الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .
أما بعد:
فتقدم معنا أن من صفات الرجال الأكياس أنهم يخافون رب الناس، وهم يتصفون بهذه الصفة الجليلة الكريمة مع كونهم لله يتقون، وإلى عباده يحسنون، وتقدم معنا -إخوتي الكرام- أن هذه الصفة فيهم -أعني: صفة الخوف من ربهم جل وعلا- لها أسباب كثيرة في نفوسهم يمكن أن تجمع في ثلاثة أسباب:
أولها: إجلال الله وتعظيمه.
ثانيها: خوفهم من التفريط في حق ربهم جل وعلا فيما أمروا أو نهوا عنه.
وثالث الأسباب التي تدفعهم للخوف من ربهم جل وعلا: الخوف من سوء الخاتمة.
وتقدم معنا -إخوتي الكرام- أن لسوء الخاتمة سببين:
أولهما: الأمن على الإيمان من الاستلاب، فما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه إلا سلبه وذهب منه.
ثانيهما: اغترار المرء بالحالة الحاضرة وعجبه بما يصدر منه من طاعات قاصرة ناقصة، وغفلته عما فيه من آفات مهلكات وأبرز ذلك ثلاث بليات كما تقدم معنا:
أولها: النفاق، وقد مضى الكلام عليه وعلى ما قبله.
وثانيها: البدعة.
وثالثها: الركون إلى الدنيا.
أما البدعة فسنتدارسها ضمن ثلاثة مباحث:
أولها: في بيان حد البدعة ورسمها وحقيقتها.
وثانيها: في النصوص المحذرة منها.
وثالثها: في بيان أقسام البدعة ووجه كون البدعة سبباً لسوء الخاتمة.
إخوتي الكرام! لا زلنا في المبحث الأول: في بيان رسم البدعة وحدها وضبطها، وقلت: إنها باختصار: حدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان مع عدم دلالة نصوص الشرع الحسان على ذلك الفعل المحدث، وأن يزعم الإنسان بما أحدثه أنه يتقرب به إلى الرحمن، هذا هو حد البدعة وهذا رسمها وهذا تعريفها.
إخوتي الكرام! قد ضل في حقيقة البدعة صنفان من الأنام:
صنف غلوا ووسعوا مفهوم البدعة ودائرتها فبدعوا عباد الله الصالحين، وحكموا بالبدعة على ما شهد عليه الدليل القويم، وقال به إمام من أئمة المسلمين.
وقابلهم صنف آخر قصروا وفرطوا فقالوا: لا بدعة ولا ابتداع في الدين: وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
وما من أمر شرعه الله لعباده إلا وللشيطان نحوه نزعتان: نزعة غلو، ونزعة تقصير، لا يبالي الشيطان بأي النزعتين وقع الإنسان.
وكنا -إخوتي الكرام- نناقش الفرقة الأولى التي غلت في مفهوم البدعة ووسعتها فحكمت بالبدعة على ما شهد له الدليل وقال به إمام جليل، بل حكمت بالبدعة -كما تقدم معنا- على ما ورد فيه نص صريح عن نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه، واستعرضت بعض النماذج مما احتمله الدليل وورد به، وحكم به بعض المتطرفين المتشددين الغالين في هذا الحين بأنه بدعة وابتداع في الدين، ومثلت بذلك: بوضع اليمين على الشمال بعد الرفع من الركوع، كما مثلت على ذلك: بصلاة التراويح، وأنها عشرون ركعة ويوتر الإنسان بثلاث، ثم انتقلت إلى الأمر الثالث: ألا وهو قراءة القرآن على الأموات عند القبور، وقلت: إن هذه المسألة لها ثلاثة ذيول:
أولها: تلقين الميت.
ثانيها: تقرير سماع الأموات لما يجري عندهم ورؤيتهم لما يقع حولهم.
وثالثها: إهداء الطاعات والقربات إليهم.
قد مر معنا ما يتعلق بقراءة القرآن عند المقابر، كما مر معنا تلقين الموتى، وفي هذه الموعظة سنتدارس الأمر الثالث -وهو الذيل الثاني للمسألة- ألا وهو: سماع الأموات لما يجري ويقع عندهم وحولهم، وعلمهم بما يقع في ساحتهم، ورؤيتهم لمن يزورهم، واستبشارهم بذلك.
