إسلام ويب

البدعة - معالم في الاجتهاد والتمذهبللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قيض الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة أناساً يحفظون عليها دينها ومنهم الفقهاء، وعلى الأمة أن تلتزم بفهم علمائها السابقين؛ فهم أعلم بمراد الله أكثر ممن بعدهم، ولا يتابع إمام على خطئه، بل يبين مع التزام الأدب في ذلك، وقد ظهرت في هذه الأيام فرقتان تتنكر للأئمة، إحداهما تتستر بدعوى العودة إلى الكتاب والسنة، والأخرى بدعوى التجديد، وكل منهما مبطلة في دعواها، متنكبة طريق هداها.

    1.   

    الفقهاء أطباء الأمة

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً، وهو اللطيف الخبير.

    اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] .

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزا به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد: معشر الإخوة الكرام! تقدم معنا أن البدعة من أسباب سوء خاتمة الإنسان، وكنا نتدارس تعريف البدعة، وتقدم معنا أن البدعة هي: الحدث في الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، وذلك الحدث لا تشهد له نصوص الشرع الحسان.

    وتقدم معنا عند هذا المبحث أن هذا الأمر ضل فيه فريقان من الأنام، ففريق وسع مفهوم البدعة وأفرط في ذلك، فأدخل فيها ما ليس منها، وحكم بالبدعة والتضليل على ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل، وفريق آخر قصر وفرط في البدعة، فألغاها كلها أو بعض صورها، والفريقان على ضلال، ودين الله بين الغالي والجافي.

    إخوتي الكرام! ينبغي أن نتدارس ثلاثة معالم تنفعنا في هذا المبحث، وهذه المعالم الثلاثة شرعت في مدارستها في المواعظ الماضية وهي:

    أولها: تشريع الأحكام من خصائص ذي الجلال والإكرام.

    ثانيها: لهداية الإنسان ركنان ركينان: شرع قويم، وعقل سليم، ولن يتعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح.

    والمعلم الثالث: منزلة الاجتهاد في الإسلام.

    وتقدم معنا أن فقهاء هذه الأمة المباركة هم بحق وصدق ورثة نبينا عليه الصلاة والسلام، وبينت منزلة الفقهاء في الإسلام، ثم تكلمت في الموعظة الماضية على أمرين اثنين ينبغي أن نعيهما نحو فقه أئمتنا:

    أولهما: إن أقوال الفقهاء تشريع، ومع ذلك ليسوا بمشرعين، فالتشريع من خصائص رب العالمين، وجمعت بين هذين الأمرين، فهم يظهرون الأحكام التي دلت عليها نصوص الشرع الحسان، ولا يمكن لهم ولا لغيرهم أن يقولوا في دين الله برأيهم.

    والأمر الثاني الذي تقدمت معنا مدارسته في آخر الموعظة الماضية، قلت: إن الثروة الفقهية هي من أعظم معجزات نبينا خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، فأئمتنا الفقهاء رضوان الله عليهم أجمعين كشفوا عن صلاحية هذا الشرع لكل زمان ومكان، وذلك عن طريق ما استنبطوه من أحكام من آيات القرآن وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام.

    وسأكمل هذا الموضوع في هذه الموعظة بإذن ربنا الرحمن لأنتقل في الموعظة الثانية إلى بيان ضلال الفرقة الثانية التي ألغت البدعة من الإسلام.

    فأقول: الفقهاء بمنزلة الأطباء، وحاجة الأمة إليهم كاحتياج السمك إلى الماء، كما أن المحدثين بمنزلة الصيادلة المؤتمنين، ولذلك كانت في العصور الأولى نسبة من يعنى بالحديث ويشتغل به تزيد على من يعنى بالفقه ويمهر فيه، كما يروي هذا الإمام الرامهرمزي في كتابه المحدث الفاصل بين الراوي والواعظ في صفحة ستين وخمسمائة، عن أنس بن سيرين الذي توفي سنة عشرين ومائة للهجرة وقيل: ثمان عشرة ومائة للهجرة، وهو من شيوخ الإسلام، وحديثه مخرج في الكتب الستة، يقول هذا العبد الصالح: قدمت الكوفة -وكان قدومه في السنة التي ولد فيها فقيه الملة وإمام الفقهاء الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه وعن أئمة الإسلام، وذلك سنة ثمانين للهجرة- يقول: فوجدت فيها أربعة آلاف طالب يطلبون الحديث، ووجدت فيها أربعمائة فقهوا.

    فالفقهاء لعلو منزلتهم ولصعوبة عملهم عددهم قليل في كل وقت، ففي العصور المتقدمة في بلدة الكوفة أربعمائة يعنون بالفقه ويشتغلون فيه، وأربعة آلاف يدرسون الحديث ويتخصصون فيه، وهذا كان في عصور النور، في القرن الأول من هجرة نبينا المبرور عليه صلوات الله وسلامه سنة ثمانين، وأما في زماننا فالمشتكى إلى ربنا، تقاصرت الهمم وضعفت نحو الأمرين، فبضاعة من يقال عنهم: إنهم محدثون في هذه الأيام بضاعة قليلة قليلة، وأكثر من يدعي التحديث في هذه الأيام قد اشتغل بلهو الحديث، وأما فقهاء هذا الزمان فأكثر اجتهاداتهم ما أنزل الله بها من سلطان.

    ومع هذه الحالة المزرية التي تعيشها هذه الأمة المباركة في هذه الأيام، نشهد حملات منكرة ماكرة نحو فقه أئمتنا البررة، ففريق يطالب بنبذ المذاهب ويدعي أنه يريد أن يعيد الأمة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكأن الأمة فيما يزيد على عشرة قرون كانت على ضلال وليست على كتاب الله ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء لا يريدون للأمة إلا ضياعاً مع ضياعهم، وفريق آخر يدعي الصلاح والرشاد والاجتهاد، ويريد أشنع وأخبث أنواع الفساد، يريد أن يلغي مذاهب أئمتنا الكرام من أجل أن يتصرف في دين الرحمن كما يريد، فيوفق ويطوع الإسلام لمفاهيم الحياة الغربية في هذه الأيام، فأناس يدعون العودة إلى الكتاب والسنة، وأناس يدعون الاجتهاد وأنهم زادوا رتبةً على أئمتنا الكرام المتقدمين، ثم آل اجتهادهم إلى التوفيق والترقيع بين دين الله وبين قوانين الشياطين.

    وسأذكر نموذجاً لهؤلاء وهؤلاء بعد المعالم التي كنت وعدت بذكرها وبيانها في آخر الموعظة الماضية.

    1.   

    معالم في الاجتهاد والتمذهب تهم المسلم

    إخوتي الكرام! وهنا أذكر معالم عشرة ينبغي أن يعيها أهل الإسلام في هذه الأيام، وأن يحفظها الصغار، ويعتني بها الكبار، وأن يحذروا التضليل الذي ينتشر هنا وهناك.

    الدين قائم على الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة

    أول هذه المعالم: إن ديننا يقوم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حسبما فهم سلفنا وأئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين، فكل من دعا إلى الالتزام بالكتاب دون السنة فهو ظالم، وكل من دعا إلى الالتزام بالكتاب والسنة دون فهم سلف الأمة فهو ظالم، وهذا الكلام كنت ذكرته سابقاً، فعلق عليه بعض شياطين الإنس، فقال: إننا نزعم أن كتاب الله لا خير فيه، وأن سنة النبي عليه الصلاة والسلام لا خير فيها، ولا يستبعد هذا ممن حرفوا دين الله أن يتلاعبوا بعد ذلك بكلام عباد الله، هذه المقولة لا بد من وعيها على هذه الشاكلة: كتاب الله توضحه سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام حسبما فهم سلفنا وأئمتنا من صحابة وتابعين.

    اجتهادات الأئمة وضوابط التمذهب

    المعلم الثاني الذي ينبغي أن نعيه تمام الوعي: إن اجتهاد أئمتنا، وإن فقه أئمتنا تشريع معتبر؛ لأنه أخذ كما تقدم معنا من أدلة شرعيه ثابتة محكمة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    نعم، ليس للفقهاء ولا لغيرهم صفة التشريع، فهذا من صفة الله وحده لا شريك له سبحانه وتعالى.

    المعلم الثالث: إن التزام منهج من هذه المذاهب هدى وفضيلة، والذي يخالف هذا على ضلال وصاحب رذيلة، كيف لا واجتهاد أئمتنا شريعة معتبرة، ونصوص الكتاب والسنة وما يستنبط منهما من أحكام موجودة في فقه أئمتنا الكرام، فالذي يلتزم بذلك يلتزم بالهدى، يلتزم بالحق، يلتزم بالفضيلة، وعليه فمن قال: إنه على مذهب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد وقال: أنا ملتزم بهذا فهو على هدى، ولا يضلله إلا من كان ضالاً.

    والمعلم الرابع من المعالم: لا يتحتم على مسلم أن يلتزم بمذهب من هذه المذاهب دون غيره، فالأمر بالخيار، وكما قلت: كلهم على هدى، وكلهم على حق، وتقدم معنا في بيان اجتهادات أئمة الإسلام أنهم على صواب في جميع أحوالهم، ولا يحكم على قول الواحد بالخطأ إلا إذا اجتهد فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد مما ورد فيه نص ولم يبلغه، وما عدا هذا فيما يستنبطه من النصوص الثابتة هو وغيره كلهم على هدى إذا وجدت فيهم عدة الاجتهاد وآلته، وعليه لا يتعين على أحد أن يلتزم بمذهب من هذه المذاهب، فإذا أراد أن ينتقل من مذهب إلى مذهب فهو على هدى، وهو على استقامة، وهو على فضيلة، وهذه المذاهب حققت وهذبت ونقحت من قبل أتباعها كما سيأتينا، فما يوجد من زلل أحياناً يخالف الدليل حذر منه ونبه عليه واستبعد من هذا المذهب الجليل.

    التحذير من التعصب للمذاهب

    المعلم الخامس من هذه المعالم: إن التعصب المذموم ينبغي أن نعي صورته؛ لأنه حقيقةً كثر اللغط حوله، والتعصب المذموم هو أن يقول الإنسان: -مثلاً-: أنا على مذهب أبي حنيفة وبقية المذاهب ضلال ورداء، إي والله إن هذا تعصب مذموم، وقائل هذا ضال مخرف في دين الحي القيوم، أما لو قال: أنا ألتزم بهذا المذهب ولا أخرج عنه، وهذا المذهب كل ما فيه أجمعت الأمة على أنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت الاجتهادات تتفاوت فإذاً هذا معتبر وذاك معتبر كما أجمعنا على هذه القضية، فأنا لا أخرج عن مذهب الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، فهذا تعصب محمود.

    والتعصب المذموم أن يقول: مذهبي هو الحق، وما سواه من المذاهب باطل، وما قال هذا أحد من أئمتنا الأربعة ولا من أتباعهم رضوان الله عليهم أجمعين، وما يردده السفهاء في هذه الأيام من أن اتباع إمام من أئمة الإسلام تعصب مقيت، مقتهم الله على هذا القول المقيت الذي يقولونه، إذا اتبع إنسان إماماً من أئمة الهدى والتزم بأقواله صار متعصباً تعصباً مقيتاً، إي والله وقع هؤلاء السفهاء الذين يريدون ضياع الأمة باسم السنة في الفخ الذي نصب لهذه الأمة من قبل أعدائها، إن غاية ما يتهم به ديننا في هذه الأيام أنه دين الجمود وعدم التطور وعدم المرونة والليونة، هذه الدعوى التي بثها الغربيون في صفوف المسلمين يريدون منها أن نتزحزح عن دين رب العالمين، فجاء هؤلاء وصاغوا هذه الدعوى بصيغة أخرى وقالوا: إن الالتزام بمذهب من المذاهب جمود وتعصب مقيت، مقتهم الله على هذا القول المقيت الذي فرقوا به أمة نبينا عليه الصلاة والسلام.

    إخوتي الكرام! إن الجمود في أحكام شريعتنا من أعظم الخصائص في القوانين لو كان العباد يعون، أي أنه إذا لم يكن جمود في التشريع، ولم يكن ثبات واستقرار لصار التشريع عرضةً لأهواء البشر كما ستسمعون فيمن نبذوا الجمود كيف يتلاعبون بالشريعة باسم الإصلاح والدعوة.

    إن الجمود كما قلت: من خصائص هذه الشريعة المطهرة، فهي نصوص ثابتة لا يجوز أن تخرج عنها، وأحكام قررت واستنبطت من شريعة الله المطهرة، ماذا تريدون منها؟! نطورها؟ نلغيها؟ ومن أخذ بها يوصف بأنه متعصب، بأنه متحجر، بأنه جامد، كما يوصف المسلم أمام أعداء الإسلام بأنه متعصب جامد أيضاً، فالدعوة واحدة، لكن من يدعون إليها يختلفون في المسلك.

    تقيد أئمة المذاهب بالأدلة الشرعية في المسائل

    المعلم السادس الذي ينبغي أن نعيه: إننا عندما نلتزم بمذاهب أئمتنا يجب علينا وجوباً أن نتعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن نتعلم الدليل الشرعي لا للبركة كما يتهمنا من يتهمنا، نعم إننا نتعلم تلك الأدلة لنتبرك بها؛ بتلاوتها، وقراءتها، وفهمها، والعمل بها، وكذلك نتعلم أدلة الشرع المطهر من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذل ما في وسعنا للوصول إلى مراد ربنا منا، وبهذا نعرف مكانة أئمتنا، ونعرف أنه لا يوجد جزئية في فقه أئمتنا إلا واستندت إلى نص شرعي.

    لا يتابع أحد على خطئه مهما كانت منزلته

    المعلم السابع: الخطأ يُردُّ على قائله أياً كان، وليس عندنا أحد في هذه الأمة معصوماً إلا المصطفى عليه الصلاة والسلام، وعندنا شريعة بعد ذلك يحاكم إليها الصغير والكبير، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا عليه صلوات الله وسلامه، فنرد الخطأ على من صدر منه أياً كان، لكن عند هذا المعلم السابع على رسلك ورفقاً بنفسك، واعرف قدرك، وقف عند حدك.

    إن الخطأ الذي جرى من أئمتنا لعدم وقوفهم على الدليل أحياناً نبه عليه من هو خير مني ومنك، فلا تتطاول على السلف، وقف عند قدرك.

    نعم، نبه أئمتنا على هذا، وكما قلت: شريعة محكمة تتابع عليها أمة النبي عليه الصلاة والسلام، تتابعت عليها عشرة قرون، أما وجد في هذه الأمة طائفة ظاهرة على الحق يبينون أقوالاً ضعيفةً وترخصات شاذة؟ بلى.. وجد من نبه عليه من تقدمنا من أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين، ولا أعني بهذا المعلم السابع أن كل واحد منا إذا قرأ مسألةً ما اطمأنت نفسه إليها أن يقبلها جلس متكئاً على أريكته يقهقه ويقول: أخطأ الشافعي، وما فهم المسألة الإمام أحمد، ومن هذا الكلام المنكر، نعم.. الخطأ يُرد؛ لكن أئمتنا قد بينوا هنا الخطأ، وحذروا من سقطات وزلات وهفوات يقع فيها البشر على حسب ضعفهم البشري، فهذا الذي حذرنا منه ونبهنا عليه قد بين من قبل من تتابع على هذه المذاهب، وكفى الله المؤمنين القتال.

    يقول العبد الصالح سليمان التيمي الذي توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة للهجرة، وحديثه في الكتب الستة، سليمان بن طرخان أبو المعتمر، من أئمة الهدى والخير والرشاد، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وصلى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة رضي الله عنه وأرضاه، يقول هذا العبد الصالح: من تتبع زلل العلماء ضل، ومن أخذ برخصة كل عالم اجتمع فيه الشر كله. وهذا الكلام ينقله عنه شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وينقله عنه الإمام أبو نعيم في ترجمته في الحلية، وينقله الإمام الذهبي في السير وفي تذكرة الحفاظ، وينقله الإمام الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم نقل الإمام الخلال بعد هذا الأثر أثرين عن عالمين صالحين أولهما: معمر بن راشد نزيل اليمن، أبو عروة الذي توفي سنة أربع وخمسين ومائة للهجرة، إمام ثقة عدل رضا، حديثه أيضاً في الكتب الستة، يقول أيضاً: من تبع زلل العلماء اجتمع فيه الشر كله.

    ونقل هذا أيضاً عن شيخ الإسلام إبراهيم بن أدهم، وهو من العلماء الصالحين الربانيين، توفي سنة اثنتين وستين ومائة للهجرة، وحديثه في الأدب المفرد للإمام البخاري وفي سنن الترمذي، ونص كلامه: من حمل شاذ العلم حمل شراً كثيراً، ولذلك يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في الجزء الأول من إغاثة اللهفان في التحذير من مصائد الشيطان صفحة ثلاثين ومائتين: من تبع زلل العلماء تزندق أو كاد.

    عدم التسرع في تخطئة الأئمة

    المعلم الثامن: إذا كنا نرد الخطأ كما قلت، فينبغي أن نتروى وأن نتأدب مع أئمتنا، وأن لا نتسرع في تخطئة من سبقنا، ولو قدر أنه بلغنا نص بخلاف ما عليه أئمتنا فينبغي أن نتوقف ونبحث، ولعله قد يأتينا الموت ولا نصرح بخطأ أئمتنا فهذا خير لنا، عبد الله! قف عند حدك ولا تتسرع بتخطئة الأئمة، ولقد سمعت بعض الشاذين في هذا العصر، سمعت له أشرطةً متتابعةً يقول مع تقريره لهذا في كتب كثيرة: الذهب المحلق حرام لبسه على النساء، لا يجوز للمرأة أن تلبس الخاتم، ولا القلادة، ولا القرط، ولا الأسورة، ولا ولا.. هذا حرام، وإذا لبست هذا فهي في النار.

    وأباح للمرأة استعمال الأزرار من الذهب، وكذا المشط من الذهب، يكرر هذا بلا ملل وهو صاحب كلام وجدل، ويقول: من قال بهذا من الأئمة الأربعة؟ لا أحد، حتى نبه من قبل أهل الخير والصلاح والفضيلة. فتروى في نفسك وأنت في هذه المسألة خالفت الإجماع؛ فالإمام البيهقي الذي توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة للهجرة حكى الإجماع على جواز لبس النساء حلي الذهب، وتبعه الإمام النووي الذي توفي سنة ست وسبعين وستمائة للهجرة، وتبعهما الإمام ابن حجر الذي توفي سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة للهجرة، أئمة ثلاثة -وغيرهم- يحكون إجماع المسلمين على جواز لبس النساء للذهب، فهل يجوز مخالفتهم الكتاب والسنة؟ سبحان الله! ثم عندما ينبه يقول لمن ينبهه: أنت جمهوري، أي: تسير مع الجمهور، وأنت تقلد المحدثين، ويتهكم بهذا وبذاك.

    ومن البلاء في هذه الأيام أننا على خطأ ثم نخطئ أئمة الإسلام، إن نساء المسلمين شرقاً وغرباً يلبسن الذهب المحلق، وهذا أمر ورثه الخلف عن السلف، وحله معلوم من دين الله بالضرورة، ثم يأتي بعد ذلك من يخالف، وليته رأي له يقوله ويلزم به أهله، إنما فتيا تليها فتيا تليها فتيا، كلام لا ينقطع، وكأنه عندما يريد أن يقرر تحريم الذهب على النساء كأنه يريد أن يخلص دين الله من الملحدين، كأنه ما بقي في هذه الأمة إلا الإعلان بأن الذهب محرم على نساء أهل الإسلام.

    إذاً: نعرف قدرنا، ونقف عند حدنا، نعم، من أخطأ يرد عليه خطؤه، لكن لا ينبغي لأمثالنا أن يصرح بتخطئة أئمتنا، تروى، وأرفق بنفسك، وقف عند حدك.

    التقيد في الفتيا في كل بلدة بالمذهب المنتشر فيها خصوصاً

    المعلم التاسع من هذه المعالم العشرة إخوتي الكرام: إن الفتيا ينبغي أن تكون على حسب المذاهب الأربعة، بل على حسب المذهب المنتشر بين المسلمين في أي مصر من أمصارهم، فإذا كنت طالب علم ورزقك الله ذكاءً وبصيرة وإنصافاً ومعرفةً، وقرأت مذهب الإمام الشافعي ورأيت فيما رأيت أن دليل الإمام مالك في هذه المسألة أقوى فخذ به، وهذا فريضة الله عليك، لكن إياك أن تنشر هذا بين الناس، فذاك المذهب كما قلنا: اتفقنا على صحته وعلى سلامته، وبلدة من أولها إلى آخرها يتعبدون الله بمذهب هذا الإمام الذي أجمعت الأمة على صواب ما فيه، فإذا رأيت خلاف ذلك فاعمل به ولا حرج ولا حضر عليك، لكن إياك إياك أن تخرج على هذه الأمة وتقول: المسألة هذه في مذهب الشافعي مرجوحة، وأنا رأيت أن مذهب الإمام مالك في هذه المسألة أرجح، فقف عند حدك؛ لأن الفتيا ينبغي أن تتقيد بما في المذاهب الأربعة، بل بما في أي مذهب مما انتشر في ذلك المكان، وهذا من أجل المحافظة على وحدة المسلمين، والقضاء على القيل والقال الذي ينتشر في هذا الزمان، وسأقرر هذا عما قريب بكلام أئمتنا وعلى رأسهم الإمام الذهبي عليه رحمة الله ورضوانه.

    عدم استحداث أقوال لم يقل بها أحد من الأئمة

    المعلم العاشر وهو آخر المعالم العشرة: إياك أن تقول قولاً لم تسبق إليه مهما كانت قوته عندك، قول ما قيل في هذه الأمة وما عرف فيها، فإياك أن تقول قولاً لم تسبق إليه كما كان أئمتنا يوصون بذلك وفي مقدمتهم الإمام المبجل أحمد بن حنبل رضوان الله عليهم أجمعين.

    إخوتي الكرام! وهنا أعرض عليكم فتويين أفتى بهما بعض الناس في هذه الأيام:

    الفتيا الأولى: بعض الدعاة في الدنمارك أفتى بطريقة الذبح التي تحصل هناك، ويكون عن طريق الطلقة المسترجعة، بحيث يؤتى بمسدس فيه حديدة طويلة، إذا أطلق تخرج هذه الحديدة بمقدار عشرة سنتي فتدخل في رأس البهيمة بحيث تلقى على الأرض، ثم بعد فترة يجهز عليها وتذبح، أو عن طريق الصعق الكهربائي في الدجاج من أجل أن تخدر بتيار مخفض ثم بعد ذلك تذبح، وهو أقر أن نسبة كبيرة من هذه الحيوانات تموت قبل أن تذكى تذكيةً شرعية، هذا الداعية أفتى بحل هذه الطرق التي يذبح بها هناك لكن قيد الفتيا بشهرين، فقال يباح لكم ذلك لمدة شهرين، إن التزمتم بذلك وغيرتم طريقة الذبح فأنا أفتي بأن الذبح الآن حلال ويصدر إلى بلاد المسلمين، وإلا فلا، فلما نوقش ونوظر من قبل الإخوة هناك، قال: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه وكما كره أن تؤتى معصيته، وهذه رخصة لمدة شهرين. من المرخص؟ أنت صرت مشرعاً؟ من الذي رخص لك بهذه الكيفية في الذبح؟ ومن الذي حددها بشهرين؟ إن هذه الطريقة إن كانت جائزة فهي جائزة جوازاً مطلقاً ولا تحدد بشهرين ولا بسنتين، وإذا كانت محرمة فهي محرمة وإن ذبحت ذبيحة واحدة بسببها، أما التحديد بشهرين فهذا من اختصاص الله الذي له التشريع الذي له الحكم والأمر سبحانه وتعالى، سبحان ربي العظيم! وما أشذ المجتهدين في هذا الحين!

    وضال آخر من بلاد الشام أيضاً ألف كتاباً سماه الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، وخلاصة كلام هذا الإنسان في هذا الكتاب الذي زاد عن ثمانمائة صفحة يقول: إنه في كتابه لن يأخذ بالفقه الموروث، وسيذكر شيئاً لا يوجد في كتب السلف والأئمة المتقدمين، ثم يقول للقارئ: لا تعجل علي بالحكم على حسب العاطفة؛ لأنني سأخرج عما هو موروث، إنما أنا سأقرأ القرآن قراءة معاصرة، وأستنبط منه الأحكام، جاء ليستنبط بعض الأحكام المتعلقة بحجاب النساء في سورة النور وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، فقال: الجيوب: جمع جيب، والجيب -يقول-: طبقتان بينهما خرق، وعليه يجب على المرأة أن تستر الطبقتين اللتين بينهما خرق، يقول: وهذا في الفرج، وفي الإليتين، وفي الدبر، وتحت الإبطين، وبين الثديين، هذا الذي يجب على المرأة أن تستره أمام الأجانب، ثم تقوم عارية بعد ذلك، كاشفة الأفخاذ، كاشفة الصدر، كاشفة الرأس، كاشفة الظهر، يقول: لا يوجد دليل يلزمها بالحجاب؛ لأن الله يقول: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، والجيوب: جمع جيب، طبقتان بينهما خرق، فأينما وجدت طبقتان بينهما خرق في جسم المرأة فإنها تستره وما عدا هذا تكشفه، قال: وهذا أمام الأجانب.

    وأما أمام المحارم من أب وابن يجوز للمرأة أن تظهر عاريةً كما ولدت، قال: ولا يجوز للأب أن يقول لها: إن هذا حرام، قال: وإذا ما اعتاد العرف هذا فليقل لها: إن هذا عيب؛ لأنه يفتري على الرحمن عندما يحرم هذا، فالله قد استثنى الزوجة والمحارم من هذا الأمر، ويجوز أن يطلعوا على الزينة الباطنة، وأما الأجانب فالمرأة تستر أمامهم الجيوب فقط.

    فإياك ثم إياك أن تقول شيئاً لم تسبق إليه، هذه المعالم العشرة إخوتي الكرام لا بد من وعيها:

    الأول: ديننا -كما قلت- يقوم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حسبما فهم سلف الأمة.

    الثاني: اجتهادات أئمتنا تشريع.

    الثالث: الالتزام بمذهب من مذاهب أئمتنا هدى وفضيلة.

    الرابع: لا يلزم المسلم بالتزام مذهب بعينه.

    المعلم الخامس: التعصب المذموم أن ينتسب الإنسان إلى مذهب وأن يقول: إن المذاهب الأخرى ضالة باطلة.

    المعلم السادس: ينبغي أن نتعلم الأدلة لنكون على بصيرة وبينة من أمرنا؛ لئلا نغزى من قبل من يتسفهون على أئمتنا.

    المعلم السابع: نرد الخطأ على من صدر منه أياً كان، ونلتمس لأئمتنا الأعذار الحسان.

    المعلم الثامن: لا نتسرع في تخطئة من سلفنا، وينبغي أن نعرف قدرنا.

    المعلم التاسع: الفتيا لا ينبغي أن تخرج عن المذاهب الأربعة، بل ينبغي أن تتقيد بالمذهب الذي يوجد في ذلك المصر من مذاهب أئمة الهدى.

    المعلم العاشر: إياك ثم إياك أن تقول شيئاً لم يسبق إليه.

    1.   

    موقف محاربي التمذهب تحت مسمى العودة إلى الكتاب والسنة

    فالفرقة الأولى: تطالب بنبذ المذاهب، وتزعم أنها تريد أن تعيد الأمة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وفرقة ثانية: أرخت لنفسها العنان، وادعت الاجتهاد في الإسلام، وقربت بين تشريع الرحمن ونظام الشيطان.

    أما الفرقة الأولى: فأناس في ظاهرهم خير، ويدعون الالتزام -كما قلت- بالكتاب والسنة، لكن وقعوا في فخ وشراك ومصيدة أعداء المسلمين، فصاروا يخدمونهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فهذا قائل منهم يقول: إن الأمة الإسلامية في هذه الأيام في صحوة، حيث بدأت تعود إلى الكتاب والسنة، ونبذت مذاهب الأئمة ولم تتقيد بها.

    يقول: من قرابة خمس عشرة سنة والأمصار الإسلامية تلتزم بالمذاهب الأربعة فضلاً عما قبلها، أما الآن فكتاب وسنة وخروج على مذاهب الأئمة، وأنا أقول لهذا الجاهل الذي لا يدري ما يقول: والله ما مر على الأمة الإسلامية زمان انحطت في علمها وفي فكرها، وضعفت في عزيمتها، وقصرت في عملها، وتشتتت في ذهنها، ووقعت البغضاء بينها كحال الأيام التي نعيش فيها، هذه صحوة ضلال ليس بعده ضلال، وأشنع ضلال تعيشه الأمة في هذه الأيام الخروج عن مذاهب أئمتنا الكرام باسم العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكأن الأمة الإسلامية كانت على ضلال وردى، يعبدون الله بآرائهم التي ما أنزل الله بها من سلطان، على رسلك أيها الإنسان! والله ما المجتهد فينا إلا كاللاعب فيمن سبقنا، والله ما المحقق عندنا إلا كطويلب علم بين يدي أئمتنا، إذا كان الخطيب البغدادي وهو من علماء القرن الخامس للهجرة، وتوفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة للهجرة يقول: إذا ذكر السلف فما نحن بجنبهم إلا كالبقل في أصل نخل طوال، فماذا نقول؟ والله إذا ذكرنا من تقدمنا فما نحن بجنبهم إلا بمثابة الشياطين مع المهتدين، فأي صحوة مزعومة في هذا الحين؟ ‏

    موقف صاحب كتاب فقه السنة من اتباع المذاهب الأربعة والرد عليه في ذلك

    إخوتي الكرام! ولتروا نموذجاً على هذا، استمعوا إلى هذه القضية التي لن ينقضي عجب الإنسان من الفوضى العلمية في هذه الأيام التي نعيشها، كتاب ألف في هذا العصر يسمى بكتاب فقه السنة، ما أجل هذه التسمية لكن ما أشد وقعها، كأننا في هذا الكتاب بفقه لسنة مستنبط منها وبقية مذاهب الأئمة الكرام فقه لبني الإنسان، ففي أول الكتاب يعرض بأئمتنا الكرام الذين تقيدوا بمذاهب أئمة الإسلام، وأنه ما دعاهم إلى التقيد بالمذاهب إلا الأعطيات والوقوف التي وقفت على المدارس التي تتبع المذاهب، يا عبد الله! هذا يمكن أن يتصف به أنا وأنت، يمكن أن نركض وراء الريال، أما أئمتنا الأبرار فحاشاهم من هذا العار، سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم!

    أما محتوى الكتاب فيشتمل على ثلاثة أمور:

    الأول: آراء شاذة باطلة ما أنزل الله بها من سلطان تحت ستار فقه السنة.

    الثاني: تلفيق وترقيع بين مذاهب أئمة الإسلام دون تحقيق ونسبة الأقوال إلى قائلها.

    أمر ثالث: نقل من القوانين المعاصرة تحت ستار فقه السنة.

    وهذا الكتاب قرر من قبل من يقال عنهم: إنهم من أقطاب السلفية، وما أعلم هل صار للسلفية أقطاب كأقطاب الصوفية؟ فكنا ولا نزال نعاني من أقطاب الصوفية والضلال الذي عندهم، فابتلينا أيضاً بأقطاب السلفية.

    يقول في تقريره لهذا الكتاب: إنه ما قرأ كتاباً في الفقه نظيراً لهذا الكتاب، وحث إخوانه السلفيين على قراءة هذا الكتاب واقتنائه، وانتشر بين صفوف السلفيين في كل مكان، ثم كر على هذا الكتاب بعد المدح بأشنع أنواع القدح، وبعد الثناء بالذم، فقال: إن هذا الكتاب جامد لا يتطور مع الزمن، ونقده في أربع عشرة خصلةً، لو فصلت هذه الخصال وهذه الانتقادات لزادت تفصيلاتها والأدلة عليها على حجم الكتاب ثلاث مرات، وألف كتاب تمام المنة في التعليق على فقه السنة في مجلد، وفقه السنة في ثلاثة مجلدات، وفي هذا المجلد الذي هو تمام المنة يعلق به على نصف الجزء الأول من الأجزاء الثلاثة، ويرد عليه جموده، ويرد عليه تصحيحه للأحاديث الضعيفة وتضعيفه للأحاديث الصحيحة، ونسبته الأحاديث إلى الصحيحين وليست فيها. كما قلت: هذا مجلد يعلق به على نصف المجلد الأول من فقه السنة، فكيف لو علق على النصف الثاني من المجلد الأول وعلى المجلدين الآخرين؟ وهذا كله -كما قلت- فقه سلفي مع أنه لا يلتزم بالمذاهب الأربعة، سبحان الله! ما هذا الضياع؟ ما هذا الافتراق والشتات؟ ذم بعد ثناء، ونقد بعد إطراء، وقدح بعد مدح، كتاب يؤلف ثم يرد على نصفه بمجلد، ثم بعد ذلك مهاترات بين الأمة بعد أن يثنى على هذا الكتاب.

    مخالفة كتاب فقه السنة لفقه الأئمة في مسألة التصوير الفوتوغرافي

    والذي دعاني للكلام عليه بعض إخواننا من أئمة المساجد قال لي: يا شيخ! ما حكم التصوير؟ قلت: ليس عندي شك في أنه حرام في شرع الله الجليل وهذا الذي عليه أئمتنا، وقد حكى الإمام النووي هذا عن أئمة الإسلام الكرام في شرح صحيح مسلم سواء كانت صورة مما له ظل أو لا ظل له، فقال في فقه السنة: الصورة الفوتوغرافية والصورة التي على الجدران وعلى الستائر حلال، قلت: أين دلت السنة المطهرة على حل التصوير الفوتوغرافي؟ هذا يحتاج إلى نص صحيح صريح ليكون معجزةً من معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أشار إلى هذا التصوير الفوتوغرافي إذا فهمت هذا علام ينسب إلى السنة؟

    وقد قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في إعلام الموقعين في الجزء الرابع صفحة خمس وسبعين ومائة: كانت عادة السلف أنهم إذا استنبطوا حكماً ما دلت الآية عليه صراحةً ولا الحديث يقول: هذا رأيي وهذا اجتهادي، أما أن يقول: قال الله، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام فلا ثم لا؛ لأن الله يقول: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116] .

    وهذا فقه السنة يقول: التصوير الفوتوغرافي حلال عدا أنه ما دلت السنة، فلا تأدبت مع ظواهر النصوص التي حرمت التصوير، ولا فقهت مراد الشرع المطهر من تحريم التصوير، إن الأحاديث تواترت عن نبينا عليه الصلاة والسلام بتحريم التصوير، والتصوير شامل للتصوير الفوتوغرافي، وللتصوير اليدوي على الجدران أو على الستائر، وخذ هذه الصورة إلى نساء البادية وقل: يا أمة الله! ما هذه؟ فتقول: هذه صورة.

    ولو بحثت في المعنى الذي من أجله حرم التصوير من مضاهاة خلق الله، ولئلا تكون هذه الصور ذريعةً للعبادة من دون الله، لوجدته في التصوير الفوتوغرافي وفي التصوير النحتي وفي غيره، فما الذي فرق بينهما؟

    وقد ثبت في المسند والصحيحين من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوةً في البيت -والسهوة هي الخزانة- بقرام فيه تصاوير، -قرام ستارة فيها تصاوير- فلما دخل النبي عليه الصلاة والسلام الباب وقف عليه صلوات الله وسلامه، وقال: ما هذا يا عائشة؟ أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون في خلق الله، أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما صنعتم، فأخذت هذا القرام أمنا عائشة رضي الله عنها وقطعته قطعتين ).

    وثبت في المسند والصحيحين والسنن الأربع إلا سنن أبي داود من حديث أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة )، صورة مطلقة، فأين دلت السنة على حل الصور الفوتوغرافية؟ لكن يرخص للإنسان أن يقول ما شاء تحت ستار نبذ مذاهب أئمتنا وعدم اتباعهم.

    وأنا أقول لصاحب كتاب فقه السنة ولمن قرظ كتابه ولمن يعنى بهذا الكتاب: والله الذي لا إله إلا هو لو كان التصوير الذي لا ظل له مباحاً وحلالاً فقد أجرم الصحابة في حق هذه الأمة وقصروا مع نبيها عليه الصلاة والسلام تقصيراً لا نهاية له؛ لأنهم لم يرسموا لنا صورة النبي عليه الصلاة والسلام؟ والله إن النظر إلى صورته أحب إلينا من وجود الروح في أبداننا، فإذا كان التصوير جائزاً: هلا رسموا لنا صورة النبي عليه الصلاة والسلام لتتناقل الأجيال صورة حبيبهم عليه الصلاة والسلام؟

    مخالفة كتاب فقه السنة لفقه الأئمة في مسألة إرث الحمل

    والمسألة الثانية: موضوع إرث الحمل، ذكر قولاً خرج به عن المذاهب الأربعة، يقول: الحمل يرث من والده إذا مات بشرط أن يولد ضمن خمسة وستين وثلاثمائة يوم، ينبغي أن يولد في هذه المدة كما هو تقرير الطب الشرعي، ولو ولدت بعد ذلك لا يرث هذا الحمل، ثم قال: وهذا الحمل لا يرث من غير والده إلا في حالتين:

    الحالة الأولى: أن يولد هذا الحمل ضمن خمسة وستين وثلاثمائة يوم إذا كانت المرأة معتدةً من طلاق أو وفاة، وهذا كله ينقله عن القوانين -كما قلت- من مادة اثنتين وأربعين وثلاث وأربعين وأربع وأربعين.

    يقول: الحالة الثانية: أن يولد حياً لسبعين ومائتي يوم على الأكثر من تاريخ وفاة المورث إن كان من زوجية قائمة وقت الوفاة، ويريد بذلك كما لو مات ابنها الذي هو أخ للحمل من أمه مثلاً، فهل يرث الحمل منه؟ يقول: يشترط لإرثه ولادته لتسعة أشهر من موت مورثه، يعني: من موت أخيه من أمه، وأنا أقول: ما الفارق بين هذه الصورة والتي قبلها؟ ومن قال بهذا من المذاهب الأربعة المتبعة؟ وهل هذا القول معتبر؟

    تحذير أئمة السلف من الخروج على المذاهب الأربعة في زمنهم

    إخوتي الكرام! لا بد من أن نعي وضعنا في هذه الأيام، وكثير ممن يدعي في هذا الوقت الرجوع إلى الكتاب والسنة وهو أخطر على السنة ممن يحارب السنة، وقد أشار أئمتنا إلى هذا، حيث يذكر الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه فضل علم السلف على الخلف في صفحة ثلاث عشرة، والإمام ابن رجب الإمام التقي الورع العابد البحر الذي توفي سنة خمس وتسعين وسبعمائة للهجرة، يقول هذا العبد الصالح: وفي زماننا -يعني في القرن الثامن- يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم، فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم، وهو أشد مخالفةً لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ ما لم يأخذ به الأئمة من قبل.

    قلت عند المعلم التاسع من المعالم المتقدمة: سأنقل كلام الإمام الذهبي بأن الإنسان لا يخرج في الفتيا عن المذاهب الأربعة، بل يلتزم بالمذهب الذي ينتشر في ذلك المصر من أمصار المسلمين.

    يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء الثامن من صفحة تسعين إلى خمس وتسعين في ترجمة الإمام المبارك الإمام مالك بن أنس عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يقول: بعد أن ذكر من كان يقلد من أئمة الإسلام بدءاً من الصحابة الكرام إلى زمنه قال: ولم يبق اليوم إلا هذه المذاهب الأربعة، وقل من ينهض بمعرفتها كما ينبغي فضلاً عن أن يكون مجتهداً، ولا ريب أن كل من أنس من نفسه فقهاً وسعة علم وحسن قصد فلا يسعه الالتزام بمذهب واحد في كل أقواله؛ لأنه قد تبرهن له مذهب غيره في مسائل ولاح له الدليل وقامت عليه الحجة، فلا يقلد فيها إمامه، بل يعمل بما تبرهن، ويقلد الإمام الآخر بالبرهان، لكنه لا يفتي العامة إلا بمذهب إمامه أو ليصمت بما خفي عليه دليله.

    1.   

    موقف أدعياء الإصلاح والتجديد من الفقه الإسلامي

    وأما الفريق الثاني وهم بلا شك أخطر من الأول، وراج كلامهم عند رواج كلام الأول، فهم فريق ادعوا الصلاح والاجتهاد، وأرادوا من وراء ذلك أن يطوعوا الإسلام للمفاهيم الغربية الجاهلية التي يعيشها البشر في هذه الأيام، ادعوا الإصلاح وحالهم كما قال الله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11-12] .

    الدعوة الإصلاحية الردية التي دعا إليها محمد عبده، وقد هلك سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة بعد الألف وما خرج وما حصل بتلك الدعوة وما أوحي إليه بتلك الدعوة إلا من قبل الإنجليزي اللعين كرومر، وقد زين له أن يخرج على مذاهب المسلمين وأن يقول بالاجتهاد؛ ليقول بعد ذلك: كل واحد في دين الله ما شاء.

    ووصل الشطط تحت ستار دعوة الإصلاح أن يفتي محمد عبده بأنه لا مانع من لبس البرانيط، ولا مانع من الاستعانة بالكفار في أمور الحياة فيما ينفعهم في الدنيا، ولم يذكر لذلك ضابطاً ولا شرطاً ولا قيداً، ولا مانع بعد ذلك من حل الذبح بالبلطة أو بالشرارة الكهربائية، بل لا مانع من الحكم بالقوانين الإنجليزية لأنها أقرب إلى الإسلام من غيرها، فهي دعوة إصلاح يراد منها الإفساد، ونشهدها أيضاً في هذا الوقت بعد وفاة هذا الإنسان بتسعين سنة، سبحان ربي العظيم! تلبس برانيط الكفار، ويوضع الصليب في الصدور، ثم تقول: هذا لا مانع منه لأن نصوص الإسلام تتسع لذلك، وقد وصل به الأمر أنه كان يلي رتبة الإفتاء، ومع ذلك يلي رتبة الاستشارية في محكمة الاستئناف التي تحكم بالقوانين الفرنسية، نعم.. إن صدورهم اتسعت لأن توفق بين شرع الرحمن ونظام الشيطان، فهنا يفتي على حسب الإسلام، وهناك يقضي على حسب القوانين الفرنسية.

    إخوتي الكرام! دعوة الإصلاح كلها قامت على نبذ المذاهب الأربعة، وأن هذا جمود ينبغي أن تتخلص الأمة منه، وتراهم يتململون في كل ساعة من المذاهب الأربعة، ثم بعد ذلك يرتمون في أحضان الكفار، ويقدمون طاعتهم على طاعة العزيز الغفار.

    وخلاصة الكلام إخوتي الكرام! هذه المعالم الثلاثة ينبغي أن نعيها تمام الوعي:

    التشريع من خصائص الله جل وعلا.

    لهداية الإنسان ركنان: شرع قويم، وعقل سليم.

    منزلة الاجتهاد في الإسلام منزلة عظيمة، وهذه الاجتهادات أحكام شرعية وأصحابها ليسوا بمشرعين، والثروة الفقهية هي من أعظم معجزات نبينا خير البرية، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    أقول هذا القول وأستغفر الله.

    1.   

    بطلان دعوى أن فقه الأئمة مبني على سياسة حكامهم

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    إخوتي الكرام! كل هذه الدعوات الضالة الباطلة ينبغي أن نحذرها، فمن زعم أن الفقهاء مشرعون فهو ضال كما تقدم معنا، ومن زعم أن كلام الفقهاء أقوال رجال لنا أن نقول كما قالوا فهو ضال ينبغي أن نحذر قوله، ومن زعم أن مذاهب الأئمة الأربعة بنيت على السياسة وعلى أهواء الحكام فهو ضال يهرف بما لا يعرف، وقد ذكرت بعض أحوال أئمتنا فيما تقدم.

    وأختم هذا الأمر بحال الإمام المبارك إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقد توفي سنة تسع وسبعين ومائة للهجرة رحمة الله ورضوانه عليه، عندما أفتى بأن طلاق المكره لا يقع، وقد ثبت هذا عن عدة من الصحابة الكرام.

    ففي مصنف ابن أبي شيبة وسنن سعيد بن منصور عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ليس على المستكره والمضطهد طلاق. والأثر علقه الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ونقل هذا المعنى الإمام ابن أبي شيبة عن عدة من الصحابة الكرام؛ عن عمر وعن ابنه عبد الله، وعن عدة من التابعين، عن عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، والضحاك، وقتادة رضوان الله عليهم أجمعين، فقالوا: أن طلاق المكره لا يقع.

    وقد وصل الأمر بحكام بني العباس أنهم كانوا يأخذون أيمان البيعة ويؤكدونها بالطلاق، فيقال لهم: نساؤه طوالق، وعبيده أحرار، وماله صدقة إذا نكث البيعة، فقال الإمام مالك : طلاق المكره لا يقع، فما استحسن هذا الحكام، فاستدعاه جعفر بن سليمان الوالي على المدينة من قبل أبي جعفر في زمن الخلافة الإسلامية العباسية، ونهاه عن هذا القول فلم ينته، فما كان من هذا الحاكم إلا أن اشتط فسخم وجه الإمام مالك نور الله وجهه ونور قبره ورحمه ورضي عنه، وما حصل له من ذلك التسخيم إلا رفعة قدر في الدنيا وفي الآخر، وكساه بالسواد ثم أركبه على حمار وجهه إلى مؤخرة الحمار، وطيف به في مدينة نبينا المختار عليه الصلاة والسلام، وقيل للإمام مالك : ناد على نفسك، فكان ينادي: أنا مالك بن أنس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فليعرفني، طلاق المكره لا يقع، أفمثل هؤلاء الأئمة يبنى فقههم على سياسة؟ حاشاهم من ذلك، رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.

    اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

    وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756007447