أما بعد:
فالحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه على ما منّ علينا من إتمام الدروس العلمية، ثم بهذا اللقاء الحافل لإخوة أفاضل وأخوات فضليات، وإن من دواعي سروري وامتناني واعتزازي وافتخاري أن أجلسني ربي بجانب شيخنا الفاضل الكريم في هذه الليلة المباركة، فقد أحسن معنا منذُ التزمنا ومنذ نعومة أظفارنا ونحن نجلس بين يديه إلى يومنا هذا أتم الإحسان، ولا أريد أن أكثر من مدحي فيه، فإنه يستغني عن مدح مثلي، فالحمد لله تعالى الذي تتم بنعمته الصالحات.
سنتكلم اليوم عن رجل عز الزمان أن يأتي بمثله، وعقمت النساء أنت تأتي بنظيره، رجل خلقه الله له، كان شديداً على أهل البدعة رفيقاً بأهل السنة، حرباً على أعداء الله سلماً لأوليائه، أحرص الناس على السنة وأشدهم هجراً للبدعة هو: علم الأعلام، مجدد عصره، ودرة دهره، الإمام المفسر المحدث الحافظ الفقيه المجتهد المجاهد محيي السنة وقامع البدعة: شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي ، إمام زمانه والمقتدى به في أوانه، بركة الزمان وحسنة الأيام، بذل الغالي والنفيس لنصرة الحق، ورفع راية الدين، عانى دهراً يكفأ الباطل ويكشف سيفه، ويحق الحق ويعلي شأنه.
قال الذهبي فيه: شيخنا شيخ الإسلام فرد الزمان وبحر العلوم.
وقال ابن سيد الناس : سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلامة الأوحد البارع الحافظ الزاهد الورع القدوة شيخ الإسلام وسيد العلماء وقدوة الأئمة الفضلاء، ناصر السنة وقامع البدعة حجة الله على العباد، راد أهل الزيغ والعناد.
وقال فيه السيوطي : هو شيخ الإسلام الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسر نادرة العصر أحد الأعلام كان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، ومن الزهاد والأفراد.
قال فيه الشوكاني : لا أعلم بعد ابن حزم مثله، وما أظن أنه سمح الزمان بين عصري الرجلين بمن يشابههما أو يطالبهما، قال ابن دقيق العيد بعدما سألوه: رأيته؟ قال: رأيته، قالوا: كلمته؟ قال: كلمته، قالوا: ناظرته؟ قال: لا، قالوا: لِم؟ قالوا: يحب الكلام، وأحب الصمت، وتأول هذا على أنه إذا تكلم كان كالسيل الجرار، فهو بحر العلوم، قالوا: ماذا تقول فيه؟ قال: أقول: لم يرَ مثل نفسه.
قال ابن حجر : شهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس.
وتلقيبه شيخ الإسلام في عصره باقٍ إلى الآن على الألسنة الذكية، ويستمر غداً كما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقدارهم، أو تجنب الإنصاف، وكان من أعظم الناس قياماً على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، قال: وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتمييز بين المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن علماء الحنابلة، قال أبو الحجاج المزي: ما رأيت مثله، وأبو الحجاج من جهابذة أهل العلم، كان حافظاً نحريراً مدققاً، عالماً بالجرح والتعديل والرجال والأسانيد، يقول عن شيخ الإسلام : ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، ما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أتبع لهما منه؛ لذا حري بنا أن نتصفح جوانب من حياة شيخ الإسلام وسيد الأعلام.
ومن هذه الجوانب: الجانب العلمي، ولا غرو ولا عجب، فهو العالم الرباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم.
وقبل الكلام على هذا الجانب المهم من حياة شيخ الإسلام لابد لنا من مقدمة نبين فيها فضل العلم وأهله، تشحيذاً للهمم، وإعانة لمن أراد الوصول إلى القمم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب).
وشتان شتان ما بين القمر وبين سائر الكواكب! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
وعن حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت معاوية رضي الله عنه وأرضاه خطيباً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وهذا الحديث له منطوق وله مفهوم، أما المنطوق فهو: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين، وأما المفهوم فهو: الذي لم يتفقه ولم يلهم العلم ولا الفقه في الدين لم يرد الله به خيراً، فيا للخسارة على من تخلف عن مجالس العلم! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي)، وهذه إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الفهم الذي هو شطر العلم -إن لم يكن هو كل العلم- محض فضل الله جل في علاه، وهذه توافق قول الله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا قاسم، والله يعطي، ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله)، هذه الطائفة المنصورة والطائفة الناجية، قال كثير من المحدثين: لا نعرفهم إلا أهل الحديث.
قال علي بن أبي طالب للكميل : العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، العلم حاكم والمال محكوم عليه، المال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق.
وقال أيضاً: العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم كانت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا خلف منه، ولا غرو ولا عجب، فإن الله جل في علاه كتب في اللوح المحفوظ: فناء هذه الدنيا وخرابها مناط بموت العلماء؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لا تقوم الساعة حتى يفشو الجهل ويقبض العلم، وإن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق الله عالماً أو لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسألوهم فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، فإن الساعة لا تقوم إلا بموت العلماء.
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبثه لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والدين عند الأخلاق، والقربة عند الغرباء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخلق قادة يقتدى بهم، وأئمة في الخلق يقتفى آثارهم.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: مثل العلماء في الناس كثمل النجوم في السماء يهتدى بهم.
وقال الإمام أحمد : الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ وذلك بأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه.
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال الله يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم لنصرة دينه)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم : هذا الغرس هم أهل العلم.
وبين عمر بن عبد العزيز أن الذي يتعبد على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فقال: من عمل بغير علم كان ما يهدم أكثر مما يبني، وليس منكم ببعيد قصة الراهب والعالم عندما أفتيا الذي قتل تسعة وتسعين نفساً.
وقال بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم؟! لا شيء، وأي شيء فاته من أدرك العلم؟! لا شيء.
وقال الحسن : مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدماء الشهداء، لولا العلماء لكان الناس كالبهائم.
وقال سالم بن أبي الجعد : اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم، فأعتقني، فقلت بأي حرفة أحترف؟ عبد أسود أعتق، أي عمل يعمل بعد ذلك؟ قال: فاحترفت العلم فما تمت بي سنة حتى أتاني أمير المؤمنين زائراً فلم آذن له.
والأعمش سليمان بن مهران كان جبلاً في الحفظ، وإن كان مدلساً لكن كان نحريراً مدققاً محققاً عالماً بالحديث وبفقه متنه، كان يقول: لولا الحديث لازدراني الناس، ولذلك قال لقمان : إن العلم أجلس المساكين مجالس الملوك.
وقال معاذ بن جبل : العلم حياة القلوب من العمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الإيمان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأحرار ومجالسة الملوك، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، الفكر به يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله عز وجل، وبه يعبد، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، العلم إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء فقد بين معاذ رضي الله عنه أن الله أناط السعادة بأهل العلم، وأناط الشقاوة بأهل الجهل، وقد بوب البخاري يبين فضل العلم على فضل العبادة أوسع ما يكون، فقال: باب العلم قبل العمل، واستشهد على ذلك بقول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، فرتب الاستغفار بعد العلم:
تعلم فليس أخو علم كمن هو جاهل
وإليكم أروع الأمثلة للعالم الرباني، الذي يؤتسى به ويقتفى أثره: هذا النحرير العالم فارس الميدان العالم الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية :
إخوتي الكرام! لا يخلو عالم ولا طالب للعلم من همة عالية، فإن علو الهمة عنوان التسديد والنجاح، وسفول الهمة عنوان الخسران والحرمان، لقد روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير قال: العلم لا ينال براحة الجسد، وقد قالوا: من جد وجد، ومن طلب العلا سهر الليالي، وقال الشاعر:
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب).
وشتان شتان ما بين القمر وبين سائر الكواكب! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
وعن حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت معاوية رضي الله عنه وأرضاه خطيباً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وهذا الحديث له منطوق وله مفهوم، أما المنطوق فهو: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين، وأما المفهوم فهو: الذي لم يتفقه ولم يلهم العلم ولا الفقه في الدين لم يرد الله به خيراً، فيا للخسارة على من تخلف عن مجالس العلم! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي)، وهذه إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الفهم الذي هو شطر العلم -إن لم يكن هو كل العلم- محض فضل الله جل في علاه، وهذه توافق قول الله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا قاسم، والله يعطي، ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله)، هذه الطائفة المنصورة والطائفة الناجية، قال كثير من المحدثين: لا نعرفهم إلا أهل الحديث.
قال علي بن أبي طالب للكميل : العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، العلم حاكم والمال محكوم عليه، المال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق.
وقال أيضاً: العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم كانت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا خلف منه، ولا غرو ولا عجب، فإن الله جل في علاه كتب في اللوح المحفوظ: فناء هذه الدنيا وخرابها مناط بموت العلماء؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لا تقوم الساعة حتى يفشو الجهل ويقبض العلم، وإن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق الله عالماً أو لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسألوهم فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، فإن الساعة لا تقوم إلا بموت العلماء.
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبثه لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والدين عند الأخلاق، والقربة عند الغرباء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخلق قادة يقتدى بهم، وأئمة في الخلق يقتفى آثارهم.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: مثل العلماء في الناس كثمل النجوم في السماء يهتدى بهم.
وقال الإمام أحمد : الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ وذلك بأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه.
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال الله يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم لنصرة دينه)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم : هذا الغرس هم أهل العلم.
وبين عمر بن عبد العزيز أن الذي يتعبد على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فقال: من عمل بغير علم كان ما يهدم أكثر مما يبني، وليس منكم ببعيد قصة الراهب والعالم عندما أفتيا الذي قتل تسعة وتسعين نفساً.
وقال بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم؟! لا شيء، وأي شيء فاته من أدرك العلم؟! لا شيء.
وقال الحسن : مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدماء الشهداء، لولا العلماء لكان الناس كالبهائم.
وقال سالم بن أبي الجعد : اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم، فأعتقني، فقلت بأي حرفة أحترف؟ عبد أسود أعتق، أي عمل يعمل بعد ذلك؟ قال: فاحترفت العلم فما تمت بي سنة حتى أتاني أمير المؤمنين زائراً فلم آذن له.
والأعمش سليمان بن مهران كان جبلاً في الحفظ، وإن كان مدلساً لكن كان نحريراً مدققاً محققاً عالماً بالحديث وبفقه متنه، كان يقول: لولا الحديث لازدراني الناس، ولذلك قال لقمان : إن العلم أجلس المساكين مجالس الملوك.
وقال معاذ بن جبل : العلم حياة القلوب من العمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الإيمان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأحرار ومجالسة الملوك، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، الفكر به يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله عز وجل، وبه يعبد، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، العلم إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء فقد بين معاذ رضي الله عنه أن الله أناط السعادة بأهل العلم، وأناط الشقاوة بأهل الجهل، وقد بوب البخاري يبين فضل العلم على فضل العبادة أوسع ما يكون، فقال: باب العلم قبل العمل، واستشهد على ذلك بقول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، فرتب الاستغفار بعد العلم:
تعلم فليس أخو علم كمن هو جاهل
وإليكم أروع الأمثلة للعالم الرباني، الذي يؤتسى به ويقتفى أثره: هذا النحرير العالم فارس الميدان العالم الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية :
إخوتي الكرام! لا يخلو عالم ولا طالب للعلم من همة عالية، فإن علو الهمة عنوان التسديد والنجاح، وسفول الهمة عنوان الخسران والحرمان، لقد روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير قال: العلم لا ينال براحة الجسد، وقد قالوا: من جد وجد، ومن طلب العلا سهر الليالي، وقال الشاعر:
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
فقال: امسح يا بني هذا، فانتخب بعض الأسانيد فكتبها له، ثم قال: اطلع على هذه الأسانيد، وأعطاه اللوح فرددها عليه من حفظه، فقال الشيخ بعدما انبهر من سرعة حفظه، ومادحاً مكانة هذا الصبي، قال: هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإنه لم يُرَ مثله، وقد كان، ثم فاق شيخ الإسلام أقرانه في الحفظ وسعة الاطلاع وكثرة الاشتغال حتى أفتى ولم يبلغ العشرين من عمره، ثم شرع في التجميع والتأليف حتى صار إماماً لا يشق غباره في كل شيء، فإذا سئل عن فنٍ ما ظن السامع بعد الإجابة أنه لا يحسن غير هذا الفن؛ من شدة إتقانه لهذه العلوم.
قال الذهبي : وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم، مع حفظه للمتون، وهذا ما انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضار الحديث واستخراج الحجج منهما، وإليه المنتهى في عزوه الحديث إلى الكتب الستة ومسند أحمد.
قال الذهبي فيه: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث.
وهو الذي ربط الناس بالأثر دون تعظيم البشر على حساب الأثر، ولا غرو ولا عجب فهذا دأب سلفه من العلماء الربانيين، فهذا أبو حنيفة يقول: إن رأيتم قولي يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واضربوا بقولي عرض الحائط، وهذا مالك الإمام العلم الذي قال فيه الشافعي : إذا ذكر الحديث فـمالك النجم، قال مالك : كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وقال الشافعي عندما سئل في مسألة فأجاب بعض أصحابه بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال السائل: يا شافعي ! أتقول بهذا؟ قال: وما لي لا أقول بهذا؟ أرأيتني خرجت من كنيسة؟! أريت في وسطي زنار؟! وما لي لا أقول بما قال به الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
والقصة المشهورة في مناظرة الشافعي مع إسحاق بن راهويه عندما دخل أحمد على مجلس الشافعي وقال لـإسحاق : سأريك رجلاً لم ترَ عينك مثله، فنظر إلى الشافعي فوجده شاباً حدثاً فقال: أنترك ابن عيينة يقول: حدثنا فلان عن فلان ونجلس في مجلس هذا الحدث؟ قال: إن فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو خذه بنزول، وإن فاتك العلم من الشافعي فلن تجده عند غيره، فجلس مجلس الشافعي وكانت المسألة المطروحة هل تباع بيوت مكة؟ وهل تؤجر؟ وهل تشترى؟ وهل تمتلك أم لا؟ فقال الشافعي : تمتلك وتباع وتؤجر، واستدل على ذلك بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قالوا: (تنزل في بيت عمك؟ قال: وهل ترك لنا
وفقه الحديث: أن عقيلاً ورث عندما كان كافراً أباه وامتلك بهذا الإرث وباع واشترى في هذه البيوت، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فاستشهد الشافعي بهذا الحديث، فلم يتفطن إسحاق لفقه هذا الحديث، فأنكر على الشافعي وقال: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن عائشة -وانتبهوا هو يعارض قول النبي بقول أفضل البشر أجمعين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: حدثني فلان عن فلان عن عائشة : أنها ما كانت ترى ذلك، وحدثني فلان عن فلان عن الزبير : أنه ما كان يرى ذلك، وعدد كثيراً من الصحابة، فقام الشافعي مغضباً، ثم قال: من هذا؟ كأنه يقلل من شأنه، قالوا: ابن راهويه ، قالوا: أنت فقيه خراسان؟ قال: يزعمون ذلك، قال: ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنه، أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- وتقول: قال فلان وقال علان، فعلمه درساً لم ينساه أبداً.
وقال أحمد: لا تأخذوا مني، ولا من ابن عيينة ولا من الثوري وخذوا من حيث أخذوا، ولذلك رفع هذا الشعار ابن تيمية فربط الناس بالأثر دون تعظيم البشر على حساب الأثر، واستقى ذلك تلاميذه النجباء، وأعلاهم قدراً ابن القيم الذي أتانا بقول يكتب بماء الذهب:
ما العلم إلا قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه
ومن درر كلام شيخ الإسلام : إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده وفهم متنه، ففهم المتن رأس الأمر، وهنا يخلط ابن تيمية بين علم الحديث وعلم الفقه، وهذا ما قرره مصنف من تلاميذ تلاميذه وهو: ابن رجب حيث يقول: طبقات العلماء ثلاث، أعلاها وأرقاها فقهاء المحدثين: كـالشافعي وأحمد والبيهقي والنووي وابن حجر وغيرهم، ولذلك جمع شيخ الإسلام بين العلمين فقال: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان:
إثبات سنده، وهذا علم الحديث رواية، وفهم متنه وهذا علم الفقه أو فقه المتن، فجمع بين العلمين، ولا يزال العلماء يعتدون بتصحيح ابن تيمية وتضعيفه، وآخرهم محدث الشام علامة الزمان العلامة الألباني ، أما في الفقه فهو البحر الذي لا ساحل له، فهو المحرر والمدقق والمحقق، وهو القائل: ليس العلم أن تعلم الحلال من الحرام، لكن العلم أن تحرر محل النزاع، وتعرف الراجح من المرجوح، أي: أن تعلم خير الخيرين، وشر الشرين.
ورحم الله ابن رشد حيث قال: صانع الخفاف ليس كبائع الخفاف، وهذا يقرر كلام ابن تيمية ، فـابن تيمية يقول: ليس العلم أن تعلم الحلال والحرام، فكل إنسان يمكن أن يفتح الكتاب ويقرأ: هذا حلال وهذا حرام، ولكن العلم أن تحرر محل النزاع، وتعرف كيف ترجح بين الراجح والمرجوح، قال: أن تعلم خير الخيرين وشر الشرين، فيقول ابن رشد : ليس صانع الخفاف كبائع الخفاف، يفرق به بين الفقيه العالم المحرر المدقق المحقق وبين المقلد، كأنه يأمر المقلد أن يصمت، ولا يناقش، ولا يجادل، ولا يرد على أحد، ويتعبد بما قلد به، أما المحرر فالفارق بينه وبين المقلد كما بين السماء وبين الأرض، ولذلك قال الذهبي يبين فضل شيخ الإسلام : قد فاق شيخ الإسلام الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة، فليس له نظير، وقال ابن سيد الناس : إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته.
فـابن تيمية يقول: العدة لها حقان، حق لله وحق للزوج، حق الزوج الرجعة، وقد انقطعت في البينونة الكبرى فلا رجعة، حتى تنكح زوجاً غيره، وحق الله هو استبراء الرحم، واستبراء الرحم لا يكون إلا بحيضة واحدة، فقال: لولا الإجماع لقلت: المطلقة ثلاثاً لا يبقى لها إلا حق الله جل في علاه فلا تكون العدة إلا حيضة واحدة.
أما العقيدة والملل والنحل فهذا بابه وفنه الذي من أجله قاتل وناظر، فما تعرفت القرون من بعده على عقيدة السلف الصحيحة إلا به، فله في عنق كل سلفي المنة، فقد أنار الله به منار السنة وأطفأ به نار البدعة، وقد نفض الغبار عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وقاتل بها أهل البدعة والضلالة، والمكتبة الإسلامية زاخرة برسائله وكتبه الماتعة، لاسيما في الأسماء والصفات، ومسائل الإيمان والنبوات والرسالات.
وأما الصنف الثاني من هؤلاء فهم أهل الحسد والحقد، والحسد مذموم في كل الشرائع، وقد نهى عنه الشرع نهياً جازماً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تحاسدوا)، فهو داء عضال، نسأل الله جل في علاه أن يعافينا منهم، فالحاسد محترق، لا يرضى إلا بموت المحسود، وزوال النعمة عنه، فيطلق بصره ولسانه ويده على المحسود، يتمنى أن يمنع عنه خير ربه وليس بمانع، وهذا الصنف أشر على العلماء وعلى طلبة العلم من الجهال، وهؤلاء أصناف كثيرة عادوا شيخ الإسلام في دمشق وفي مصر، أما في دمشق فقد كان أعلاهم شأناً المنصوري ، وأما في مصر فكان زين الدين بن مخلوف ، فهؤلاء رموا شيخ الإسلام بالجهل والتجسيم، بل كفروه بعد ذلك، ولاقى ما لاقى من التعذيب والإهانة والسجن والضرب والنفي بسبب وشاية هؤلاء، فإن شيخ الإسلام لما قام بتعليم الناس وربطهم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونبذ التقليد وتعظيم الأشخاص فوق دين الله جل في علاه، أغاض بذلك أهل الهوى وأصحاب التقليد الأعمى وأصحاب المآرب والكراسي، فرموه بكل لقب سيء يريدون بذلك صد الناس عنه، وإخماد دعوته والتعمية عليهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لكن نقول كما قال الله: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
فالمبتدعة نفاة الصفات قالوا عنه: إنه مجسم؛ لأنه أثبت صفات الله كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما المقلدة العميان المتعصبة للفقهاء فقالوا: قد خرق الإجماع وعادوه بل كادوا يقتلونه من أجل مسألة التبرك، والطلاق ثلاثاً والطلاق في الحيض.
وقال القبوريون الذين يعظمون الأولياء فوق تعظيمهم لرسول الله، بل فوق تعظيمهم لله جل في علاه: إنه يبغض الأولياء ولا يعظم الرسل والأنبياء .. إلى آخر هذه الافتراءات والأباطيل على شيخ الإسلام .
فلا غرو ولا عجب أن هذا الموقف لا يقف عند شيخ الإسلام بل يتكرر كثيراً مع كل مصلح، أو مجددٍ، أو مجتهد يدعو إلى دين الله جل في علاه، الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعو إلى نبذ ما خالفهم، وعدم التعصب للأشخاص مع إجلالهم وتقديرهم، ومهم جداً أن تعرف قدر العظماء والأفاضل والأماجد والأكارم، لكن لا ترفع قدرهم فوق رسول الله، ولا فوق شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يجب عدم التعصب للأشخاص مع إجلالهم وتقديرهم، ودون الغلو فيهم، والعاقبة لابد أن تكون لهؤلاء العلماء الربانيين بفضل الله جل في علاه؛ لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، قال الله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17]، وما زلنا حتى الآن نتكلم عن شيخ الإسلام وعن فضله، وعن كتبه، وما زال الناس يعظمونه ويعظمون شأنه ويدرسون كتبه، فإن من أراد الله أراد الله له ما يريد، فيا فوز العلماء!
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم! وأترك المجال لشيخنا ليشنف آذاننا بما عنده، جزاه الله خيراً.
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وآله وصحبه.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه آخر، أما هذه الأمة فإن الله تعالى يبعث لها على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها)، هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى واحد من هؤلاء الأماجد الذين ملئوا الدنيا، وعلموا الناس، وهو حقيق بقول الشاعر المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
هذا غيض من فيض في حق هذا الإمام الجليل، ونحن الليلة نتطفل على مائدة شيخ الإسلام ابن تيمية وننهل من معينه الذي لا ينضب، ونوره الذي لا يكاد ينقضي، فهو شمس أرسلت أنوارها المتجددة إلى عالم ما وراء الزمان والمكان، فهذا الشيخ الجليل العظيم رفع الله تبارك وتعالى له ذكره؛ لأنه أفنى عمره في خدمة دين الله تبارك وتعالى، هذا الرجل الذي أحيا ما اندرس من معالم السنة، وجدد شرع الله تبارك وتعالى، ورفع لواء العقيدة السلفية، وجاهد على كافة الأصعدة، جاهد في الله تبارك وتعالى بالسيف والسنان في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل، وزهد في كل منصب من مناصب الدنيا الفانية، ولقد كان في وسعه أن يكون أميراً على بلد كامل، لكنه رفض ذلك وقال: أنا رجل ملة ولست رجل دولة، وهكذا فقه مراد الله عز وجل فوظف نفسه لخدمة شرع الله تبارك وتعالى.
فـابن تيمية ليس رجلاً عادياً إنما هو مفخرة من مفاخر الأمة الإسلامية، وطود شامخ، وصانع من صناع التاريخ، وأمة سكبت في رجل، ومنهج صيغ في شخص، وتاريخ كتب باسم إنسان، هذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى.
صفحات حياته مضيئة، مشرقة بالأنوار الهادية التي لا تكاد تنقضي، فعندنا نحن المسلمين من بين سائر الأمم من هذه الشخصيات القيادية الريادية ما تخضع لها أعناق الأمم والشعوب، مثل ابن تيمية الذي كتب بأحرف من نور على جبين الزمن فعاش من الخالدين؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يضيع أجر المحسنين، وهي سنة كونية تعمل في هذا الكون، أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فهذا الرجل الذي خلط روحه ودمه بشرع الله عز وجل، ووصل ليله ونهاره لخدمة منهج الحق، هذا الرجل رفعته الأمة فوق رءوسها، وما زال صدى شيخ الإسلام ابن تيمية يتردد في آفاق العالم كله.
أما الذين ناصبوه العداء ورموه عن قوس واحدة، وفتحوا له أبواب الزنازين والمعتقلات، وأفتوا بإهراق دمه، فقد أخمد الله تبارك وتعالى ذكرهم، فإذا بهم يرقدون الآن صرعى تحت أنقاض الزمن، أما هو فقد جدد الله تبارك وتعالى له ذكره، ورفع له قدره، وصارت الأمة الآن خلفه حتى أن المحاكم الشرعية في سائر أقطار العالم الإسلامي تتبنى اجتهادات ابن تيمية التي كان يطعن بها عليه، وأصبحت الآن منهجاً مقرراً في القوانين والدساتير التي تخط في تلك المحاكم، ورجل كهذا لابد أن يأخذ دوره الريادي، فهو بحق رجل لكل العصور، وابن تيمية جدد منهاج السلف في فترة -لو تعلمون- كانت أنوار السلف فيها خافتة، وظلمات البدعة قد عمت الآفاق حتى أشرقت شمس ابن تيمية فبددت تلك الظلمات، حارب الصوفية الغلاة، وحارب الفرق المنحرفة المبتدعة، وأظهر منهاج السلف، وكتب في كل صعيد، ولم يكتف بالكتابة، وإنما ربى أمة من أفاضل العلماء، حملوا منهاج النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا فحسب، بل هو الرجل القانت الزاهد الأواب الذي يئوب إلى ربه تبارك وتعالى، ويستعينه في كل معضلة. إنك إذا تأملت سيرة ابن تيمية فإنما تقرأ قصة رجل صنعه الإسلام وصاغته الشريعة الإسلامية لتبين للناس عبقرية الإسلام في إخراج أبناء الإسلام الذين يلفتون الأنظار إلى شرع الله تبارك وتعالى، هو الرجل المجاهد في سبيل الله، القوام بالحق، الرجل الزاهد، الرجل الأسيف الذي يبكي من خشية الله وتضطرب فرائصه وترتعد فرقاً من الله تعالى، وهو الرجل الذي يرفع حوائجه إلى الله جل وعلا، وهو الرجل الذي يقول عن نفسه: وكانت تشكل عليّ المسألة فأهرع إلى المساجد المهجورة وأعفر وجهي في التراب وأسجد وأبكي وأقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، فعلمه معلم إبراهيم وفهمه مفهم سليمان سبحانه وتعالى.
فارفعوا عقيرتكم بالجؤار إلى الله عز وجل في كل أمر صغير أو حقير من أمور هذه الحياة، فقوة الإيمان صفحة واضحة المعالم في حياة ابن تيمية رضي الله تعالى عنه.
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري -أي: الإيمان والعلم- أينما ذهبت فهي معي، أنا سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة في سبيل الله تبارك وتعالى. فأمره كله مفوض إلى الله عز وجل، أسلم قياده إلى تدابير القدر، فما يصنع أعداء الله تعالى بطالب علم أسلم قياده إلى الله عز وجل، يعلم أن له في كل أمر من أمور حياته حكمة مع الله تبارك وتعالى، فاسمه الحكيم سبحانه وتعالى؟
وكان يقول في محبسه بالقلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما وفيت شكر هذه النعمة، رجل مسجون مأسور محبوس، يذكر عن نفسه أنه لو أنفق ملء القلعة ذهباً ما وفى حق شكر نعمة الله تبارك وتعالى، عندما جاءه الجلاوزة ليقتادوه إلى هذا الحبس الذي قضي عليه فيه هش وبش وابتسم، وقال: كنت أنتظر ذلك منذ أمد طويل، وهذا فيه خير عظيم، ثم انطلق معهم إلى السجن، فلما أغلق الباب تفتق ذهنه فقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13]، لذلك يقول ابن قيم الجوزية : كنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الدنيا أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة!
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، يقول ابن القيم : سمعته يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟! وحضرته مرة وقد انفتل من صلاة الفجر، ثم جلس يذكر الله إلى قريب من منتصف النهار، ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي، فإذا لم أتغذى سقطت قواي، أي: أن ذكر الله تبارك وتعالى هو مادة القوة التي تربط على قلبي، وتنير الآفاق لروحي، فينطلق عاملاً لله تبارك وتعالى، إن هذا المعنى هو الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عندما قال لهم: (إنكم لستم كهيئتي، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني)، قال العلماء: يقصد ما يفتح الله تبارك وتعالى به على قلبه من أبواب المعاني الإلهية فيطعمه ويسقيه:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به وقت الكلال وفي أعقابها حاد
إذا شكت من كلال السير أوعبها روح القدوم فتحيا عند ميعاد
إن مثل هذا الرجل العظيم بعثه الله تبارك وتعالى والأمة تتخبط في دياجير الظلمات، وحاله كحال الشاعر وكأنه يصفه يوم قال:
ليل ولم يبقَ غير شعاع لم ينعه للمدلجين الناعي
ما زال وضاء الثناء بأمة ضل القطيع بها وضل الراعي
إن الإخلاص في طلب الحق والتخلص من أدران الهوى صفحة مضيئة من صفحات شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يقول: ومعلوم أن الإيمان كله تقوى الله، وتفصيل أصول التقوى وفروعها لا يحتمله الموضع، فإنها الدين كله، وينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه، وعبادته والاستعانة به كما في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ولقد أحس بإخلاصه كل من عايشه وأدركه، فهذا الإمام السبكي وكان من ألد أعدائه، يقول في رسالته: والمملوك يقول ذلك دائماً وقدره -أي: ابن تيمية - في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة، والورع، والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك المأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان.
يقول الحافظ ابن كثير : لم أرَ مثله في ابتهالاته، واستعانته بالله، وكثرة توجهه إليه.
فكل مسلم حري به وحقيق أن يطرق باب ربه تبارك وتعالى، وأن يرفع حوائجه إلى الله جل وعلا، فالإعانة من الله جل وعلا، فإذا أردت أي باب من الأبواب فاقرع باباً لا يغلق آناء الليل وأطراف النهار، وهو باب الله تعالى؛ لذلك قال بعض العارفين: إن من أدمن قرع الباب أوشك أن يفتح له، من وقف على باب الله تعالى قارعاً مبتهلاً متبتلاً أوشك الله جل وعلا أن يفتح له هذا الباب، ليلج مع السابقين الأولين من العظماء الأماجد الذين حملوا مشعل الهداية، وصاروا في ركاب الأنبياء والمصلحين عمالاً مع الله تبارك وتعالى، مجاهدين تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم، وشيخ الإسلام ابن تيمية الرجل العظيم الذي نزل الإسكندرية، وهذه من مفاخر أهلها، وكذلك الصحابة وطئوا أرضها، ونزلها من الأعلام الأماجد الشوامخ ما لا يحصى عدداً، فشرفنا في هذه المدينة بلقاء شيخ الإسلام ابن تيمية حيث أرسلوه ليحبس في قلعة الإسكندرية.
مكث ابن تيمية في مدينة الإسكندرية ثمانية شهور يبث اعتقاد السلف رضي الله تعالى عنهم جميعاً، وأهدى إلى الأمة كتابات من أبدع ما كتب للرد على الملاحدة والمنطقيين، سئل عن تقريرات المناطقة فكتب كتابه الماتع: الرد على المنطقيين، وسئل عن ابن سبعين الصوفي الملحد فألف رسالته: بغية المرتاد المعروفة باسم السبعينية، وهذه كتبها هنا في مدينة الإسكندرية، ودعا إلى منهاج السلف، ومن يومها ومذهب السلف مستقر في مدينة الإسكندرية بحمد لله تبارك وتعالى.
يقول خادمه: ثم بعد أيام جاء عند الشيخ شمس الدين بن سعد الدين الحراني، وأخبره أنهم يسفرونه إلى الإسكندرية، -أي: الأمراء- وجاءت المشايخ التدامرة -نسبة إلى تدمر بلدة بالشام- وأخبروه بذلك، وقالوا له: كل هذا يعملونه حتى توافقهم وهم عاملون على قتلك أو نفيك أو حبسك، فقال لهم: أنا إن قتلت كانت لي الشهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان الحبس لي معبداً وأنا مثل العنز كيفما تقلبت تقلبت على صوف! هذه كلمات تلاميذ الأنبياء!
فيئسوا منه وانصرفوا، ثم ذكر أنه لما ركب مع نائب السلطان قال له أحد تلامذته: يا سيدي هذا مقام الصبر! فقال له ابن تيمية : بل هذا مقام الحمد والشكر، وإنه نازل على قلبي من الفرح والسرور شيء لو قسم على أهل الشام ومصر لفضل عنه، ولو أن معي في هذا الموضع ذهباً وأنفقته ما أديت عشر هذه النعمة!
يقول الإمام الذهبي مؤرخ الإسلام: كان قوالاً بالحق نهاءاً عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام وعدم مداراة.
ووشي بـشيخ الإسلام إلى السلطان الناصر، فاستدعاه وقال: بلغنا أنك تراسل التتار، وتحاول الاستيلاء على الحكم، فصرخ الشيخ في وجهه قائلاً: أنا أبحث عن الحكم يا مسكين! والله إن ملكك وملك أبيك وملك المغول لا يساوي عندي فلسين، قال ذلك للسلطان في وجهه، والحاشية من حوله؛ فخضعوا لهيبة هذا الشيخ العظيم رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وهو الذي ذهب بالنيابة عن أهل الشام لمواجهة السلطان قازان سلطان الدولة المغولية عندما قدموا لاحتلال الشام، وحاولوا أن يأتوا إلى مصر، فذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وأغلظ له في القول، وقال: أنت تزعم أنك مسلم وأبوك وجدك كانا مشركين، وصدقا معنا، ووفيا بعهودهما، وأنت ما وفيت، فلما قدم له الطعام أمسك شيخ الإسلام عن الأكل فقال له السلطان متلطفاً: لماذا لا تأكل أيها الشيخ؟ قال: كيف آكل وقد قطعتم أشجار الناس فأنضجتم عليه الطعام، وسرقتم الدقيق واللحوم لتأكلوها من أموال الناس بالباطل؟! فعظم في عين السلطان المغولي ونزل على إرادته، يقول من كانوا بحوزته من المراسيل: فكنا نرفع ثيابنا لتوقعنا أن تتناثر دماؤه علينا، فلما خرجوا من عنده غلظوا عليه، وقالوا له: لقد عرضت نفسك للهلاك وعرضتنا معك، سنفارقك، فقال لهم: وأنا أيضاً أفارقكم، فأخذ من طريق فنجاه الله، وساروا هم في طريق آخر فخرج عليهم قطاع الطريق واللصوص فشلحوهم وأخذوا ما معهم حتى جردوهم من ثيابهم!
فالذي يعمل لله تبارك وتعالى يكون في كلأ الله وحفظه ومعيته، ويكون في حفظ الله تبارك وتعالى، قال الله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]. وكان قطلوبك واحداً من أمراء المماليك الظلمة يأكل أموال الناس بالباطل فجاء رجل فقير إلى شيخ الإسلام ابن تيمية يستعديه على هذا الأمير الجبار، فذهب معه شيخ الإسلام فقال له قطلوبك : إذا رأيت الأمير على باب الفقير فنعم الأمير ونعم الفقير، وإذا رأيت الفقير على باب الأمير فبئس الفقير وبئس الأمير، وأنت رجل زاهد أرسل لي وأنا آتيك، فقال له شيخ الإسلام ابن تيمية : قطلوبك !لا تعمل عليَّ دركواناتك -يعني خدعك-، كان فرعون أنحس منك، وكان موسى يأتيه مرات يذكره بالله، وكان موسى خيراً مني، ولم يتكبر على أن يأتي باب فرعون، وأنا آمرك أن ترد إلى هذا الرجل ماله؛ فاستجاب لرغبة شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
يقول القاضي ابن مخلوف وهو من أشد أعداء ابن تيمية ومن الذين أفتوا بقتله ما رأينا مثل ابن تيمية، جاهدنا لنقتله فلما قدر علينا عفا عنا!
هكذا يكون العالم منصفاً لله تبارك وتعالى، فهو منصف مع كل الفرق، ويعطي كل ذي حق حقه، ويذكر السلبيات والإيجابيات، وهذا بحر طويل لا يتسع المقام لذكره، لكن لنذكر منه شيئاً!
اسمع إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يتحدث عن الإمام الغزالي ، وهو من رءوس الصوفية وفقهاء الشافعية وأئمة الأشعرية، وكان رجلاً متبحراً في العلوم لكن بضاعته في الحديث كانت مزجاة؛ ولذلك ضل عن السبيل، يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية : وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه، ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والرياضة، ينتهي في هذه المسائل -مسائل الإيمان والغيب- إلى الوقف والحيرة، ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك -انظر إلى الإنصاف!- رجع إلى طريقة أهل الحديث، وصنف إلجام العوام عن علم الكلام.
ما أحرانا بتحري الإنصاف مع الخصوم والمخالفين، لو كان هذا في زماننا وتحدث رجل عن مخالف له لقال لك: المبتدع، رأس النفاق، أستاذ المبتدعة، وغير ذلك من الشقشقات الفارغة التي قطعت حبال المودة بين قلوب الناس، علينا أن نكون منصفين، فإن الله تبارك وتعالى خاطبنا بالإنصاف حتى مع المشركين فقال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، ولفظ الناس يعم الناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم.
ومن أعظم مواقفه: أنه قاد الأمة يوم وقعة (شقحب) التي انكسر فيها التتار كسرة عظيمة، يقول أحد أمراء الشام: قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية يوم وقعة (شقحب) مع التتار ونحن بمرج الصفر وقد تراءى الجمعان: يا فلان أوقفني موقف الموت، قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليه، ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت الغبرة فدونك وما تريد، قال: فرفع طرفه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلاً، ثم انبعث وأقدم على القتال، وأما أنا فخيل إليّ أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة، قال: ثم حال القتال بيننا وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر، وانحاز التتار إلى جبل صغير، قال: وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضاً على القتال، وتخويفاً للناس من الفرار، فقلت: يا سيدي لك البشارة بالنصر، فإنه قد فتح الله ونصر وهاهم التتار محصورون في هذا الوادي، فقال: إن شاء الله يأخذهم الله عن آخرهم، وحمد الله وأثنى عليه!
هكذا يطلب من الأمير أن يوقفه في موقف الموت، فيقول: أوقفني موقف الموت! رجل صادق يبحث عن الشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى، لم يخرج مع الجيوش رياء وسمعة، ولم يتخف في بنيات الطريق، وإنما وقف على قمة الجيش يبحث بصدق عن الموت في سبيل الله تبارك وتعالى، لكن الله عز وجل ادخره لهذه الأمة ليواصل المسيرة الحضارية العلمية العظيمة التي أحيا بها ما اندرس من علوم السلف الصلحاء.
إن الذي يحفظ عشرة أحاديث الآن يقال له: أبو فلان كذا، وغير ذلك من الألفاظ العارية عن المحتوى، وهو كان يتحدث ثلاث لغات، ويحفظ الأحاديث حتى قيل: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، وهذا من باب المبالغة في إظهار حفظه رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
علمه كالبحر، حتى إنه تبحر في علوم اللغة العربية، وكان الإمام أبو حيان الأندلسي وهو من كبار النحاة وعلماء الشريعة والتفسير منبهراً بشيخ الإسلام ابن تيمية فجلس معه يوماً يتناقشان في مسألة من الإعراب والنحو، فأغلظ له ابن تيمية وخطأ قوله، فقال أبو حيان : هذا الكلام ذهب إليه سيبويه ، فقال له ابن تيمية : وهل سيبويه نبي النحو؟ إن سيبويه أخطأ في كتابه في ثمانين مسألة لا تعلمها أنت ولا سيبويه! حتى في اللغة كان إماماً مبرزاً رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فليس رجلاً عادياً، وهذه الهمة جعلته فوق هامة الزمن إنما هي همة إسلامية صرفة؛ لأن الله تبارك وتعالى حفظ للأمة منهاج النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الزمن الذي يعتور فيه منهج أهل السنة والجماعة الأضاليل والأباطيل والبدع، يخرج العلماء الفحول ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين؛ لأجل ذلك وقف الإمام شعبة بن الحجاج رضي الله تعالى عنه، عندما استشرت حركة الوضع في الحديث على أيدي الزنادقة، وقف على الجسر في بغداد ونادى بأعلى صوته: يا أهل بغداد أيظن ظان أنه يستطيع أحد أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حي بين ظهرانيكم، هيهات هيهات، هيهات هيهات!
كان ابن تيمية رضي الله تعالى عنه صناعة إسلامية خالصة، رجلاً مبرزاً في كل الأمور، ليس رجلاً عادياً، فالمهمة تحتاج إلى همة، ولن تنال المجد حتى تلعق الصبرَ، فالإنسان يحتاج إلى أن يخوض الأوحال، وإلى أن يعضه الجوع، وإلى أن يتعرى في الله، وإلى أن يفتقر في الله، وإلى أن يؤذى في الله تبارك وتعالى؛ لأن الله تبارك وتعالى يصهر الناس في المحن، فإذا صمدوا أخرجهم ذهباً إبريزاً، ثم حملتهم الأمة بعد ذلك فوق رأسها.
فهذا الرجل أمضى حياته بياضها وسوادها لخدمة دين الله تبارك وتعالى، حتى إن والده وهو طفل صغير أراد أن يأخذه مع إخوته للتنزه فبكى واعتذر لوالده، وقال له: لا أحب الخروج فمكث، فلما عاد والده قال: يا أحمد! ماذا صنعت في هذه الفترة؟ قال: يا أبي حفظت هذا الكتاب، ثم دفع إليه جزءاً كبيراً فراجعه معه أبوه فلما وجده حفظه عن ظهر قلب، قال: يا بني لا تخبر بذلك أحداً، خاف عليه من العين.
ولقد بلغ من محبته لنصرة الحق أنه درس الفلسفة من كتب أهلها ثم أنحى عليهم باللائمة وخطأهم، يقول: كنت أنام فأرى في المنام أنني أناظر أرسطو كبير الفلاسفة، فأقطع حجته، وهذا من محبته للعلم.
ولما مرض جاء إليه الطبيب فقال: لا بد من إخراج هذه الكتب من عندك؟ فقال: أنتم تزعمون في الطب أن المحبوب إلى النفس يدفع النفس الغريزية في الإنسان إلى مقاومة المرض أليس كذلك؟ فقال له: نعم، قال: فأنا أحب القراءة والمطالعة، وهذا يقوي النفس الغريزية عندي على مقاومة المرض، فأذن له الطبيب في ذلك، أحب المطالعة في كل صغير وكبير من أمور حياته، لم يقرأ كتاباً ثم يدعي بعد ذلك أنه إمام الأئمة أو سلطان الأمة لا؛ بل أفنى عمره في المطالعة والتضرع لله حتى وهو محبوس مأسور في القلعة، فقد بعث برسالة إلى الإمام ابن قيم الجوزية ، يقول: أرجو أن تبعث لي بتعليقة القاضي أبي يعلى، يعرف مكانها أخي، أرسلها على وجه السرعة .. هكذا يقرأ وهو في السجن، يكتب وهو في السجن حتى أحصى له تلامذته أربعين ألف فتوى في الأمور الفقهية فجمعوها رضي الله تعالى عنه وأرضاه، على كل أمر من أمور حياته مقيم على المطالعة، مقيم على الكتابة، كان يكتب الكتاب الكبير بين الظهر والعشاء!
ولما سئل عن الكتابة في المنطق قال: يكفي ما كتبناه في التقرير في النقض على المنطقيين، وقد كتبت ذلك بالإسكندرية في جلسة بين الظهر والعصر، وهو كتاب في مجلد كبير كتبه بين الظهر والعصر استدلالاً واستشهاداً ومناقشة وترجيحاً فرحمه الله تبارك وتعالى!
وكتب الصارم المسلول على شاتم الرسول في جلسة بين العصر والمغرب، فقد كان يكتب رضي الله تعالى عنه وأرضاه في كل فن من الفنون، وفي كل أمر من الأمور.
وقال الإمام الذهبي : كان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزهاد الأفراد، والشجعان الكبار، والكرماء الأجواد، حتى إن رجلاً كان محتاجاً إلى عمامة دخل مجلس ابن تيمية وهو مع أساطين عصره، فلما لمح الرجل يستحي من الطلب خلع ابن تيمية عمامته فشقها بنصفين وأعطى الرجل نصفها واعتم هو بالنصف الآخر! هكذا كان جوده.
وكان يتحرى التصدق بين يدي الصلاة، والدعاء ما أمكنه؛ لأنه إذا استحبت الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحبابها بين يدي مناجاة الله عند الدعاء والصلوات أولى من ذلك.
أما قوة فراسته فهذا باب بحر خضم يحتاج إلى حديث طويل، ولقد ذكر تلميذه الرباني ابن قيم الجوزية في شرح منازل السائرين من ذلك شيئاً كثيراً، فليراجع ذلك.
وقد ابتلي ابن تيمية رحمه الله تعالى بالإيذاء النفسي، والبدني، وبالتضييق عليه، واعتقل وسجن أكثر من مرة حتى كانت وفاته في السجن رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأنزل الابتلاء والأذى على سائر تلاميذه ومحبيه، وصودر ما لديهم من الكتب، وكانت معه مواجهات صمد فيها صمود الجبال الرواسي حتى إنه لما دخل السجن حوله إلى مدرسة علمية، وانفتل إلى الناس يدرسهم الفقه والحديث والتفسير حتى تحول السجن من مكان للصوص والشطار وأكابر المجرمين إلى مدرسة علمية تربوية!
يقول المؤرخون: حتى كان الرجل يأتيه الإذن بالإفراج من الوالي فيبكي ويرفض الخروج من السجن؛ لأنه يريد أن يلازم شيخ الإسلام ابن تيمية ، فتحول السجن إلى مدرسة ابن تيمية للعلوم الشرعية رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهذه هي الهمة العالية!
فالإنسان المثمر هو كالغيث أنى نزل على أرض أنبت فيها المرعى والعشب والكلأ، فلابد أن تظهر آثارنا على المجتمع وعلى من حولنا من الناس، ولا يكون ذلك إلا بعلم وإخلاص وتطبيق وعمل؛ لأن اقتران العلم بالعمل يذهب من النفوس الشك والتكذيب، ويدفع الناس إلى الثقة والانقياد.
يقول عامة المؤرخين: توفي رحمه الله في العشرين من شهر ذي القعدة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة هجرية، وقد اتفق موته في سحر ليلة الإثنين، فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة، وتكلم بها الحراس، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب الجسيم، فبادر الناس إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه، حتى من الغوطة والمرج، وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، واجتمع حشد عظيم من الخاصة والعامة، وبدأ الناس يختمون القرآن قبل غسله، وأذن للنساء بعد الرجال فزرنه، ولم يبق عند الغسل إلا من كان عليه أن يغسله، واجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق، وامتلأ الجامع وصحنه وباب البريد وباب الساعاد.
ثم شرعوا في غسل الشيخ، وكان الذي تولى غسله هو الإمام الحافظ المزي رحمه الله تبارك وتعالى، وصلي عليه مرات، وحملت جنازته إلى المسجد الأموي، واجتمعت البلدة على بكرة أبيها، ولم يعرف أن عدداً خرج في جنازة إلا في جنازة الإمام أحمد ما يوافي ما خرج في جنازة ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه، حتى حصروهم بثلاثمائة ألف من الرجال غير الذين جاءوا إلى قبره للصلاة، وأعلن بالصلاة عليه، واجتمع الناس، وضجت الأسواق بالنحيب والبكاء والترحم والثناء والدعاء، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وسقطت المناديل والعمائم عن رءوس الناس والناس لا يلتفتون إلى ذلك، وعظم الأمر بسوق الخيل، وتضاعف الخلق، وكثر الناس، ووضعت الجنازة هناك، وتقدم للصلاة عليه أخوه زين الدين وحمل إلى المقبرة، حيث دفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله ، ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور، وحصر الرجال الذين حضروا الجنازة ما بين ستين إلى مائتي ألف عدا النساء، ويقدر الحاضرات من النساء بخمسة عشر ألف امرأة عدا من كنّ على الأسطحة والغرف، ولم يعهد مثل هذا الزحام في تاريخ دمشق!
قال الإمام البرزالي : ولا يمكن أحد حصر من حضر من الجنازة، وتقريب ذلك أنه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد، يقول ابن رجب : وصلي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام القريبة والبعيدة حتى في اليمن والصين، وأخبر المسافرون أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم الجمعة، الصلاة على ترجمان القرآن، قال البزار : وما وصل خبر موته إلى بلد إلا وصلي عليه في جميع جوامعه، خصوصاً أرض مصر والشام والعراق وتبريز والبصرة وغيرها، ولم يُر لجنازة ما رؤي لجنازته من الوقار والهيبة، وخرج بعض تلامذته لما رأى ذلك متأثراً فصاح في وسط الناس: هكذا تكون جنائز أئمة السنة، فضجّ الناس بالبكاء والعويل! وحق لهم أن يبكوا على الشمس التي رحلت في رابعة النهار مرتحلاً إلى ربه تبارك وتعالى بعد أن شق طريقاً للسنة، وأسس أساساً للمنهج السلفي، وأرسى دعائمه، وبنى قوائمه، وناظر المبتدعة فرماهم بسهام السنة فأصماهم في سويداء قلوبهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومصداق جنازته في تنبؤ الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه يوم قال: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، فاللهم ارض عن صاحب هذه الروح، وافسح له أبواب الجنة، فهي آخر ما كان يرجوه من الفتوح.
هذه إضاءات على صفحات مشرقة لإمام من أئمة الدعوة السلفية، ومؤسس المدرسة السلفية المعاصرة في القرون المتأخرة، وحامي ومجدد علوم السلف رضي الله تعالى عنه وأرضاه، تلك هي الصناعة الإسلامية، وبقية الخير في هذه الأمة لا تنزع عنها إلى قيام الساعة، ومصداق ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال).
فنحن بحاجة في هذه الأزمنة التي تباعد فيها الناس عن السنة، والتي غلبت فيها الأهواء والشحناء والأحقاد والمنازعات؛ بحاجة إلى الرجوع إلى مثل هذه التراجم للنظر في سير الأئمة الأعلام، أئمة الدعوة السلفية المباركة، الذين حملوها في قلوبهم، فرفعتهم في قلوب الناس، رضي الله تعالى عنهم جميعاً وأرضاهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر