الباب الخامس والثلاثون من كتاب الجهاد والسير: (باب الوفاء بالعهد).
أي: باب وجوب الوفاء بالعهد.
قال: [حدثنا أبو أسامة -حماد بن أسامة- عن الوليد بن جميع حدثنا أبو الطفيل -عامر بن واثلة بن الأسقع- آخر من مات من الصحابة على الإطلاق- قال: حدثنا حذيفة بن اليمان -اليمان لقب، أما أبوه فاسمه حسل أو حسيل - قال حذيفة : (ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي
قال: [(فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه)] أي: إذا كنتم صادقين فيما تزعمون أنكم تريدون المدينة، ولا تريدون أن تلحقوا بمحمد وجيشه -عليه الصلاة والسلام- فأعطونا العهد والميثاق على ألا تقاتلونا مع محمد عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: انصرفا. نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)].
قوله: (انصرفا) أي: لا تشاركانا في قتال قريش، وفاء لهم بعهدهم والتزاماً بميثاقهم، مع أنهم كفار ومشركون إلا أننا أعطينا العهد والميثاق ألا نقاتل، فيجب الوفاء والالتزام بهذا العهد، وهذا يدل على حرمة نقض العهد بغير مبرر.
أما إذا نقض صاحب العهد معنا عهده فنحن لا نطالب باحترام العهد، بل نحن في حل من العهد، فإذا عاهد اليهود المسلمين أو النصارى المسلمين أو الكفار عموماً المسلمين في دار الحرب أو في دار السلم على قطع القتال وإعطاء الأمان مدة معينة من الزمان أو مدة غير معينة؛ فحينئذ يجب على الطرفين احترام العهد والميثاق، والأصل في المسلم ألا يغدر وألا يغش؛ فإن غدر العدو فهل يلزمنا نحن بعد ذلك الغدر؟ الجواب لا، فنحن لا نغدر في كل الأحوال، وإنما الذي يأتي منا بعد نقض العهد هو الرجوع إلى الأصل الأول قبل العهد، حتى لا يقال حينما غدر اليهود فغدر المسلمون، فلا يسمى رد فعل المسلمين على غدر اليهود بغدر، وإنما بمجرد وقوع الغدر تحلل الطرفان من الميثاق والعهد، فرجع المسلمون إلى الأصل الأول قبل العهد والميثاق، فحينئذ لا يقال لرد فعل المسلمين على اليهود بعد نقض عهدهم: (قد غدروا)؛ لأن المسلم لا يغدر في كل الأحوال؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (انصرفا) أي: يا حذيفة أنت وأبوك انصرفا. لا تقاتلا معنا؛ لأنكم أعطيتم العهد والميثاق.
ثم قال علة ذلك: (نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم).
أي: نفي لهم بعهدهم من قبلك أنت وأبيك، أما نحن فنستعين الله تعالى عليهم، وكان هذا الكلام في غزوة بدر.
وهذا في حقيقة الأمر غيبة، ولكنه حينما سلك هذا المسلك الدنيء وهو قطع الطريق، وأعلن هذه المعصية ونتج عنها إيذاء أقوام قد سبقوا ومروا بهذا الطريق؛ فلا بأس حينئذ من إعلان فسقه دون أن يكون ذلك في وجهه.
وكذلك تجوز الغيبة فيما يتعلق بالمصلحة العامة للمسلمين، وهو ما يسميه العلماء بالجرح والتعديل، تقول: فلان ضعيف. فلان منكر. فلان وضاع سراق. فلان يسرق الحديث، فلان لا يساوي شيئاً في الرواية وغير ذلك.. كل هذا من باب الغيبة، لكنها من الغيبة الجائزة حفاظاً على المصلحة العامة وعبادة المسلمين إلى قيام الساعة، ولولا جواز الغيبة في هذا الباب لاختلط الحابل بالنابل واختلط الصحيح بالضعيف، وما استطاع أحد أن يميّز ما كان من الدين أصلاً وما كان عليه دخيلاً، فأجاز العلماء بالإجماع الغيبة فيما يتعلق بإثبات العدالة من نفسها، وكذلك الكذب فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الحرب خدعة) فلو لم يكن إلا الكذب جاز.
والأولى من الكذب التعريض كما قال السلف: (إن في المعاريض مندوحة عن الكذب). ولا يصار إلى المعاريض إلا في أضيق الحدود، حتى لا يكون دين المرء كله معاريض، إذا علم عن إنسان أنه يستخدم المعاريض دائماً فلا شك أنه تسقط هيبته وتسقط الثقة بكلامه؛ وذلك لأنني مضطر أمام سماع كلام هذا الشخص الذي علم عنه استخدام المعاريض دائماً أن أسيء به الظن وأن أغربل كلامه غربلة: لعله يقصد كذا، ولعله يقصد كذا، ولعله يقصد كذا.
أما المعاريض فالأصل فيها ألا تستخدم إلا في أضيق نطاق، وكذلك الكذب يجوز لدفع وقوع الظلم، وإن كان بعض أهل العلم قال: بل الصدق منجاة.
فلو أنه دخل علي رجل مذعور مفزوع من ظالم أو طاغية يريد أن أستره في بيتي، فأتاني ذلك الظالم المعتدي الغاشم وقال: أعندك فلان؟ أفلان هنا؟ جاز لي أن أقول: ليس هنا. وهذا في حقيقته كذب، لكنه لدفع المضرة الأعظم وهي إهراق دم امرئ مسلم بغير حق. وثبت عن أحمد بن حنبل أنه عرض في فتنة خلق القرآن حينما دخل عنده رجل ممن كان على مذهبه وهو مذهب أهل السنة والجماعة ممن يقول بأن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً، فلما تبعه أعوان السلطان في ذلك الزمان وكان المعتزلة ممن يقولون بخلاف قول أحمد رحمه الله فطرقوا عليه الباب. قالوا: أعندك فلان؟
فأشار الإمام أحمد بسبابته في باطن كفه اليسرى وقال: فلان ليس هنا. وهذا من باب المعاريض. أي: ليس في كفه أو في يده. وهذا استخدام للمعاريض للخروج قدر الإمكان من الكذب الصريح، لكن لو لم يكن من مخرج إلا الكذب في هذه المواطن لجاز الكذب؛ لأن الحرب خدعة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
وكذلك الكذب في الصلح بين المتخاصمين، كل من الخصمين يقول في صاحبه ما لو بلغه لاشتد حنقه وغضبه عليه، ولكنك تسمع من هذا الخصم كلاماً في صاحبه فتذهب وتقول: لقد قال فيك صاحبك أجمل كلام وأطيب كلام، وهو يبجلك ويحترمك ويحبك ويثني عليك الخير كله وغير ذلك. وعند تكرار ذلك يرق القلب، مع أن صاحبه ما قال شيئاً من ذلك، وهذا كذب صريح، لكن حينما كانت المصلحة منه أعظم من المفسدة لجأ الشرع إليها وأباح الكذب فيها.
وكذلك الكذب على الزوجة لدوام العشرة وإلف الحياة، تقول لها: أنت جميلة، وما رأيت أجمل منك. وهي في حقيقة الأمر دميمة. كذلك تقول لها: ما أحلى طعامك! وما أحلى نظامك! وهي في الحقيقة لا تعرف طريق النظام ألبتة ولا تصنع شيئاً، وتقدم لك طعاماً لو وضع أمام القطط والفئران لا يأكلونه، ومع هذا أنت لا تمل أن تثني على هذا الطعام، ولو صنعت لك المرأة أحلى طعام هي وأنت والناس جميعاً يشهدون بأنه أحلى طعام، ولكنك قلت من باب الافتراء: طعامكِ هذا ليس بجيد، لما نسيت ذلك ما بقيت.
فأنت تعلم أن المرأة دائماً تحب أن تنتقد الرجل، فإذا كان هذا معلوماً لديك فلماذا تغضب طالما أنك تعرف أن الأصل عندها أن الناس يغشونك ويخدعونك إذا اشتريت منهم شيئاً؟
كثير منا يلتزم مع النصارى بشرط معين، ثم يكون هو الناقض له، وقد دعينا في أكثر من حادثة للأسف الشديد فوجدنا أن الأخ هو الذي نقض العهد، وهذا دين الله عز وجل فإما أن تلتزم ابتداء وتوفي بما التزمت به؛ لأن هذا هو دين الله، وإما ألا تلتزم من الأصل حتى لا تلام بعد ذلك، ويلام من معك من المسلمين، ويقال: إنكم تخفرون ذمة الله وتخفرون ذمة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا توفون بعهد ولا ميثاق. فيحسب هذا على دينكم، والدين منه براء، فإما أن تلتزم بما التزمت به من عهد وميثاق بالأداء والمنع والترك وإما ألا تلتزم أصلاً فيكون الأمر أهون.
قال: (وقد اختلف العلماء في الأسير يعاهد الكفار ألا يهرب منهم).
أي ربما يأسر الكفار منا أسيراً، ويقولون له: أنت مسلم؟ يقول: نعم. فيقولون: أنت تلتزم بكلمتك، ودينكم يأمركم بذلك؟ يقول: نعم. فيقولون: إذاً: نتركك في الشارع هذا ونقول لك: لا تتحرك من هذا الشارع، وإذا تحركت للضرورة فارجع لنفسك مرة أخرى، فلن نقيدك بالقيود ونسلسلك بالأغلال ونغلق عليك الأبواب لأنك مسلم، فالتزم بعهدك وميثاقك. فهل لو تم هذا بين الأسير المسلم وبين كفار الحرب يلزم المسلم الوفاء به، أم يجوز له الهرب؟
قال: (فقال الشافعي وأبو حنيفة والكوفيون: لا يلزمه ذلك؛ والحجة لأننا في حالة حرب والحرب خدعة، فمتى أمكنه الهرب هرب.
وقال مالك: يلزمه الوفاء بهذا العهد. واتفقوا على أنه لو أكرهوه فحلف ألا يهرب لا يمين عليه؛ لأن هذا يمين المكره.
وأما قضية حذيفة وأبوه فإن الكفار استحلفوهما ألا يقاتلا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر فحسب، فأمرهما النبي عليه الصلاة والسلام بالوفاء، وليس هذا من باب الإيجاب).
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما أن يفيا للمشركين بعهدهم وميثاقهم، وهو ليس على سبيل الوجوب؛ لأنه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام ونائبه؛ لأن هذا يتعارض مع وجوب طاعة الإمام، ولزومه في القتال، ولكن أراد النبي عليه الصلاة والسلام ألا يشاع عن أصحابه أنهم ينقضون العهد.
وأنتم تعلمون أن المنافق مرتد، وأن الردة حكمها القتل: (من بدل دينه فاقتلوه). والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم المنافقين بأعيانهم وذواتهم وأسمائهم، ومع هذا ما قتلهم حتى لا يشاع عنه أن محمداً يقتل أصحابه، فحينئذ يكون هذا باباً من أبواب الصد عن سبيل الله عز وجل؛ ولذلك الإسلام يحترم كلام الناس في كثير من الأحيان، وإذا كان كلام الناس يتعارض مع المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، فلا بد أنه كلام معتبر، فقد قال عمر بن الخطاب : (يا رسول الله! مكني من فلان فلأقتلنه). وفي رواية: (فلأضربن عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا
وكذلك قال لـحذيفة وأبيه: التزما الوفاء بعهد قريش ولا تقاتلا معنا في بدر؛ لأنكما أعطيتماهم العهد والميثاق، ولو خفرتما هذا العهد والميثاق لقال الناس: إن محمداً وأصحابه ينقضون العهود والمواثيق. وفي هذا إسقاط لمنزلة النبي عليه الصلاة والسلام في قلوب العرب، وفي قلوب المشركين الذين كانوا يدعونه قبل الإسلام بالصادق المصدوق.
غزوة الأحزاب في مذهب جماهير العلماء كانت في العام الخامس من الهجرة. وقيل: بل كانت في العام الرابع. قال ذلك مالك ووافقه على ذلك الإمام البخاري ، فأورد في صحيحه في كتاب السير والمغازي: أن غزوة الأحزاب كانت في العام الرابع من الهجرة. وهذا كلام يخالف كلام جماهير العلماء، بل قد انفرد به ثلاثة فقط من أئمة العلم، أما جماهير العلماء فاتفقت كلمتهم على أن غزوة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة، وهي المعروفة بغزوة الخندق.
وفي المدينة جبل يسمى جبل سَلع أو سِلع، وأنتم تعلمون أن اليهود كان يسكنون المدينة، وهم: يهود بني النضير، ويهود بني قينقاع، ويهود بني قريظة، وكان بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام عهد وميثاق، فلما خفر بنو النضير عهدهم وميثاقهم أمهلهم النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام حتى يخرجوا من المدينة، ولا يخرجون إلا بما تحمله إبلهم وأما فوق ذلك فلا، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة تماماً، ونزلوا في جهة الشام عند خيبر وما بعدها من البلدان، وأما بنو قريظة فالتزموا بعهدهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن بني النضير لما أُجلوا عن المدينة ذهبوا إلى قريش في مكة، وألبوا المشركين على النبي عليه الصلاة والسلام، وأعطوا العهود والمواثيق لقريش أنهم سيجتمعون معهم لقتال محمد عليه الصلاة والسلام، فلما أقنعوا قريشاً وصناديد الشرك في مكة بقتال محمد عليه الصلاة والسلام اتفقوا على ذلك، فانطلق يهود بني النضير إلى غطفان وأقنعوهم بأن الحرب قادمة، وأن محمداً وأصحابه على وشك الانتهاء والإزالة من على وجه الأرض.
والشاهد من ذلك: أن غطفان اقتنعت بهذه الخطة، فانضم صوت غطفان إلى قريش وبني النضير، ثم انطلق اليهود إلى بني فزارة ثم بني مرة؛ فأقنعوهم بالخطة وتحزب الأحزاب لقتال النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يبق أمام بني النضير إلا إقناع بني قريظة عن طريق سيدهم كعب بن أسد القرظي فلا زال يهود بني النضير بـكعب بن أسد حتى أقنعوه بالاشتراك في الحرب على أن يكون يهود بني النضير والأحزاب يقاتلون من خارج المدينة، ويقاتل بنو قريظة في الجبهة الداخلية، فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ ليأتيه بخبر هؤلاء. وفي هذا: جواز استخدام الجواسيس والعيون لمعرفة أخبار العدو، وكان الأحزاب عشرة آلاف، والمسلمون ثلاثة آلاف، فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم منزله قال له سلمان الفارسي : (يا رسول الله! أهذا منزل أنزلكه الله عز وجل، أم هو الرأي والمشورة؟ قال: بل هو الرأي والمشورة. قال: ليس هذا بمنزل. اذهب بنا إلى مكان كذا، نحفر لهم خندقاً ونجعل الجبل -أي: جبل سلع- في ظهرنا) فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم الفكرة وكانت جديدة على العرب؛ لأن أمر حفر الخنادق ليس من شأن العرب، بل هو من شأن العجم، وسلمان فارسي من بلاد فارس، فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم الفكرة ونزل على مشورة سلمان. وفي هذا: استخدام الشورى، وأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها.
اشترك النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في حفر الخندق اشتراكاً فعلياً، حتى غطى التراب صدره وبطنه وشعره، وكان النبي عليه الصلاة والسلام كثير الشعر، وحينما ضرب أحد أصحابه بفأسه حجراً استعصى عليه الحجر، ولم يجد من يشكو له صعوبة الحجر إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا آتيك، وأخذ فأسه وضرب الحجر ضربة ثم نظر فيه وقال: (إني لأرى سواري كسرى وقيصر). في هذا الموقف العصيب يبشرهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن ملك كسرى وقيصر سيئول إلى المسلمين.
يقول جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (لقد نزل بنا من الجوع ما الله به عليم، وإني لأنظر إلى بطن النبي صلى الله عليه وسلم قد غطاها التراب، قد التصق لحمه بعظمه من شدة الجوع حتى إنه ربط الحجر على بطنه، فقلت: يا رسول الله! ائذن لي. فأذن لي فذهبت إلى امرأتي وقلت لها: هل عندكم من طعام؟ قالت: عندنا عجين لم نعجنه بعد، وعندنا عنز قائمة. فقال: اذبحي العنز واعجني العجين، ثم لحقت بالنبي عليه الصلاة والسلام فقال: أين كنت؟ قلت: آمر امرأتي أن تذبح العنز وأن تعجن العجين. قال: أعجنته؟ قلت: بعد يا رسول الله! -أي: لم تفعل- قال: اذهب إليها وائتني بعجينها، فذهبت فأتيت بالعجين، فبرك عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلا زالت تخبز منه حتى أكل منه الجيش كله، وأما اللحم فوضع في القدر حتى طهي فبرك عليه النبي عليه الصلاة والسلام حتى أكل منه الناس جميعاً وبقي اللحم كما هو). وهذه معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا ثلاثة آلاف رجل.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحفر مع أصحابه، وأصحابه يقولون ويرتجزون:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً
والنبي عليه الصلاة والسلام يجيبهم ويرد عليهم: يقول:
(اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة).
وفي رواية: (فبارك للأنصار والمهاجرة).
فمثل هذه الأراجيز لا بأس بها؛ لأنه كلام فضيل ويدعو إلى الفضيلة، وفيه دعاء وبركة للمهاجرين والأنصار في موقف كهذا، فهو كلام يشحذ الهمم ويعليها إلى السماء السابعة، ويرفع الروح المعنوية للمجاهدين؛ ولذلك شاركهم النبي عليه الصلاة والسلام مشاركة وجدانية فعلية، وجدانية بهذا الكلام الطيب المبارك، وفعلية بأنه كان كواحد منهم وزيادة، فلم يبن له غرفة من الألمنيوم والزجاج وقال لهم: احفروا الخندق. وقد كان من حقه صلى الله عليه وسلم أن يظل في برج من عاج، ولكنه لم يفعل ذلك.
وهذا دليل ساطع على تواضعه عليه الصلاة والسلام، وعلى أنه القدوة والأسوة الحقة، فإذا أمرهم بأمر كان هو أول الفاعلين.
وجاء الأحزاب وفوجئوا بحفر الخندق. قالوا: ليس هذا من صنع العرب. وكان هناك مضيق ضيّق جداً لم يكن فيه خندق تركه المسلمون ليعبروا منه، ولكنه كان في واد أيضاً، فتنبه لذلك المشركون، فأراد بعضهم أن يعبر من هذا المضيق فاصطادهم المسلمون فقتلوهم شر قتلة، فخاف بقية المشركين أن يعبروا من نفس الطريق.
وكان نعيم بن مسعود مشركاً فأسلم في هذا الوقت، وأتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأراد بعض أصحابه أن يقتلوه؛ فمنعهم النبي عليه الصلاة والسلام ظناً منه أنه سفير القوم، والسفراء في الإسلام لا يقتلون، فقال: دعوه. فدخل نعيم بن مسعود على النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! إني أسلمت، فمرني بما شئت.
قال: (إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت). فذهب نعيم بن مسعود يرسم خطة النصر الجديدة، فذهب إلى يهود بني النضير وبني قريظة وقال لهم: يا معشر يهود! إنكم من أهل المدينة، وإن قريشاً من أهل مكة، وعسى قريش إن هزمت أن ترجع إلى بلادها، وتدعكم وحدكم هاهنا فيقتلكم محمد وأصحابه. قالوا: وماذا ترى؟ قال: أرى أن تأخذوا من قريش أبناءهم رهائن حتى لا يتركوكم وينصرفوا إلى مكة. فقال له اليهود: نعم الرأي رأيك. وذهب إلى قريش: وقال: يا معشر قريش! إن يهود بني النضير وبني قريظة في ريب وشك منكم، وقد خلعوا منكم ربقة الأمان، وسيطلبون منكم أبناءكم رهائن لأنهم لا يأمنوكم، فإن تركتموهم إلى مكة قتلوا أبناءكم. فإن أرادوا ذلك فلا تمكنوهم من أبنائكم، وسرعان ما أتى بنو النضير إلى قريش يطلبون منهم رهائن، فأبت قريش وقالت: لقد صدقكم نعيم. فعلمت اليهود أن قريشاً قد نقضت العهد معها. وهذه كانت أول خطوة من خطوات الهزائم، وسرعان ما اختلف المشركون مع اليهود، فتفرقت الكلمة وتشتت الصف ولم يكن اثنان منهم على قلب رجل واحد.
ثم هاجت رياح عاتية شديدة خلعت خيامهم وألقت طعامهم، ولم تبق لهم لا وتداً ولا خيلاً، كانوا كالصرعى كأعجاز النخل، فكانت فيها الهلكة، وكفى الله المؤمنين القتال، ورجع المشركون إلى ديارهم، وكان ذلك بفضل الله ثم بدعاء النبي محمد عليه الصلاة والسلام الذي ظل ثلاثة أيام يدعو ويستغيث ربه أن يصرف عنه عدوه حتى انصرف، وفي هذا اعتقاد جازم أن الدعاء من أقوى الأسلحة إن لم يكن أقواها على الإطلاق.
سمع حذيفة رجلاً يقول: لو أني مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم لكنت فعلت كذا وكذا وكذا، وكنت سأنصره نصراً مؤزراً. قال حذيفة : أنت كنت تفعل شيئاً من ذلك؟
وكأنه يريد أن يقول له: هل أنت متصور أنك لو كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم لكنت أشد بلاءً وأكثر تحملاً من أصحابه؟ لا والله لا يكون، فالصحابة رضي الله عنهم قد بذلوا المهج، بذلوا النفس والنفيس والغالي والرخيص في سبيل نصرة النبي عليه الصلاة والسلام وتعزيره وتأييده، وفي سبيل رفع راية التوحيد، وقد خدموا دينهم أعظم خدمة، قدموا فيه الولد والوالد والمال، وقدموا فيه كل شيء، كان كل واحد منهم إذا تعارض دينه أو ما يملك من المال والأهل والنفس والولد مع الدين قدم الدين، وهذا فارق جوهري بيننا وبين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
قال حذيفة : (أنت كنت تفعل ذلك؟).
وهنا الإمام مسلم ما أراد أن يذكر الغزوة بجميع تفاصيلها، ولكنه أراد أن يذكر مشهداً واحداً من مشاهد البطولة والشهامة والإيمان لأصحابه عليه الصلاة والسلام. قال حذيفة : (لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر) والقر هو: البرد. وهذا يدل على أن هذه الغزوة كانت في الشتاء.
أي: هل هناك عين؟ والعين يجعلها اللغويون من ألفاظ الاشتراك، أي أن لها معانٍ متعددة، ويفهم معناها المراد من السياق، فعندما تقول: شربت من العين، فالعين هنا: عين مائية. وعندما تقول: نظرت بالعين فالعين هنا العين المبصرة. وعندما تقول: أرسلت عيناً ليأتيني بالأخبار. فالعين هنا المقصود به: الجاسوس وهكذا.. فالعين من الألفاظ المشتركة التي لها معانٍ متعددة، ويفهم المعنى المراد من السياق.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: [(ألا رجل يأتيني بخبر القوم؟)] أليس فيكم أحد مستعد لأن يذهب ويتجسس على العدو، ويأتيني بالأخبار؟ قال: (فلم يجبه أحد)]؛ وذلك لوجود البرد والرياح الشديدة والظلام.
قال: [(فسكتنا)] طبعاً يسكتون على مضض، فهم يريدون هذه الدرجة لكن ليس باستطاعتهم دفع الثمن، فالرياح شديدة جداً والبرد شديد كذلك.
فهل يسع حذيفة أن يقول: اعذرني يا رسول الله! وابعث محمد بن مسلمة أو ابعث المغيرة بن شعبة ، أو أبو بكر هو خير الناس فابعثه؟ لا. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1] حينئذ يحرم على أحد أن يرد على النبي صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً، يحرم عليك أن ترد على سنته، أو تؤولها على غير ما يحتمله النص، أو تلحد في أسماء الله تعالى وصفاته، أو تصرف كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن مراده كما يفعله الملاحدة الآن والمجرمون والعلمانيون.
ما سمعنا الشافعي قال لـأحمد بن حنبل : أتحداك، أو أحمد قال للشافعي: أتحداك. أو إماماً قال لإمام: أتحداك. وإنما قامت بينهم المناظرة بالحق للوصول إلى الحق، وكل منهم يخلص النية لله عز وجل. أما هؤلاء فلا نية لهم إلا نية الشر والطعن في الشريعة.
قال: [(قم يا
قال: [(فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم. قال: اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي)] اذهب يا حذيفة فأتني بخبر القوم ولا تحدث شيئاً تؤلبهم علينا؛ وذلك لأن المسلمين ثلاثة آلاف، والمشركين عشرة آلاف، فلا يريد النبي صلى الله عليه وسلم الدخول معهم في حرب.
قال: [(فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام)] أي: في جو دافئ أو ساخن يقطر عرقاً مع شدة البرد والرياح. فهذه كرامة ومعجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام، فهو الذي دعا لـحذيفة. وفي راوية: أن حذيفة قال: (ادع الله لي يا رسول الله! أن يذهب عني البرد، فدعا له فكان يتصبب في عرقه حتى رجع)، وهذا من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، حتى كان حذيفة. يمشي في عرقه.
قال: (فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام) فكلمة حمام كلمة عربية. وقيل: كلمة معربة. والصواب: أنها كلمة عربية: من الحميم. وأنتم تعلمون أن الحميم ورد في القرآن في غير موطن، والحميم: هو الماء الحار الساخن.
قال: [(كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم -أي: حتى أتيت الأحزاب- فرأيت
أي: أشعل الحطب وعرض ظهره للنار ليتدفأ. وهذا يدل على أن الجو بارد جداً.
قال: [(فرأيت
قال: (فرأيت
قال: [(فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها)] أي: كانت عنده عباءة زائدة يصلي فيها، فألبسه إياها. قال: [(فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت -أي: اقترب وقت الفجر- قال النبي صلى الله عليه وسلم: قم يا نومان!)].
وهذا من شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فهو قد قدم مهمة صعبة جداً، وأتى بخبر القوم ويلزمه أن ينام ليرتاح، ولم يقل له: لماذا تنام؟
وكذلك ليس أحد من الصحابة أنكر عليه أو حسده؛ لأن قلوبهم كانت نقية وطيبة وطاهرة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حاجته إلى النوم ألبسه من عباءته وأمره أن ينام، ثم داعبه بعد قسط وافر من الراحة فقال: (قم يا نومان!) ولم يقل: قم يا حذيفة !، وهذا للدلال وإثبات شفقة النبي عليه الصلاة والسلام على أصحابه الكرام.
إذاً: علي بن زيد وثابت البناني في طبقة واحدة. ستقول: فكيف يروي مسلم عن الضعفاء؟
أقول: هو لم يعتمد على رواية الضعيف بل اعتمد على رواية الثقة وهو ثابت البناني. هب أن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن ثابت البناني عن أنس ، فهنا سيكون صحيحاً. إذاً: زيادة علي بن زيد لا تؤثر؛ فاعتبر أن علياً ليس في السند.
[
عن أنس بن مالك : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش)].
أي: أن المشركين استفردوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ولم يكن معه في ناحيته إلا سبعة من الأنصار، واثنان من المهاجرين.
قال: [(فلما رهقوه)] أي: غشوه. وقيل: كلمة رهقوه لا تقال إلا في الشر؛ لأن كلمة أدركوه تقال في الخير والشر، تقول: أدركت فلاناً لأقتله، كما تقول: أدركت فلاناً لأكرمه. لكن قولك: (رهقت فلاناً). أي: أرهقته وأدركته لأوجعه ضرباً.
فقال: (فلما رهقوه) أي: تمكنوا منه وكادوا يقتلونه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة؟)].
ولذلك بادر واحد من الأنصار السبعة رضي الله عنهم إلى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الثمن هو الجنة فنعم الثمن هو، ولو كان ذلك في مقابل النفس والمال.
قال: [(فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل -أي: حتى قتله المشركون- ثم رهقوه ثانية فقال: من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة)] وهذه منقبة عظيمة جداً للأنصار، فالنبي عليه الصلاة والسلام تمنى لو أنه كان أنصارياً، والمعلوم أن المهاجرين أفضل من الأنصار بنص القرآن الكريم، وأن القرآن أثنى على المهاجرين أولاً ثم ثنى بالثناء على الأنصار، وهذا لا ينفي أن الأنصار لهم المنزلة السامية والمكانة الرفيعة المرموقة في الإسلام وعند الله عز وجل؛ ولذلك جعل النبي عليه الصلاة والسلام حب الأنصار دليلاً وعلامة وآية وأمارة على الإيمان. قال: (لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق). ولما وزع النبي صلى الله عليه وسلم غنائم بعض الغزوات على المهاجرين تارة وعلى المشركين الذين أسلموا تارة وغير ذلك، ولم يعط الأنصار شيئاً، تكلم الأنصار فيما بينهم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم أعطى قومه ولم يعطنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يطيب خاطر الأنصار ويبين مكانتهم في الإسلام: (يا معشر الأنصار! ألستم قلتم كذا وكذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالدينار والدرهم وترجعون أنتم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟).
قال أنس [: (فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه -أي: للقرشيين-: ما أَنصَفْنا أصحابَنا)] أي: أنه حيث دفعناهم واحداً تلو الآخر حتى قتلوا جميعاً، وكان ينبغي أن يدخل المهاجرون بين الأنصار؛ فقال: (ما أنصفنا أصحابنا) حيث اندفعوا جميعاً. أي: كان ينبغي أن تدفعوا بأنفسكم في القتال والدفاع، ولا تنتظروا حتى يقتل آخر أنصاري.
وفي رواية: قال: (ما أنصفنا أصحابنا) أي: أصحابنا الذين تخلوا عنا، لا يقصد الأنصار، وإنما يقصد من فر وترك النبي صلى الله عليه وسلم.
والرباعية: هو السن سواء كان في الفك العلوي أو السفلي قبل الناب وبعد القاطعين.
قال: [(وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه -وفي رواية: وكسرت البيضة- على رأسه، فكانت
أي: أنها ظلت تغسل الجرح، وكلما غسلته زاد نزيفاً، فأتت بقطعة حصير ثم أحرقتها حتى صارت رماداً، فوضعتها على الجرح، فوقف الدم. وهذا بقدرة الله.
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب -يعني: ابن عبد الرحمن القاري - عن أبي حازم: (أنه سمع
قال: [(وبماذا دووي جرحه؟)] دووي بقطعة الحصير. [ثم ذكر نحو حديث عبد العزيز غير أنه زاد: (وجرح وجهه وقال (مكان هشمت): كسرت)].
قال: [وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر جميعاً عن سفيان بن عيينة (ح) وحدثنا عمرو بن سواد العامري أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث المصري عن سعيد بن أبي هلال المصري .
وحدثني محمد بن سهل التميمي حدثني ابن أبي مريم حدثنا محمد -يعني: ابن مطرف - كلهم عن أبي حازم عن سهل بن سعد بهذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
في حديث ابن أبي هلال : (أصيب وجهه عليه الصلاة والسلام)، وفي حديث ابن مطرف : (جرح وجهه)].
هل هناك أشرف من النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا أحد، ومع هذا نزل به وحل به في غزواته من البلاء ما لا يمكن لأحدنا أن يطيقه وهو نبي الله وهو حبيب الله، ولن يضيعه الله، ومع هذا نزل به ما قد سمعتم، حتى لا يقال: إذا كان هؤلاء مؤمنين حقاً وعلى حق فلم فعل الله بهم كذا وكذا؟ فهذه سنة الله تعالى في الخلق، (وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل).
والنبي عليه الصلاة والسلام في الأمور البشرية مثله مثل غيره بل زيادة، أليس هو الذي قال: (إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)؟ أي: حينما تنزل بي الحمى والمرض تنزل بي الآلام مضاعفة كما لو كان اثنان منكما قد نزل بهم الضر، وهو نبي الله بمنطق العصر أو بمنطق أهل الدنيا، أو بمنطق من لا علم له بالسنن الكونية.
قد يقول قائل: إذا كان هذا هو النبي حقاً فإنه لا يمرض ولا ينزل به البلاء. فاستمراراً لهذه الغفلة نقول: إذا كان هو النبي حقاً فكان لزاماً عليه أن يجلس في بيته وأن يدعو ربه، فإن دعاء الأنبياء مستجاب، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يشارك في الصفوف المقدمة بقتال العدو حتى يسن ذلك لأمته، وكان بإمكانه أن يجلس في برج من عاج، ولكنه لم يفعل ذلك؛ ليكون قدوة لكل من تولى إمرة الإسلام والمسلمين من بعده، ولكن الأمة خالفت فوقعت فيما وقعت فيه.
قال: (وفي هذا وقوع الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر، ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم ويتأسوا بهم. قال القاضي عياض : وليعلم الناس أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر، ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، وتلبيس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم).
فالنصارى زعموا أن عيسى إله. ومنهم من زعم أنه ابن الله لما رأوا على يدي عيسى عليه السلام من المعجزات وخوارق العادات، فقالوا: هذا لا يمكن أن يتم على يد بشر، هذا لا بد أنه إله، أو أنه ابن الله، والله أراد أن يكرم ولده. تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين لهم وأراد الله تعالى أن يبين لهذه الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم مثلكم في بشريته كما أنكم بشر، فينزل به المرض والابتلاء، وينال منه العدو، وينال من العدو، والحرب سجال ينال منا وننال منه وغير ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا كغيره من الناس. وفي مجموع هذا كله دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر، فأنتم تعلمون: إلى الآن أن بعض غلاة الصوفية يعدون النبي صلى الله عليه وسلم إلهاً. بل منهم من يقول: هو أول خلق الله. ونسمع هذا كثيراً في إذاعة القرآن الكريم التي ما أنشئت إلا لنشر التصوف في الأمة، يقولون: يا أول خلق الله! ويا نور عرش الله! فهل النبي صلى الله عليه وسلم هو نور عرش الله؟ ويعتمدون على الحديث الموضوع حديث جابر : أول ما خلقت نور نبيك يا جابر ! وهذا حديث موضوع مكذوب لا قيمة له، فنحن نسمع الناس في هذا الوقت يقولون: يا أول خلق الله! ويا نور عرش الله! فما هو الفرق بين هذا القول وبين قول النصارى: عيسى ابن الله؟ هذا ضلال وذاك ضلال. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: وما أكتب. قال: اكتب كل شيء إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى قيام الساعة). وهذا نص صريح أن أول المخلوقات هو القلم. وهناك خلاف: هل القلم أول المخلوقات أم العرش؛ لقول الله تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7].
على أية حال ليس هذا أوان البحث في هذه المسألة، ولكنا أردنا أن نبين أنه قد لُبس على بعض المسلمين في أوصاف للنبي عليه الصلاة والسلام، فذكروا أوصافاً ليست له لا في الكتاب ولا في السنة. فليتق الله أقوام يجعلون للرسول ما هو خاص لله، ويجعلون لمن دون الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكل ذي حق حقه!!
فقد يزعم شخص التوكل في أمر حبله طويل، وإن كان حبله قصيراً فإنه لا يستطيع، كالجماعة الكرماوية الذين يلبسون عمائم خضراء وكوفيات خضراء ويخضبون لحاهم بالأخضر.
فهؤلاء شغلهم الشاغل أنه لا يوجد شيء اسمه أسباب؛ ولذلك يتركون العمل فتراهم لا يعملون.
قيل لي ذات مرة: نريدك أن تناقش شخصاً، فذهبت لأناقشه، أقسم بالله العظيم حينما رأيت والده كأنني رأيت شيطاناً لا إنسياً، فجلست مع والده أكثر من ساعتين انتظاراً لخروج ولده من غرفته التي أغلق بابها عليه، فقلت لأبيه: دعني أكسر الباب وأدخل عليه قال: لا. هو سيخرج بنفسه. فإذا به خرج وقال: ماذا تريد؟ قلت له: أريد أن أعرف مذهبك فإذا وجدت أنه حق اتبعته. فهش وبش وقال لي: كنت في الغرفة وقد تأخرت عليك، وما أخرني عنك -والله- إلا جبريل. فقلت له: جبريل ينزل عليك؟ قال: نعم. قلت له: هذا عدو اليهود من الملائكة. قال: أنت يهودي؟ قلت: لا. أنا مسلم والحمد لله. فقال: أنت مسلم على ملة محمد أم على ملة الرجل الصالح؟ قلت: أنا مسلم على ملة الرجل الصالح محمد صلى الله عليه وسلم. فقال: إما هذا وإما ذاك. قلت: ومن الرجل الصالح؟ قال: إذا دخلت في ديني عرفت هذا الرجل. فقلت: ومن الرجل الصالح؟ قال: رجل من السويس، لا يمكن الوصول إليه إلا إذا آمنت بمبادئه. وصار يعدد المبادئ، منها وأعظمها: ترك الأسباب؛ لأنه يتنافى مع التوكل. وهذا الشاهد من القصة كلها، فالقصة طويلة ولا أريد أن أضيع وقتكم، لكن هذه الكرماوية، وأشهد بالله أنهم خرجوا من الملة بما يقولون ويعتقدون أن جبريل ينزل عليهم، والحقيقة أن الذي ينزل عليهم هو الشيطان وليس جبريل، فقد انقطع نزول جبريل بالوحي على محمد عليه الصلاة والسلام بعد موته.
فالصوفية منهم من يقول بهذا المذهب ويعتقد أن اتخاذ الأسباب يقدح في التوكل، فترى الواحد منهم يهيم على وجهه في الصحراء ويسافر المفاوز والجبال بغير أن يتخذ له زاداً أو طعاماً وشراباً. لماذا؟ يقول: لأن هذا يتنافى مع التوكل.
وطبعاً هذا كلام فاسد في غاية الفساد، ولو أنك في الحقيقة تقول: إن اتخاذ الأسباب يتنافى مع التوكل، فلا تتزوج واطلب الولد بغير زواج، واطلب الشبع والري بغير طعام ولا شراب، فإن هذه الاعتقادات الفاسدة جعلت جماعة الكرماوية يسطون على المحلات، ويسرقون محلات الذهب ومحلات الطعام والشراب وغير ذلك.
حضرنا ذات مرة في بيت محمد الكرماوي الكبير زعيم الكرماوية، ولم نكن نعرف أنه هو الرجل الصالح، وهو سويسي ومن سكان شبرا، والمشهور أن شبرا من أماكن الفتن. أقول: لم أعرف ماذا قالوا بعد حضرة طويلة، وكان هذا سنة (1982م)، فقمت وقلت له: يا شيخ محمد! وما هو الدليل على هذا؟ ولم أفق إلا في الشارع من ضربهم لي. فقلت: هل من المعقول أن النبي الجديد يعامل الناس الذين يريدون أن يتبعوه بهذه المعاملة؟ فهذا سيصبح ديناً فاسداً، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يضرب أحداً ولم يكن يؤذي أحداً، بل كان يواسي كل من أتاه عليه الصلاة والسلام.
فالأصل أن المرء يفر من مواطن البدع كما يفر من الأسد، لكننا ما عرفنا أن هذا أصل من أصول أهل السنة إلا حينما قرأنا في أصول أهل السنة، لـابن بطة واللالكائي ، وأصول السنة للإمام أحمد وولده عبد الله ، والخلال وغير ذلك من الكتب العظيمة جداً التي صنفت في أصول السنة.
وفي هذا الحديث: إثبات المداواة، ومعالجة الجراح، وأن ذلك لا يقدح في التوكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع قوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]
قال: [(فجعل يسلت الدم عنه -أي: يزيل الدم عن الجرح- ويقول: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته؟)] قد يكون هذا موجهاً إلى أصحابه الذين تخلوا عنه، أو غفلوا عن حراسته في هذه الحرب حتى نزل به ما نزل، فيكون هذا من باب التقريع والزجر لهم، ولفت الأنظار ألا يبرحوه.
ومذهب الجماهير: أن هذا تقريع لقريش الذين شجوا رأسه وكسروا رباعيته عليه الصلاة والسلام، وأنه منهم أو أنه ابن لهم، باعتبار الأمر الأول: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم) أي: النبي الذي خرج منهم وهو ابنهم.
قال: [(وهو يدعوهم إلى الله، فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128])].
وهذا يدل على مزيد شفقته عليه الصلاة والسلام على قومه. هل منا أحد يقول ذلك؟ لو أن أباك المسلم ضربك وشجك وكسر رباعيتك فإنك ستدعو عليه مع أنه أبوك ومع أنه مسلم، فانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال لهؤلاء المشركين يدعو لهم: [(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)] وهذا منتهى الشفقة والرحمة والرأفة، وهو ينضح الدم عن جبينه.
قال: (وفي هذا: بيان ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم من الحلم والتصبر، والعفو والشفقة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون، وهذا النبي المشار إليه من المتقدمين، وقد جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد).
قال: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حينئذ يشير إلى رباعيته- وقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله عز وجل)].
التقييد بأن هذا القتل كان في سبيل الله احترازاً ممن قتله رسول الله في حد أو قصاص؛ لأن هذا ليس محلاً لغضب الله، بل هو محل سعة رحمة الله عز وجل، فالذي ارتكب ما يوجب الحد أو القصاص فأقيم عليه الحد غفر له ذنبه، ومغفرة الذنب تتنافى مع غضب الله عز وجل.
فقوله: (لقد اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله في سبيل الله) احتراز ممن قتله رسول الله في حد أو قصاص، وإنما شدة الغضب على من قتله النبي صلى الله عليه وسلم يكون قتله في سبيل الله. أي: في ساحة القتال؛ وذلك لأن هذا المقتول الذي قتل بيد الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على قتل الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك اشتد غضب الله عز وجل عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر