إسلام ويب

أصول في تفسير السلف [3]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من الأسباب التي جعلتنا نرجع في فهم القرآن إلى منهج السلف كونهم شاهدوا التنزيل، وعلمهم العميق باللغة، وحسن فهمهم للقرآن، وعدم اعتقادهم المسبق قبل فهم النص، فهم يفهمون ثم يعتقدون بخلاف أهل البدع. وإن منهج السلف في نقد التفسير كان ينصب على المعنى، ولا ينقدون الإسناد إن كان في المعنى إشكالية.

    1.   

    تابع السبب في الرجوع إلى تفسير السلف

    الدليل العقلي

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

    أما الدليل العقلي فلو أن شخصاً لم يلق أرسطو وشرح كتابه ولكنه في شرحه لهذا الكتاب خالف تلميذ أرسطو فإنه يقدم تلميذ أرسطو الذي شرح كتاب شيخه على هذا المتأخر من باب العقل.

    كذلك نفس القضية القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم قرأه على الصحابة، والصحابة اختصوا بأحوال؛ فهذه الأحوال التي اختصوا بها هم أدرى بالخطاب من غيرهم.

    فإذا ورد عن الصحابي قول في التفسير فإنه يؤخذ به.

    فهذا الدليل العقلي لأن كثيراً من الناس لا ينفع معه الأسلوب الخطابي، يعني مثلاً الأسلوب الخطابي لما تقرأ كتاب ابن رجب " فضل علم السلف على الخلف " هذا الكتاب كتاب إنشائي خطابي، ما فيه تحرير علمي على مسائل معينة، إنه انظر كيف فهم هؤلاء، وانظر كيف فهم هؤلاء، وهؤلاء فهمهم هو الصواب لكذا وكذا، وهذا نحتاجه ولكنه صعب؛ يحتاج إلى أن نبحث في تفسير السلف وتفسير الخلف، كيف فهم المتقدمون من السلف وكيف فهم المتأخرون، وأيهما أدق وأسلم وأولى مع السياق ومع اللغة؛ ودائماً سنجد إنه تفسير السلف أقرب بكثير من تفسيرات المتأخرين، لكن هذا نقوله خطبياً وإنشائياً، لكننا نحتاج إلى بحث علمي خاص في هذه المسألة، نأتي بآيات ونقول: هذه الآية قال فيها فلان كذا، وهكذا قال المتأخرون، ثم نناقش هذه القضية علمياً مباشرة.

    فالاعتبار الأول الدليل العقلي.

    معرفتهم بأحوال التنزيل

    أما الاعتبار الثاني: فمعرفتهم بالأحوال التي ترتبط بالقرآن، فهناك أحوال خاصة بالصحابة لا يشاركهم فيها أحد؛ بسبب رؤيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ومشاهداتهم للتنزيل، فهذا يعطيهم قدرة على التفسير لا يمكن أن تكون لمن بعدهم إطلاقاً.

    نذكر دليلاً عقلياً آخر: فمثلاً حين نأتي إلى بعض العلماء الذين لهم شروحات في الأشرطة ولم نقابلهم، ثم نأتي إلى طلاب هذا الشيخ؛ واحد تعلم على أشرطة وواحد تعلم بين يدي الشيخ، فإن أكثرهم فهماً وإدراكاً لمسائل الشيخ، لا شك أنه الذي تعلم مباشرة.

    فالمقصد من هذا إن الذي يشاهد يدرك ما لا يدركه الغائب.

    وقد أشار الشاطبي رحمه الله تعالى إلى هذه الحيثية، التي حيثية المشاهدة وهو يتكلم عن حجية بيان الصحابة للقرآن؛ فذكر في سبب حجية قولهم مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة؛ فهم أعرف بفهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب النزول ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب؛ فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات أو تخصيص بعض العمومات؛ فالعمل عليه على الصواب، وهذا إن لم ينقل عن أحدهم خلاف في المسألة؛ فإن خالف بعضهم؛ فالمسألة اجتهادية، فالصحابة أدرى وأقرب إلى أحوال القرآن وقرائنه الحالية ممن جاء متأخراً بعده.

    ومن الأحوال التي تحف بالخطاب:

    أولاً: أسباب النزول؛ فإن أسباب النزول غابت عن المتأخر؛ وفي فهم التفسير يتأثر بها.

    وهنا قاعدة وهي: كل مفسر يفسر القرآن دون أن يكون عنده علم بأسباب النزول؛ فإنه سيقع عنده خلل في التفسير لا محالة؛ لأنه إذا لم يعتمد على سبب النزول فلن يعتمد إلا على اللغة وإذا اعتمد على اللغة؛ فإنه سيذكر شيئاً من المحتملات قد يكون صحيحاً من جهة اللغة ولكن ليس المراد من جهة النص القرآني، وسنذكر مثلاً لذلك.

    ثانياً: فهم عادات من نزل فيهم الخطاب فإنه له أثراً في التفسير ولا يعرف عادات القوم سوى نفسهم فالصحابة والتابعون عاصروا شيئاً مما بقي من هذه العادات.

    ثالثاً: مصطلح الشارع، ومن هو الأقرب إلى معرفة مصطلح الشارع؛ المتقدم الذي عاصر التنزيل أدرى وأقرب إلى مصطلحات الشارع.

    علمهم باللغة

    قضية ثالثة وهي: علمهم بلغة القرآن، فالصحابة والتابعون وأتباع التابعين لا شك أنهم أعلم باللغة ممن بعدهم فلو نظرنا إلى الصحابة، فهم أصحاب اللغة، ويؤخذ كلامهم علامة وحجة لغوية، فلو أردنا أن نثبت قضية معنى أو لفظ إنه عربي، وقلنا: قال ابن عباس كذا، فكلامه بذاته حجة من جهة العربية كذلك التابعون؛ كثير من التابعين أصولهم عربية، والموالي دخلوا في العرب من هذا الباب، فلا يذكر لأحد منهم أنه فسر القرآن بعجمه ولو كان أعجمياً؛ فعلى سبيل المثال: عكرمة مولى ابن عباس، أصله ولكن لم يثبت أن عكرمة فسر لفظاً من العربية بغير لغة العرب وكذلك عطاء بن أبي رباح لم يفسر لفظاً من القرآن بغير لغة العرب فصار هؤلاء وإن كانت أصولهم غير عربية لكنهم صاروا عرباً بالمخالطة، ولا يوجد أبداً في تفسيراتهم تأثيرات لغوية من غير اللغة العربية فنقبل تفسيرهم ونقبل الحجة على أنه أيضاً عربي.

    وكذلك أتباع التابعين مثل التابعين في هذا المجال؛ لأنه لا يذكر لأحد منهم أنه فسر القرآن بغير اللغة أو اعتمد لغة غير لغة العرب في تفسيره للقرآن.

    فكل ما ورد في هذه الطبقات الثلاث فإنه يعتبر حجة ويعتمد عليه.

    وحين ننظر إلى جيل أتباع التابعين؛ بخلاف أهل البدع، فعلى سبيل المثال المعتزلة لما جاءوا إلى قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]؛ اخترعوا معنى جديداً فقالوا: (استوى) بمعنى "استولى" ولهذا ابن أبي دؤاد لما سأل ابن الأعرابي اللغوي هل تجد في لغة العرب استوى بمعنى استولى فقال: لا.

    إذاً فتفسير استوى بمعنى استولى تفسير حادث ليس من اللغة؛ وإنما هو عند أهل البدع، لكن في هذه الطبقات الثلاث لا يمكن أن نجد أن واحداً منهم فسر القرآن بغير لغة العرب.

    قضية ثانية تحتاج إلى تأمل؛ وهي أن أصحاب الطبقات الثلاث حين يفسرون بلغة العرب، فإنه يفسر بلغته فلا يحتاج إلى أن يتعلم اللغة لكي يفسر بها لأنها عنده ولهذا فمثلاً ابن عباس رضي الله عنه لما سئل عن قوله سبحانه وتعالى: أَتَدْعُونَ بَعْلًا [الصافات:125]، ما البعل؟ وكان رجل من أهل اليمن يقود بقرة فقال: من بعل هذه البقرة؟ فناداه؛ قال: ممن الرجل؟ قال: من اليمن؛ قال: أجابك هذا الرجل؛ والمراد من سيدها وصاحبها؟

    فقوله تعالى: أَتَدْعُونَ بَعْلًا [الصافات:125]؛ أي: أتدعون رباً غير الله، وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ [الصافات:125].

    فالمقصد أن أصحاب القرون الثلاثة لم يكونوا بحاجة إلى تعليم اللغة بل كانوا يأخذونها من خلال المخالطة.

    أما بالنسبة للمتأخرين فإن اللغة تتعلم أو يبحث عنها، وهذا فرق واضح بين هذه الطبقات وبين من جاء بعدهم.

    فأهل اللغة نجد أنهم قعدوا قواعد اللغة وذكروا المفردات؛ بناءً على ما تنوقل وسمع عن العرب، ثم من جاء بعدهم بفترة صاروا يعتمدون على المنقول من اللغة عن هؤلاء.

    رابعاً: سلامتهم من آفات الاعتقاد الخاطئة؛ لأن هذه الطبقات الثلاث بالذات لا نجد عندهم انحرافاً وإن كان وجد من الأفراد لكن من حيث جمهورهم لا نجد عندهم الاعتقادات أثرت على التفسير وحرفت المعاني، فلا يوجد اعتقادات مسبقة وإنما يأخذون من النص.

    قد يقول قائل: إننا نجد في تفسير السلف قضايا مرتبطة بالاعتقاد وفيها خلاف؟! فنقول: هذا الاختلاف الوارد في تفسير السلف، ليس مبنياً على اعتقاد سابق وإنما هو مأخوذ من النص لنأخذ مثالاً عن ذلك:

    ابن عباس رضي الله عنه كان يقول: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه في المعراج، وجمهور الصحابة على خلافه؛ فـابن عباس حين قال بهذا القول لم يكن معتقداً اعتقاداً سابقاً وإنما اعتمد على النص.

    وهو قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13]، والصحيح أن الذي رؤي هو جبريل و ابن عباس رضي الله عنه كان يرى أنه الرب سبحانه وتعالى، والسلف يرون أنه جبريل.

    فـابن عباس أخذ قوله من النص مباشرة.

    مثال آخر لـابن عباس وتلاميذه: في قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ [القلم:42]، ابن عباس فسر الساق هنا بأن المراد به الشدة والكربة، وكذلك فسرها تلاميذه، فهم فسروا هذا وليس عندهم اعتقاد بنفي الساق عن الرب أصلاً بل حملوا هذه الآية على هذا المعنى؛ لأنهم نظروا إلى اللفظة من جهة لغوية وسياقية.

    بخلاف المتأخرين، فإنهم لا يثبتون الساق للرب سبحانه وتعالى لا في الحديث ولا في الآيات؛ فمن فسر مثل ما فسر ابن عباس نقول له: حرفت، فسيقول: أنا فسرت مثل تفسير ابن عباس ؛ فنقول: أنت فسرت مثله في السورة ومخالف له في الحقيقة؛ لأن هؤلاء يثبتون الساق وأنت لا تثبتها أصلاً، وهذا مما ينبغي التنبه له وهو أن العبارات التي يتفق فيها أهل التأويل من المتأخرين مع عبارات السلف في التفسير؛ لا يلزم منه أنهم يتفقون في الأصل؛ لأن أصل السلف على الإثبات وأصل أهل التأويل على النفي؛ وهذا يعني حل هذه الإشكالية في الآية، لا نحتاج فيها إلى أنه يعمل فيها كتاب أو ينبه على ضعف الآثار عن ابن عباس في هذا نقول ابن عباس نفى الساق هنا ولكنه من حيث الأصل يثبته؛ فلذا بعض من جهل أسلوب السلف أو جهل التعامل مع السلف قال: ابن عباس يؤول، فنقول: لا، لا يؤول؛ لأنه لا يؤول إلا من نفى، ينفي ثم يؤول، أما ابن عباس لم يؤول أصلاً، وقس على هذا غيره من الأمثلة.

    المقصد من هذا إنا ننتبه إلى مسألة نظرهم إلى اللغة، أن النظر هنا إلى اللغة وأنه لم يكن لديهم اعتقادات مسبقة ثم يذهبون للقرآن ويبحثون عن أدلته، وإنما كانوا ينطلقون من النص القرآني ويفسرونه مباشرة.

    حسن فهمهم للقرآن

    آخر مسألة نأخذها: حسن فهمهم للقرآن، لنذكر مثالاً واحداً وستأتي الإشارة إليه:

    قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49]، ابن جريج رحمه الله تعالى لما جاء يفسر هذه الآية؛ قال: وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49]، قال: يسترقون نساءكم، فجعل الاستحياء بمعنى الاسترقاق، يعني يجعلوهن رقيقاً.

    فلو جئنا نبحث الآية بحثاً لغوياً، فلا نجد في لغة العرب استحياء المرأة بمعنى استرقاقها؛ ولهذا الطبري رحمه الله تعالى اعترض على ابن جريج فقال: وهذا لا يعلم، لا في اللغة العربية ولا العجمية أن استحيا بمعنى استرق، وما قاله الطبري رحمه الله تعالى صحيح، ولكن أراد ابن جريج أن يفسر الاستحياء هنا من جهة المعنى لأنه لو نظرنا ما هي نتيجة استحياء فرعون النساء. فالنتيجة النهائية الاسترقاق.

    فـابن جريج عبر عن النتيجة التي تؤول إليها هذه القضية التي هي استحياء النساء، واللفظ القرآني يساعده؛ فإنه قال: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [البقرة:49]، ولما جاء المقابل؛ ما قال: ويستحيون فتياتكم أو بناتكم.. وإنما قال: وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49]؛ إشارة إلى أنهم يريدوهن لهذا المآل؛ إنه يكن كبيرات ثم يستخدمن رقيقاً، إذا تأملناه بهذه الصورة، فهذا يدل على حسن فهم فهذا يدل على أننا نحتاج بالفعل إلى أن نتفهم أقوال هؤلاء السلف، الذين هم طبقة الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، فهذه خمس حيثيات وإن كان البحث يمكن أن يزاد على ذلك، لكن هذه خمس حيثيات تجعلنا نرجع إلى تفسير هؤلاء وأن نعتني به، وسيأتينا إن شاء الله حيثيات في بعض القضايا اللاحقة.

    كذلك أيضاً منها تفسير ابن عباس و عمر لقوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] وهي دالة على حسن الفهم.

    أمثلة على ما سبق من السبب في الرجوع إلى تفسير السلف

    نأخذ بعض الأمثلة في بعض القضايا المرتبطة بما سبق؛ نأخذ مثالاً على سبب النزول، وهو مثال مشهور نذكره؛ لأنه يبين لنا بالفعل هذه القضية، لأنها مرتبطة بسبب النزول ومرتبطة بعادات العرب؛ ففي قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، فلو أننا أخذنا بظاهر النص في قوله: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]؛ فهمنا مثلما فهم عروة ، فـعروة يقول: فما أرى على أحد شيئاً ألا يطوف بهما؛ لقوله تعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]؛ فكأنه قال: سواء تطوف أو لم يتطوف فالمسألة واحدة، وهذا ظاهر النص، ونفهم خلاف هذا الفهم بسبب النزول، فـعائشة قالت له: ( كلا، لو كان كما تقول؛ لكانت: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما قال: إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون بين الصفا والمروة؛ فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ) فهذا كلام للحال التي سأل عنها الأنصار؛ وأنكم إن تطوفتم فإنها داخلة في الشعائر وليس كما تظنون.

    فعندنا في هذا سبب نزول ومعرفة بعادات العرب، و عروة مع قربه من هذه العادة، قد يكون ما سمع بها، لكنه واضح إنه وقع عنده الخلل في هذه المسألة من هذه الجهة.

    مثال آخر فيما يتعلق باللغة وراجع أيضاً إلى قضية معرفة قصص الآي:

    أبو عبيدة معمر بن المثنى ذكر في مجازه تفسير قوله سبحانه وتعالى: وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11] يقول عنه الطبري : وقد زعم بعض أهل العلم بالغليب من أهل البصرة أن مجاز قوله: وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]: ويفرغ عليهم الصبر.

    فلو أخذناه من جهة اللغة، لو إن إنسان سأل الله سبحانه وتعالى بقوله: اللهم ثبت قدمي، بمعنى: أفرغ علي الصبر، فهذه المعنى من جهة صحيح، لكن في قوله: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]، فالمطر لتثبيت الأقدام بالمطر ولا يتناسب تفسير تثبيت الأقدام بإفراغ الصبر هنا لأنه لو رجعنا إلى قصة الآية لتبين لنا.

    ولهذا قال الطبري : "وذلك قول خلاف لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين، وحسب قول خطأً أن يكون خلافاً لقول من ذكرنا وقد بينا أقوالهم فيه، وأن معناه: ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابهم" إذاً المراد بالأقدام: الأقدام التي يمشى عليها.

    والخلل الذي وقع فيه أبو عبيدة هنا هو أن أحد الأحوال مرتبط بالآية لم يكن عنده؛ فذهب إلى مصدر صحيح معتبر، ولكنه ليس هو المراد هنا؛ ففي نقص في المصادر فوقع فيه إشكال، عنده مصدر صحيح معتبر، ولكنه ليس المراد في هذا المكان؛ فاختل التفسير.

    مثال آخر قريب من هذا:

    في قوله سبحانه وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، فقوله: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189] الوارد عن السلف مثل ما ذكر البراء قال: كان الأنصار إذا حجوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها.. قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من باب؛ فقيل له في ذلك؛ فنزلت هذه الآية: وَلَيْسَ الْبِرُّ [البقرة:189].

    فعندنا عادة من عادات العرب أو صار بشأنها سبب نزول، فسبب النزول مرتبط بعادة من عادات العرب، لكن أبو عبيدة معمر بن المثنى لما جاء إلى هذه الآية ذهب إلى أنه مثل ضرب لهم، قال: ليس البر بأن تسألوا الجهال ولكن اتقوا الله واسألوا العلماء فـأبو عبيدة قال بهذا لقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] فلقضية عنده مرتبطة بالسؤال؛ فكأنه يشير إلى هذا أنه اسألوا العلماء ولا تسألوا الجهال، وقول أبي عبيدة من جهة السياق محتمل، لكن سبب النزول يرده.

    وأبعد من قول أبي عبيدة قول آخر في نفس الآية وهو منسوب إلى ابن الأنباري ، أنه قال: إن الآية مثل في جماع النساء، في الأمر بإتيانهن في القبل لا في الدبر، قال: وسمى النساء بيوتاً للإيواء إليهن كالإيواء إلى البيوت.

    فهذا المعنى لو أننا ركبناه مع الآية فإنه بعيد جداً لا علاقة له بالآية، فالآية مرتبطة بالحج؛ فلا علاقة لجماع النساء بهذه الآية؛ ولهذا قال ابن عطية : وهذا بعيد مغير نمط الكلام يعني مخالف للسياق إطلاقاً؛ فالخلل جاء في مثل هذا التفسير؛ لأن شيئاً من الملابسات لم يكن عند من فسر به، فاجتزها الآية وفسر هذا المقطع بما يتناسب مع هذا المقطع فيما لو لم يكن في هذا المكان لقبل، ولكنه في هذا السياق لا يمكن أن يكون هو المراد.

    ولو قلنا بأنه تفسير إشاري فهذا يبني عليه معنى لا يصلح ولا يتناسق مع الآية إطلاقاً، فالتفسير الإشاري يكون بعد بيان المعنى للآية، فصورة التفسير الإشاري ليس هذا محلها؛ وهذا خطابي يعني إنشائي قد لا يقبله كل أحد، لكن لأننا مقتنعون بفضل السلف، فلما نسمع هذا الكلام فلا إشكال فيه، لكن المخالف لو تقول له هذا الكلام لا يتأثر به؛ فيحتاج إلى قضايا علمية.

    مقولة مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم

    آخر قضية نشير إليها سريعاً قضية مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، سواء في التفسير أو في الزهد أو في العبادة أو في الفقه.. إلخ؛ فإنه يؤخذ عنهم، وهناك شبهة مقولة: مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم، وهذه غريبة جداً ومتناقضة في ذاتها، وأتعجب كيف يقول بها بعض من وهبه الله سبحانه وتعالى علماً، والصحيح بالفعل هو مذهب السلف في التفسير أو غيره، أسلم وأعلم وأحكم، وكل هذه الأوصاف إنما هي لعلم السلف، فكثير مع الأسف ممن يقرأ في تفسير السلف لا يفهمه، ولهذا يعرض عنه ويرى أنه كلام فيه شيء من السذاجة، وأحسنهم حالاً، يذكر قولهم من باب الفضل فقط، ثم يترك أقوالهم ويبدأ بالتحريرات المتأخرة.

    وقد أشار الراغب الأصفهاني إلى شيء من هذه المسألة فيقول: ومن حق من تصدى للتفسير أن يكون مستشعراً لتقوى الله، مستعيذاً من شرور نفسه والإعجاب بها؛ فالإعجاب أس كل فساد، وأن يكون اتهامه لفهمه أكثر من اتهامه لفهم أسلافه الذين عاشروا الرسول صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا التنزيل.

    ولهذا مع الأسف نحن أحياناً ندخل في الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا [الأنعام:44] من العلم، وبالفعل فبعض الأحيان لما تقرأ لبعض المتأخرين خصوصاً بعض المعاصرين وهو يعرض بعض القضايا المرتبطة بالتفسير ويعرض كلام السلف، ثم يتركه جانباً ويعرض ما يرى أنه هو الصحيح من التفسير؛ تحس بالفعل أنه دخلته هذه الآفة، آفة العجب والفرح بما أوتي؛ مع أنه في التحرير العلمي الدقيق تجد أن قوله بعيد كل البعد عن التفسير الصحيح.

    1.   

    أثر الاعتقاد المسبق قبل فهم المعاني وقبول منهج السلف

    القضية الرابعة في هذا الموضوع وهي: أثر اعتقاد المعاني قبل معرفة التفسير الصحيح على فهم القرآن وعلى قبول تفسير السلف؛ فقضية فهم القرآن أولاً ثم قضية: قبول أقوال السلف ثانياً.

    أولاً: قضية أثر اعتقاد المعاني، سبق أن ذكرنا في تاريخ التفسير في طبقة الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، أن البدع بدأ ظهورها في عهد الصحابة.

    مثل الخوارج، فلما ننظر إلى رأي الخوارج هذا، وهل كان له أثر في فهم معاني القرآن وتطبيقات هذا الفهم أو لا؟ هذا ما سنأخذه إن شاء الله بعد قليل، المقصد أنا نفهم ما هو المراد باعتقاد المعاني، معنى أنهم رأوا رأياً ثم حملوا القرآن على آرائهم.

    أسباب خطأ من يخالف منهج السلف

    كثير ممن خالف منهج السلف يقع الخطأ منه لأسباب نذكر منها:

    السبب الأول: القصور في الاعتماد على المصادر الصحيحة، فالمفسر الذي خالف السلف يكون عنده قصور في الاعتماد على المصادر الصحيحة، وهي أحد أسباب الخطأ في التفسير.

    فمن أسباب الوقوع في الخطأ في التفسير القصور في عدم معرفة سبب النزول، كمن فهم أن دخول الرجل في العدو في قوله: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، ثم رجوعه منهم من التهلكة؛ فهذا خطأ في فهم الآية؛ لأنه قصور في عدم معرفة سبب النزول.

    كذلك فهم عروة من قوله تعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، حيث أخذ ظاهر المعنى اللغوي ولم ينتبه إلى سبب النزول.

    والأمثلة كثيرة يكون في التفسير قصور ناتج عن قصور الاعتماد على جملة المصادر بحيث إذا اعتمد على مصدر وأخفى المصادر الأخرى؛ يقع عنده الخلل في التفسير.

    فقوله سبحانه وتعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] لو أردنا أن نفسر هذه الآية وما عندنا أي خلفية عن مصدر، بل مجرد ظاهر الآية؛ فنفهم (قرآن الفجر) بأنه القراءة في الفجر، كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] من الذي يشهده؟ ما نستطيع أن نحدد، قد نعمم فنقول: كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] يشهده كل من شهده وحضره، فإذا جئنا إلى السنة النبوية بينت لنا أن قرآن الفجر المراد به: صلاة الفجر، والذين يشهدونه الملائكة.

    فالمقصد أنه لو لم يكن عندنا اطلاع على السنة النبوية فسيقع عندنا قصور في فهم هذه الآية.

    ومثلها كذلك: يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ [المطففين:21]، فالمقربون من حيث المعنى معروف، و "يشهده" معروف، لكن من هم المقربون ومنهم الذين يشهدون؟ لا يمكن معرفة هذا إلا بالرجوع إلى السنة النبوية.

    فالخلاصة أنه لا تستقل بعض المصادر بالتفسير بل لا بد من أن تكون كل هذه المصادر مجتمعة؛ لكي يكون التفسير صحيحاً؛ فلا تستقل اللغة مع أنها أوسع مصادر التفسير بالتفسير؛ إذ لا بد من جميع المصادر.

    السبب الثاني: الخطأ في التعامل مع هذه المصادر، فالمصدر صحيح، لكن وقع الخطأ في التعامل مع هذا المصدر، نأخذ مثال يوضح هذا:

    في كتاب الله سبحانه وتعالى على سبيل المثال وردت آيات كثيرة جداً نجد أن بعض الفرق جاءت إلى هذه الآيات التي تناقش القدر أو غيره؛ فأخذت بجزء من الآيات والجزء الآخر إما أنها أهملته وإما أنها أولته؛ لكي يتفق مع رأيها، فهذا خطأ في التعامل مع المصدر:

    مثال واضح عند المحكمة، الذين هم الخوارج والمحكمة، لما ذهب إليهم ابن عباس وسألهم: ما الذي تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فذكروا ثلاث قضايا: "أولهن: أنه حكم الرجال في دين الله وقد قال الله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ [الأنعام:57]" فالقرآن ما فيه نسب الحكم لغير الله بل الحكم لله في كل القرآن فـابن عباس احتج عليهم فقال: "إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم وحدثتكم من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا تنكرون؛ أترجعون؛ قالوا: نعم، قال: أما قولكم: حكم الرجال في دين الله؛ فإن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95] إلى قوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] وغيرها من الآيات الأخرى التي استدل بها ابن عباس فهم أخذوا بجزء من القرآن وتركوا الجزء الآخر؛ غفلوا عنه لجهلهم؛ خصوصاً الخوارج، لكن غيرهم فيما بعد لما تشكلت العقائد صاروا يؤولون ما لا يتناسب مع عقائدهم، والمقصد هنا إن هذا العمل من الخوارج هو نقص في التعامل، فالمصدر صحيح ولكن الإشكالية في التعامل مع هذا المصدر.

    ومن الأخطاء التي تقع في التعامل مع المصادر قضية اللغة، فاللغة واسعة في الدلالات؛ فيأتي المفسر ويأخذ من اللغة كل ما يمكن أن يحتمله النص من جهة المعنى العربي دون النظر إلى السياق، وهذا خطأ في التعامل فاللغة كمصدر صحيح الرجوع إليها، لكن ليس كل المحتملات اللغوية يجوز تركيبها على النص القرآني، فالخلل أنه ركب جميع المعاني المحتملة لغة على النص القرآني يكثر وجوده عند المتأخرين؛ ولهذا لما ترجع إلى تفسير السلف تجد أن الآية عندهم من جهة الاحتمال على قولين، وكلما دخلت في القرون التي بعدهم بدأت تزداد هذه الاحتمالات حتى تصل أحياناً إلى عشرين قولاً.

    وبعض الناس يقول: إن هذا يدل على عظمة القرآن وإعجازه في كونه يحتمل هذه المعاني الكثيرة، لكن نقول: تكثير المعاني ليس مقصوداً في القرآن ولا في تفسيره؛ لأنه مضبوط بضوابط، إن وجدت هذه الضوابط قبلنا هذه الاحتمالات، إن لم توجد فإننا لا نقبلها ولا تعد حسنة تنسب إلى القرآن؛ ولهذا تأتي كثير من المعاني الشاذة والباطلة بسبب اعتماد المعنى اللغوي، مثل قوله: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189] وأن المراد إتيان النساء من القبل لا من الدبر، فهذا المعنى المجازي بعيد كل البعد عن سياق الآية، وهناك أمثلة كثيرة جداً تجدونها في مثل كتاب " أمالي " الشريف المرتضى ، وعند أخيه في "مجازات القرآن" وفي "غرائب التأويل " للكرماني وكل هذه الكتب تقوم على تكثير معاني النص القرآني بما يحتمل الخطاب العربي، وهذا لا شك أنه نوع من الخطأ في التعامل مع المصادر.

    وهذان الأمران ينتج عنهما خطأ علمي مجرد، وأحياناً ينتج عنه خطأ علمي يتأثر به العلم العقدي والعملي، فبعض الأخطاء التي تقع في فهم القرآن إما أن تكون مؤثرة تأثيراً عقدياً؛ وإما أن تكون مؤثرة تأثيراً عملياً سلوكياً مثل ما يحصل عند الصوفية.

    فإذا كانت مؤثرة بهذا الجانب أو هذا الجانب فهذا مكان الخطورة في هذه القضية، التي هي قضية اعتقاد الآراء، وغالباً ما يكون هذا بسبب اعتماد مصادر مخالفة لمصادر السلف.

    1.   

    أثر التنشئة على المفسر

    وهنا يحسن أن يلاحظ أمران:

    الأمر الأول وهو مهم جداً، يجب أن ننتبه له قضية التنشئة العلمية للمفسر، والتنشئة العلمية سيكون لها أثر على التوجه الفكري حال التفسير، على سبيل المثال لا يمكن أن نجد عند مثلاً الزمخشري آراء يتبنى فيها آراء غيره من الأشاعرة أو الماتريدية أو غيرهم، ولا يمكن أن نجد عند مثلاً ابن عطية الأشعري آراء يتبنى بها آراء المعتزلة؛ لأن التنشئة العلمية التي نشأ عليها هذا أو ذاك كانت على نوع من الاعتقاد؛ فوقع عنده هذا الخلل في الاعتقاد حينما يفسر بعض الآيات المرتبطة بالإيمان أو بالقدر أو بالقرآن لمجمل المعتقدات.

    فالتنشئة العلمية الأولى لها أثر كبير جداً على المفسر، فلا يمكن أن تجد إمامياً حينما يأتي إلى الآيات التي يزعم الإمامية أنها تنص على إمامة علي رضي الله عنه؛ فينفي إمامة علي عنه، هذا يندر جداً؛ لأنه نشأ على هذا فلا يتوقع أنه سيأتي إلى هذه الآيات ويفسرها بغير هذا التفسير؛ فالتنشئة الأولى للمفسر لها أثر كبير جداً، ليس أثر كبير فقط في الاعتقاد بل في كل مناحي التفسير.

    فحين نرجع إلى تاريخ بعض المفسرين نجد أنه درس الاعتقاد مثلاً على المذهب المعتزلي أو على المذهب الأشعري أو المذهب الماتريدي أو على المذهب الإمامي.. إلخ؛ فلا شك أن هذا كله سيؤثر على تفسيره، إما أن يحرف الآيات ويصرفها عن وجهها، وإما أن يزعم أن الآيات تدل على ما يذهب إليه وهي لا تدل، على سبيل المثال:

    قوله سبحانه وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، أولاً: لما تقول: نظرت إلى كذا.. فقطعاً العين لها علاقة بالنظر، فالفعل نظر إذا عدي بإلى؛ فيكون فيه علاقة للعين بالنظر، وأن العين تنظر، ولا يكون النظر بمعنى التفكر إلا إذا ذهبت عنه (إلى)، أما إذا وجدت (إلى) فهي لا شك أنها تدل على النظر المباشر؛ فهنا فيها إثبات للرؤية والمعتزلي ينكر الرؤية؛ فيضطر في مثل هذه الآية الصريحة في الدلالة على الرؤية إلى أن يؤول، ويحمل النص ما لا يحتمل، مثلما فعل الزمخشري عند قوله سبحانه وتعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] قال: "وذلك هو الفوز المطلق" إنه لا فوز أعلى من دخول الجنة، ولو كان الذي قالها غير الزمخشري لاحتمل قوله، لكن لأن الزمخشري عنده اعتقاد بنفي الرؤية؛ فتجد أننا نحمل هذا الرأي منه إلى أنه يريد أن ينفي الرؤية؛ مع أن النص لا يدل على هذا المعنى الذي ذهب إليه بل حمل النص ما لا يحتمل.

    وهذه قاعدة في الخلل العقدي؛ إما أن يحمل النص ما لا يحتمله، ومن اعتقاده يذهب إليه، وإما أن ينفي عن النص ما يحتمله من الاعتقاد الذي يخالفه، فلا يمكن أن يخرج أي واحد يقع عنده خلل في الاعتقاد عن هذين النوعين في حمل الآيات.

    القضية الثانية مما يحسن ملاحظته: أن من كان عنده هذه التنشئة العلمية فإنه سيدخل لتفسير القرآن بمصطلحات خاصة ومقررات سابقة، وهذه سيكون لها أثر كبير جداً على تفسيره، لنضرب مثالاً من الأمثلة المعاصرة، لو قرأتم في كتب ما يسمى بالإعجاز العلمي؛ ستجدون أن كثيراً ممن تكلم في هذا الباب تتأثر كثير من أفكارهم بمصطلحات العلوم التي نشئوا عليها؛ فمثلاً الطبيب لما يأتي يتكلم عن الإعجاز الطبي؛ فلا يمكن أنه سينفك عن التنشئة العلمية التي نشأها، ولهذا نفس الإشكالية التي تقع عند من عنده خلل في الاعتقاد؛ ستقع عند هؤلاء؛ فيحمل النص ما لا يحتمل، ولو ورد نص يخالف ما ذهب إليه فإنه يؤوله من حيث يدري أو لا يدري.

    المقصد من هذا إنه لا يمكن أن ينفك إنسان عن هذه القضية؛ بل سيدخل إلى القرآن وعنده مقررات سابقة؛ فتأثر قطعاً على تفسيره، وقد ذكرت سابقاً مثالاً عن الإعجاز العلمي بأن الله سبحانه وتعالى ذكر لنا النجوم، الكواكب، القمر، الشمس، وما ذكر لنا أبداً أن الشمس نجم؛ إطلاقاً، ولا ذكر لنا أن القمر كوكب، بل القمر قمر، والشمس شمس، والنجم نجم، والكوكب كوكب، وعند من يدخل من علماء الفلك حينما يريد أن يفسر القرآن يقول: إن الشمس نجم، وهذا غير وارد في القرآن أو في لغة العرب؛ فأثرت هذه المصطلحات والتنشئة على تفسير مفردات القرآن في مثل هذا الموطن.

    ومن الأمثلة أيضاً عند الرافضة الأولين، الذين هم نتاج السبئية، والسبئية أيضاً لهم معتقد، من أهم الاعتقادات عندهم:

    عقيدة الرجعة وأول من قال بها عبد الله بن سبأ ومن تبعه، حيث زعموا أن علياً رضي الله عنه لم يمت وأنه سيرجع، في مقدمة صحيح مسلم ذكر عن سفيان قال: سمعت رجلاً سأل جابراً -يعني: جابر الجعفي - عن قول الله تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80] فقال جابر : لم يجئ تأويل هذه، قال سفيان : وكذب، فقلنا لـسفيان : وما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة تقول: إن علياً في السحاب فلا نخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي مناد من السماء: نريد علياً أنه ينادي: اخرجوا مع فلان، يقول جابر : فهذا تأويل هذه الآية؛ وكذب، بل كانت في إخوة يوسف صلوات الله وسلامه عليه؛ فنلاحظ أن الانحراف والتأويل الباطن كان قديماً، فهو يقول: لم يجئ تأويل هذه الآية وهذا الزعم عندهم، يعني في القرون الأولى.

    كذلك عبد الله بن سبأ يفسر قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85] بعقيدة الرجعة التي تبنتها الإمامية في المهدي المنتظر.

    فهذه المعتقدات لها أثر في حرف معاني الآيات، وصرفها عما نزلت من أجله، والأمثلة في هذا كثيرة.

    1.   

    كيفية معالجة تفسير السلف من جهة الإسناد والمعنى

    ننتقل إلى القضية الأخرى، وهي: ما يتعلق بكيفية معالجة تفسير السلف من جهة الإسناد ومن جهة المعنى:

    نقد الإسناد

    نأخذ فائدة سريعة تعتبر مدخلاً في هذا الموضوع بما يتعلق بجهة الإسناد.

    في تاريخ بغداد، وأيضاً أورده ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، يقول: ذكرت لـأبي زرعة إسحاق بن إبراهيم الحنظلي وحفظه للأسانيد والمتون؛ فقال أبو زرعة : ما روي أحفظ من إسحاق ، قال أبو حاتم : والعجب من إتقانه وسلامته من الغلط مع ما رزق من الحفظ، قال أحمد بن سلمة : فقلت لـأبي حاتم :إنه أملى التفسير عن ظهر قلبه؛ فقال أبو حاتم : وهذا أعجب! فإن ضبط الأحاديث المسندة أسهل وأهون من ضبط أسانيد التفسير وألفاظها، يعني كأن هؤلاء من الحفاظ الذين يعرفون الفرق بين أسانيد الحديث وأسانيد التفسير، فضبط أسانيد التفسير وضبط المرويات فيها أعسر من ضبط أسانيد الحديث؛ لأن أسانيد في النهاية محصورة، والروايات محصورة، لكن أسانيد التفسير كثيرة جداً والروايات فيها كثيرة.

    نأتي إلى ما يتعلق بقضية الإسناد:

    أولاً: نضع ملحوظات ثلاثة في هذه القضية:

    الملحوظة الأولى: النظر إلى طريقة العلماء في نقد أسانيد التفسير.

    والثانية: التنبه إلى أن أكثر من روايات التفسير كانت رواية كتاب، خصوصاً النسخ المشهورة، مثل صحيفة علي بن أبي طلحة وتفسير عطية العوفي وتفسير السدي ، كثير من هذه الروايات المشهورة كانت روايات كتاب، ولهذا لا تختلف.. وكذلك تفسير ابن زيد ، لا تختلف من مفسر إلى آخر؛ لأنها مأخوذة من كتاب.

    الملحوظة الثالثة: أن المفسرين الذين اعتمدوا على هذه الروايات كانوا ينظرون إلى المعنى في غالب أحوالهم عند نقل هذه الروايات التفسيرية.

    قبل أن ندخل في هذه القضية، نقول: إن الأصل في عمل علماء الإسلام هو التحقق من الأسانيد، لكن التحقق من الأسانيد على درجات، فحينما نخوض في باب الحلال والحرام في إثبات قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعل النبي صلى الله عليه وسلم ليس مثل ما نثبت معنى من المعاني عند غيره صلى الله عليه وسلم، كأن نقول: قال ابن عباس كذا، بمعنى أن التحرير في الإسناد يخف حينما يكون عن غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي عليه عمل أهل الحديث؛ فحين تقرءون في مدونات علماء الحديث المتقدمين تجدونهم على هذا الأصل، الذي هو التحرير في أحاديث الحلال والحرام، وما سوى ذلك فإنهم يتخطفون منه، فالخلاصة أن الأصل هو النظر في الأسانيد، مع التنبه إلى هذا التمايز في الطبقات، فيلزم أن نحرر أسانيد التفسير تحريراً كاملاً مثل ما نحرر في أحاديث الحلال والحرام؛ لأنه لبيان كلام الله عز وجل، وما دام بياناً لكلام الله فنحن لا يمكن أن نأخذ معاني كلام الله من آثار ضعيفة، وهذا الملحظ قوي فأي شيء ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتحرير السند فيه لا خلاف فيه، لكن نحن نتكلم هنا عن مرويات من دون النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس , وعن السدي ، وعن مجاهد وغيرهم.

    فعلماء التفسير حرروا كلام الرجال عن معاني القرآن، لكن في تعاملهم في التفسير إنما ينقلون الروايات، هذه مع علمهم بأن الضحاك لم يلق ابن عباس ومع ذلك يروونه ويعتمدون عليه على قاعدة من أسندك فقد أحالك.

    وقد شاع في الوقت المعاصر تحرير روايات التفسير، لكن رأيي الذي أراه ولك أن تنقده كما شئت أن هذا العمل ليس من منهج علم التفسير، ولا من منهج علماء الحديث الذين يعرفون التفسير والحديث.

    لأنه لا يوجد كتاب من الكتب المعتمدة، كـابن كثير مثلاً اعتمد على هذه الروايات لبيان المعاني.

    فـابن كثير : اعتمد على الروايات الضعيفة، إذا كانت صحيحة المعنى من أول الكتاب إلى آخره، فهو يقول: قال مجاهد وقال عكرمة .. والأول أقوى والأول أصوب. وقول مجاهد هو المقدم.

    وعلماء الحديث الذين يؤخذ عنهم العلم، من أحمد بن حنبل و يحيى بن معين و عبد الرحمن بن مهدي ومثل هؤلاء الذين قرروا قواعد الجرح والتعديل.

    يروون الأحاديث الضعيفة، فـعبد الرحمن بن مهدي يقول: إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال؛ تساهلنا في الأسانيد، وتسامحنا في الرجال، وإذا روينا في الحلال والحرام؛ تشددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال.

    و يحيى بن سعيد القطان يقول عن علماء الحديث، يقول: تساهلوا في التفسير عن قوم لا يوثقونهم في الحديث، ثم ذكر ليث بن أبي سليم و جويبر بن سعيد و الضحاك و محمد بن سابع الكلبي يقال هنا: يحمل حديثهم، ويكتب التفسير عنهم..

    فـابن جرير الطبري ، ابن كثير بالذات، لم ينتقدوا أسانيد المرويات في كتبهم.

    مع أن ابن كثير محدث.

    والخلاصة أن كل المفسرين سواء كان مفسراً وليس له علم بالحديث أو مفسراً وله علم بالحديث؛ مشوا على هذا النمط؛ وهو أن روايات التفسير عندهم الأصل فيها إذا ما كان فيها إشكال؛ أنها مقبولة.

    وشيخ الإسلام ابن تيمية يقبل رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد ويعتمد عليها، مع أن ابن أبي نجيح لم يلق مجاهداً .

    و ابن حجر العسقلاني إمام في الحديث لما جاء يتكلم عن حفص بن سليمان الأسدي قال له: متروك الحديث مع إمامته في القراءة. ومع ذلك تقبل روايته عند المفسرين.

    والمحدثون الذين أهل الحديث أنفسهم، الذين هم أهل الإسناد، هم الذين رسموا هذا المنهج وكون المعاصرين يخالفون هذا المنهج هذه قضية أخرى.

    ولم يرد تحرير الأسانيد وجعل أسانيد السيرة أو غيرها مثل أسانيد الحلال والحرام إلا في هذا العصر، فإما أن منهج السابقين كلهم غلط، وإما أن منهجنا غلط إذا كنا نريد نأخذ القضايا الخطابية، ولو أننا لا نأخذ إلا الصحيح لذهب شطر كثير جداً من التاريخ، والسيرة وغيرها.

    ونحن لما قلنا الآن: إن الإسناد أصل، ومع هذا ننقد الإسناد في التفسير إذا كان فيه إشكال من جهة المعاني. قد يقول قائل: هل تقبل سبب النزول المكذوب مع أن الآية تحتمله؟ نقول: لا نقبله لأنه مكذوب، فلا يفهم من ذلك أنا نقبل كل ما هب ودب، ما دام أنه مروي نقبله أو منسوب إلى ابن عباس دون أن يكون له إسناد نقبله، نقول هذا بل كلامنا أنه يجب أن ننتبه إلى أن ما روي عن السلف له أوجه كثيرة: منها أسانيد معروفة ومشهورة، والعلماء قد تكلموا فيها من حيث إفراد هذا الإسناد، مثلاً:

    السدي عن ابن مسعود وعن ابن عباس وعن أناس من الصحابة، لو أفردناه وناقشناه كأسلوب المحدثين، فهذا فيه ضعف.

    عطية العوفي عن ابن عباس .. السلسلة هذه، سلسلة العوفيين أيضاً فيها ضعف.

    ابن أبي نجيح قالوا: لم يلق مجاهداً إذاً فيها ضعف.

    الضحاك لم يلق ابن عباس ففيه ضعف.

    علي بن أبي طلحة لم يلق ابن عباس ؛ ففيها ضعف.. كل هذه روايات التفسير، لكنها روايات كتب واشتهرت وقبلها العلماء، وتلقوها بالقبول، وخبر الآحاد الذي تلقي بالقبول يعمل به. فأسانيد التفسير هذه مثل هذا.

    لكن إذا جاء إشكالية في أحد هذه الأسانيد ولو كان تلقت بالقبول؛ نوقش؛ لنكارة أو غرابته.

    والروايات هذه هي التي نقلت بعض الأخبار التي حكم عليها العلماء بأنها مكذوبة وفيها نظر، مثل حديث زينب المشهور، أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها بعد الحجاب، ومثل آية: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55] أنها نزلت في علي ، فمثل هذا لما ترجع لـابن كثير يذكر أسانيدها، ويقول: ورواه عبد الوهاب عن مجاهد ، و عبد الوهاب ضعيف، و الكلبي متروك، فمثل هذا الإسناد ينقده لكن غيره لا ينقده فهذا دليل على أنه ينقد إذا كان فيه إشكال.

    فالخلاصة أن النظر في التفسير إلى المعنى كان الأغلب عند المفسرين، وعند غيرهم؛ فإذا ورد إشكال في المعنى نقد الإسناد، ولا يعني هذا أننا نقبل كل ما هب ودب من الروايات، أو نقبل أي قول منسوب إلى الصحابة أو أي قول منسوب إلى التابعين.

    فـابن جرير الطبري لو جمع له الأسانيد التي نقدها لكانت أقل من أصابع اليد، بل إن إسناداً نقده مرة واحدة وهو دائر في كل تفسيره ويأخذ بالمعنى المذكور فيه أحياناً ففيه دليل على أنه لم يكن يتوجه عندهم النقد إلى الأسانيد، إلا إذا وقع إشكال في الرواية بالفعل.

    فقوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ [المائدة:55] ... الآية يعتمد عليها الشيعة في فضائل علي رضي الله عنه؛ مع أن علياً فضائله لا تحتاج إلى كذب، فلو نظرنا إليها من جهة المعنى؛ لنفترض أنه حصل هذا الحدث، وهو أن علياً رضي الله عنه تصدق بخاتمه وهو راكع، وأن الآية نزلت في شأنه، فلا يقتصر هذه الآية على علي رضي الله عنه بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

    ونحن نقول: يستفاد من منهج النقد الحديثي ولكن لا يطبق بحذافيره على هذه العلوم، ولو طبق بحذافيره لسقط العلم هذا كله، لكن لو أن شخصاً سلك منهجاً نقدياً وهو أنه لا يقدم في التفسير إلا الثابت فهذا ما فيه إشكال، لكن لو أن شخصاً قبل المعنى الآخر، وآخر قبل المعنى الآخر، وهذا المعنى الآخر تحتمله الآية، فهذا أيضاً ما فيه إشكال، بل هذا منهج وهذا منهج، والجميع لا إشكال فيه، لكن الإشكال في التدقيق في التحرير؛ لأن هذا سيسقط التفسير، ولهذا لو حررنا أسانيد التفسير فلن يبقى عندنا من تفسير السلف إلا قليل جداً، فالدر المنثور الموجود في عدة مجلدات سيختزل في مجلد واحد؛ لو اعتمدنا هذا الأسلوب.

    وقد راجعت بنفس هذ الأسلوب التحريري فوجدت أن بعض الآيات لا يوجد فيها تفسير للسلف بناءً على هذا المنهج، منهج تحرير الأسانيد، فإذا لم نجد في الآيات كلاماً للسلف فلمن سنرجع في فهم الآية؟ ما هي مصادرنا؟

    قد يقال: نرجع إلى اللغة العربية، فيقال: واللغة العربية لا نستقيها إلا من المعاجم فمادام طالبتمونا بأسانيد التفسير، وتستدلون علينا باللغة وتسندونها إلى الفراء أو إلى أبي عبيدة فأعطوني إسناداً من الفراء إلى العرب، في أن باسقات بمعنى طويلات فهي نفس القضية، أنا أبين معاني كلام الله باللغة العربية؛ فاثبت لي بالفعل عن العرب أن "باسقات" بمعنى: طويلات، فمادام رواية ابن عباس و مجاهد و عكرمة و الضحاك ساقطة، فمن أين آخذ باسقات بمعنى طويلات؟ السياق ما يدل على هذا، طيب.. ولو رجعت لغة العرب فإن أعلى من يسند إليه: الخليل ، و الخليل توفي في سنة170هـ تقريباً أو 175هـ على خلاف، وبينه وبين صاحب القول سنين.

    فإذاً المقصد أنه يجب أن ننظر ما هي مناهج تلقي هذه العلوم، والطريقة الموجودة في بعض دراسة العلوم فيها خلل، ولهذا تجد أننا أحياناً نغلق بعض الأشياء من أجل الخلل الذي نشأ عندنا في دراسة مناهج هذه العلوم.

    والصواب: أن كل علم له منهج في تلقيه وقبوله، وأن الاستفادة من مناهج العلوم الأخرى في هذا ممكنة، لكن لا يطبق منهج المحدثين بحذافيره؛ ولهذا لما تقرأ في التاريخ فالنقد التاريخي يستفيد من منهج المحدثين استفادة كبيرة ولكن لا يمكن أن يطبق بحذافيره؛ لأنه سيسقط كثيراً من الأشياء؛ مثل القصص وغيرها.

    لكن المعاصرين لم يعتمدوا هذا الأسلوب من أجل هذه القضية، بل هم انطلقوا من منطلقات غير هذا المنطلق، وإلا فهذا المنطلق هو الصحيح والصواب، وهو الذي عمل به المتقدمون حتى في هذه القضية.

    فإذا سقطت الرواية فلن يكون عندنا معتمد إلا اللغة، وإذا جئنا إلى اللغة سنطال بنصف ما يطالبوا به.

    ولهذا لا تجد عند المتقدمين طبقات المفسرين، مع إنه وجد طبقات القراء، وطبقات القراء متأخرة أيضاً، لكن أهل الرواية عموماً كانوا موجودين، منثورين في كتب الجرح والتعديل، وكتب الرجال عند السلف، حتى أن بعض الرواة الذين يروون الأدب والذين هم أصحاب أقاصيص وأشعار؛ تجد كلاماً عنهم في كتب الرجال؛ فيقول: إنه راوي أخبار وأشعار، أما في الحديث فلا، فهذا كان متميزاً مثلاً بالمغازي، وأما في الحديث فلا، وهذا كثير عندهم وهو الفصل بين علم وعلم في النقد، وهذه ظاهرة جداً في كلام علماء الحديث عن بعض الرواة الذين اختلطت رواياتهم، مما يدل على أن منهج التعامل معه كمفسر غير منهج التعامل معه كراوي في الحديث.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756217083