هذه المسألة -كما سيأتينا إخوتي الكرام- وردت بها نصوص صريحة صحيحة، ومع ذلك ترى في هذا الحين من يرفع صوته بلا حياء من رب العالمين، ولا توقير لأئمة المسلمين، فيرمي بالابتداع والبدعة من قال: إن الأموات يسمعون، وإن الأموات يعلمون بحال الزائرين، ويستبشرون بهم ويستأنسون، وهذا أمر غيبي لا دخل فيه لأي عقل بشري، والإنسان إذا أراد أن يتكلم في هذه القضية فإن كان مهتدياً ينبغي أن يحتكم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قرر نبينا عليه الصلاة والسلام سماع الأموات، وعلمهم بمن يزورهم، وفرحهم واستبشارهم بالزائرين في أحاديثه الكثيرة الصحيحة الوفيرة، يمكن أن تجمع تلك الأحاديث إلى ثلاثة أنواع: وفيها ثلاث دلالات انتبهوا لها -إخوتي الكرام- لنكون على بينة من أمرنا، ولنعرف بعد ذلك من المخرف الذي يخرج عن نصوص النبي عليه الصلاة والسلام، ويبدع أئمة الإسلام ومن الذي يلتزم بهذه النصوص ويحتكم إليها.
وكان نبينا عليه الصلاة والسلام هذه عادته في غزواته إذا مكنه الله ونصره يقيم ثلاثة أيام، فإذا كان بإمكان الخصم أن يعيد الكرة فنحن على استعداد، (أقام ثلاثة أيام -فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه- ثم ركب ناقته وتوجه إلى القتلى فوقف عليهم) وقد قتل سبعون من المشركين في أول موقعة حكم الله بها وفيها بين الموحدين والكافرين، (فوقف عليهم وهو على ناقته المباركة على نبينا صلوات الله وسلامه فقال: يا
إذاً: هذا صريح من نبينا عليه الصلاة والسلام بأنهم يسمعون ويعلمون ما يجري حولهم.
ورواه الإمام أحمد في المسند، وابن حبان في صحيحه، والبزار في مسنده، والطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي هريرة ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، والحديث -كما قلت- من أصح الأحاديث، فهو في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس والبراء بن عازب وأبي هريرة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا وضع الميت في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم ).
وفي رواية المسند وأبي داود من رواية البراء بن عازب : ( إنه ليسمع خفق نعالهم ).
وقد بوب الإمام البخاري على هذا في كتاب الجنائز فقال: باب الميت يسمع خفق النعال. ثم قال: ( فإذا تولى عنه أصحابه أتاه ملكان: منكر ونكير، فيقعدانه، ويقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ -يعني محمداً على نبينا صلوات الله وسلامه- فأما المؤمن فيقول: هو عبد الله ورسوله آمنا به وصدقناه، فيقولان له: هذا مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة فيراهما معاً، وأما الكافر أو المنافق فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ يقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقولان له: لا دريت، ثم يضربانه بمطرقة معهما بين أذنيه فيصيح صيحةً يسمعه كل شيء إلا الثقلين ).
سبحان ذي العزة والجلال! إذا سمع الميت قرع النعال وخفق النعال ألا يسمع سماع الزائرين؟ ألا يعلم بحالهم ويستبشر بهم عندما يزورونه؟ بلى، ثم بلى.
ورضي الله عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عندما نقل عن عم أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أثراً، واستغرب منه الحاضرون، فعلق عليه بما ستسمعون، والأثر رواه الإمام أحمد في الزهد وعبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق أيضاً، والأثر مروي في سنن سعيد بن منصور ومصنف ابن أبي شيبة ، ورواه أبو الشيخ أيضاً، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره والبيهقي في شعب الإيمان، والطبراني في معجمه الكبير عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وهو من أئمة التابعين، توفي قبل سنة عشرين ومائة للهجرة، وحديثه في صحيح مسلم والسنن الأربع، فهو إمام ثقة عدل رضا، عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود نقل عن عم أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين أنه قال: إن الجبل لينادي الجبل كل يوم باسمه فيقول له: هل مر بك أحد ذكر الله؟ فإن قال الجبل: نعم، يقول: استبشر وفرح وتطاول بأنه مر عليه أحد ذكر الله عز وجل، نعم وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44] ، فقيل لـعون بن عبد الله بن عتبة : كيف هذا؟ قال: سبحان الله! أيسمعن الزور ولا يسمعن الخير؟ يعني: هذه الجبال والجمادات الأرض والأشجار تسمع الزور ولا تسمع الخير؟ قالوا: وكيف ذاك؟ قال: أما قرأتم قول الله جل وعلا: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:88-95].
فالسماوات تتشقق من هول هذه الكلمة عندما سمعتها، والأرض تتفطر، والجبال تدك وتسوى بالأرض من هول هذه الكلمة أنه لله صاحبة وولداً، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وأنا أقول: هل يسمع الأموات قرع النعال، وخفق الأحذية، ولا يسمعون كلام الزائر: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)؟ ولا يسمعون دعاء الزائر، ولا يرونه، ولا يستبشرون به؟ تعالى الله عما تتوهمون وتقولون علواً كبيراً.
هذه الدلالة الأولى -إخوتي الكرام- وكما قلت: نص صريح من نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الأموات يسمعون سماعاً يزيد على سماع الأحياء.
نعم، إنك لو دخلت على ساحة كبيرة واجتماع كبير وسلمت عليهم فلن يسمع سلامك إلا من كان بجوارك أو في المقدمة، أما الأموات فإذا دخلت باب المقبرة ووصلت إلى أول قبر -مهما امتدت المقابر- وقلت: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين) فلا يوجد ميت في تلك البقعة إلا ويسمع صوتك ويجيبك، ويستبشر بك، ويفرح -كما سيأتينا- ووالله لو كانوا من الأحياء لما سمعوا صوتك.
إذاً: السلطان للروح في عالم البرزخ، وليست مقيدة بكثافة الجسم وقيود الجسم، فتشعر بك، وتسمع سلامك، ولو كانت هذه الروح في بدنها الحي بها لما سمعت سلامك عن بعد، ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم )، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ، والحديث رواه أبو داود والنسائي ، وهو صحيح، فهو في صحيح مسلم من رواية بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة ). والحديث روي في المسند والمستدرك وسنن البيهقي من رواية أبي سعيد الخدري .
ورواه الإمام أحمد أيضاً في المسند، والحاكم في المستدرك من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر بالآخرة، ولا تقولوا هجراً ) أي: كلاماً قبيحاً، فلا داعي لنياحة، ولا لاستغاثة بميت، ولا لطلب الحاجات منه، إنما تزور لتعتبر بما ستئول إليه، ثم تدعو لهذا العبد الذي انقطع عمله بما ينفعه في موته كما أذن لنا ربنا وأمرنا به.
إذاً الزائر زائر، والميت مزور، قال شيخ الإسلام الإمام ابن القيم في كتابه الروح، في صفحة خمس إلى صفحة ثمان: وهذا اللفظ -أعني: الزيارة، والزائر زائر، والميت مزور- لا يقال إلا إذا علم المزور بزيارة الحي، وسمع كلامه، وشعر به، واستأنس به، ولا يصح غير هذا البتة في جميع لغات الأمم.
فلا يسمى الإنسان زائراً لمن يزوره إلا إذا علم به المزور وشعر به، وسمع سلامه، أما أنك تزور أمواتاً ويقال: أنت زائر وهو مزور فهذا لا يصح، فلفظ الزيارة عندما أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بزيارة القبور يدل على أن المزور يعلم بحال الزائر، ويسمعه ويستبشر به، ويفرح بزيارته، وهذا الأمر الذي استنبطه أئمتنا وردت فيه نصوص صحيحة صريحة كالشمس، لا يخالف فيها إلا من كان مبتدعاً.
إذاً: فالحديث صحيح، ولفظه من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من أحد يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ).
قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه الروح: وهذا نص صريح في أن الميت يسمع ويعرف من زاره، بل ويرد عليه السلام.
إخوتي الكرام! إن الميت انتقل من دار إلى دار، والدار التي انتقل إليها -دار البرزخ- هي أدق من دار الدنيا بكثير، وموازينها أضبط بكثير، ولذلك يعرف من زاره ويرد عليه السلام، أما كوننا لا نعي ما في تلك الدار فلعدم موافقة موازيننا لتلك الموازين، أما هو فإنه يعلم ما يجري في البرزخ، وما يجري في الحياة الدنيا، ونحن نعلم ما يجري في الحياة الدنيا ولا نعلم ما يجري في البرزخ، فعلمه أدق من علمنا بكثير، فهو يعرفك ويرد عليك السلام.
وثبت في كتاب دلائل النبوة للإمام البيهقي ، والأثر رواه الإمام الحاكم في المستدرك بسند صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قبر
وقد شرع لنا نبينا عليه الصلاة والسلام زيارة القبور، فهل شرع لنا زيارة جماد لا يعي ولا يفقه ولا يشعر ما يدور حوله؟ لا والله.
ولما رسخ هذا الفهم في أذهان الناس تركوا زيارة المقابر، وانقطعت الخيرات من الأحياء نحو الأموات، ولو علموا أن الأموات يستأنسون بهم عندما يزورونهم لما خلت المقابر من زائر يزورهم ويدعو لهم ليستأنسوا بهم، ويفرحوا بهم عند زيارتهم، ولعل كثيراً من الناس لا يذهبون إلى المقابر إلا إذا مات لهم قريب أو حبيب، وما عدا هذا ليس بينه وبين المقابر صلة، ثم إذا دفن والده أو ولده فكأنه انقطعت صلته به، يا عبد الله! أما تزوره لو كان حياً؟ والله إن زيارته آكد عليك إذا صار ميتاً، لكن هذه المفاهيم الضالة التي وجدت في الأمة -من أن الميت لا يسمع، ولا يعي، ولا يشعر، ولا يستأنس- نفرت الناس عن زيارتهم للموتى بعد موتهم.
وهذا الحديث -إخوتي الكرام- الذي هو في المسند عن أنس رضي الله عنه -وفي إسناده رجل لم يسم- رواه ابن أبي الدنيا ، والطبراني في معجمه الكبير والأوسط من رواية أبي أيوب الأنصاري ، ورواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده من رواية جابر بن عبد الله ، والأسانيد الثلاثة لا تخلو من ضعف -كما قرر أئمتنا- لكنها تعتضد ببعضها.
فأجاب رحمه الله ورضي عنه: الحمد الله، نعم، قد جاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم، وعرض أعمال الأحياء على الأموات، كما روى ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري.
وهذا الأثر في كتاب الزهد والرقائق في صفحة خمسين ومائة، وبعد أن نقله الإمام عبد الله بن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري موقوفاً عليه بين أنه روي مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام كما تقدم معنا في رواية ابن أبي الدنيا ومعجم الطبراني الكبير والأوسط.
يقول الإمام ابن تيمية : ( إذا قبضت نفس المؤمن تلقاها الرحمة من عباد الله، كما يتلقون البشير في الدنيا، فيقبلون عليه، ويسألونه، فيقول بعضهم لبعض: أنظروا أخاكم يستريح، فإنه كان في كرب شديد، قال: فيقبلون عليه ويسألونه: ما فعل فلان؟ وما فعلت فلانة هل تزوجت؟ فإذا سأل عن الرجل قد مات قبله قال لهم: إنه قد هلك، فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم، وبئست المربية، مات قبلك، وما علمنا به، إذاً: ذهب إلى سجين، قال: فيعرض عليهم أعمالهم فإذا رأوا حسناً فرحوا واستبشروا وقالوا: اللهم هذه نعمتك على عبدك فأتمها عليه، وإن رأوا سوءاً قالوا: اللهم راجع بعبدك ) قال ابن صاعد : رواه ابن سلام الطويل عن ثور بن يزيد فرفعه إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال الإمام ابن تيمية : وأما علم الميت بالحي إذا زاره وسلم عليه ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام )، قال ابن المبارك : ثبت ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، وصححه عبد الحق صاحب الأحكام.
وأما ما أخبر الله به من حياة الشهيد ورزقه، وما جاء في الحديث الصحيح من دخول أرواحهم الجنة فذهبت طوائف إلى أن ذلك مختص بهم دون الصديقين وغيرهم، والصحيح الذي عليه الأئمة وجماهير أهل السنة: أن الحياة والرزق ودخول الأرواح الجنة ليس مختصاً بالشهيد كما دلت على ذلك النصوص الثابتة -ويختص الشهيد بالذكر- يعني: هو الذي ينوه به من أجل حكمة سيذكرها هذا الإمام لكون الظان يظن أنه يموت فينكب عن الجهاد أي: يتأخر ويبتعد، فأخبر بذلك ليزول المانع من الإقدام على الجهاد والشهادة، كما نهى عن قتل الأولاد خشية الإملاق؛ لأنه هو الواقع، وإن كان قتلهم لا يجوز مع عدم خشية الإملاق.
وهذا -كما قلت- يقرره شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية وهو المقرر عند أئمتنا علماء الشريعة الإسلامية.
هذا أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، والأثر رواه ابن أبي الدنيا وابن أبي شيبة في مصنفه، والحكيم الترمذي من رواية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن تفضحني عند عبادة بن الصامت وسعد بن عبادة . أي: عندما تعرض أعمالي عليهما، أعوذ بك أن أفتضح.
إخوتي الكرام! هذا الأمر -أعني: أن الميت المزور يعلم بحال الزائر- مقرر عند أئمتنا كما قلت، وهم يتزاورون فيما بينهم، والآثار في ذلك كثيرة صحيحة وفيرة.
روى الإمام ابن سعد في الطبقات، وأبو نعيم في الحلية أنه التقى صحابيان جليلان مباركان سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم أجمعين فقال أحدهما لصاحبه: إذا مات أحدنا قبل الآخر فليتراء له، قال: ويكون ذلك؟ أي: يقول عبد الله بن سلام لـسلمان : ويكون ذلك؟ قال: نعم، إن روح المؤمن مخلاة تذهب حيث شاءت، وإن روح الكافر في سجين، فلما مات سلمان الفارسي -وكانت وفاته سنة اثنتين وثلاثين للهجرة، وقيل: ثلاث وثلاثين، وقيل: ست وثلاثين، وعبد الله بن سلام توفي سنة ثلاث وأربعين رضوان الله عليهم أجمعين- رآه عبد الله بن سلام بعد موته مشرق الوجه، بهي الصورة يتلألأ النور منه، قال: ما فعل الله بك يا أخي؟! قال: غفر لي ورحمني وأكرمني، قال: بأي شيء توصيني؟ قال: عليك بالتوكل فنعم الشيء التوكل، ونعم الشيء التوكل، ونعم الشيء التوكل.
إذاً: لقد كان هذا مقرراً عند الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
ثبت في المسند وسنن ابن ماجه بسند صحيح كالشمس، عن محمد بن المنكدر -وهو من أئمة التابعين، توفي سنة ثلاثين ومائة للهجرة، وحديثه في الكتب الستة-: ( أنه دخل على
إذاً: يسن للرجل إذا احتضر وكان صالحاً، وحسن ظنك وعلمت أنه من أهل الخير أن تقول له هذه المقولة: ( أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام )، فإن روحه ستلتقي بروح النبي عليه الصلاة والسلام وبالصحابة الكرام، وبأهل الخير والإحسان.
إخوتي الكرام! إن شعور الميت أدق من شعور الحي وقد كان هذا مقرراً عند سلفنا، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وثبت في مسند الإمام أحمد ، والأثر في المستدرك، ورواه ابن سعد في الطبقات بسند صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( لما دفن النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي كنت أضع ثيابي وأقول: ما هو إلا زوجي على نبينا صلوات الله وسلامه، قالت: فلما دفن
إذاً: والله إنه يراها كما يراها لو كان حياً في حجرتها، وهذه هي المعاني عند سلفنا، فكانت تستحي منه كما لو كان في الحجرة حياً، فلا تضع ثيابها عنده، هذا هو علم سلفنا، وهذا هو كلام أمنا رضي الله عنها وأرضاها.
ولقد ابتلينا بشرذمة في هذه الأيام إذا قلت لهم: إن الميت يسمع ويعلم من يزوره ويشعر بحاله، ويستأنس به، قالوا: إنك مبتدع وهذه بدعة، فهل كانت أمنا عائشة على بدعة عندما كانت تستحي من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم أجمعين؟ اللهم ألهمنا رشدنا يا أرحم الراحمين.
إخوتي الكرام! هذه دلالة ثانية على أن الأموات يعلمون بحال الزائر، ويسمعونه، ويستبشرون به، وعلمهم بذلك أدق وأضبط وأوسع من علم الحي بكثير.
وفي رواية ابن ماجه ومسند أبي داود الطيالسي : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم ).
ورواه أبو داود الطيالسي : ( اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تضلنا بعدهم ).
هذا كله كلام النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أمنا عائشة : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين )، (السلام عليكم) خطاب يوجه لمن يعي، لمن يشعر، لمن يسمع، لمن يرى، لمن يرد، ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ).
إخوتي الكرام! إن زيارة القبور مشروعة ومخاطبتهم بهذا، وهي كما تشرع للرجال تشرع للنساء، والحديث صحيح وفيه يقول نبينا عليه صلوات الله وسلامه لأمنا عائشة : قولي: كذا، وهي تدخل في عموم الترخيص الذي حصل لهذه الأمة والترغيب بعد النهي: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر بالآخرة )، فالمرأة بحاجة إلى أن تتذكر الآخرة كما يحتاج الرجل، وهي بحاجة إلى أن يستأنس أقاربها وأن تدعو لهم كما يحصل من الرجل، والأحاديث في ذلك كثيرة صحيحة وفيرة، وهذا هو المعتمد عند الحنفية والشافعية رضوان الله عليهم أجمعين، قالوا: إن زيارة النساء للقبور مكروهة كراهة تنزيه، وللمالكية ثلاثة أقوال: الجواز، والكراهة، والتفريق بين الشابة والعجوز الكبيرة، وللإمام أحمد قولان: قول بالجواز، وقول بالكراهة، والراجح من هذه الأقوال ما هو مقرر عند الحنفية، وإلى هذا ذهب شيوخ الإسلام المتأخرون فهو الذي رجحه الإمام القرطبي وهو من المالكية، والإمام الشوكاني في نيل الأوطار، وهذا الذي ذكره الإمام أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة، وهو المقرر عند أئمتنا، والأحاديث في ذلك كثيرة صحيحة وفيرة.
وأما ما ورد في المسند والسنن الأربع إلا سنن ابن ماجه والحديث في صحيح ابن حبان وسنن البيهقي من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج )، فالحديث إما أن يكون منسوخاً بحديث: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة )، وإما أن يراد من الزوارات -ما قرره الإمام القرطبي ، وإلى هذا مال واستراح الإمام الشوكاني - أن يكون المراد بها: صيغة مبالغة، أي: المكثرات للزيارة، فالمرأة تزور ما بين الحين والحين، والرجل يكثر من الزيارة؛ لأن هدي الإسلام في المرأة أن تكون قعيدة البيت، وأنا أعجب للناس في هذه الأيام عندما رخصوا للمرأة أن تذهب إلى المدرسة، ورخصوا لها أن تذهب إلى المتنزهات، ورخصوا لها أن تذهب إلى البر، ورخصوا لها أن تذهب إلى السياحة، ورخصوا لها أن تذهب إلى الأسواق، ورخصوا لها أن تذهب إلى زيارة الجيران، وإذا قلت لهم: تزور القبور لتتذكر الآخرة، قالوا: هذا حرام المرأة ينبغي أن تجلس في البيت، هلا عرفتم هذا الحكم عند ذهابها إلى السوق هلا عرفتم هذا الحكم عند ذهابها إلى المدرسة وقد تلتقي بضالات مضلات أخبث من الشيطان الرجيم، كل هذا مرخص فيه وإذا أرادت أن تزور أباها أو أخاها أو زوجها من أجل أن تستحضر ما تصير إليه وهي أولى بأن تستحضر أمور الآخرة من الرجل وأن تدعو لقريبها تمنع.
وهنا أمنا عائشة رضي الله عنها -والحديث كما قلت في صحيح مسلم وغيره- تقول: ( ماذا أقول إذا زرت القبور؟ ) فما زجرها، وقال: إن هذا بدعة وليس من حق النساء أن يزرن بل قال: ( قولي السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ).
وثبت -أيضاً- الحديث في سنن الترمذي من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى إذا وصل إلى قبور المدينة توجه إليهم عليه صلوات الله وسلامه ثم قال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر )، وهذه صيغة ثالثة.
وثبت أيضاً في المسند وصحيح مسلم ، والسنن الأربع إلا سنن الترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ). ثم قال -فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه-: ( وددنا لو رأينا إخواننا. فقال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني ). يود ويتمنى نبينا عليه صلوات الله وسلامه أن يرانا، ووالله إن رؤيته أحب إلى أنفسنا من كل شيء، وليتنا رأيناه بأنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا عليه صلوات الله وسلامه.
(قالوا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة -والغرة بياض في جبهة الفرس، والتحجيل بياض في قوائمها- بين خيل دهم بهم -أي سوداء شديدة السواد لا يخالطها لون آخر- أما كان يعرف خيله؟ قالوا: بلى، قال: فإن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء)، أي: يأتون ووجوههم وأعضاؤهم وأعضاء وضوئهم تتلألأ، وأنا أعرفهم وأميزهم من بين سائر الأمم، (فإن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، ألا ليذادن رجال عن الحوض كما يذاد البعير الضال فأقول: هلم هلم، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً)، اللهم لا تجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
إخوتي الكرام! هذه الألفاظ التي يقولها الزائر للمزور هل يخاطب بها جماداً لا يعي، ولا يعقل، ولا يسمع، ولا يشعر؟ يتنزه كلام سيد الحكماء وخاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه أن يأمر أمته بأن يخاطبوا جماداً لا يعي، ولا يشعر ولا يسمع ولا يفقه ولا يرد.
إخوتي الكرام! وختام الكلام في هذه المسألة: إن النصوص فيها -كما قلت- صريحة صحيحة كثيرة شهيرة، وهي تتعلق بأمر غيبي، فإذا كنا نؤمن بالله فينبغي أن نؤمن بالغيب، وينبغي ألا نكثر الشكوك والريب.
إن الاعتراض على سنة النبي عليه الصلاة والسلام ليس من علامات اتباع السلف، إنما من علامات اتباع الفلاسفة الذين كانوا يدخلون آراءهم في شرع ربهم جل وعلا، ويحاكمون المنقول إلى تخريف العقول، وهنا قاعدة ذهبية ينبغي أن نعض عليها بالنواجذ، ألا وهي: كل ممكن ورد به السمع الصحيح فإنه يجب الإيمان به ومن لم يؤمن به فهو ضال مضل، فكل ممكن -أي: أمر متصور وجوده وعدمه- ورد به السمع الصحيح الذي لا ينطق عن الهوى فإنه يجب الإيمان به، فسماع الميت وشعوره وإدراكه وعلمه بمن يزوره ممكن ورد به السمع، فإذا كنا نؤمن بالرب فينبغي أن نؤمن بالغيب آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] .
اللهم اجعل هوانا تبعاً لشرعك بفضلك ورحمتك، أقول هذا القول وأستغفر الله.
إخوتي الكرام! هذا الأمر -كما قلت- مقرر عند علماء الإسلام، وقد بوب الإمام السيوطي عليه رحمة الله في شرح الصدور باباً يشير به إلى هذا فقال: باب زيارة القبور وعلم الموتى بمن يزورهم ورؤيتهم له، يعلمون ويرون وأنت لا تراهم ولا تعلم ما يجري معهم، وهذا مقرر عند أئمة الإسلام.
وسأختم الكلام على هذه المسألة بحادثة وقعت في العصر الأول، وهي تتعلق بما يجرى في البرزخ، وأقر الحكم فيها سيد هذه الأمة بعد نبيها على نبينا وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه، ووافقه الصحابة الكرام دون منازع، وهذه القصة يرويها الإمام الحاكم في المستدرك، والطبراني في معجمه الكبير، ويرويها أبو يعلى في مسنده، ويرويها الإمام ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب، وإسنادها صحيح كالشمس عن ابنة ثابت بن قيس بن شماس - وثابت بن قيس من الصحابة الأنصار وكان خطيبهم، وثبت في المستدرك وغيره في ترجمته: أنه عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة خطب ثابت فقال: (والله لنمنعنك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا يا رسول الله؟ فقال: الجنة. فقال
وثابت بن قيس قد بشر بالجنة كما في الصحيحين وغيرهما -لما حضر قتال المرتدين في عهد إمام الصديقين أبي بكر رضي الله عنه وعن سائر الصديقين والمؤمنين سنة اثنتي عشرة للهجرة، في موقعة اليمامة في بلاد نجد، وقد قتل من الصحابة في تلك الموقعة خمسمائة صحابي، وقتل معهم خمسمائة أيضاً من المسلمين، فمجموع القتلى ألف نصفهم من الصحابة، منهم ثابت بن قيس ، وقتل من قراء القرآن جمع غفير كثير، ولما التقى الجمعان وحصل ما حصل قال ثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه: بئسما تعلمون به أقرانكم -هكذا لا تقاتلون بشدة- ثم أخذ ثوبين أبيضين فحنطهما، فقاتل حتى قتل، فكفن في ثوبيه ومعه حنوطه رضي الله عنه وأرضاه.
وبعد أن قتل رضي الله عنه وأرضاه مر به بعض المسلمين الضعاف -الذين إيمانهم ضعيف وقد يكون بدنهم قوياً- فسرق درعه التي كانت عليه ثم ذهب إلى رحله وإلى خبائه وستره، وثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه قد استشهد ودفن، فتراءى لبعض الصحابة في تلك الموقعة ممن هم على قيد الحياة، وقال: يا أخي! اذهب إلى خالد بن الوليد -وكان أميراً للجيش رضي الله عنه وأرضاه في قتال المرتدين- فقل له: إن فلاناً سرق درعي، وهو في مكان كذا من الجيش، وقد وضع عليه برمةً وفوق البرمة رحله، وعلامة درعي كذا وكذا، فليأخذه خالد منه، وإذا رجعت إلى المدينة فأقرئ أبا بكر -رضي الله عنهم أجمعين- مني السلام، وقل له: فلان وفلان من عبيدي أحرار لوجه الله، وعلي كذا فليقضه عني، ولي مال في مكان كذا فليأخذه وليعطيه إلى الورثة، ثم قال: يا عبد الله ! إياك أن تقول: هذا حلم ولا حقيقة له، أنا ثابت بن قيس بن شماس ، أخبرك، اذهب إلى خالد ، وأخبر أبا بكر بذلك، رضي الله عنهم أجمعين، فاستيقظ هذا الرجل وذهب إلى خالد فأخبره، فذهب خالد بنفسه رضي الله عنه إلى المكان الذي وصف له، ورفع الرحل، ثم رفع البرمة فرأى الدرع تحتها -هذا شعور الميت، وهذا علمه، وهذا إحساسه بما يجري خلفه- ثم نقلت هذه الوصية إلى أبي بكر رضي الله عنه فأنفذها، قال الإمام ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب: ما نعلم أحداً نفذت وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس بن شماس .
هذه البينات والدلالات تقوم مقام شاهدين بل أكثر، وللإمام ابن القيم كتاب كبير يزيد على ثلاثمائة صفحة، سماه: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية عن طريق الحكم بالقرائن، والوصول إلى حقيقة القضية بما يلابسها وللظروف التي تحيط بها، وهنا يقول: هذا من فقهه، ثم علق الإمام ابن القيم على هذه القصة فقال: إذا علم الميت بهذه الجزئيات بدرعه، وبمن سرقها، وماذا وضع فوقها، ثم قال: اذهب إلى خالد وإلى أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين فلأن يعلم الميت بزيارة الحي له وبسلامه، ولأن يشعر به، ولأن يراه من باب أولى، ثم قال: والسلف الكرام مجمعون على هذا، وقد تواترت عنهم الآثار، بأن الميت يرى من يزوره ويسمعه ويستبشر بزيارته.
إخوتي الكرام! هذا ما يتعلق بهذه المسألة.
وأما مسألة إهداء الطاعات والقربات إلى الأموات فأرجئ الكلام على ذلك إن شاء الله إلى الموعظة الآتية إن أحيانا الله.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن أمته منا فتوفه على الإيمان، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، اللهم كره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك، ومن المقربين لديك، وإذا أردت فتنةً بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اجعل حبك وحب رسولك صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من كل شيء، أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا، وأحب إلينا من الماء البارد في اليوم القائظ، اللهم اجعل هوانا تبعاً لشرع نبينا بفضلك وبرحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر