إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء
ٍبعد أن ذكر المصنف رحمه الله تعالى أن الله سبحانه وتعالى يتكلم ويكلم عباده، وأن كلامه لهم حقيقة، وأنه سبحانه وتعالى يكلم عباده فيسمعونه، ذكر أيضاً بعض أدلة هذا فقال: [وقال
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم].
المصنف رحمه الله تعالى أورد هذا الأثر موقوفاً فقال: (وقال:
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا تكلم ...)، وهذا الأثر روي موقوفاً على
ابن مسعود بإسناد صحيح، لكنه أيضاً روي برواية أخرى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وروايته مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً واردة بإسناد صحيح، وممن رفعها
أبو داود رحمه الله تعالى في سننه وغيره، وكل من المرفوع والموقوف صحيح، لكن لما كان الموقوف أصح علقه
البخاري في صحيحه، وقد ذكر الشيخ
الألباني هذا الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1293) وقال رحمه الله: والموقوف -أي: على
ابن مسعود - وإن كان أصح إلا أن له حكم الرفع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي.
يعني: لا يمكن أن يقوله
ابن مسعود من عند نفسه، فيكون حكمه حكم المرفوع.
قوله في هذا الحديث: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء)، هذا يدل على إثبات كلام الله، وإثبات أن كلام الله مسموع، وهذا يرد على من قال بالكلام النفسي، أو إن كلام الله ليس بحرف ولا صوت، بل الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم، وكلامه مسموع، وأن أهل السماء يسمعون صوته وكلامه، وكذلك أيضاً لما كلم موسى وكلم محمداً وكلم آدم سمعوا ذلك.
ثم قال: (روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم).
كأن المصنف هنا أشار إلى المرفوع وإلى الموقوف.
نداء الله لأهل المحشر بصوت يسمعونه
ثم قال: [ وروى
عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (
يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلاً بهماً) ].
عبد الله بن أنيس الجهني المدني المتوفى سنة أربع وخمسين هجرية رحمه الله تعالى، أحد الصحابة المعروفين المشهورين.
قوله: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة)، أي: ليس عليهم كساء ولا لباس ولا غطاء، (حفاة) أي: غير منتعلين، (غرلاً) أي: غير مختونين، (بهماً) أي: طليقي الأيدي لا يحملون معهم أي شيء؛ وهذا لبيان أن الناس يبعثون من قبورهم ويحشرون إلى ربهم سبحانه وتعالى وهم على هذه الحالة، كما في حديث
عائشة رضي الله عنها وأرضاها حين قالت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر أكبر وأعظم وأشد من أن يهتموا بهذا الأمر؛ لأن الأمر خطير جداً.
[ (
فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان)، رواه الأئمة، واستشهد به
البخاري ].
الشاهد من هذا: قوله: (فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)، والنداء كما نعلم جميعاً لا يمكن أن يكون إلا بصوت، وهذا فيه إثبات أن الله سبحانه وتعالى يتكلم، وأنه تبارك وتعالى إذا نادى الخلائق يوم القيامة يناديهم بصوت يسمعونه جميعاً، وهذا الحديث ذكره
البخاري أيضاً تعليقاً ورواه الإمام
أحمد و
أبو يعلى عن
جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهو المشهور، وهو الوارد في قصة رحلة
جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه حين التقى بـ
عبد الله بن أنيس في مصر حين رحل إليه شهراً كاملاً؛ ولهذا ذكره
البخاري في كتاب العلم في الباب الذي عقده في مسألة الرحلة في طلب الحديث، لكنه رحمه الله تعالى ذكره معلقاً.
وهذا الحديث رواه
البيهقي ، ورواه
البخاري في الأدب المفرد، وهو حديث صحيح، ومن ثمَّ فإن الإمام
ابن حجر رحمه الله تعالى لما تعرض لمسألة إثبات صفة الكلام لله وأنه بصوت، نقل كلام بعض الأشاعرة وتأويلهم للأحاديث الواردة في ذلك، وتضعيفهم لهذه الرواية، وقولهم: إن كلامه تعالى ليس بصوت، فبعد أن نقل كلامهم علق عليه بقوله: والحديث إذا ورد بالطرق الصحيحة فإنه يؤخذ به. وكأنه يقول: ما دام إثبات الصوت لله تعالى ثبت في الأحاديث الصحيحة فلا داعي للمماحكة؛ لأنه ورد بأسانيد صحيحة، وكأن
ابن حجر رحمه الله تعالى إنما يرد على أولئك الذين ضعفوا هذه الرواية بناءً على مذهبهم في إثبات الكلام النفسي لله، وأن كلامه عز وجل ليس بحرف ولا صوت، فبناء عليه بحثوا عن الحديث فوجدوا أن
البخاري رواه معلقاً، فضعفوا هذه الرواية لهذا السبب، فـ
ابن حجر المحدث غلب عليه رحمه الله تعالى هنا جانب الحديث، فرد على أولئك وقال لهم: لا تتعرضوا لتضعيفه من أجل ذلك المعنى الكلامي الذي تريدونه، بل إذا ثبت أمر في الأحاديث الصحيحة فيجب أن تقولوا به، ثم بعد ذلك ابحثوا له عن التأويل، لكن لا تضعفوه وتردوا الحديث؛ لأجل أنه خالف ما عندكم.
ومنطق
ابن حجر هذا عظيم جداً، مع أنه رحمه الله تعالى من المائلين إلى مذهب الأشاعرة في كثير من المسائل، إلا أنه هنا وقف وقفة الإمام المحدث، وهذا هو الصحيح، ولهذا فإن هذه الرواية صحيحة، ولا كلام فيها، وحتى لو فرض أن
البخاري رحمه الله تعالى علق مثل هذه الرواية فإنه لا يطعن فيها؛ لأنها رويت عند غيره بأسانيد صحيحة، بل إن إثبات أن كلام الله بصوت وارد بأدلة كثيرة جداً، ولا يمكن أن يقول قائل: إن موسى عليه الصلاة والسلام سمع كلام الله بلا صوت، ومن قال ذلك فإنه قال ما لا يعقل.
نداء الله لموسى عند تكليمه بصوت يسمعه
ثم إن المصنف رحمه الله تعالى قال: [وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام ليلة رأى النار فهالته، ففزع منها، فناداه ربه: يا موسى! فأجاب سريعاً استئناساً بالصوت. فقال: لبيك لبيك ولبيك، أسمع صوتك، ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك، وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك. فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى، قال: كذلك أنت يا إلهي، أفكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى].
هذا الأثر إسرائيلي ضعيف لا يؤخذ به، رواه
وهب بن منبه و
وهب بن منبه معروف بالروايات الإسرائيلية، لهذا فإن هذا المقطع من قصة موسى أورده
السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) في تفسير سورة (طه) الآية العاشرة، حيث ذكر أثراً طويلاً جداً بلغ صفحات، وذكر منه هذا، وقال
السيوطي : أخرجه
أحمد في (الزهد) و
عبد بن حميد و
ابن المنذر و
ابن أبي حاتم عن
وهب بن منبه .
فإذاً: هذا الأثر رواه
وهب بن منبه ، فهو أثر إسرائيلي، وعلى هذا فلا يعتد به، لهذا فالأولى بمثل هذا الأثر أن يطرح ولا يؤخذ به، والقضية التي أشار إليها
ابن قدامة رحمه الله تعالى قد وردت لها أدلة أخرى في الأحاديث الصحيحة، فمثل هذه الآثار الإسرائيلية لا يؤخذ بها، بل إنني أرى أن متنها فيه نكارة؛ لأنه قال: فأين أنت، قال: (أنا فوقك، وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك ...) إلى آخره، وهذا الكلام كلام غير صحيح وغير دقيق لهذا، فما سبق أن ذكرناه كافٍ في بيان ضعف هذه الرواية، وأنها رواية إسرائيلية.
بيان أن القرآن الكريم من كلام الله عز وجل
نزول جبريل عليه السلام بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال المصنف: [ نزل به الروح الأمين ].
الروح: هو جبريل عليه السلام، والأمين: وصف لجبريل؛ لأنه كان أمين وحي الله سبحانه وتعالى، ولا شك أنه أمين؛ فإن الله سبحانه وتعالى استأمنه على الوحي الذي أوحاه إلى رسله عليهم الصلاة والسلام.
قال: [ نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين ].
وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الآيات الكريمات، أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكر القلب هنا؛ لأن القلب هو الذي يعي؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الوحي فيأخذه غشيان عظيم يشبه الغيبوبة، فيفصم عنه، فإذا به عليه الصلاة والسلام قد وعى كل ما أوحى إليه به جبريل عليه الصلاة والسلام.
والوحي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم على صور متعددة، لكن هذا هو الأكثر والأغلب، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم إذا نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم الوحي يسترونه، فيضعون عليه أحياناً لفافاً، وأحياناً يضعون عليه رداءً؛ لأن الوحي يشتد عليه، ولهذا لما نزل قول الله تعالى:
لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:95]، نزلت هذه الآية وفخذه على فخذ
زيد بن ثابت، قال: (وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فكادت فخذي أن ترض)، وهذا من شدة ثقل الوحي.
وأحياناً كان الوحي ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على ناقة فتبرك الناقة، وأحياناً تضع رقبتها على الأرض وتحكها في التراب حكاً لشدة ثقل الوحي، والله سماه ثقيلاً فقال:
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، فكان ثقيلاً حتى في تنزله.
وأول مرة نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم غطه الملك غطة شديدة؛ حتى ظنه عليه الصلاة والسلام الموت.
فكان الوحي ينزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، لكن بعد أن ينتهي الوحي ويفصم عنه يكون صلى الله عليه وسلم قد وعى جميع ما قال، ولهذا كان بعض الصحابة يحرص ما استطاع أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل إليه، فبعضهم يقول: قلت لـ
عمر بن الخطاب : أريد أن أرى الرسول وهو يوحى إليه، ففي يوم من الأيام كان يوحى إليه، قال: فرفع الستار ونظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه، وقد اشتد عليه الوحي عليه الصلاة والسلام.
ثم قال المصنف رحمه الله: [ على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين ].
وهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم وسيد الأولين والآخرين.
وقوله: (بلسان عربي مبين) هذا واضح جداً، كما قال الله سبحانه وتعالى:
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [يوسف:2].
فالله سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن العظيم بلسان محمد وقومه الذي هو العربية.
بيان أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود
حكم ترك الصلاة عند اندراس الإسلام
وهنا مسألة خارجة عن الموضوع، لكن أحببت أن أشير إليها للفائدة: فهذا الحديث قد يحتج به من لا يرى كفر تارك الصلاة، فيقول: إن هؤلاء لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا حج ولا صدقة، و
حذيفة يقول: (تنفعهم لا إله إلا الله)، فدل ذلك على أن من مات وهو يقول لا إله إلا الله فهو من أهل الجنة، وأن تارك الصلاة لا يقتل.
أقول معلقاً على هذه القضية: الذي يظهر لي -والله أعلم- أن هذا الحديث ليس فيه حجة لمن قال بذلك، صحيح أن ظاهره أنه قال: (تنفعهم لا إله إلا الله)، لكن الحديث إنما هو في آخر الزمان الذي درست فيه أمور الإسلام، فصار هؤلاء لا يعرفون إلا لا إله إلا الله، فإذا كانوا لا يعرفون صلاة ولا صياماً فهل يحاسبون عليها؟ الجواب: لا يحاسبون عليها، فحالهم شبيه بمن أسلم وهو حديث عهد بالإسلام، ولم يعرف أحكام الصلاة ولا غيرها، ثم إنه مات، فهذا تنفعه لا إله إلا الله، لكنه لو علم الصلاة، وقامت عليه الحجة بها، فعلى القول بأنه يكفر -وهو الصحيح- لا تنفعه لا إله إلا الله، بل لابد أن يؤدي الصلاة. وكذلك هؤلاء الذين يأتون في آخر الزمان وقد اندرست تلك الأمور العظام من أمور الإسلام، فهؤلاء غير مكلفين بها.
إذاً: إذا لم يبق معه إلا لا إله إلا الله فإنها تنفعه، وأظن أن المسألة واضحة، والعلم عند الله تعالى.
ترتيب سور وآيات القرآن الكريم
ثم قال: [ وهو سور محكمات، وآيات بينات، وحروف وكلمات ].
القرآن كما هو معلوم سور، وأما تقسيم السور وترتيب الآيات فهو توقيفي لم يكن عن اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وإنما كان بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما اختلف العلماء في مسألة ترتيب السور في المصحف، هل هو ترتيب اجتهادي من عند الصحابة أم أن الأمر موقوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
والذي يترجح -والعلم عند الله تعالى- أن ترتيبها أيضاً ليس عن اجتهاد من الصحابة، وإنما هو عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يقرءوا القرآن على العرضة الأخيرة التي عرضها عليه جبريل، فإن جبريل في رمضان الأخير الذي انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم بعده إلى الرفيق الأعلى دارس النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مرتين، فلابد أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ أولئك الصحابة تلك العرضة الأخيرة، ومنها ترتيب سور القرآن.
وقوله: (وهو سور محكمات)، لا شك أن القرآن كله محكم كما بينا.
وقوله: (وآيات بينات) أي: واضحة الدلالات.
وقوله: (وحروف وكلمات) لا شك أيضاً أن القرآن حروف وكلمات، ومن قال: إن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت فإنه مخطئ، بل كلام الله حروف، والقرآن حروف، وسيأتينا الأدلة الكثيرة التي تدل على أن هذا القرآن العظيم حروف، وأما أولئك الذين قالوا: إن الله يتكلم بغير حرف ولا صوت، أنكروا الأدلة الظاهرة، فما أوصلهم إلى مثل هذا إلا اعتقادهم الفاسد أن كلام الله سبحانه وتعالى إنما هو الكلام النفسي القائم بذاته.
إذاً: القرآن الكريم حروف وكلمات، فالله سبحانه وتعالى تكلم به، ونحن نتلوه، وهو كلام الله سبحانه وتعالى.
أجر قراءة القرآن
القرآن الكريم له أول وآخر وأجزاء وأبعاض
قال
ابن قدامة رحمه الله: [ له أول وآخر ].
أي: أن القرآن له أول وله آخر، ونقول: إنه مفتتح بـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ومختتم بقوله:
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:6].
ثم قال: [وأجزاء وأبعاض].
نقول: القرآن ثلاثون جزءاً، كما نقول: معك جزء من القرآن، ويقول القائل: معي بعض القرآن، أو معي سور منه، أو معي سورة كذا، وهذا كله واضح، فهذا القرآن العظيم تكلم الله به بمشيئته وإرادته.
وفي قوله (أجزاء وأبعاض) رد على من يزعم أن كلام الله عز وجل واحد؛ لأن الأشعرية يقولون: كلام الله واحد لا يتبعض ولا يتجزأ، وإن القرآن والتوراة والإنجيل واحد، لكن لما عبر عنه بالعربية صار قرآناً، وبالعبرية صار توراة، وبالسريانية صار إنجيلاً، وهذا خطأ؛ لأن القول بأن كلام الله واحد لا يتبعض غير صحيح، ولهذا قال لهم العلماء: إذا قلتم إن كلام الله واحد، فموسى لما سمع كلام الله هل سمع كلام الله كله أو بعضه؟ فإن قلتم: بعضه، نقضتم قولكم، وإن قلتم: كله، كان قولكم باطلاً؛ لأنه لا يعقل أن يكون موسى سمع كلام الله كله؛ لأن كلام الله عز وجل لا يتناهى، كما قال تعالى:
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27]، ولا مفهوم للعدد هنا، فلو جاء سبعة وسبعة وسبعة ما نفدت كلمات الله.
إذاً: الصحيح: أن موسى سمع ما كلمه الله سبحانه وتعالى به.
قال المصنف رحمه الله: [ متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان ].
فالمتلو بالألسنة هو كلام الله، لكن الألسنة التي تلت والصوت الذي تلي به ينسب للمخلوق.
إذاً الكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري، ولهذا قال: (محفوظ في الصدور)، فإذا قيل: فلان حافظ لكتاب الله تعالى، فهذا المحفوظ هو كلام الله القرآن، لكن صدره وما في صدره من قلب وما في رأسه من دماغ وغير ذلك هذا كله مخلوق، لكن كلام الله تعالى غير مخلوق.
فإذا كتب هذا المصحف على الأوراق فهذا المكتوب هو كلام الله.
إذاً: هو أينما تصرف وكيفما تصرف فهو كلام الله، أما صوت القارئ، وأما صدر الحافظ، وأما أذن السامع، وأما المداد والحبر، وأما الورق المكتوب به فهذه كلها مخلوقة.
من القرآن محكم ومتشابه وعام وخاص وناسخ ومنسوخ
حفظ الله عز وجل للقرآن وإعجازه وبلاغته
ثم قال رحمه الله تعالى: [ وهو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه الذين كفروا:
لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ [سبأ:31] ].
وهذا للاستدلال على أن هذا القرآن هو كلام الله، وأن هذا المتلو بالأحرف العربية والكلام العربي هو كلام الله، فهذا يدل على أنه كلام الله، وأن الله تكلم به بحرف وصوت.
ثم قال: [ وقال بعضهم:
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25]، فقال الله سبحانه وتعالى:
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26] ].
وقوله:
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25]، معروف أن هذا قاله المشركون، وورد في بعض الروايات أن الذي قال هذا هو
الوليد بن المغيرة .
وقوله:
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] أي: ما هو إلا قول محمد، وليس كلام الله سبحانه وتعالى، فكذبهم الله سبحانه وتعالى ورد عليهم بقوله:
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26]، وهذا لبيان أن دعواه أنه قول البشر كذب، بل هو كلام الله سبحانه وتعالى، فكيف يأتي قائل ويقول: هذا كلام محمد، أو يقول: إنه مخلوق؟! بل هو كلام الله منزل غير مخلوق، وهذا نص صريح على أن الله تكلم به، وأنه كلام الله تعالى، ولهذا رد الله على ذلك المشرك الباغي الذي قال:
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25]، فمن قال: إنه قول محمد فهو شبيه بـ
الوليد بن المغيرة الذي قال: إن هو إلا قول البشر، نسأل الله السلامة والعافية.
ثم قال المصنف رحمه الله: [ وقال بعضهم هو شعر، فقال الله تعالى:
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69] ].
أي: ما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم الشعر، وما ينبغي للرسول أن يكون شاعراً، وإنما هذا الذي بلغكم إياه هو كلام الله سبحانه وتعالى وذكر مبين.
فسموه شعراً لأن الشعر أحرف وكلمات، لكن الله سبحانه وتعالى رد عليهم فقال:
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69].
إذاً: هذا القرآن هو كلام الله وليس كلام شاعر، وهذا يدل على أن العرب كانوا يفهمون من القرآن أنه كلمات شبيهة بكلام العرب وأحرف وكلمات شبيهة بكلام الشعراء، ولهذا قالوا: هو شعر، فرد الله عليهم ببيان أنه ليس بقول شاعر، وأن الرسول لا ينبغي له أن يكون شاعراً، وإنما هو كلام الله سبحانه وتعالى.
ويفهم من هذا أن القرآن كلام الله، وأنه كلمات، وأنه حروف، وأن العرب فهموا منه هذا، ولهذا لم يعترضوا على هذا وإنما اعترضوا على أن يكون كلام الله سبحانه وتعالى.
أما أولئك المتكلمون فإنهم يقرون أنه من الله، لكن ينكرون أن يكون كلام الله، ولا شك أن كلامهم غير صحيح.
ثم قال
ابن قدامة رحمه الله: [ فلما نفى الله عنه أنه شعر وأثبته قرآناً لم يبق شبهة لذي لب في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي هو كلمات وحروف وآيات؛ لأن ما ليس كذلك لا يقول أحد إنه شعر ].
وهذا كلام واضح الدلالة من
ابن قدامة رحمه الله تعالى؛ فهو تعليق جيد بين القضية التي شرحناها قبل قليل، فالعرب على فطرتهم كانوا أفقه -وإن كانوا كفاراً- في مثل هذه المسائل من أولئك المتمسلمين الذين خاضوا في هذه المسائل بلا علم.
تحدي الله عز وجل للعرب ببلاغة القرآن الكريم
ثم قال: [ وقال تعالى:
كهيعص [مريم:1]،
حم *
عسق [الشورى:1-2]، وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة ].
أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذا الكلام أمرين:
أحدهما: أن
كهيعص [مريم:1]، حروف، وهي من كلام الله، وداخلة في القرآن. وكذلك أيضاً:
حم *
عسق [الشورى:1-2]، وكذلك
ن [القلم:1]،
الم [البقرة:1] إلى آخره.
وقوله: (وافتتح الله تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة)، أي: أن كل هذه السور افتتحت بهذه الحروف المقطعة، وذكر الله سبحانه وتعالى القرآن بعد كل حروف مقطعة من هذه السور، إلا في موضع واحد، فمثلاً: قال تعالى:
الم *
ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، وقال:
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1]، وقال:
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1]، وقال:
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، وقال:
حم [الأحقاف:1]،
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ [الأحقاف:2]، وهكذا كل السور بعد الحروف المقطعة ذكر فيها القرآن العظيم، وهذا دليل على أن هذه الحروف هي كلام الله، وعلى أن المقصود -والعلم عند الله تعالى- من هذه الحروف: بيان إعجاز القرآن العظيم، وكأن الله يقول للمشركين: هذه هي الحروف، ومع ذلك هذا القرآن العظيم من عند الله سبحانه وتعالى وأنتم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله، وهذا يدل على أن هذا القرآن حروف وكلمات، وأنه كلام الله تعالى.
وأما الموضع الذي افتتحت فيه السورة بالحروف المقطعة ولم يذكر بعده القرآن فهي سورة مريم:
كهيعص *
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا *
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:1-3].
فما ذكره بعضهم من أنه لم تذكر الحروف مقطعة إلا ويذكر فيها كلام الله يستثنى منه هذه السورة، وما قصده
ابن قدامة رحمه الله تعالى واضح جداً.
نكتفي بهذا، ونستكمل -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
إطلاق لفظ (شيء) على جميع المخلوقات
السؤال: من المعلوم أن الله خالق كل شيء، ولكن هناك أشياء غير محسوسة، فهل اللهجات أو اللغات محسوسة؟ وهل يطلق الشيء على كل شيء محسوس أم لا؟
الجواب: أولاً: بالنسبة للهجات أو اللغات هي محسوسة، أما بالنسبة لعموم خلق الله سبحانه وتعالى فيطلق عليها شيء، فالله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، وكل شيء موجود سواء كان من الأمور المحسوسة أو غير المحسوسة فهو مخلوق لله سبحانه وتعالى، وكل ما سوى الله سبحانه وتعالى فهو مخلوق.
كتابة القلم للقرآن الكريم
تكليم الملائكة لله عز وجل
السؤال: هل للملائكة أن يكلموا الله سبحانه وتعالى متى شاءوا؟
الجواب: بالنسبة للتكليم فإن كل إنسان يكلم ربه؛ فأنت إذا دعوت ربك سبحانه وتعالى وقلت: يا ألله! يا رب اغفر لي، فأنت تكلم ربك، أما إذا كنت تقصد الكلام الذي يكلم الله فيه عبده حقيقة، فهذا لا يكون إلا من الله سبحانه وتعالى.
اندراس الإسلام في بعض الأماكن في هذه الأزمنة
حكم تكفير الخوارج
السؤال: هل الخوارج كفار؟
الجواب: اختلف العلماء في كفرهم، والصحيح أنهم لا يكفرون؛ فقد سئل عنهم
علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أكفار هم؟ قال: (من الكفر فروا)، فهم وقعوا في بدعة التكفير، فلا نقع نحن في بدعة التكفير فنكفرهم، هذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى، وإن كان يطلق على بدعهم أنها بدع كفرية.
حكم كتابة القرآن كتابة إملائية
السؤال: هل يجوز كتابة القرآن مرة أخرى حسب كتابتنا التي في الوقت الحاضر؟
الجواب: إذا كان المراد كتابة القرآن كاملاً فلا يجوز كتابته بالرسم الحديث، بل الواجب كتابته بالرسم العثماني ولو خالف الرسم الإملائي الحديث؛ لأن القراءات مرتبطة بالخط العثماني، وليست مرتبطة برسومنا نحن واصطلاحاتنا المتأخرة، فمن الواجب أن يبقى الخط العثماني تكتب به المصاحف، وألا يغير أبداً، أما إذا كتب الإنسان آية ضمن كتاب معين أو ضمن صفحة من الصفحات أو نحو ذلك، فلا بأس بأن يكتبها بالرسم العثماني أو يكتبها بالرسم الحديث.
تفاوت أجر الذين يقرءون القرآن