إسلام ويب

الإيمان بالغيبللشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الإيمان بالغيب أصل من أصول الدين، وهو أول صفات المؤمنين كما ذكر ذلك القرآن الكريم، والناس قد يتفاوتون في الإيمان بالغيب، فالإيمان بالغيب لا يكفي فيه الإقرار الذهني فقط، بل يجب الإقرار والتسليم المطلق لله، وقد بين لنا القرآن بعض أحوال الأمم مع الإيمان بالغيب، كحال فرعون وقومه، وحال المشركين في الجاهلية، ثم بيَّن أسباب إنكار هذه الأمم للإيمان بالغيب كعدم الإحاطة بعلمه وعدم تأويله، مبيناً أحوال الإيمان بالغيب وكيفيته، ومتى يتحول إلى شهادة، ومتى تنقطع التوبة والإيمان بالغيب، ولقد بات إنكار الغيب من سمات العصر الحديث -وصار الإيمان بالماديات هو البديل- في نظر الحضارات الغربية والشرقية. وعلى هذا فإن الإيمان بالغيب يعد فيصلاً بين البشر في حياتهم، فصار سعادةً للمؤمن بإيمانه به، وشقاءً للكافر بجحوده ونكرانه له.

    1.   

    أهمية الإيمان بالغيب

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا -إنك أنت العليم الحكيم-.

    أما بعــد:

    أيها الإخوة الكرام: فكما تعلمون جميعاً أن الإيمان بالغيب هو الفارق بين الكافر والمؤمن؛ بل هو في الحقيقة الفارق بين الإنسان والحيوان؛ أو مَنْ هو أضل من الحيوان، فالإيمان بالغيب هو أكبر حقيقة يعيشها الإنسان، وأكبر مسألة من مسائل الاعتقاد، وأكبر قضية من قضايا العمل أيضاً، فـأهل السنة والجماعة وهم أصحاب المنهج الثابت والمعروف الذي يؤمن بكل ما جاء عن الله، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ هم الذين يفهمونه الفهم السليم والصحيح.

    الإيمان بالغيب أول صفات المؤمن

    فالإيمان بالغيب عندهم يشمل القول والعمل، ويشمل إيمان القلب، وإيمان اللسان وإيمان الجوارح، ومن ثم كان الإيمان بالغيب هو الحقيقة العظمى التي جعلها الله تبارك وتعالى، فوصف بها عباده في أول سورة من القرآن الكريم بعد الفاتحة، قال تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3].

    فهذا أول وصف، وما بعد ذلك فهو تبع له؛ فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالآخرة، والإيمان بكل ما أخبر الله تعالى به في كتابه، أو أخبر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما لا يعلم إلا من طريق الوحي؛ كل ذلك إنما هو تفصيل لما أجمله في قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] فأول علامة من علامات المؤمنين، وأول صفة من صفاتهم: أنهم يؤمنون بالغيب، وهذا مفرق الطريق بينهم وبين الكافرين والملحدين والمنحرفين.

    تفاوت الناس في الإيمان بالغيب

    بقدر تفاوت الناس في الإيمان بالغيب يكون تفاوتهم في الإيمان عامة، وتكون منازلهم عند الله تبارك وتعالى، وتكون مراتبهم في الجنة، لأنه كما قلنا: الإيمان يقتضي ويتضمن القول والعمل وكذلك الاعتقاد والتطبيق والتنفيذ، وكل ذلك يدخل تحت مُسمى الإيمان بالغيب، والانحراف الذي وقع فيه الناس في هذه المسألة هو أكبر انحراف وأعظم ضلال؛ فكل من ضل في معرفة الله تبارك وتعالى، وكل من أشرك مع الله تبارك وتعالى غيره، وكل من أنكر الرسل وجحدهم وكذب ما جاءوا به؛ كل ذلك إنما هو لأنه لم يؤمن بالغيب؛ إذاً هذه هي القضية والحقيقة.

    إن الناس يتفاوتون -كما قلنا- في الإيمان بالغيب، فهنالك أناس يؤمنون بالغيب إيماناً نظرياً عقلياً مجرداً، وهذا حال أكثر الناس من المسلمين، فهم يؤمنون بالغيب: أي يصدقون بأن هنالك رباً ورسولاً وملائكة ويوماً آخر، وإذا سألت أحدهم عن اليوم الآخر، عن الصراط، والميزان، والحساب، قال: نعم أُقر بذلك، وأؤمن به وأصدق به، لكن هل هذه هي حقيقة الإيمان بالغيب التي يريدها الله تبارك وتعالى والتي من أجلها أنزل الكتب، وأرسل الرسل؟

    بل وهنالك أيضاً من ينكرون الإيمان بالغيب! وينكرون عالم الغيب؛ ولو دققنا ومحصنا لوجدنا -في الحقيقة- أنه لا يوجد عاقل على الإطلاق ينكر الغيب.

    1.   

    حقيقة الإيمان بالغيب

    إذاً: كيف يكون الحال؟

    فالمؤمنون بالغيب منهم من لا يؤمن بالغيب على الحقيقة، والمنكرون للغيب كثيرٌ منهم لا ينكر الغيب على الحقيقة.

    إذاً: القضية أن الإيمان بالغيب في عرف الشرع، وفي حقيقة دعوة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- أن يسلم الإنسان بقلبه إلى الله تبارك وتعالى، وأن ينيب إليه؛ فكل ماجاء من عند الله تبارك وتعالى صدق به، وأقر وظهر أثر ذلك الإيمان على لسانه؛ فيؤمن لسانه وتؤمن أيضاً جوارحه، ولهذا يقول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    نعم العلماء الذين يؤمنون بالغيب على حقيقته، ويعلمون ويعرفون ربهم، وصفاته على الحقيقة، هم أكثر الناس خشية، فكأنه لا يخشاه تعالى إلا هم؛ لأنهم عرفوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    الإيمان بإقرار الذهن فقط

    أما مجرد الإقرار الذهني فقط فقد كان موجوداً حتى عند العرب في الجاهلية، فكان العرب في الجاهلية يؤمنون بشيء من الغيب، فقد كانوا يؤمنون بوجود الله، ولم يكن ينكر ذلك أحد في العصر الجاهلي! بل ولا في سائر العصور، إلا عند طائفة شاذة مارقة مكابرة ومعاندة، وكان في العرب -أيضاً- من يؤمن بيوم الحساب مجرد إيمان، ورد ذلك في شعرهم كما قال زهير:

    فلا تكتمن الله ما في نفوسكم      ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

    يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر     ليوم الحساب أو يعجل فينقم

    إذاً: كان لدى العرب شعور وإحساس بأن هنالك عالماً آخر، وأنه قد يكون هناك يوم آخر؛ ولكن ليست القضية في أنه هل يوجد أو لا يوجد يوم آخر؟

    وإنما المسألة: أن يكون الإيمان بالغيب هو الإيمان الذي يريده الله تبارك وتعالى على الحقيقة، والذي من أجله بَعثَ الرسل، وأنزل الكتب، وهذا هو محل النـزاع؛ لأنه يقتضي التسليم المطلق والمجرد لله تبارك وتعالى، والإنابة إليه بالقلب، والإخبات إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    حال الأمم مع الإيمان بالغيب

    لذلك أنكر الجاهليون ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوحي، فأنكروا الوحي، والوحي من الغيب؛ فقالوا: كيف يتنزل هذا القرآن على هذا الرجل؟

    هذا لا يمكن أبداً! ولذلك قالوا له: إنما أنت مفتر، وقالوا عنه: ساحر، وقالوا عنه: كاهن، وقالوا عنه أيضاً: شاعر، وقالوا: إنما يعلمه بشر، وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً، فَلِمَ كُل هذا اللجاج وكل هذا العناد؟!

    كل ذلك حتى لا يؤمنوا بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اختص هذا النبي الأمي بهذه الرسالة؛ فأنزل وأرسل إليه الروح الأمين بهذا الوحي، وهل في ذلك ما يخالف الفطرة أو العقل السليم؟

    كلا. لا شيء من ذلك، ولكنه العناد والجحود، فقد جحدت الأمم وعاندت من قبل، كما فعل ذلك فرعون وقومه، ولهذا أخبر الله عنهم بقوله: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14].

    فطمأن الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فقال: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] أي لا تهتم بقولهم لك: إنك كاذب؛ فإنهم في حقيقة أنفسهم لا يعتقدون كذبك، بل يعلمون -في أنفسهم- أنك صادق؛ ولكنه الجحود. فهل نفعهم هذا الإقرار القلبي المجرد؟! هل نفعتهم هذه المشاعر الذهنية العامة بأن هنالك عالماً آخر هو عالم الغيب بخلاف عالم الشهادة؟

    لا. لم ينفعهم ذلك أبداً.

    1.   

    الكفر بالغيب وأسبابه

    إن الله تبارك وتعالى قد بين الأسباب التي تجعل المعاندين والمنكرين ينكرون عالم الغيب، ولا يؤمنون به فقال الله تبارك وتعالى في ذلك: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس:39].

    هذه الآية لو تدبرناها وعقلناها وفهمناها كما هو السائر في آيات القرآن الحكيم؛ لوجدناها وحدها كافية لبيان أسباب ضلال هؤلاء القوم: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [يونس:39]

    عدم الإحاطة بعلمه

    من أسباب التكذيب وردِّ ما جاءت به الرسل من أمور الغيب: أنهم لم يحيطوا بعلمه، وكما قال تبارك وتعالى عنهم: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66] أي أن كثيراً من الناس عادةً يريدون أن يصدقوا -فقط- بما يمكن أن يعلموه، أو يستدلوا عليه، أو بما يمكن أن يصلوا إليه بفكرهم وعقولهم فالسبب الأول هو: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس:39].

    لا يعلمون تأويله

    والسبب الآخر: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس:39].

    فإن الناس يصدقون بالمشاهد المحسوس، ويكذبون بالغيب المكتوم، والتأويل -كما تعلمون- له معان؛ ففي هذه الآية جاء بمعنى: الوقوع: أي: وقوع حقيقة الشيء المخبر عنه سابقاً، كما قال يوسف عليه السلام: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100] أي هذه حقيقة الرؤيا التي قد وقعت، كانت رؤيا في عالم الغيب أخبر بها؛ فلما أن تحقق ذلك ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً، كان ذلك هو وقوع الرؤيا وهو تأويلها هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ [يوسف:100]، فهؤلاء الجاحدون يريدون أن يروا الملائكة، وأن يروا الله، وأن يروا الجنة والنار؛ فإذا رأوا ذلك آمنوا؛ وهذا مما يطلبه الجاحدون والظالمون، ولكن! هل يلبى لهم ذلك؟ لا، فهم يريدون أن يؤمنوا بشيءٍ يمكن لعقولهم أن تصل إليه، وهذا هو الذي لايمكن؛ وهم يريدون أيضاً أن يؤمنوا بشيء يمكن لعقولهم أن تستدل عليه، وأن تعرفه؛ والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما أرسل الرسل لعالم الغيب، وهو عالم لا يمكن أن تحيط العقول البشرية به علماً؛ وإنما غاية الأمر أن تستدل عليه وأن تؤمن به وتثبته في الجملة.

    فكل إنسان في فطرته الإيمان باليوم الآخر، ولو أنه فكر لوجد أن الإيمان باليوم الآخر ضرورة عقلية لا بد منها، لكن هل يمكن أن يؤمن عن طريق العقل المجرد بالميزان، أو بالصراط، أو بالحوض، أو بدرجات أهل الجنة والنار أو بالصحف أو بأمثال ذلك مما لا يمكن أن يُعلم إلا عن طريق الوحي، وخبر السماء عن الله تبارك وتعالى؟

    إن عالم الغيب الذي يريد الناس أن يحيطوا به علماً لا يمكن أن يكون بهذه المثابة؛ بل لا يمكن أن يكونوا مؤمنين أو عبيداً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلا إذا آمنوا بما أمر به الله، وصدقوا بما أنزله الله تبارك وتعالى؛ وإن لم يكن مما تدركه عقولهم أو تحيط به.

    فليس من حقك إذاً أيها الإنسان المخلوق الضعيف العاجز ألا تؤمن إلا بما أدركه علمك وأحاط به فكرك، إن هذا الكلام عندما نعرضه لنبين أسباب تكذيب الكفار؛ فإنما نبين هذه الحقيقة؛ لأن في المنتسبين إلى الإسلام من الفرق الضالة، وأصحاب الانحراف في القديم والحديث، من وقع في هذه القضية، وفي هذا الخلل أو الخطأ أو الشبهة ولو جزئياً.

    1.   

    من مظاهر الإيمان بالغيب

    وهنا قضية أخرى وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس:39] وهذه متعلقة بالذين يقولون: لا نؤمن إلا بما نشاهده، وبما نحس به، وبما نراه؛ فإذا وقع آمنوا، وليس الأمر كذلك؛ فإن فرعون آمن لما أدركه الغرق، وكذلك المحتضر حين تأتيه الملائكة لتقبض روحه يؤمن حينئذ، ولكن هل ينفعه إيمانه في تلك اللحظة بالذات؟ جزماً لا.

    متى يتحول الغيب إلى شهادة

    إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، وهذا من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما دام الإنسان في عالم الغيب -ولو كان على فراش الموت- فإن الله يقبل إيمانه، ويقبل توبته، وهذا من سعة رحمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن سعة كرمه وجوده أنه يمهل الإنسان ليتوب إلى آخر تلك اللحظة؛ لكنه إذا عاين الحق وحضر الموت فقال: إني تبت الآن فليس لهذا الإنسان توبة أبداً. إذ أنه الآن لم يعد مؤمناً بعالم الغيب، بل أصبح مؤمناً بعالم الشهادة؛ لأنه يرى الملائكة عياناً أمامه، إذاً: ما الفرق بينه وبين الكفار الذين طلبوا أن يروا ربهم، أو يروا الملائكة؟!

    فإذا لم يعد هناك إيمان بالغيب، فلا توبة حينئذ، وكذلك الجنس الإنساني، أو البشرية كلها أيضاً هذا هو حالها، وهذا هو شأنها قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً [الأنعام:158].

    فالإنسان في مفرده إذا حضرته ملائكة العذاب لا ينفعه الإيمان، وكذلك العالم بأكمله إذا احتضر وإذا جاءت النهاية الحتمية لهذه الدنيا وما عليها، وأذن الله بانقضاء هذا العالم، وجاءت العلامات التي جعلها الله حداً فاصلاً بين هذه الدنيا وبين الدار الآخرة، وهي مقدمات يوم الفزع الأكبر؛ هنالك -أيضاً- لم يعد الأمر أمر إيمان بالغيب؛ بل أصبح إيمانٌ بالمحسوس.

    وهذه الآية صح الحديث في تفسيرها، بأنه طلوع الشمس من مغربها أي: إذا طلعت الشمس من مغربها لم يعد ينفع نفساً إيمانها لم تؤمن من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر بذلك، والناس يعلمون أن هذا من أعجب مايرون، ومن أبعد ما يمكن أن يقع؛ فإذا وقع قال الناس: هذا ما أخبر به الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الآن نؤمن به! لكن بعد ماذا! بعد أن تطلع الشمس من المغرب تؤمنون به؟!!

    متى تنقطع التوبة

    فلا ينفع الإيمان حينئذٍ، ولا يقبل أن يأتي الإنسان فيقول: الآن أتوب، بعد طلوع الشمس من مغربها! ولا مجال للمعصية، فهذا يقال له: لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت، هذه حالة أو لم تكن كسبت في إيمانها خيراً وهذه هي الحالة الثانية. إذاً يجب على الإنسان: أن يؤمن بعالم الغيب في عمره المحدود، وقبل تلك اللحظات، وكذلك يجب على الإنسانية جمعاء، أن يؤمنوا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويؤمنوا بالغيب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وأن يتوبوا إلى الله تبارك وتعالى.

    فالإيمان بالغيب شامل لكل ما جاء في الكتاب، وصح به الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالإيمان بالله، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار، وتفصيل ذلك كله من الإيمان بالغيب، وأن قوله تعالى في الآية: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] فسرها الصحابة الكرام كـابن مسعود وابن عباس وفسرها أبو العالية وقتادة وغيرهم من السلف أنها تعني: كل أمور الإيمان وكل أمور الغيب.

    1.   

    إنكار الغيب وعلاقته بالنهضة العلمية

    إن إنكار الغيب ما اشتهر أمره، وظهر وأصبح ظاهرة عالمية إلا في العصر الحديث؛ وذلك نتيجة لأن العالم الإنساني أصبح الآن متقارباً ومتلاحماً، حتى أن أي فكرة في الشرق تصل إلى الغرب -أو العكس- في يوم واحد، أو في أسابيع، وإن أبرز سمة في هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم هي: السمة المادية، فهو عالم لا يؤمن إلا بالمحسوس، ولا يؤمن إلا بالماديات، فينكر الغيب، ولا يؤمن إلا بما يدر عليه نفعاً في هذه الدار الفانية؛ ولهذا كان لا بد لنا أن نعرج على أسباب ضلال هؤلاء القوم، ثم نرى بعد ذلك أثر الإيمان بالغيب في حياة المؤمنين، وأثر فقدان الإيمان بالغيب عند الكافرين.

    فلماذا كفرت أوروبا، وكفر مفكروها بالغيب؟

    وهل هم في الحقيقة كافرون بالغيب؟

    أم أنهم كافرون وجاحدون بالرسل وبما جاءت به الكتب؟

    ولما قلنا أنه لا يكاد يوجد إنسان يؤمن على الحقيقة بالغيب، بل يؤمن بأنه لا شيء وراء هذا المحسوس، فكيف ذلك؟

    وهل كل ما يؤمن به أكثر الماديين -غلواً وعتواً- هو كل ما يشاهدوه ويروه أو يلمسوه ويدركوه بعقولهم؟ الجواب على هذا السؤال ينقلنا إلى أن نعود إلى أسباب انتشار المادية لنعرف الجواب.

    بداية ظهور النظرية المادية وسببها

    عندما كان الناس في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر الميلادي، كان العالم الإسلامي -الذي ينبغي ويجب أن يكون هو قائد العالم -وكانت الأمة الإسلامية- التي كان يجب أن تقود العالم إلى الخير والفلاح؛ الأمة التي تؤمن بالغيب، ولديها الغيب الحقيقي- غارقة في الأوهام والخرافات، إلا ما رحم الله تبارك وتعالى؛ فكانت بعيدة التأثير على العالم الغربي.

    وأما العالم الغربي، فكان -في تلك اللحظة- تفيض فيه، وتعج براكين وفيضانات، من التمرد على الدين الذي كانت عليه الكنيسة، دين البابا، ودين القسيسين الغربيين النصارى عموماً، مما جاء في الأناجيل، وفي رسائل الرسل وما سوى ذلك، فثار أولئك على هذا الدين؛ لأنه خرافة، ولأنهم وجدوا أنه لا يتفق مع العلم، ومع التجربة التي وصلوا إليها، وأخذ الناس يتحولون في كل يوم ويكتشفون -في هذا الكون- أمراً جديداً يثبت لهم أن ما كانت تعتقده هيئة رجال الدين (الكنسية) باطل وضلال، وأن ما وصل إليه الإنسان بالتجربة، وبالعقل وبالحس هو الصحيح؛ وكل يوم كان يزداد ذلك؛ فأصبحوا يبتعدون قليلاً قليلاً عن عالم الغيب، في نظرهم على الأقل، إذ ليس لديهم من الغيب إلا ذلك، فلم يعرفوا الإسلام ولم يبلغوه، وإنما وصلتهم صورة مشوهة عنه.

    فأخذوا ينقلون إيمان الناس من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالمحسوسات المجردة، وهذه هي النقطة التي نريد أن نصل إليها.

    كان الرجل المادي يقف ليخطب أو يتكلم ويدعو الناس فيقول: آمنوا بالحقائق ولا تؤمنوا بالخرافات. إذا سئل ما هي الحقائق، وما هي الخرافات؟

    فيقول لهم: الحقائق هي هذه الأمور المشاهدة: أترون السماء، أترون الجبال، أترون الأرض أترون هذه الأشياء المادية؟

    إنها حقيقة، فآمنوا بها وآمنوا بكل الماديات، وجربوا، واخترعوا، واكتسبوا، ويقول: أما الغيب فهو ما جاء عن الرب -والرب عندهم يسوع- وما جاء في الأناجيل عن اليوم الآخر، وما جاء فيها من معجزات، أخبار، كل ذلك لا تؤمنوا به ولا تصدقوه؛ لأن العقل والعلم ينفيه.

    فكان الناس يحتارون، إما أن يصدقوا بالخرافات الموجودة -والتي يظنون أنها هي الدين- وإما أن يتبعوا هذا، وفي كل مرة تصدق ثلة منهم وتنحاز إلى المادية، وتترك ركب الإيمان -الذي هو إيمان خرافي محرف ومبدل- ومع الزمن أصبح الناس يظنون أنه لم يعد هناك من داعٍ إلى الإيمان بالغيب مطلقاً، وأنه على الإنسان أن يؤمن بهذه الماديات المحسوسة.

    فشل النظرية المادية واختلاف علمائها

    لكن ما الذي جرى؟!

    يقول الله تبارك وتعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]، أخذوا هذه المادة (قطعة حديد) فآمنوا بها؟

    لأن (الحديد) موجود ومحسوس، فآمنوا بالحديد، وصنعوا منه ما صنعوا، واخترعوا ما اخترعوا، وفعلوا ما فعلوا.

    ثم بعد ذلك يأتي السؤال المحير الذي لا بد منه، ولا بد أن يطرأ على أذهان البشر، وهو: ما هو هذا الحديد؟

    وعندما أرادوا معرفة حقائق الأشياء وكنهها، ووضعوا الحديد تحت المجاهر الكبيرة؛ لم يستطيعوا أن يؤمنوا بعد ذلك بشيء واحتاروا! فقيل لهم لماذا تحتارون؟

    ألم تكونوا تقولون: نكفر بالغيب ونؤمن بالمادة المحسوسة والمشاهدة؟

    قالوا: لا، ليست هذه هي القضية؛ إنه عندما اكتُشِفَتْ الذرة، واكتشفت المجاهر الكبيرة جداً؛ أصبحنا لا نرى حديدة، بل أصبحنا نرى فراغات هائلة تشبه الفراغات التي بين أفراد المجموعة الشمسية: الأرض، والكواكب الأخرى حول الشمس، هذه هي المادة وهذه هي الحديدة؛ فإذاً ما هي المادة؟

    قالوا: لا نستطيع أن نقول لكم شيئاً. فيقال لهم: كنتم تطالبوننا أن نكفر بالإنجيل، ونؤمن بالمادة فما هي المادة؟ قالوا: لا نستطيع معرفة ذلك.

    فاختلفوا في ذلك إلى الآن، وكلما تقدموا في العلم فإنهم يجهلون ما هي المادة؟

    ما هي حقيقتها؟!

    وعندما يقال لهم: أنتم إذاً تؤمنون بالغيب؟

    يقولون: نحن لا نؤمن بالغيب كيف ذلك؟

    لأن الغيب عندهم هو تلك الخرافات التي لا يريدون أن يؤمنوا بها، سواء عرفوا هذه الحديدة أم لم يعرفوها.

    لكن هذا الغيب الجديد، وإن صح التعبير (الغيب العلمي) كما يسمونه أحياناً، فهم يؤمنون به ولم يروه، ويقولون لا نستطيع أن نراه، إنما هو أمر غيبي.

    فالكهرباء -مثلاً- قالوا: إنها من عالم الغيب، فإذا قيل لهم: أنتم هل تؤمنون بالغيب؟

    قالوا: لا نؤمن بالغيب، لكننا في الحقيقة لا ندري ما هي الكهرباء؟

    إننا ندرك آثارها ونستخدمها في كل بيت وفي كل شأن تقريباً؛ لكننا لا ندري ما حقيقتها!!

    وقس على ذلك كثيراً من الأمور كالجاذبية، فما هي الجاذبية؟

    لا يدرون! مع أنهم يعرفون قانون الجاذبية؛ ولكن ما هي الجاذبية على الحقيقة؟

    يقولون: لا ندري.

    إذاً: ماذا استفاد الإنسان!! فقد صعد إلى السماء فتاه في هذا الفضاء بين الأجرام، حتى إنه لم يعد يدري عن شيء، ودخل إلى أعماق الذرة الصغيرة فتاه في أعماقها، وقال: إن الفراغات التي توجد بين الهواء وبين ما يدور حولها تشبه الفراغات التي بين الكواكب. إذاً فأين يعيش الإنسان؟ وكأن حصيلة هذا الجهد الإنساني، وحصيلة هذا العلم لاشيء..!

    وهذه هي الحقيقة أيها الإخوة، فالإنسان بغير الإيمان بالله عز وجل وبغير الإيمان بالغيب صفرٌ فارغٌ لا حقيقة له، ولا يستطيع أن يؤمن بأي شيء، فلم يعد هناك في الغرب -بين العلماء الغربيين- اتفاق على شيء، إلا على شيء واحد، إن اتفقوا عليه وهو: أنه لا يصح لك أن تصدر أحكاماً مطلقة، سواء كنت عالم فيزياء أم كيمياء أم أحياء أم في علم الاجتماع أم في علم النفس، فلا تصدر أحكاماً مطلقة وتقول الحق كذا، إذاً فمعنى ذلك: أن الإنسان لم يعلم شيئاً أبداً، فجهد وتعلم، وإذا به يجد أنه لا يرى ذلك الذي تعلمه على الأرض.

    1.   

    أثر الإيمان بالغيب على المؤمن والكافر

    إن الإنسان لا يستفيد شيئاً، ولا يعلم شيئاً، ولا يرى الأشياء على حقيقتها، إلا إذا آمن بالله، وإذا آمن بالغيب.

    وهذه الحقيقة -يا إخوة- ليست مجرد راحة للفكر والقلب، وأنه عندما يعتقد أو عندما يصدق، فإنه يتحرر من الشك، ويترك الحيرة التي يقع فيها العلماء عادة إذا لم يعرفوا الأجوبة على أسئلة معينة، لا؛ فالمسألة أكبر من ذلك جداً، فهي مسألة طمأنينة القلب، أو المعيشة الضنك، يقول الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

    ضنك الكافر وشقاؤه

    إن العالم الغربي يعيش -لعدم الإيمان بالغيب- في حالة الضنَك؛ وفي العيشة الضنك بل في الشدة يلهث ويجري، وتتقطع أوصال الفرد وأوصال المجتمع وهو يكدح في هذه الحياة، ولكن من غير هدف، ومن غير راحة، ومن غير اطمئنان على الإطلاق؛ فسبحان الله! هل يطمئنون وهم لا يؤمنون بالآخرة؟

    وهل يمكن أن يطمئن قلب وهو لم يعرف الله عز وجل؟!

    هل يمكن أن يسعد إنسان وهو لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر؟!

    كيف يكون ذلك؟

    فبأي شيء يعيش، وهو لا يعلم شيئاً، ولا يجد إلا الصراع في الحياة كلها.

    الحياة كلها شقاء، كُلها نكد، فدول كبرى تصارع دولاً كبرى أخرى، وشركات، تصارع شركات وأفراداً يصارعون أفراداً وينافسونهم، والأسرة تحطم الأسرة، والمرأة تتكتل ضد الرجل، والرجل يتكتل ويتعصب ضد المرأة، الطبقة الغنية تتكتل وتتحزب ضد الفقراء، وللفقراء أيضاً نقابات واتحادات تتكتل ضد الأغنياء، صراعات وانقسامات وفوضى رهيبة لا يستقر فيها الإنسان على الإطلاق، ولا يهدأ له بال أبداً، لماذا؟

    إنه عدم الإيمان بالغيب.

    فهم لا يؤمنون بالقدر، ولا يؤمنون بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كتب كل شيء، وأنه لن يبلغ الإنسان إلا ما كتبه الله تبارك وتعالى له، فكل ذلك لا يؤمنون به؛ ولهذا نجد أنهم في الشقاء وفي الضنك.

    اطمئنان المؤمن وسعادته

    بالمقابل نجد أن أسعد جيل على وجه الأرض، وأكثره طمأنينة وراحة وأماناً في الحياة الدنيا هم جيل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    فالمؤمن مطمئن، فإن جاءه الخير فهو مطمئن، وإن جاءه الشر فهو مطمئن، ومهما وقع له فهو مطمئن، فإن ظلم فإيمانه بالله وباليوم الآخر يجعله يطمئن، ويصبر احتساباً، فهو يعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف ينتقم له ممن ظلمه، وليس بقدرته الذاتية، وإن منع حقاً له فهنالك أيضاً اليوم الآخر الذي توفى فيه كل نفس ما كسبت. أيضاً فإن عالم الدنيا مهما كبر فإنه يصغر عند الإنسان، وذلك عندما يؤمن بعالم الغيب؛ فما قيمة الدنيا عند المؤمن الذي يؤمن بأن موضع سوط في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس! فلماذا نتصارع على هذه الدنيا؟

    ولماذا نتتطاحن؟

    ولماذا نتشاحن؟

    ولماذا البغضاء؟

    ولماذا الأحقاد؟

    ولماذا العداوات؟

    ولذلك فإن المؤمن يطمئن ويرتاح عندما يرى الكفار أو الفجار أو الظلمة قد أخذوا ما أخذوا؛ فبهذا يستقر؛ وإن أُعطي حمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يشغله ذلك عن اليوم الآخر، وعلم أن هذا المتاع فان وزائل، وأنه إن تمتع بشيء منه فهو يتذكر متاع الآخرة؛ فيجتهد ويعمل لها، ويؤجر على هذا العمل؛ لأنه مشروع، ولأنه فعل المأمور فعف نفسه -بهذه الشهوة مثلاً- أو عف أهله إن كانت شهوة مال وما أشبه ذلك.

    فيعيش الإنسان والمجتمع المسلم في طمأنينة كاملة، وما ذلك إلا نتيجة الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والإيمان بالغيب، وليس كما يرى بعض المسلمين الإيمان بالغيب في حين أنهم ينقضونه بتصرفات وأعمال عديدة.

    1.   

    الأسئلة

    الإيمان بلاعمل يدل على ضعف الإيمان بالغيب

    السؤال: بعض الناس يترك الأعمال من أوامر ونواهٍ، ويقول: أنا مؤمن، ولو كان مؤمناً لاستعد لذلك اليوم العصيب، فهل هذا بتكذيبه العملي يعتبر مكذباً بالغيب؟

    الجواب: هذا في الحقيقة لا نسميه مكذباً بالغيب، ولكننا نقول: إنه ليس مؤمناً بالغيب إيماناً حقيقياً، أو إيماناً كاملاً؛ لأن المؤمن بالغيب يظهر أثر ذلك على جوارحه، وعلى أعماله، فالإيمان عند أهل السنة والجماعة: ظاهر وباطن، قول وعمل، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ وحسبنا في ذلك أن نعلم كيف آمن الصحابة الكرام بكل ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجنة أو النار، فظهر أثر ذلك -كما تعلمون- في حياتهم رضوان الله تعالى عليهم كاليقين، فإنها أثر من آثار الإيمان كما قال علي رضي الله تعالى عنه: [[رأيت الجنة والنار قيل: كيف؟ قال: رأيتهما بعيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال الله تبارك وتعالى عنه: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]]] فرؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للجنة والنار التي كانت ليلة الإسراء، والتي كانت في مرات أخرى، حتى لما مثلت له الجنة والنار في الحائط وقال: {ما رأيت مثل اليوم في الخير والشر} وأخبرهم بما رأى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    ومرات كثيرة يرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً من ذلك أو يمثله الله له في اليقظة، والناس لا يرون؛ فيخبر أصحابه بذلك، فينتقل هذا الإيمان مباشرة في قلوب الصحابة الكرام إلى خوف من الله وخشيته، وإلى تقوى وجهاد وإيثار للآخرة، ورغبة فيها، وعزوف عن الدنيا وشهواتها، وعن مطامعها المحرمة، إلى الاستقامة على دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الذي يقتضيه الإيمان الحقيقي للغيب.

    ضعف اليقين من أسباب انحطاط المسلمين

    السؤال: هل إيمان المسلمين بالغيب نظرياً وعدم تطبيقه عملياً يعتبر من أسباب تخلفهم وانحطاطهم عن خيريتهم التي ميزهم الله بها؟

    الجواب: نعم، فما دام أن الإيمان بالغيب: هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر؛ فبلا شك أن ضعف إيمان المسلمين بذلك هو السبب الأساسي في الانحطاط، والتأخر الذي حصل للمسلمين، وكذلك هو سبب في ضعفهم وتسلط الأعداء عليهم، وتفرق كلمتهم، وهوان أمرهم على الناس، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

    إنكار الغيب بين الوسوسة ورد الأحاديث

    السؤال: الإنسان المسلم بطبيعته يؤمن بالغيب، ولكنه أحياناً يطرأ عليه إنكار باطني لبعض الغيب فما هو الحل؟

    الجواب: إن كان المقصود بالسؤال هو الشك الذي يلقيه الشيطان أو الوسوسة، فلا تبالي بها يا أخي؛ لأن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم وهم أكثر الناس إيماناً من هذه الأمة، قد شكوا ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: { يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أو قد وجدتموه، قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان}وفي حديث آخر: {الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} أي رد كيد الشيطان، فلم يجعلنا مشركين نشرك بالله ونكفر برسله؛ وإنما رد كيده للوسوسة، وتكون هذه الوسوسة عندما يغفل المؤمن عن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فإذا غفل؛ ضعف الإيمان في القلب، فيجد الشيطان الفرصة، فيدخل ويلقي شيئاً من الوسوسة؛ فإذا أفاق المؤمن أفاق الإيمان، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].

    فإذا قال المؤمن: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كيف جاءني الشيطان، وشككني في إيماني؟! تركه الشيطان وألقاه، فاستمر المؤمن في طاعة ربه وفي الإيمان به؛ وهذا من أنواع الجهاد، وهذا الإيمان يعطيه -بإذن الله- مناعة، فيأتيه الشيطان مرة ثانية وثالثة فلا يقدر عليه، وذلك مثل إنسان تطرده ثلاث مرات فإذا جاءك مرة رابعة تكون أقوى منه، وكذلك لو أنك غلبت إنساناً ثلاث مرات ثم أتاك مرة أخرى، فإنك لا تبالي به؛ لأنك قد غلبته عدة مرات، وهذا من فضل الله علينا.

    فالإيمان يزيد وينقص، ونحن إذا جاهدنا الشيطان، ورددنا هذه الوسوسة بالإيمان الصادق؛ فإنها تصبح لا شيء، ولهذا اجتهد الشيطان في أن يرد الصحابة الكرام إلى الشرك فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً؛ لما رسخ الإيمان في قلوبهم، وهذا ما يجب أن يكون عليه جميع المؤمنين، فإنما يحاول الشيطان الدخول في القلوب المؤمنة؛ ولهذا لما قيل لبعض السلف لماذا يوسوس المسلمون ولا يوسوس اليهود والنصارى في صلاتهم فقال: ''وما يفعل الشيطان في البيت الخرب'' فـاليهود والنصارى لا يوسوس الشيطان في صلاتهم سواء صلوا أم لم يصلوا لأنه لا صلاة لهم، ولا إيمان لهم، ولا عمل لهم، فماذا يعمل الشيطان بهم؟!

    ولذلك فإنه يدعهم.

    وأما المسلم المؤمن فقد ترفعه هذه الصلاة درجات عالية عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد لا يكتب له منها إلا العشر، وقد لا يكتب له منها شيء.

    إذاً: ها هنا الامتحان، وها هنا عمل الشيطان، فهو عند هذا الذي يرتقي به الإيمان إلى درجة عليا يوسوس له حتى يُضعف ذلك الإيمان، أو يذهبه.

    وأما إذا كان المقصود من السؤال: أن هناك من ينكر بعض أمور الغيب، فنعم. وهذا موجود، فمن الناس من ينكر السحر، أو ينكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذات قد سحر، فيقول: أنا لا أصدق، وعقلي لا يحتمل أن الإنسان يقدر على السحر، أو عقلي لا يصدق أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سحر، وهذا كما يقوله الإباضية من الخوارج، وكما يقوله المعتزلة، يقولون: العقل لا يصدق أن للميزان كفتان توزن فيهما الأعمال، فهذا لا يمكن، كذلك الصراط قالوا عنه العقل لا يصدق أن الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف.

    سبحان الله! لو أن الله تعالى وكل الأمر إلى مثل هذه العقول، فجئت أنا وقلت: عقلي لا يقول بهذا، وجاء الآخر وقال: عقلي لا يقول بهذا، وكل واحد يرد ما يشاء؛ فإنه سيضيع الشرع، ألا ترون لماذا يتجادل الناس ويختصمون؟!

    فسبب ذلك هو تفاوت العقول، فمثلاً: أنا آتي بقضية فأقول: هذا ليس معقولاً أبداً؛ فيأتي أحدهم فيقول: بل هذا هو المعقول تماماً، اختلفنا هذا الاختلاف، فمن الذي يحكم في الموضوع؟

    وكذلك لو أن الله تعالى وكل الإيمان بالغيب إلى العقول ما آمن أحد منَّا بشيء، أو آمن بعضنا بشيءٍ ولم يؤمن البعض الآخر به تماماً، فكيف يحاسبنا الله عز وجل؟

    من المتقون منا إذاً، ومن الفجار؟!

    ولو أننا سلمنا لهولاء الناس أن إنساناً يقول: عذاب القبر لا أستطيع أن أصدقه، وآخر يقول: أنا لا أصدق السحر، وآخر يقول: أنا أنكر الصراط، وآخر: أنا أنكر الميزان، فما الذي يبقى بعد ذلك في ديننا؟!

    ما هو شان المؤمنين مع ربهم ومع رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

    كيف أخبر الله عز وجل عنهم؟

    قال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].

    فلا بد أن المسلم يسلم بكل ما يحكم به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبكل ما يحكم به الله، الحكم القدري، والحكم الشرعي، الأخبار والأوامر والنواهي كلها؛ فيجب أن نؤمن بأحكام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي أنزلها في كتابه، أو ما جاء عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلا: فلا إيمان إذاً.

    فكثير من الناس يثيرون بين الحين والحين قضايا من هذا الشأن، وعلى سبيل المثال البسيط: القضية التي تتردد هذه الأيام، وهي ليست بذات الأهمية لكن التنبيه عليها ضروري، فمثلاً: من الناس من ينكر أن الجني يتلبس في الإنسي، ويدخل فيه، وقد كتب في ذلك سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله ونفعنا بعلمه، وأتى بالأدلة والبراهين من ظواهر الآيات، ومن السنة، ومن فعل السلف، ومن الواقع المشاهد -أيضاً- ومع ذلك يقول البعض: إن عقلي لايصدق وأنا لا أتصور ذلك، فسبحان الله!

    إذاً: أنت بهذا الكلام تفتح المجال لكل من يدعي العقل، وإلا فلا عقل لمن خالف الحق وخالف الوحي، فكل من لديه مسكة من عقل، أو يدعي أنه عاقل -ينكر مايشاء وكما يشاء- يقول: أنت تنكر السحر، إذاً: إذا كُنْتُ أنا أنكر الشيطان بالكلية، أو أنت تنكر دخول الجني بالإنسي، وآخر أنكر الوسوسة والشيطان بالكلية، فإن هذا الإنسان قد يقع في حيرة؛ فإن قال لك أحدهم: يجب عليك أن تؤمن بهذا؛ لأن الله أخبر به في القرآن، ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر به في الأحاديث، فقل له: وأنت -أيها الآخر- لماذا ترد ما جاء في القرآن وماجاء في الحديث؟ قد يقول لك: لا، فالعقل يدل على وجود الشيطان. فإن مثل هذا إن لم يغلبه الملحد؛ فإنه سيحيره.

    ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ عن أهل الكلام: ''لا للفلاسفة كسروا، ولا للإسلام نصروا'' فلم ينفعوا لا هنا ولا هناك؛ لأنهم استسلموا للمقدمات العقلية التي يحتج بها أولئك الملاحدة، وبدءوا يصدقونهم فضاعوا.

    ولكن عندما يكون المعيار هو النص، فنقول له: لماذا تنكر الشيطان وقد جاء ذكره في القرآن؟

    فإنه يسكت إن كان مؤمناً، وإما إن كان كافراً فهذا فيه كلام آخر، إذاً: فكل ما جاء به الخبر، أو صح به الحديث؛ فإننا نؤمن به، وإن قل وإن دق، لا نرده؛ لأن رد الأمر الواحد ينبني عليه رد الشيء كله.

    أضرب لكم -أيضاً- مثلاً آخر: هناك من ينكر حديث الذباب، فيقولون: كيف نصدق بأن الذباب إذا وقع في الشراب، فإننا نغمسه، ثم نلقي به، ثم نشربه، هذا لا يمكن، فيقال لهم: إن الحديث في صحيح البخاري. يقولون: وإن صح فإننا ننكره، فسبحان الله!! وكذلك إذا جاءت أحاديث في عذاب القبر، قالوا: نحن ننكرها ونردها وإن صحت، كيف تلزمهم بالإيمان بعذاب القبر؟

    وكيف تلزمهم بالإيمان بالحوض وغيره من الأدلة، وكذلك أيضاً، إذا نحن رددنا حديثاً، أو إذا أنكرنا الغيب في قضية واحدة فقط؛ فمعنى ذلك أننا فتحنا الباب لإنكار الغيب كله، وهذا هو سر عظم المسألة ومكمن الخطورة فيها.

    المحتضر من أهل عالم الشهادة

    السؤال: قلت في حديثك أنه لا تقبل توبة المحتضر؛ لأنه أصبح في حياة الشهادة، فهل تتفضل بشرح هذه العبارة؟

    الجواب: المحتضر: هو الذي رأى الملائكة، أو الذي عاينهم قال تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان:22]، فالإنسان إذا رأى الملائكة، لم يعد مؤمناً؛ لأن المؤمن هو الذي يؤمن بالغيب؛ فإذا رآه عياناً بالعين لم يعد مؤمناً به، فإذا انتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فهو مؤمن بشيء محسوس.

    فمثل هذا كمثل الذين يقفون على النار أو يقفون بين يدي ربهم يوم القيامة فيقولون: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27] إذاً: ففي هذا الحال لا ينفع الرجوع، ولا ينفع التمني؛ لأنهم رأوا النار، ورأوا الجنة، ورأوا ما كان في عالم الغيب.

    المدرسة العقلانية

    السؤال: ما موقف العقلانين من الإيمان بالغيب؟

    وكيف يُرد على من أنكر بعض المغيبات بحجة أن العقل ينكرها؟

    الجواب: العقلانيون مدرسة -في الأصل- ظهرت بتأثير الفلسفة اليونانية، وقد تبناها المعتزلة، والخوارج، والرافضة وكل المتكلمين؛ ثم ظهرت بشكل حديث في فكر الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومن تتلمذ عليهما؛ وماتزال إلى اليوم متمثله في المدرسة المسماة (المدرسة العصرية) أي التي تفسر الإسلام تفسيراً عصرياً يتناسب مع العلم ومع العصر الحديث بزعمهم.

    وأما موقفهم من عالم الغيب فإنه متناقض، فكل واحد منهم يثبت مالا يثبته الآخر، أو ينفي ما لا ينفيه الآخر وهكذا؛ لأنهم لا يرجعون إلى معيار ثابت سديد، فحسب الإنسان أن يخرج عن الطريق المستقيم، وعن الجادة؛ لأنه بعد ذلك ستتشعب به الطرق، ويذهب كل مذهب، فهؤلاء -مثلاً- ينكرون بعض الأشياء بحجة أن العقل أو أن العلم ينكرها، ويكفي هؤلاء أن يعلموا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45]، فالوحي من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يأت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من عنده قط.

    ولو أن العقول وحدها تكفي؛ فلماذا بعث الله تبارك وتعالى الرسل؟

    ألم تكن فلسفة أرسطو وأفلاطون وسقراط وأمثالهم موجودة ومترجمة! فما الحال إذا لم يبعث الله تبارك وتعالى الرسل! وأصبح الناس يستغنون بهذه الفلسفات؟

    فلسفات وثنية ضالة حائرة، ولذلك يأتي فيلسوف فيهدم ما قاله الأول، وكما قال أحد السلف الصالح: ''من جعل دينه عرضة للخصومات؛ أكثر التنقل'' وقال الإمام مالك رحمه الله: ''لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله؛ خيرٌ من أن يبتلى بعلم الكلام'' فهذه العلوم هي التي صرفت الناس عن الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتسليم بخبره إلى القضايا العقلية والذهنية المجردة.

    والحقيقة أن العقلانيين المعاصرين ما هم إلا امتداد للمذهب الذي ظهر في أوروبا وأشرنا إليه، فالشيخ محمد عبده -وهو رأس هذه المدرسة- يعتبر تلميذ الفلسفة الوضعية، الذي وضعها الفيلسوف الفرنسي المعروف أوجست كولد والذي يقرر فيها أن العالم الإنساني تطور إلى ثلاث مراحل: مرحلة السحر، ثم مرحلة الدين، ثم مرحلة العلم، فجاء الشيخ ليوفق بين هذا الكلام، وبين ما يعتقده من دينه. فقال: إنه الآن وفي هذه المرحلة الجديدة يجب أن نحدث في الإسلام إصلاحاً، ونجرده من كل ما يتنافى مع هذه المرحلة ويقصد بها: مرحلة العلم، ومن هنا أنكر الطير الأبابيل، وأنكر الشياطين أو الجن وغيرها، وقد أفضى إلى ربه وقدم عليه.

    معرفة الطب لنوع الجنين

    السؤال: يدعي الطب في الغرب معرفة الجنين في بطن أمه هل هذا صحيح؟

    الجواب: الأمر الأول: أن الله تبارك وتعالى قال: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34] ولم يقل: يعلم الجنين ذكراً أو أنثى؛ فمعرفة كون الجنين ذكراً أو أنثى جزء من معرفة ما في الأرحام، وما في الأرحام شيء عجيب جداً! فإلى الآن حار العلماء فيه في الظلمات الثلاث، وفي عملية التحول من مرحلة إلى مرحلة، في أمور كثيرة ماتزال مدار الجدل والبحث في العالم الغربي، حول عالم الطب، إلى الآن، فالمسألة أعم من ذلك.

    الأمر الثاني: كل ما في العالم من غير المدركات العقلية، وكل ما أدرك بالحس؛ فإنه لم يعد من عالم الغيب، فلو أن رجلاً قال: أنا أعلم ما في بطن هذه البقرة الحاملة، أو يقول: أنا ولي، وأنا تأتيني كرامات، فهذا كاهن عراف كاذب، من صدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد.

    لكن لو أن طبيباً قال: أنا أعرف ذلك؛ لأني أعمل أشعة وأعرف ذلك، نقول: هذا ليس فيه شيء؛ لأنه لم يدعِ علم الغيب؛ وإنما استطلع شيئاً ما بشيء محسوس؛ فهذا خرج من عالم الغيب ولم يعد منه، وليس له وسيلة غيبية كما يدعي ذلك الآخر، وأيضاً لو أن إنساناً شق بطن هذه البقرة الحامل وأخرج ما في بطنها وعرف ما فيها، فهل نقول هذا عالم الغيب؟

    لا؛ بل قد رآه، فليس المقصود بعلم الغيب كل ما غاب أو خفي عن الإنسان.

    فإذاً: عرفوا أم لم يعرفوا فليس فيه تأثير أبداً لأن هذا من الخمس الأمور التي اختص الله تبارك وتعالى بعلمها.

    الكتب التي تحدثت عن مسائل الغيب

    السؤال: ما هي الكتب التي تتكلم عن الإيمان بالغيب، والبعث والنشور والصراط، وغيرها من أمور الغيب قديماً وحديثاً؟

    الجواب: من هذه الكتب: كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولاً، وكذلك فإن في صحيح البخاري، وصحيح مسلم أبواباً في الإيمان والتوحيد، وكذلك معارج القبول للشيخ: حافظ الحكمي رحمه الله فقد جمع في ذلك أحاديث، وأدلة عقلية ونقلية؛ فجزاه الله خيراً وأثابه، والمؤلفات في ذلك كثيرة.

    نزول عيسى وانقطاع التوبة

    السؤال: نزول عيسى من العلامات الكبرى. فهل لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، مع العلم أنه يكسر الصليب، ويضع الجزية، ويدعو إلى الإسلام هذا على ما بلغنا من علم؟

    الجواب: نعم فما بلغك هو الصحيح، ولكن! أولاً: جاء في تفسير الآية (بأنها الشمس عندما تطلع من مغربها) يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:158].

    أي إذا طلعت الشمس من مغربها، وقد جاء هذا نصاً في نص الحديث الصحيح.

    الأمر الآخر: أن ذلك يكون بعد نزول عيسى، وبعد أن يؤمن به من يؤمن، ويكفر به من يكفر؛ ولهذا قال من قال من السلف: إن طلوع الشمس من مغربها: هي أول الآيات الكبرى (أي أول الآيات غير المألوفة) فنزول عيسى -عليه السلام- مألوف؛ وإنما يكون طلوع الشمس من مغربها بعد نزوله عليه السلام.

    إسلام من لم يتلفظ بالشهادة

    السؤال: ما حكم من أدى بعض الأعمال الإسلامية وهو لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بلسانه؟

    وهل يعتبر مسلماً؟

    الجواب: هذا الذي لم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله -بلسانه- لا يعد مسلماً بإجماع أهل السنة والجماعة والسلف الصالح؛ لا يكون مسلماً لا ظاهراً ولا باطناً؛ ولا يجرى عليه حكم من أحكام الإسلام إلا بإعلانها، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) فما دامو لم يفعلوا ذلك أي: الشهادتين والصلاة والزكاة؛ فإنهم يقاتلون قتال ردة.

    القدر وتعدد الأسباب

    السؤال: يقول الشاعر: (تعددت الأسباب والموت واحد) هذا شطر من بيت شعري فهل يكون سبباً من هذه الأسباب معارضاً للقدر، أم أنه موافق له؟

    وهل هذا السبب مكتوب في اللوح المحفوظ؟

    الجواب: نعم، فكل ما يقع إنما يكون وفقاً لما كتب الله تبارك وتعالى، فكل مصيبة كما يقول تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].

    فكل شيء قد كتبه الله علينا قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ ولا يقع إلا ما كتبه الله؛ فهو من القدر، ولا يكون مخالفاً للقدر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718653

    عدد مرات الحفظ

    754293754