يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لا شك أنه من المعلوم لدى كل مسلم ما قد نزل بالأمة من ويلات وحسرات، فكل منا متوجع ومتألم ومتحسر، ومنا المتألم بصدق وإخلاص، ومنا المتحسر بكذب وبهتان، بل ومنا المتحسر استهزاءً بالله عز وجل وبأنبيائه ورسله وكتبه، وبهذه الأمة المباركة، ولا يدري المسكين أن هذه الأمة هي أبرك أمة خلقها الله عز وجل، وأنها أخير أمة على وجه الأرض, وأن النصر حليفها لا محالة وإن لم يكن اليوم فغداً بإذن الله تعالى، ولكن لا بد لهذه الأمة أن تعلم أمرين اثنين:
الأمر الأول: أن ما نزل بها إنما هو بسبب ما اقترفته أيديها.
والأمر الثاني، وقد بينه الله في كتابه وبينه نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم في سنته: أنها لكرامتها على الله عز وجل أن النصر لها في نهاية الأمر، وأن الغلبة لها في المآل وإن كانت الأيام دولاً يوماً لها ويوماً عليها.
لابد لهذه الأمة أن تقرأ كتاب ربها وسنة نبيها، ثم تنظر في واقع الأمم الهالكة، لتعلم سبب هلاكها حتى لا ترتكب أسباب الهلاك كما ركبتها الأمم من قبلها، ولذلك بين الله تبارك وتعالى في كتابه أن هذه الأمة لا بد أن يظهر فيها الفساد، قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41] ، والباء هنا سببية، وهذا الفساد إنما هو بسبب ما ارتكبت أيدي الناس: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41] .
وقال الله تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182] .
وقال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] .
إن الذي حل بهذه الأمة كان بسبب ركوبها المعاصي وتركها الطاعة، ولا بد أن ترجع إلى ربها وإلا سيكتب عليها الذل والهوان طالما أعرضت عن كتاب الله وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك أجرى الله تعالى في هذه الأمة سنته التي لن تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53] .
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ [الرعد:11] أي: إذا أنعم الله تعالى على أمة من الأمم بنعمة من النعم، فإنه لا يزيلها ولا يمحقها ما دامت هذه الأمة قائمة لله وبأمر الله وعلى نهج الله، فإن هذه النعمة لا يمكن أن تزول عنهم أبداً، سنة من الله تعالى، إن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا هم، وحتى يبدلوا هم، وحتى يتنكبوا الطريق هم، فحينئذ يزيل الله تبارك وتعالى ما بهم من نعم.
ضرب لهذا مثلاً حياً عظيماً في القرآن الكريم فقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النحل:112] فلما كفرت بأنعم الله أخذها الله تعالى بغتة، وهذه سنته في العصاة والكافرين والضالين الذين سلكوا سبيل الشياطين، وتركوا سبيل الأنبياء والمرسلين.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً [النحل:112] أغلب أقوال أهل العلم على أن هذه القرية هي مكة المكرمة التي كفرت ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، وكفرت بالقرآن وبالسنة. فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112] أما الجوع فلأن النبي عليه الصلاة والسلام قطع عليهم الطريق ذهاباً وإياباً في رحلتي الشتاء والصيف.
وأما الخوف فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرسل إليهم الرسل والبعوث والسرايا فيرعبونهم أشد الرعب، وهكذا من لم يخش الله أخافه الله تعالى من كل شيء، وهذه الأمة قد وقعت في مثل ذلك، فقد كانت آمنة مطمئنة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وفي زمن الخلفاء الراشدين، وفي خلافة بني أمية، وصدراً من خلافة العباسيين، وزمناً من خلافة العثمانيين، ثم الأيام دول يوم لها ويوم عليها إلى يومنا هذا، ففي اليوم الذي عليها إنما كان عليها بسبب معصيتها لله عز وجل، ولذلك لا تتصور أن نعم الله عز وجل عليك إذا كثرت أن ذلك دليل على محبة الله لك، وعلى محبة الله عز وجل لهذه الأمة، إنما دليل المحبة أن يوفقك الله تعالى، بل ويوفق هذه الأمة كلها لطاعته وحسن عبادته. هذا أعظم دليل على محبة الله تعالى للعبد.
وبالجملة أعظم دليل على محبة الله تعالى لهذه الأمة.
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ [الأنعام:44] ولم يقل: فتحنا لهم، وإنما قال: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44] (مبلسون): متحيرون، مندهشون: لم هذا؟ لم فعل الله بنا هذا؟ بما كسبت أيديكم، ولذلك البلاء إذا نزل لا يصيب واحداً، بل يصيب الجميع ويبعث كل على نيته، ومكر الله شديد، قال الله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته) يمهل لك ويغرك بالنعم حتى إذا فرحت بما أوتيت أخذك وهو لا يبالي، إن كنت فرداً أو إن كنتم أمة من الأمم لا بد أن تجرى فيكم سنة الله تعالى التي قد جرت في الأمم كلها.
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] بل تصيب العامة، ويبعث كل على نيته، ودليل ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم: في غزوة أحد لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الجند وصف الصفوف وأرسل قطعة من الجيش إلى أعلى جبل الرماة، ثم قال لهم: (على مصافكم، احموا ظهورنا، فإذا رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا -أي: في جمع الغنائم-، وإذا رأيتمونا قد قتلنا فلا تنصرونا). وصية خالدة، ولكنهم تنكبوا هذا بعد أن أمَّر عليهم عبد الله بن جبير وأرسلهم إلى مهمتهم، فلما رأوا الحرب قد وضعت أوزارها وولى المشركون الدبر، تصوروا أن هذا آخر المطاف، فنزل جلهم لجمع الغنائم، فلما رأى خالداً ومن معه قلة الجند على جبل الرماة استداروا من الخلف فصعدوا الجبل، وأتوا على المسلمين ضرباً وتنكيلاً ورمياً بالسهام والنبال، حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة، بل وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك جراح، فشج وجهه وكسرت رباعيته، ثم قالوا: كيف حصل هذا؟ بعد أن انتصر المسلمون أولاً ما الذي دهانا؟ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] بسبب مخالفتكم اليسيرة للنبي عليه الصلاة والسلام كان لزاماً أن تجرى فيكم سنة الله تبارك وتعالى، وهي التأديب والطرد والقتل والتشريد والسجن والحبس .. وغير ذلك من سائر العقوبات حتى ترجعوا وتراجعوا دينكم، وترجعوا إلى ربكم، سنة الله تعالى ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً، ولذلك قال الله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [النحل:61] لا يترك شيئاً يدب على وجه الأرض، لو أراد الله تعالى أن يعاملنا بعدله، ولكن الله تعالى المتفضل الرحيم الكريم التواب الغفور دائماً يعامل هذه الأمة بفضله، ويمهل للظالم، ويعطي له الفرصة مرة ومرتين وثلاثاً ومائة ليثوب ويتوب ويرجع إلى ربه، فإذا أصر فالشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وكما قال سائر السلف من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
أخرج البخاري من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: (دخل النبي عليه الصلاة والسلام ذات يوم علي فزعاً مذعوراً وهو يقول: الله أكبر، لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بالإبهام والتي تليها -أي: السبابة- قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث) .
وفي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أترون ما أرى؟ قالوا: لا يا رسول الله، وما ترى؟ قال: والذي نفسي بيده! إني لأرى الفتن تقع بين بيوتكم كمواقع المطر من السماء) انظروا إلى حجم الفتنة التي تقع بالأمة، والأمة الآن تحيا هذا الحديث حياة ملموسة محسوسة، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام بين ظهرانينا الآن، وذلك مصداق ما أخرجه مسلم وأحمد من حديث ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم - أي: تجتمع عليكم الأمم - كما تجتمع الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير) مليار وثلث المليار لا يقوون على مجابهة ثمانية مليون يهودي في العالم كله، لو أن كل مسلم بصق فقط في أرض فلسطين لأغرق اليهود، فما بال اليهود مع قلتهم يسوسون العالم أجمع حتى ساسوا بلد الكفر وأعظم طاغية على وجه الأرض أمريكا، كيف ذلك؟ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] .
إي والله! بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
اليهود أنجس خلق الله، وأذل خلق الله، أبناء القردة والخنازير أذاقوا المسلمين في هذه الأيام الذل والهوان، وليس ذلك بقوة اليهود، فإنهم أضعف وأحقر من ذلك، ولكن بمعصيتكم أنتم، بمعصية هذه الأمة وركوبها الخطر وتنكبها عن صراط ربها وسنة نبيها، فأراد الله تعالى أن يلقنها درساً في حياتها لا تنساه، فسلط الله عليها أهون الخلق عليه، اليهود ومن خلفهم النصارى على الجميع لعنة الله عز وجل.
(قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، وهو الشيء الخفيف الطافي على سطح الماء تأخذه الريح يمنة ويسرة، وتفعل به ما تشاء، فأنتم كذلك، هذا حال الأمة.
(ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم) لا يخافونكم.
أوصى عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه أحد جنده وهو سعد بن أبي وقاص المبشر بالجنة والإمام المجاهد، قال: يا سعد ! اتق الله في نفسك وفيمن معك من الجند، واعمل بطاعة الله تنتصر على عدوك، فإن استويت أنت وعدوك في المعصية فقد فاقك عدوك بكثرة عدته وعتاده، فإنكم لا تنتصرون على عدوكم بكثرة عدة ولا عدد، ولكنكم تنتصرون عليهم بتقوى الله.
وصية جامعة خالدة عمل بها سعد ، وعملت بها الأمة في صدرها الأول، ولذلك فتح الله تعالى عليهم، وفتح لهم قلوب العباد، فكانت أمة قوية استحقت شرف النسبة إلى الله عز وجل وإلى رسوله وإلى دينه وشرعه.
فلما تنكبت الأمة طريق أجدادها وسلفها أذاقها الله لباس الجوع، حتى صاروا يستمدون رغيف الخبز من أمريكا تارة ومن اليهود تارة أخرى، أذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، أي: بما نصنع نحن، وبما كسبت أيدينا، واقترفت جوارحنا، فهل آن لهذه الأمة أن ترجع إلى ربها؟
اقرأ سير السلف رضي الله عنهم علماً وعملاً وعبادة، لا بد وأنك ستحتقر نفسك، وتحتقر ما أنت عليه من رقة في دينك، ومن عبادة لا تكاد تنفع بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، ومن عملٍ قليلٍ، فنحن في قلة وفي سفال دائماً لبعدنا عن الله عز وجل، وبعدنا عن شرع ربنا، وعن سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نستمسك بهذا الكتاب الذي هو حبل الله المتين، طرفه بأيديكم، وطرفه الآخر بيد الله عز وجل، فهو الحبل الموصول بينك وبين الله. (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وإن كل ضلالة في النار) كما جاء في السنن من حديث العرباض بن سارية مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي ورد عن عبد الله بن عمرو ورد كذلك عن عبد الله بن مسعود في صحيح مسلم ، بل وفي الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن من كان قبلكم اختلفوا في الكتاب، فأهلكهم الله عز وجل)، ولا زلنا نجد اختلافاً وهلاكاً في القرآن الكريم بين المتفقهين في مسائل الإيمان، بل وفي مسائل العلم والعمل على السواء، فالبعض يقول: العمل ليس من الإيمان ولا يمت له بصلة: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [الكهف:5] نعم. العمل إيمان، والإيمان قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بطاعة الله وينقص بمعصية الله، فكلما ازداد العبد من العمل والطاعة ازداد إيمانه حتى يشعر كأن قلبه يحلق في السماء السابعة، وأما إذا عمل العبد بمعصية الله ضاقت عليه نفسه، وضاق عليه قلبه كأنما يصعد في السماء، كما أخبر الله عز وجل.
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ [الأنعام:125] يشرح صدره فينشرح ويتسع وينفتح، حتى يشعر المرء أن روحه تحلق إلى باريها، خلافاً لمن أراد الله تعالى له السفال والهوان والذل، فإنه لا يوفق للطاعة، بل يعمل بالمعصية، فإذا عمل بالمعصية سلب منه إيمانه شيئاً فشيئاً حتى يخرج الإيمان من قلبه، وربما لا يبقى فيه إلا مثقال ذرة من إيمان. (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) فبين النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن الإيمان يتفاضل، فمنه ما هو متعلق بالقلب، ومنه ما هو متعلق بالجوارح، ومنه ما هو متعلق بالنفس وبالعمل.
وبعد هذا وجدنا من الناس من يقول: لا علاقة للعمل بالإيمان، هل الأمة الآن مع بطلان هذا القول وفساده تستحق أن تعطى هذه الرخصة -إذا كانت رخصة- مع بطلانها وفسادها؟ هل هذه الأمة في حاجة إلى تسليط أكثر مما هي عليه حتى تقول لهم: اعملوا بالمعصية؛ لأن المعصية لا تضركم، فإن هذا أخبث المذاهب في الإسلام. إي والله.
أتى رجل إلى الإمام مالك في مسجد المدينة وكان محرماً فقال مالك: ما هذا؟ قال: أحرمت بالنسك. قال: ميقات أهل المدينة ذا الحليفة، قال: ما هي إلا فراسخ بيننا وبين ذي الحليفة، قال: إني أخشى عليك الفتنة. قال: أي فتنة في هذا؟ قال: أما قرأت قول الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]؟ انظروا إلى فهم إمام أهل المدينة وإمام المسلمين في زمانه لمبدأ المخالفة للنبي عليه الصلاة والسلام، حتى وإن كانت يسيرة، فمهما دقت المخالفة لا بد أن تدفع الأمة ثمنها.
وسمع رجل النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا. فقام إليه فقال: يا رسول الله! الحج كل عام؟ فأشاح النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه ولم يرد عليه، فأعاد الرجل فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأعاد الثالثة، فقال: لو قلت: نعم. لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم). كان هذا سبباً لهلاك أمة من الأمم، فقد هلك اليهود الذين اختلفوا على موسى عليه السلام في أمر البقرة .. وغيرها من الأمور حتى عبدوا العجل من دون الله عز وجل، ولما رآهم موسى عليه السلام غضب غضباً شديداً وألقى الألواح من يده، فلما سكن غضبه أخذ الألواح واستغفر ربه وأناب إليه وتاب.
أيها الإخوة الكرام! لا بد لهذه الأمة أن ترجع كما كان شأن الصالحين من قبلنا، وكما كان شأن السابقين الأوائل من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، ما كانت المعصية تقع من الواحد منهم إلا ويبادر قبل دخول ليله بالتوبة إلى الله عز وجل، ومن محاسبة نفسه أولاً بأول، وقد ثبت أن عمر أمير المؤمنين قال: أريد أن أخرج منها على الكفاف لا لي ولا علي. هذا الذي كان يحاسب نفسه في مدخل كل ليلة فيؤدبها ويضربها بالدرة التي كانت في يده، وهو من هو في العدل والفضل والإمامة والجهاد في سبيل الله عز وجل، هو الذي فتح الله تعالى به البلاد وقلوب العباد، هو الفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل، ومع هذا كان يحتقر كل ذلك في جنب الله عز وجل.
أما نحن مع قلة أعمالنا وهواننا إلا أننا نستعظم العمل جداً وهو قليل بسيط، وهو لا يكاد ينفعنا بين يدي الله عز وجل، ومع هذا نقول: هذا العمل كثير والحمد لله، ماذا يريد الله منا؟ نحن نصلي ونصوم ونزكي ونحج، نعم. رغماً عنا نزكي، ورغماً عنا نحج، ونعتبر الزكاة مغرماً لا مغنماً، لكن على أية حال: نحن بخير.
قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي! لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، من أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، ومن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة) .
(لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين) أي: في الدنيا وفي الآخرة، إما هذا وإما ذاك، فلا بد لهذه الأمة أن تعمل بخوف الله تعالى وبالرجاء فيه بعد العمل، ولذلك لما قرأت عائشة رضي الله تعالى عنها قول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] خائفة. أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] قالت: يا رسول الله! أهذا الزاني يزني والسارق يسرق؟ قال: لا، يا ابنة الصديق ! إنما هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وزكاة وجهاد يخافون ألا يتقبل منهم)، يخافون بعد العمل ألا يتقبل منهم، فهم يرجون رحمة الله بعد العمل. وأما نحن فنرجو رحمة الله، ونتكل على رحمة الله بدون عمل، وهذا اغترار بالله تعالى، إذا رأيت الرجل يرجو الله بعد العمل فاعلم أن هذا هو الرجاء الصحيح، وإذا رأيته يرجوه تاركاً للعمل، فاعلم أن هذا العبد مغتر بستر الله تبارك وتعالى عليه، وأن هذا الرجاء إنما هو الرجاء المزيف، وهو الغرور بالله تعالى، والأمن من مكر الله.
لابد لهذه الأمة أن تعمل بالخوف والرجاء معاً، ولا بأس أن تغلب جانب الخوف كما غلبه نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو من هو في فضله وشرفه عليه الصلاة والسلام، ومع هذا (كان يقوم من الليل حتى تورمت وتفطرت قدماه، فقالت
في هذه الأمة لا يكاد عالم من العلماء يقول قولاً إلا ويقوم إليه أحد المستمعين من المسلمين المصلين ويقول له: أنا لا أوافق على هذا، أنا أخالفك في هذا! ويخرج علينا كل يوم عشرات الأفراد يطعنون في ثوابت هذا الدين، في الصلاة والصيام والزكاة، بل وفي مواقيت الحج، ومنهم من يطعن في ستر المرأة وعفافها ويحارب النقاب، بل إنه يحارب الخمار ويقول: هذه عادة فرعونية أو عادة جاهلية لم يأت بها الإسلام، وليس عليها دليل، وأنا قد قرأت القرآن من أوله إلى آخره فما وجدت شيئاً من ذلك، وماذا نملك لك أو لكِ إذا كان الله تعالى قد أعمى بصيرتكِ؟! إذا كان الله تعالى ضرب على قلبكِ وسمعكِ وبصركِ العمى وحجب عنكِ نور الهدى ماذا نملك لكِ؟ أما من عمل بطاعة الله فهنيئاً له، ومن عمل بمعصية الله فأبعده الله.
لا بد لهذه الأمة من عقيدة ثابتة راسخة في القلوب رسوخ الجبال الرواسي في الأرض لتعمل قدماً وتنطلق إلى ربها لتعمل بالكتاب وتعمل بسنة نبيها عليه الصلاة والسلام.
إن الواحد منا إذا كان يملك أي مساعدة للمجاهدين سواء كانوا في فلسطين أو أفغانستان أو الشيشان، أو أي بقعة من البقاع يرفع فيها راية الجهاد وجب عليه وجوباً عينياً أن يساعدهم بماله، كما يجب على كل حكومات العرب والإسلام أن تقف بجوار هؤلاء في بقاع الأرض وأصقاعها شرقاً وغرباً بجيوشها ونفوسها وأنفسها وأبدانها وعدتها وعتادها.
وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال:72] النصر واجب عليكم يا معشر الحكومات، ويا أيها الجيوش المسلمة والجموع الغفيرة عليكم أن تنصروا إخوانكم هنا وهناك، ولا ينفعكم هذا التخاذل، ستدفعون الثمن إما اليوم وإما غداً، حين يطرق اليهود عليكم الباب ويقولون: نحن هنا، فحينئذ ماذا يصنع الناس؟ لو أنك أصبحت أو أمسيت وقد طرق يهودي بابك، وقال: اخرج إلي أو أدخل إليك ماذا ستصنع؟ هل ستنتظر حينئذ رأي جماعي أو موقفاً موحداً؟ أبداً، ليس لك ذلك، بل ستدافع عن نفسك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فابدأ من الآن ودافع بنفسك أو بمالك.
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ [التوبة:111]، وعداً على الله عز وجل أخذه على نفسه وأوجبه على نفسه: أن يدخلكم الجنة أو ترجعوا بأجر وغنيمة، هل رأيتم رباً أرحم من هذا الرب وأكرم من هذا الرب؟ لا والله.
و(قرأ
فهذا واجب من أوجب واجبات الشرع فرطت فيه الأمة شيئاً كثيراً، وعمل بعض أفرادها بهذا الواجب ومع هذا تجد الثمرة عظيمة جداً مع قلة الجهد، وهذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء سبحانه وتعالى، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه سبحانه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.
أما بعد:
فمن أسباب الهلاك: البخس والتطفيف في الكيل والميزان، ومنع الزكاة، ونقض العهد مع الله ورسوله، والحكم بغير ما أنزل الله، والتحاكم إلى غير شريعة الله من أعظم أسباب الهلاك. أخرج ابن ماجه والحاكم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن قد مضت في أسلافهم الذين مضوا، وما نقصوا الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، وما نقض قوم العهد والميثاق إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) .
هذا حديث عظيم يشرح واقع الأمة اليوم.
قال: (ما ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون) أمراض نسمع عنها ما سمع عنها في أسلافنا، هذا مرض الزهري والسيلان ما كنا نسمع عنه في بلاد الإسلام حتى جاءنا من بلاد الغرب، ولذلك كان أجدادنا يسمون هذه الأمراض أمراض الفرنجة، المرض الإفرنجي الذي أتانا مستورداً من وقوع ونزو الرجال على النساء في بلاد الغرب، حتى اقترفت هذه الأمة ما وقعت فيها الأمم الكافرة، فصارت الواحدة تختار من تحب وتعشق من تحب وتزني بمن تحب.
ومن حديث ابن مسعود عند الطبراني وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما ظهر الزنا والربا في قوم قط إلا عمهم الله بعذاب) .
(إلا عمهم) أي: شملهم بعذابه ونقمته. هذا الزنا صار إلفاً مألوفاً في المجتمع المسلم، وهذا الربا صار مقنناً بقوانين، وله عمائم تارة تبدو حمراء وتارة تبدو زرقاء وتارة خضراء تقننه وتشرعه، وتلوي ألسنتها بالكتاب لي البقر الطعام بألسنتها، فهل تستكثرون ما نزل بالأمة مع هذه الأمراض والبلايا؟ والذي نفسي بيده! إن ما ينزل بالأمة بالنسبة إلى معاصيها لقليل، ولا يكشف الله تعالى الضر إلا إذا رجع كل فرد من أفراد الأمة إلى ربه، وعمل بطاعة الله تعالى، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وما نقص قوم المكيال والميزان) لماذا ينقص الناس المكيال، ويقعون في الويل وهو واد في جهنم تستعيذ منه جهنم إلى ربها في اليوم سبعين مرة. وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3] (يخسرون) يمنعون حقوق الناس ويأكلونها بغير حق، لماذا؟ ويل لهم ثم ويل لهم، ومع هذا لا بد من قيام السؤال ولا بد من الجواب، لماذا أمنع حق الغير في الميزان والكيل؟ لأتكسب وأزداد ويعظم مالي ويكثر، ومع هذا يعاقبك الله تعالى من جنس قصدك، فيقول: (وما منع قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين) بالجدب والقحط والفقر والغلاء، عقوبات متتابعة متتالية ومع هذا أنت تستكثر، فربما استكثرت حتى ملأت البيت من الأرض إلى السماء فأتى عليه ماء فذهب، نار فذهب، أنت بين يدي الله عز وجل والرزق في السماء لا في الأرض، قال تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22] ولم يقل: ورزقكم في السماء، وإنما قدم شبه الجملة من الجار والمجرور ليدل على الحصر، وأن الرزق في السماء لا في الأرض، ولو شاء الله تعالى أن يفتح عليك باباً لفتحه، ولو شاء أن يمنع عنك لمنع، ولا يدل فتحه على المحبة، ولا يدل منعه على السخط، بل يبتلي الله تعالى عبده بالنعم لينتقم منه، ويبتلي عبده الآخر بالفقر دليل على الرضا، لعلمه السابق أنه لو أغناه لطغى وبغى، فالفقر أحسن إليه.
ومَن أتباع الرسل؟ أتباع الرسل الفقراء والصعاليك الذين لا مال لهم، ولذلك قال الله تعالى: وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28] إياك يا محمد! أن تنصرف عن هؤلاء، وعاتبه الله عز وجل أشد العتاب لما أعرض عن عمرو بن أم مكتوم ليتكلم مع أشراف قريش، هؤلاء لا ينفعون، وليسوا أتباعاً للرسل، ولا يرجى منهم خير، ولذلك الخير كل الخير في الفقراء والضعفاء والمساكين.
انظر إلى حال هذا الحي الشعبي، وإلى حال حي من الأحياء التي يقال عنها: راقية، أنا على يقين أنك ستجد المساجد في هذا اليوم قد امتلأت، لكن شتان والله بين هذا المسجد وبين مسجد في حي من الأحياء الراقية، أي: في مستوى الإيمان ورسوخه وثباته والمحافظة على الصلوات الخمس، شتان وهيهات هيهات أن يستوي الغني مع الفقير، وليست هذه قاعدة مطلقة أو مطردة فإن لكل قاعدة شواذ، فإن من الفقراء من لا يستحق إلا ضرب النار نهاراً جهاراً، ومن الأغنياء من يستحق الإكرام والتشريف لحفاظه على حق الله تعالى وحق الفقراء في غناه، وفيما أوكله الله تعالى وخوله.
(ولولا البهائم لم يمطروا) تصور أن الإنسان المكرم يكرم لأجل البهائم العجماوات التي لا ذنب لها في هذا الجدب والقحط وتصاب بسببه، فإن الله تعالى ينزل الخير من السماء ليكرم البهائم ويكرم بكرمهم بني آدم، إنا لله وإنا إليه راجعون.
(وما لم تحكم أئمتهم) من الحكام والعلماء والأمراء بل والعامة، (إلا جعل الله بأسهم بينهم) حتى عمَّ البأس بين الزوج والزوجة وبين الوالد وولده وبين الكبير والصغير وبين الرجال والنساء.. عم البأس جميع فئات الأمة، لماذا؟ لتركهم لكتاب الله والتحاكم إلى شرع الله.
أخرج الطبراني من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (أنه لما رجعت مهاجرة الحبشة إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: ألا تحدثوني بأعجب ما رأيتم في أرض الحبشة؟ قالوا: نعم يا رسول الله! لقد كان منهم فتية مرت بهم عجوز قد وضعت على رأسها قلة فيها ماء، فقام إليها أحدهم فوضع يده بين كتفيها ودفعها دفعة سقطت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فقامت وقالت: يا غدر! - أي يا غدار - غداً ستعلم إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، غداً ستعلم بين يديه أمري وأمرك. قال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقت، صدقت، صدقت. كيف يقدس الله تعالى أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟) .
(إذا تبايعتم بالعينة) وبيع العينة من البيوع المحرمة، وهو حيلة للوقوع في الحرام، وهو حرام صراح حرمه النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن ما هو بيع العينة؟ أن تذهب لتقول لرجل من الناس: أعطني ألف جنيه قرضاً حسناً، فيقول: ما عندي مال ولكن خذ هذا القمح بألف جنيه نسيئة، ادفع كل شهر مائة جنيه على عشرة شهور، ثم قبل أن تحمل هذا القمح يقول لك: هل رضيت بالبيع؟ نعم. هل استقر الثمن في ذمتك؟ نعم. يقول لك: تبيعني هذا القمح بثمانمائة جنيه نقداً عاجلاً؟ تقول: نعم، تأخذ منه الثمانمائة جنيه ثم ترد إليه عين السلعة قبل أن تنقلها إلى رحلك، ولذلك سماه الشرع: بيع العينة، حيلة إلى الربا والفجور.
قال: (واتخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع) اهتمام بالدنيا على كل حال، كأن النبي عليه الصلاة والسلام ما جاء إلا لتحصيل الدنيا لا لتحصيل الدين. ولذلك أنت الآن كلما قلت لأحد من الناس: ما شأن الجهاد وماذا نصنع؟ يقول لك: لا جهاد. الجهاد سفك للدماء، وخراب للبلاد، وخراب للاقتصاد، بل هو إلقاء بالنفس إلى التهلكة، والله تعالى يقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] ويحتج كذلك من القرآن على فساد معتقده، وهذا من باب الاختلاف في الدين الذي هو سبب هلاك الأمم، يحتج بقول الله: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] على الجهاد في سبيل الله الذي هو عز المسلم وشرفه، ولذلك لما قال رجل في حرب مع الروم في القسطنطينية: (لو أني ألقيت بنفسي في جيش الروم أكنت قد ألقيت بنفسي في التهلكة؟ قال الجيش: نعم، لو أنك فعلت لكنت ملقياً بنفسك إلى التهلكة. فقال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: لا تفعلوا - هذا فهم خاطئ - فإن هذه الآية فينا نزلت معشر الأنصار، فنحن قد شرفنا الله بنصرة نبيه، ومنعناه مما نمنع منه أولادنا وأبناءنا وأموالنا ونساءنا، فلما كثر الإسلام وظهر المسلمون قلنا: هلا رجعنا إلى أرضنا وأموالنا فأصلحناها، فأنزل الله تعالى قوله: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] قال أبو أيوب : فكانت التهلكة الركون إلى الدنيا، وترك الجهاد في سبيل الله).
هذا هو الإلقاء في التهلكة أن تركن إلى حياتك ودنياك، وتتصور أو تعتقد أن الجهاد في سبيل الله هلاك للأبدان أو للأرواح، أو خراب للبلاد وللعباد، أو ضياع للاقتصاد.. وغير ذلك، بل الاقتصاد ضائع ضائع، وما يأكل الناس اليوم إلا سماً زعافاً في أبدانهم، وقد ظهرت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم.
وبالجملة فإن عموم معصية الرسول عليه الصلاة والسلام ومعصية الله تعالى هي التي أوردت هذه الأمة الموارد والهلكة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم) .
معظم الأمة الآن أمريكان في العقائد والأخلاق والسلوك والآداب، وهم يزعمون أنهم يحاربون أمريكا، وأنهم يبغضون اليهود والنصارى، وهم الواحد منهم إذا لبس نعلاً يهودياً أو إسرائيلياً يفتخر به في المجالس العامة، ويقول: لقد اشتريت هذا النعل بخمسمائة دولار من المكان الفلاني، الذي لا يبيع إلا المنتجات الإسرائيلية. انظروا! ثم يقلب النعل من فوق إلى أسفل يفتخر بأنه يلبس نعلاً يهودياً أو ثوباً أمريكياً أو فانيلية إنجليزية، ويقول: هذا صوف إنجليزي أصيل، يقول ذلك على سبيل الفخر، ما هذه الحسرة؟ وما هذه النكسة في العقائد والأخلاق والسلوك والآداب، ثم تزعم أنك متبع لنبيك مخالف لليهود والنصارى؟! لا بد من وقفة، ولا بد أن تضرب فوق أم رأسك لتعلم أنك أمريكاني وأنك إنجليزي وأنك أوروبي في معظم أحوالك وفي غالب أوقاتك، لا بد أن ترجع وتتشبه بالنبي عليه الصلاة والسلام وبأصحابه الكرام.
تشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
أطع النبي عليه الصلاة والسلام في كل أمر، في كل كبيرة وصغيرة، في كل ما دق وجل. (هذا
عبد الله بن عمر يسمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) فكان يدرس هذا لأولاده في البيت فقال بلال ولده: والله لنمنعهن، إنهن يخرجن في الليل خلسة لينظرن إلى الرجال وينظر الرجال إليهن، قال عبد الله بن عمر : أو أقول لك: قال رسول الله وتقول: والله لنمنعهن، والله لا كلمتك ما بقي فيَّ نَفَس. مع أنه ولده.
فلا بد إذا سمعت قال الله وقال الرسول أن تضع على فيك شيئاً تسده به، وتقول: آمنت بالله ورسوله، فإن كنت قد ابتليت بشيء من المخالفة فاسأل ربك العافية، ولا تجادل ولا تماحل ولا تناظر ولا تخاصم؛ فإنك تخاصم الله تعالى حينئذ، وتجادل الرسول عليه الصلاة والسلام.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:1-2].
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا، وثبت أقدامنا، وثبت أقدامنا.
اللهم انصر المجاهدين في فلسطين وفي الشيشان وفي أفغانستان وفي سائر البلدان، اللهم انصرهم وكن لهم، اللهم انصرهم وكن لهم، اللهم أيدهم بمدد من عندك، وأنزل عليهم جنداً من جندك، اللهم اخذل الكافرين، اللهم اخذل الكافرين، جمد الدماء في عروقهم، يتم أطفالهم، ورمل نساءهم، واجعل الدائرة عليهم، اجعل الدائرة عليهم، اجعل الدائرة عليهم، خلص الموحدين منهم، اللهم خلص الموحدين منهم، اللهم خلص الموحدين منهم.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً. اللهم إن المجاهدين حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جوعى فأطعمهم، عطشى فاسقهم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم انصرهم كما نصرت نبيك في بدر، اللهم انصرهم كما نصرت نبيك في بدر، اللهم انصرهم كما نصرت نبيك في بدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وأقم الصلاة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر