الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قال رحمه الله: [وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (قال
كثيراً كانوا ينبهوننا عن الفرق بين ابن مسعود وأبي مسعود ، وأبو مسعود يقولون فيه: أبو مسعود البدري ، ونسبته إلى بدر بالسُكنى وليس بحضور الغزوة، وهو أنصاري.
يقول: بشير : (كنا في مجلس سعد -أبوه- فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! أمرنا الله أن نصلي عليك) أين أمرهم الله؟ في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
[الأحزاب:56]، وهنا للأصوليين مجال واسع، فأمره سبحانه هنا مجمل، كيف نصلي؟ ومن الذي يبين هذا المجمل؟ النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يكون بيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أُجمل في كتاب الله واجب الاتباع، ويقولون: حكم المبيِّن من حكم المبيَن، المبيَن مجمل فيأتي المبيِّن ويفصل، إن كان المبيَن سنة فالبيان سنة والأخذ به سنة، وإن كان المبيَن واجب فالمبيِّن واجب والأخذ به واجب.
فمثلاً: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، وعندما دخل ابن عمر وسأل: أين صلى؟ قيل: هنا، فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة مجملة، وفعله إياها في المكان المعين بينه، وكذلك الصلاة في البيت مسكوت عنها؛ ففعلها صلى الله عليه وسلم لبيان المشروعية، وهكذا فيما يتعلق بنوافل العبادات، فلما جاء هنا: (أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟)، والسؤال بالكيفية يكون عن حقيقة الماهية ووصفها، فهل هنا استفهام: كيف نصلي عليك؟ أو لماذا نصلي عليك؟ أو أنه علمنا الكيفية التي أمرنا بها؟ وهذا هو المطلوب، ليس سؤال استعجاب ولا استغراب، ولكن سؤال استيضاح عن الكيفية والصورة التي بها ينفذون أمر الله.
أتى عبد الله بن زيد يقول: يا رسول الله! رأيت كأني في المنام -يعني: بين النوم واليقظة- ورأيت رجلاً عليه حلة خضراء يحمل ناقوساً، وقلت له: ألا تبيع هذا الناقوس؟ فقال: ماذا تصنعون به؟ قلت: نعلن به للصلاة، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ -وذكر الأذان- ثم تنحى قليلاً وقال: ثم تقولون: وذكر له الإقامة. الرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع هذا من عبد الله قال: إنها رؤيا حق، قم فألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً، فصعد بلال ونادى، فإذا عمر يأتي يجر رداءه، ويقول: والله! لقد رأيت مثلما سمعت.
اجتمعوا ليصلوا إلى وسيلة فلم يتوصلوا ويترك الأمر، أبو بكر مع ما بينه وبين رسول الله ما رأى شيئاً، عثمان صهر رسول الله ما رأى شيئاً، عمر فيما بعد حفصة لم تأت إلى الآن، فإذا عبد الله بن زيد رجل من الأنصار يقول: أنا رأيت كذا وكذا، وهو شعار المسلمين في صلاتهم، وأهم ركن في الإسلام، يُترك ليراه إنسان بين النوم واليقظة، قالوا: نعم، وهذا عين الواقع والحقيقة المناسبة، لماذا؟ لأن في ألفاظ الأذان أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وليس هناك إعلان بعلو منزلة النبي وعظيم شرفه كقران اسم رسول الله باسم الله المولى سبحانه، وذلك في الشهادتين على المنارة ينادى به في كل مسجد في كل يوم خمس مرات، بل في بعض المساجد كل منارة ينادي عليها مؤذن، ثم تثنى في الإقامة، لو أراد إنسان أن يحصي هذا في العالم لا يقدر أن يحصيه، فهذا العمل لما كان متعلقاً بشخصية رسول الله، والمدينة فيها من أهل الشر الذين يترقبون زلة أو ثُلمة فيها أدنى شبهة ليشككوا المسلمين في رسول الله؛ سد عليهم هذا الباب، والله أنا لم آت به، ولم أقل لكم: أوحي إليّ بهذا؛ مع أنه لو قاله فهو صادق، ولا أحد يستطيع أن يرد عليه قوله، لكن عندما يأتي به رجل من عامة المسلمين، هل أحد يستطيع أن يلوح بشبهة في الأفق؟ لا أحد يستطيع.
ثم قال: (قولوا) وهذه العبارة صيغة أمر، أخذ منها بعض العلماء أن الأمر للوجوب، ولكن المؤلف قدم لنا: (عجل هذا)، ولم يأمره بالإعادة، ولا بسجود سهو، وأقره على تلك الصلاة التي عجل فيها عن الصلاة على رسول الله، والعلماء بالإجماع يقولون بأنها مطلوبة، لكن على أي مستوى: الوجوب أو الندب؟
الجمهور يقولون: الندب، ونجد الشافعي رحمه الله يقول: الوجوب، ويختلف في مذهبه: هل الوجوب في التشهد الأول (إذا صلى أحدكم)، أو الوجوب في التشهد الأخير؟
ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه فرق بين الجلوسين؛ فالصلاة على محمد دون الآل في التشهد الأول، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم صل على محمد ثم ينهض، والصلاة على محمد وعلى الآل يكون مجموعاً في التشهد الأخير.
أما قول: (سيدنا) فلم يتعرض لها المؤلف، ولكن تعرض لها غيره، وبعض الناس في هذا المقام يقول بالتسييد (اللهم صل على سيدنا محمد)، وقد رأيت رسالة مخطوطة قديمة سابقاً، وفي ذهني بعض منها وهي للشافعية، ويرون بأن لفظ: (السيد) من باب التكريم والتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجمهور يقولون: جاءت الصيغة في معرض التعليم جواباً على سؤال؛ فلا تحتمل الزيادة ولا النقصان، فيجب الالتزام بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وهو يُعلم الأمة سواء في الصلاة أو خارج الصلاة. ولا شك أنه سيد الأولين والآخرين، كما قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وقال: (إن الله اختار العرب من الناس، واختار من العرب قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم؛ فأنا خيار من خيار من خيار).
إذاً: خارج الصلاة قل: سيدي وسيدنا وسيد الثقلين وسيد الأولين والآخرين، لا أحد يعارضك، لكن في الصلاة لا تقل لأمرين:
الأمر الأول: أنهم قالوا: الصلاة حق لله، وهي تعظيم لله بالحمد والثناء والركوع والسجود، وتقول: الله أكبر، أي: من كل كبير جاء في خاطرك، فما دام أنها للتعظيم والتمجيد والثناء للمولى سبحانه، فما تحتمل أن تثني على غيره معه، فقولك: سيدنا، معناه: أنك دخلت في باب التكريم والتعظيم بغير الله مع الله، وهذا لا يصح، بل أفرد التكريم والتكبير والإجلال في الصلاة لله.
والأمر الثاني: قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) جاءت بصفة العبودية لتلتزم بها، والجمهور يقولون: تقولون: إنكم تُسيدون إكراماً لرسول الله؟ قالوا: نعم، قالوا لهم: لا، التكريم الحقيقي هو الالتزام واتباع ما علمنا به، يُعلمك كذا وأنت تفعل كذا، هذا ليس تكريماً، لأنك خرجت عن التعليم، وحقيقة التكريم هي: أن تمتثل ما أمرك به، والبحث قد يتوسع فيه بعض الناس، واخترعوا له قاعدة: هل الأدب الأولى أم الامتثال؟ والصحيح أن الامتثال أولى.
المعروف في قانون البلاغة: أن المشبه به أقوى من المشبه، تقول: زيد كالأسد في الشجاعة، المشبه زيد، والمشبه به الأسد، وجه الشبه الشجاعة، وهل الشجاعة أقوى في زيد المشبه أو في الأسد المشبه به؟ في الأسد وتقول: فلان الأمير أكرم من حاتم ، أفعل التفضيل، فتكون نسبة الأفضلية للأمير على حاتم، ويبقى الأمير أكرم من حاتم ، فإذا جاءوا هنا يقولون: من أفضل محمد أو إبراهيم؟ بإجماع المسلمين أن محمداً أفضل الخلق بلا شك ولا نزاع، فإذا كان هو الأفضل كيف يقال: صلِّ على الأفضل كما صليت على المفضول.
والغرض من التشبيه: إلحاق المشبه بالمشبه به في الصفة، يعني المشبه أقل صفة من المشبه به، وأنت تقول: (صلِّ على محمد) وتلحقه به (كما صليت على إبراهيم)، فأنت هنا جعلت المشبه وهو محمد أقل وتلحقه بإبراهيم، فجعلت إبراهيم هو الأفضل والصلاة عليه أكثر، وكيف يصير هذا؟ وأخذوا يحاولون الإجابة إلى ما شاء الله، ولكن: هل الصحابة عندما سمعوا هذه الصيغة ناقشوا هذه المناقشة؟ قولوا فقالوا وانتهى، والذي قالها سيد الخلق وسكت طويلاً، ونجزم بأنه كما قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى
[النجم:3-4]، إذاً: لا حاجة إلى النقاش، ولكن من باب ما قيل: هي صلاة مستقلة لا علاقة لها بإبراهيم ولا إسماعيل، ويبقى التشبيه منصب على آل محمد كما صلى على آل إبراهيم، وهذه فيها تكلف، ولكن للخروج من هذه الورطة التي أدخلوا فيها أنفسهم، من الذي قال لكم تناقشوا؟ (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) ومن هم آل إبراهيم؟ قالوا: جميع الرسل من ذرية إبراهيم، فتكون الصلاة على آل إبراهيم، ومن ضمنهم محمد، ألم يقل: إن جده إبراهيم؟ أليس هو ولد إسماعيل, وإسماعيل ولد إبراهيم؟ فمحمد من آل إبراهيم، وآل يعقوب كلهم من آل إبراهيم، فتكون الصلاة على محمد وآله كالصلاة على إبراهيم وعلى جميع الأنبياء من ذريته ومنهم محمد، إذاً: صارت الصلاة الأكثر على محمد.
إذاً: ليس هناك مناقشة، ولعل هذا يكفينا في هذه المسألة. (في العالمين إنك حميد مجيد) وهذه جاءت في بعض الروايات. (والسلام كما علمتم).
والسلام كما علمتم أو كما عُلِّمتم؛ لأن السلام كانوا يقولونه قبل أن تفرض التحيات: السلام على الله، السلام على النبي، على جبريل، على ميكائيل، فقال: (لا تقولوا: السلام على الله، ولكن قولوا: السلام عليك ..) كما تقدم في الدروس الماضية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رواه مسلم وزاد ابن خزيمة فيه: (فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟).
ولعله من باب الإرشاد لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فليتخير من السؤال أعجبه)، أو: (من السؤال ما شاء) قد يقف الإنسان حائراً بماذا أدعو؟ ماذا أسأل؟ فقال: (إذا تشهد أحدكم)، وفي بعض الروايات: (في آخر التشهد)، وفي بعضها: (في الصلاة) واتفقوا جميعاً: على أنه يكون في التشهد الأخير وقبل السلام.
(فليستعذ بالله من أربع) أربعة أمور، وهذه الأمور الأربعة يطول فيها الكلام، ولكن نأخذ بعضها على سبيل الإجمال، والبعض قد يحتاج إلى إرجاء إلى أن يأتي محل أوسع منه، فنأخذ قدراً من الوقت المتبقي.
أعوذ: بمعنى ألجأ وأحتمي وألوذ؛ لأن هذه الأمور الأربعة لا يُجير الإنسان منها ولا يُعيذه إلا الله، وكلها أمور غيبية، والأمور الغيبية لا قدرة للإنسان فيها، لا في جلبها ولا في دفعها، وكلها مرجعها إلى الله، أمور جهنم والجنة والصراط والآخرة كلها أمور غيبية لم يشاهدها إنسان، اللهم إلا إذا قلنا: لقد أكرمنا الله برؤيتها عن طريق رؤية رسول الله في الإسراء والمعراج وهو الصادق المصدوق.
أما جهنم: فيقولون أصلها كهنم، بالكاف، ولكن بالجيم من التجهم، والتجهم: هو انكسار الوجه عند رؤية ما يسوء، والشخص إذا استقبل صديقاً أو عزيزاً هش له وبش له وجهه واستبشر أمامه، وإذا كان العكس تجهم في وجهه ليكفحه عن نفسه، وقد تكون جبلة وبغير اختيار؛ حينما يرى شيئاً يكرهه أو إنساناً لا يستريح إليه فلا يملك نفسه؛ لأنه عامل نفسي، فجهنم تتجهم للناس، وسُميت بذلك من هذا الوجه، والله أعلم، ولا يعيذ من عذاب جهنم إلا الله، سواءً كان برحمة من الله، أو توفيقاً للعبد في الدنيا، أو بشفاعة من رسول الله، أو بشفاعة من الله كما جاء في الحديث: (شفع النبيون والصالحون والأولون والآخرون وبقي أرحم الراحمين، أخرجوا من النار كل من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان)، فيخرج من النار كل مؤمني الأمة برحمة الله سبحانه.
إذاً: لا يجير من النار إلا الله، حتى الشفاعة وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى
[الأنبياء:28] ..
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
[البقرة:255] ..
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً
[الزمر:44].
إذاً: الأمر كله لله، ولذا يلجأ الإنسان إلى الله بأن يستعيذ من جهنم، وسبحان الله! في كل صلاة تقولها حتى لا يغيب عن ذهنك ذكرها، فتكون دائماً على حذر منها، وتكون دائماً ملتجئ إلى الله في شأنها. هذه الجملة الأولى.
عذاب القبر يثبته كل طوائف المسلمين، ولم ينفه إلا المعتزلة، وقيل: البعض منهم فقط، وهذه مسألة مفروغ منها، ويذكر كثير من العلماء بأن النصوص في إثبات عذاب القبر تصير إلى حد التواتر، وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: عذاب القبر يثبته العلماء من القرآن الكريم في قوله سبحانه في حق فرعون وآله: عائشةالنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ
[غافر:46]، وإدخالهم غدواً وعشياً متى يكون؟ قبل يوم القيامة، وهو في القبر, وقد جاء الحديث صريحاً: (القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار)، وروى مالك في الموطأ حديث عائشة، في اليهودية التي جاءت تسألها، وقالت: (أعاذك الله من عذاب القبر، فجاء الرسول وسألته، وقال: صدقت، يا
أريد أن أقول: يا إخوان! عذاب القبر، ونعيم القبر، وسؤال القبر.. كل أحوال القبر، رغماً عنا جميعاً نقر بأنها أمور غيبية، وعالم البرزخ عالم غيب، وليس للعقل ولا للتجربة ولا للمعمل ولا لجانب من جوانب الدنيا حتى أشعة الليزر وكل ما اخترعه الإنسان طريق إلى التوصل إلى شيء من أمره، وقد جاءتنا نصوص فيما يتعلق بما لا يمكن أن يتكلم به إنسان، جاء في حق موسى عليه السلام: (مررت على موسى في قبره قائماً يصلي) فهل كان له غرفة يصلي فيها؟ أو هل يوجد لحد عليه طوب اللبن، ويسعه وهو نائم؟ كيف يقوم يصلي فيه؟
تنص كُتب شرح العقيدة الواسطية على وقعة الحرة التي امتدت ثلاثة أيام، وعطل فيها الأذان والصلاة في المسجد النبوي، ولم يقو أحد أن يأتي إلى المسجد إلا سعيد بن المسيب ، فهو أربعون عاماً لم تفته الجماعة، ولم ير قفا إنسان أمامه، دائماً في الصف الأول، يقول: كنت أسمع الأذان من الحجرة، من كان يؤذن؟! لا تقدر أن تقول شيئاً.
ويذكر ابن كثير في البداية والنهاية في فتح البحرين أن العلاء بن الحضرمي لما كانوا راجعين أصيب بالغدة فمات، فلما مات دفنوه حيث مات في الدهماء، فجاء أهل تلك الأرض فقالوا: يا أيها القوم! إن كان ميتكم عزيزاً عليكم فلا تتركوه؛ فإن هذه الأرض تلفظ موتاها، لا تقبلهم تردهم، والله امتن على الناس بالأرض كما قال: أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً
[المرسلات:25-26]، وهذه الأرض لا تقبل الموتى، فقالوا: ما من حق ابن الحضرمي علينا أن نتركه نهباً للسباع، فرجعوا يحفرون القبر لينقلوه إلى أرض تقبل الموتى، فإذا بهم يجدون القبر خالياً من صاحبه، وإذا به امتد مد البصر، أنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا لا أتدخل في هذا، هذا قول ابن كثير، وهو عالم سلفي، وهو تلميذ ابن تيمية.
لقد جاء في الحديث: (ثم يمد إليه مد البصر)، (إما روضة من رياض الجنة وإما ...) إذاً: عالم البرزخ لا يقوى إنسان أن يتكلم فيه بالعقل، ولكن بمقتضى ما جاءت به النصوص الصحيحة، وهنا يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من عذاب القبر كما نستعيذ من عذاب جهنم، ولا يشك أي عاقل حتى في الديانات الأخرى النصرانية واليهودية بأن النار موجودة: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً
[البقرة:80]، فكما أننا أُمرنا أن نستعيذ بالله من النار، أمرنا أن نستعيذ بالله من عذاب القبر، فهما قرينان.
إذاً: تتقي عداوة الإنسان بالإحسان إليه، ولذا يقولون: مصانعة العدو وقاية من شره، ويذكرون عن شخص أوروبي مشهور عند أهله، أنه قيل له: نراك تصانع أعداءك، قال: أليس واجبي أن أتقيهم وأتقي شرهم؟ قالوا: بلى، قال: ما وجدت أحسن من اتقائي شر العدو من مصانعته، أي: إذا صانعته صار صديقاً .. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
[فصلت:34]، ولكن بيّن القرآن الكريم أنها منزلة وليس كل إنسان يقوى عليها،
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا
[فصلت:35]، صبر على أذية الخصم، ولجأ إلى الله سبحان وتعالى لكي يعينه على الإحسان إليه،
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
[فصلت:35].
وكما جاء في الحديث: (تهادوا تحابوا)، لو كان لك خصم ألد، وجئت في مناسبة وقدمت إليه هدية بسيطة جداً، تجدها تسقط ثلاثين في المائة أو أربعين في المائة مما في قلبه من شحناء عليك، وعندها يذهب وحر الصدر.
ثم جاء إلى القسم الثاني: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
[الأعراف:200]، لماذا؟ لأنك لا تستطيع أن تصانع الجن، ولا تنفع معه المصانعة؛ لأنك كلما صانعته كلما استضعفك، إذاً: لا ينفع معه إلا السلاح، ولا تنفع معه مصانعة، إنما تلجأ من شره ومن كيده إلى الله
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
[الأعراف:200]..
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ
[الأعراف:201]، يلجئون إلى الله سبحانه وتعالى حالاً، وهنا الاستعاذة بالله سبحانه وتعالى هي اللجوء إليه بأن يحميه ويقيه ويدفع عنه ويرعاه مما استعاذ به منه، ونجد الأمور الأربعة كلها خفية وغيبية لا يقوى كل من على وجه الأرض أن يحفظ الإنسان أو يعيذه منها، ولا يقوى على ذلك إلا الله.
إذاً: فاستعذ بالله، وبدأ أولاً بعذاب جهنم، وفي بعض الروايات: (من عذاب النار)، وتقدمت الإشارة إلى أن لفظ جهنم مشتق من التجهم، وهو عبوسة الوجه وهي كذلك، ومن يقي الإنسان من عذاب النار إلا الله سبحانه وتعالى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر