إسلام ويب

مراقبة اللهللشيخ : عبد الرحمن السديس

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن مراقبة الله تعالى هي: تمام علم العبد وثقته باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه ظاهراً وباطناً.

    والمراقبة أمر لازم في حياة كل مسلم؛ حتى يحقق الإحسان في عبوديته لله، ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده وسلف هذه الأمة خير مثال وأسوة في مراقبة الله. وإن الناظر في أحوال الناس يجد أن الأحوال قد تغيرت وانعكست، ونسي كثير من الناس ربهم إلا من عصم الله.

    1.   

    أهمية المراقبة في حياة المسلم

    الحمد لله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسع كل شيءٍ علماً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    أما بعد:

    أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه، وتذكروا -رحمكم الله- أنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدىً فراقبوا الله تعالى حق مراقبته، فإنه سبحانه رقيبٌ عليكم، ومطلعٌ على أعمالكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] وقال سبحانه: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218-219] وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5].

    وفي صحيح مسلم من حديث عمر رضي الله عنه: (أن جبريل عليه السلام، سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وهذه النصوص تقتضي أن يكون المسلم دائم المراقبة لله، مستحضراً قربه سبحانه منه، وأنه بين يديه سبحانه، يراه في جميع أحواله، وأقواله وأفعاله، في حركاته وسكناته: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].

    وذلك يوجب الخشية والخوف من الله وحده، كما يقتضي فعل الطاعات وترك المنكرات، والإخلاص لله عز وجل، والبعد عن الرياء والسمعة المحبطة للأعمال.

    أحوال السلف مع المراقبة

    وتقوى الله ومراقبته، كانت شعار الصالحين، وعمل المؤمنين من سلف هذه الأمة، أسوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وصّى بها أصحابه وأمته من بعدهم، ففي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف }.

    فيا لها من وصيةٍ عظيمة! يجب على كل مسلم أن يستلهم منها مساره واتجاهه في هذه الحياة، فيكون دائماً مراقباً لله وحده، متجهاً إليه دون سواه، وأن أي أحد كائناً من كان لا يستطيع أن يجلب له نفعاً، أو يدفع عنه ضرراً، إلا ما كتب الله له، فيسير عزيزاً بإسلامه، قوياً بتمسكه بسنة رسوله، لا يخشى غنياً لغناه، ولا قوياً لقوته، ولا يهن ولا يستكين لإرجاف المرجفين، وتخذيل المخذّلين، ونفاق المنافقين، ولا يتنازل عن شيءٍ من دينه وعقيدته، لأذىً يصيبه، أو ابتلاءٍ يلاقيه، فلا يخشى إلا الله، امتثالاً لقوله سبحانه: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].

    وعلى هذا الطريق الأمثل كان المؤمنون الأولون الذين قال الله فيهم: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً [الأحزاب:39].

    أحوال الناس اليوم مع المراقبة

    أما اليوم فقد تغيرت الأحوال، وانعكست المفاهيم، وقل الخوف من الله، وضعفت مراقبته في نفوس الناس، وانتشر بينهم الرياء والنفاق، والعمل للدنيا وحطامها، واتباع الأهواء والرغبات، وضعف الإخلاص لله، وفسدت النيات، ونسي كثيرٌ من الناس ربهم -إلا من عصم الله- في كل شئونهم وأحوالهم في العقائد والعبادات، والمعاملات والأخلاق، في الأقوال والأعمال، فأين الذين استهانوا بعقيدة التوحيد، وأفسدوا في الأرض بالبدع والخرافات، بعد إصلاحها بالإيمان وصحة العقيدة.

    أين هم من مراقبة الله؟! لو صدقوا في مراقبته سبحانه لاستقاموا على عقيدة سلف هذه الأمة، أين الذين يراءون في أعمالهم، ويداهنون بأقوالهم وأفعالهم، ويتتبعون رضى الناس ورغباتهم؟!

    أين هم من مراقبة الله القائل: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة:13].

    أين الذين آثروا حب الدرهم والدينار؟! فجدّوا للحصول عليهما بأي طريق؟! ولم يبالوا بمصدرها؟! فيظلمون ويخدعون! ويغشون ويرابون، ويبخسون المكاييل والموازين، ولا يتقون الله في بيعهم وشرائهم! ويتساهلون في أداء زكاة أموالهم؛ حتى كانوا سبباً في منع القطر من السماء بسوء أفعالهم!

    أين هؤلاء من مراقبة الواحد الديان؟! أين الذين أطلقوا جوارحهم في الحرام؟! فألسنتهم تقع في المحرمات! في الغيبة والنميمة! والكذب والسب والشتم! ونسوا قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: {وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجوههم -أو قال- على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم } كما أطلقوا فروجهم وأيديهم وأرجلهم، وآذانهم، وجعلوها تواقع الحرام، ممارسةً وسماعاً، ونظراً وبطشاً ومشياً! أين هؤلاء من قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]! وقوله: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت:20]؟!

    أنسوا أن الله سبحانه مستنطقٌ هذه الجوارح في يومٍ يجعل الولدان شيباً؟!

    أين الشباب المنغمس في أوحال الرذائل والمنكرات، فلا يعرفون الجماعات، ولا يؤدون الصلوات؟!

    أين هم من مراقبة الله؟ أغرهم ما هم فيه من صحةٍ وفتوة؟! أنسوا أن الموت يأتي بغتة، ولا يفرق بين صغير وكبير؟!

    أين النساء اللاتي سرنَ في ركاب الجاهلية الأولى والأخرى، فلا يبالين بتعاليم الدين الحنيف، بل اتبعنَ أهواءهن، فوقعن فيما حرم الله عليهن؟!

    أين هؤلاء كلهم من مراقبة الله؟! أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6].

    فأفيقوا من غفلتكم أيها المسلمون، وأديموا مراقبة مولاكم، واستشعروا قرب آجالكم، وموقفكم أمام ربكم: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].

    اللهم مُنّ علينا بالهداية والسعادة أجمعين، وأحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وثبتنا على الدين، وألحقنا بالصالحين.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    مفهوم المراقبة

    الحمد لله مالك الملك، عالم الغيب والشهادة، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه على دينه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.

    عباد الله: اتقوا الله وراقبوه، واعلموا أن مراقبة الله تعالى هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الله تعالى على ظاهره وباطنه، وأنه ناظرٌ إليه، سامعٌ لقوله، عالمٌ بحركاته وسكناته ومع ذلك، فقد وكل بعباده ملائكة يكتبون أقوالهم وأعمالهم فقال: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12] وأن أعماله مدونةٌ عليه، ستنشر يوم القيامة، وسيندم إن هو فرط حيث لا ينفع الندم، قال تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:13-14].

    فاتقوا الله يا أمة الإسلام! وراقبوه في السر والعلن، في الظاهر والباطن، وسيروا على نهجه، واتبعوا سنة نبيه؛ تفلحوا وتسعدوا، واعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على رسوله، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين.

    اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة يا رب العالمين، اللهم وفق إمامنا لهداك، وألهمه الرشاد والسداد يا رب العالمين، اللهم انصره بالإسلام يا أرحم الراحمين.

    اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم وفقهم جميعاً لما تحب وترضى، اللهم وفق المسلمين لما تحب وترضى يا رب العالمين، اللهم منَّ على المسلمين جميعاً أينما وجدوا، وحيثما حلوا، اللهم منَّ عليهم بصلاح أحوالهم، اللهم وفق قادتهم لتحكيم كتابك وسنة نبيك يا رب العالمين.

    اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، والمستضعفين في أرضك، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا يا رب العالمين، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وأغث بلاد المسلمين بالخيرات والأمطار يا أرحم الراحمين.

    اللهم ارفع عنهم ما هم فيه من بلاءٍ وجدب ومشقةٍ يا أرحم الراحمين.

    رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

    عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه؛ يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756514664