن حجر رحمه الله وصححه، وأما بالنسبة للمرفوع فقد أخرجه الدارقطني وهو ضعيف، والأظهر أن المرفوع منكر وأن الصواب فيه الوقف، وأن الرفع جاء عن عبد الله بن عباس مطلقاً في الموقوف وجاء في المرفوع مقيداً بالتكبير الأولى، وهذا أمارة على النكارة.
الحديث السابع: هو حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيره في صلاة الجنازة ).
هذا الحديث أخرجه الدارقطني من حديث يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث منكر أيضاً، ووجه النكارة في مواضع عديدة منه أولها: أن هذا الحديث قد اختلف فيه على يزيد بن هارون فمنهم من يرفعه كـعمرو بن شيبة عن يزيد بن هارون فيجعله مرفوعاً، قال الدارقطني رحمه الله: والجماعة يروونه عن يزيد بن هارون موقوفاً وهو الصواب، ووقع فيه اختلاف في روايته عن يحيى بن سعيد ، و يحيى بن سعيد هو الأنصاري يرويه يزيد بن هارون بالطريقة السابقة عن يحيى بن سعيد ويجعله مرفوعاً، ويرويه الثقات من غيره كـعياش بن عباس و أبي حمزة السكري يروونه عن يحيى بن سعيد عن نافع عن عبد الله بن عمر موقوفاً، وكذلك فإن الثقات يروونه عن نافع موقوفاً أيضاً، يرويه عن نافع عبيد الله بن عمر العمري ، و جرير بن حازم و عبد الله بن حفص بن عمر، يروونه عن نافع عن عبد الله بن عمر موقوفاً عليه وهو الصواب، أخرج ذلك البخاري رحمه الله في جزء رفع اليدين، وأخرج رواية عبد الله بن حفص بن عمر البيهقي رحمه الله في كتابه السنن من حديث الشافعي به، والصواب في هذا الوقف، ولا يصح في رفع اليدين على الجنازة في التكبيرات حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوع، وإنما هي موقوفات ومقطوعات، وأصح شيء في هذا الباب هو عن عبد الله بن عمر موقوفاً عليه، رواه جماعة عن نافع عن عبد الله بن عمر ، وجاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله أنه كان يرفع يديه في صلاة الجنازة وعيد الفطر وعيد الأضحى، وهذا الحديث أخرجه ابن المنذر في كتابه الأوسط من حديث عبد الله بن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أبي زرعة اللخمي عن عمر بن الخطاب وإسناده ضعيف، والثابت في هذا عن عبد الله بن عمر على ما تقدم، وأيضاً نسب إلى عبد الله بن عباس عند سعيد بن منصور في سننه، وهكذا كان يعمل بها أهل الطبقة الأولى من فقهاء السلف من التابعين، فقد جاء ذلك عن قيس بن أبي حازم فيما رواه البخاري في جزء رفع اليدين و ابن أبي شيبة في المصنف من حديث عمر بن أبي زائدة قال: صليت خلف قيس بن أبي حازم على الجنازة فكان يرفع يديه عند التكبير، وجاء ذلك أيضاً عن عطاء بن أبي رباح وعن عمر بن عبد العزيز ولا أعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه خلاف ذلك.
ومن الفوائد الفقهية: أن رفع اليدين في صلاة الجنازة ورفع اليدين في صلاة العيدين الفطر والأضحى حكمها عند الفقهاء سواء، من قال: لا يرفع هنا يقول: لا يرفع هنا، ومن قال: يرفع هنا يقول: يرفع هنا، ومن قال: يرفع في الأولى فقط ولا يرفع في البقية يقولها في الجنازة ويقولها في العيدين: الفطر والأضحى.
ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله و الشافعي برفع اليدين عند كل تكبيرة في الجنازة والفطر والأضحى، ويقول الإمام مالك رحمه الله: ليس في ذلك سنة، ومعلوم أن الإمام مالك رحمه الله يأخذ بقول عبد الله بن عمر فهو يريد المرفوع، ولهذا قال: ليس في ذلك سنة لازمة، قال: والرفع في الأولى أحب إلي، يعني: أنه يرفع في الأولى فقط ثم هو لا يرفع في الباقي، ولكن نقول: بما أنه ثبت عن الصحابة والعلية من كبار التابعين كـقيس بن أبي حازم وعطاء وعمر بن عبد العزيز أنه يرفع في كل تكبيرة، نقول حينئذ بأنه هو الأولى، يليها بعد ذلك في الرجحان، ومن قال: بأن رفع اليدين يكون في التكبيرة الأولى، ثم بعد ذلك لا يرفع، والأمر في ذلك على السعة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر