الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [القمر:33-34].
لوط هو نبي الله صلى الله عليه وسلم الذي آمن بإبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ فمن ثمرات دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم نبي الله لوط عليه الصلاة والسلام، كما قال الله سبحانه وتعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26]، أُرسِل لوط صلى الله عليه وسلم إلى قوم يفعلون الخبائث المستبشعة، ألا وهي إتيان الذكران من العالمين! فحذرهم نبي الله لوط من مغبة فعلهم، ومن سوء عاقبتهم، فكان منهم ما قال الله سبحانه: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [القمر:33].
قال فريق من أهل العلم: إن النذر هي الأشياء التي خوفهم بها لوط صلى الله عليه وسلم، وهي العقوبات التي تأتي من الله سبحانه، فحذرهم أن عقوبات الله تعالى ستحل بهم، وأن المصائب ستنزل عليهم إذا هم استمروا على فعلهم، فكذبوا بهذه النذر كما قال سبحانه.
ومن العلماء من قال: إن النذر جمع نذير، والمراد بالنذير: الرسول كما قال سبحانه: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]، وعلى هذا التأويل يأتي إشكال؛ إذ كيف يقال: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) وهم إنما كذبوا بنبي واحد ألا وهو لوط عليه الصلاة والسلام؟ فهذا الإشكال مدفوع كما تقدم مراراً بما حاصلة: أن من يكذب بنذيرٍ واحد فقد كذب بالنذر جميعاً، وأن الذي يكذب برسول واحد فقد كذب بالرسل جميعاً، كما قال سبحانه: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]، كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105]، كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:141]، إلى غير ذلك.
فعلى هذا هناك تأويلان لتفسير قوله تعالى: (بِالنُّذُرِ): أحدهما: أن النذر هي العقوبات التي خوَّف بها لوط صلى الله عليه وسلم قومه، فلم يبالوا ولم ينتهوا بهذه العقوبات التي حذرهم منها لوط عليه الصلاة والسلام، والثاني: أن النذر جمع نذير، والنذير هو الرسول.
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا [القمر:33-34]، قال بعض العلماء: حجارة تحصبهم، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [هود:82]، ففسر بعض أهل العلم الحاصب بما ذُكِر في الآية الأخرى: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [هود:82].
قال فريق من أهل العلم: عقوبته ما ذُكِر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المروي من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتموه يأتي البهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) و: (ومن وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)، فذهب فريق من أهل العلم إلى القول بمقتضى هذا الحديث، ألا وهو: أن من فعل فعل قوم لوط حده القتل، الفاعل والمفعول به سواء، ومحله في المفعول إذا كان مطاوعاً، أما إذا كان مكرهاً فللمكره أحكام أخرى، إلا أن بعض أهل العلم قالوا بغير هذا القول، وطعنوا في ثبوت هذا الحديث، فقالوا: هذا الحديث وإن كان من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب -وهو حسن الحديث في الجملة- إلا أن هذا الحديث من الأحاديث التي استنكرت عليه، فقد اتهمه بعض العلماء بهذا الحديث، وذكر فريق من أهل العلم كـابن عدي هذا الحديث في كتابه الكامل في الضعفاء، وعموم من ترجم لـعمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ذكروا هذا الحديث كأنهم يشيرون إلى أنه من مناكيره، فلما حكموا عليه بالضعف اتجه لهم السؤال: ماذا نصنع مع من فعل فعل قوم لوط؟
قالوا: نقيسه على الزاني، إن كان ثيباً رُجِم، وإن كان بكراً جلد وغرِّب عاماً؛ شأنه شأن الزاني.
وقال آخرون: نفعل به ما ذُكِر في كتاب الله سبحانه، ألا وهو أنه يُلقى من أعلى مكان في المدينة ثم يُتبع بالحجارة؛ لأن الله قال: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [هود:82]، فهي ثلاثة أقوال في حكم من فعل فعل قوم لوط.
ولا شك أن المخاطب بهذه الأشياء هو إمام المسلمين، فليس من حقك أنت كأحد أفراد الرعية أن تقيم هذا الحد على شخص فعل هذا الفعل.
فابتداءً زوجة لوط يقيناً لا تدخل في قوله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [القمر:34]، لا تدخل يقيناً في الآل الذين أنجاهم الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في شأن امرأة لوط وامرأة نوح: كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم:10]، فامرأة لوط يقيناً لا تدخل في الآل الذين أنجاهم الله سبحانه والذين ذكرهم الله سبحانه في قوله: (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ).
يبقى بعد ذلك من المراد بالآل؟
قال بعض العلماء: إن آل الرجل هم أهل بيته، أي: أبناؤه وبناته، وأدخل البعض الزوجات مستدلاً بقوله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ [الأحزاب:32]، إلى قوله: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، على اعتبار أن المراد بالآل هم الأهل، قالوا: واستُثني من آل لوط زوجته بنص كتاب الله سبحانه وتعالى.
قال الله سبحانه وتعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ [القمر:34-35]، ألا وهو لوط صلى الله عليه وسلم، جازاه الله بإنجائه وإنجاء أهل بيته وإهلاك أعدائه، نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر، ثم بين الله سبحانه وتعالى أن لوطاً عليه السلام ما قصَّر في النصح، بل أدى صلوات الله وسلامه عليه ما عليه من النصح لقومه، فقال الله سبحانه: وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا [القمر:36] خوفهم من عذابنا: فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ [القمر:36]، جادلوا واستخفوا بالنذر، واستخفوا بالعقوبات التي حذرهم منها لوط صلى الله عليه وسلم، وجادلوا في شأن هذه العقوبات، وشككوا أيضاً في وقوعها واستخفوا بها.
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ [القمر:37] طلبوا منه أن يخلي بينهم وبين أضيافه الذين هم الملائكة، وهم لا يعلمون أنهم الملائكة، وقصة المراودة مذكورة في آيات أخر، قال الله: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:78-80] الآيات.
فيقول الله سبحانه: وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ [القمر:36-37] قال جمهور المفسرين: ضربهم جبريل صلى الله عليه وسلم بجناحه فأعمى أبصارهم.
ثم قال الله: عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ [القمر:38] ما المراد بالعذاب المستقر؟
قال فريق من المفسرين: استقر بهم العذاب، ولم يُنزع عنهم ولم يرفع من يومها إلى أبد الآبدين، إلى يوم الدين، ويوم الدين أيضاً يعذبون، فاستقر عليهم العذاب -والعياذ بالله- لا يفارقهم من وقتها إلى أبد الآبدين، فهم مخلدون في جهنم، وقبل ذلك هم في قبورهم يعذبون، وعن الصراط ناكبون، وساقطون في الجحيم، فالعذاب استقر بهم حيث كانوا؛ عياذاً بالله سبحانه وتعالى من نقمته ومن عذابه! فهذا المراد بقوله سبحانه: وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ [القمر:38]، أي: ملازم لهم لا يفارقهم، قد تقتل أنت في الدنيا لكن بعد القتل تستريح في القبر، ولكن أهل الكفر ليسوا كذلك، فإذا نزل بهم العذاب استمر بهم ولازمهم ولم يفارقهم بحال من الأحوال -والعياذ بالله- مثلاً: قتِل اليهودي كعب بن الأشرف، ولازمه العذاب في قبره وعند قتله إلى أبد الآبدين، ولا يأتي وقت إلا وهو أشد من الذي قبله، فعذاب القبر ينسيه عذاب القتل، وعذاب جهنم ينسيه عذاب القبر، فهكذا تكون الأمور، فهذا المعنى -والله أعلم- كما ذكره جمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ).
فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:39-40]، أي: سهلناه وبيناه لكم، فاقرءوا ما فيه، واتعظوا بأخبار هؤلاء الفسقة الظلمة واعتبروا بهم، فيا من سولت لك نفسك اقتراف الفواحش وارتكاب الآثام! انظر كيف فعل بقوم لوط! ويا من سولت لك نفسك الكبر والطغيان! انظر كيف كان عاقبة قوم عاد! ويا من سولت لك حضارتك ومدنيتك التعالي على الله والكبر على العباد! انظر إلى ثمود الذين جابوا الصخر بالواد! فهؤلاء ذكرهم الله سبحانه وقص علينا من أنبائهم ومن أخبارهم حتى نتعظ، فعدة آيات يقول الله سبحانه وتعالى فيها: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر:40] أي: بينا في هذا الكتاب العظيم بأسلوب سهل ميسر مفهوم عاقبة هؤلاء الظلمة الذين حادوا عن طريق الله وعن هدي رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ومن ثم كرر قوله سبحانه: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ)، ثم يستحث الله العباد فيقول: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:40]، كما يستحثهم في آيات أخر: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16]، وكما ذكر في سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان [الرحمن:13].
كما أن نبياً كريماً أبوه نبي وجده نبي وولده نبي، وهو يعقوب صلى الله عليه وسلم، أبوه إسحاق الكريم وجده إبراهيم الكريم الحليم، وولده يوسف الصديق الكريم، ومع ذلك من أحفاده من مسخوا إلى قردة وخنازير! تخيل وتصور أن نبياً من ذريته من يمسخ إلى قردة وإلى خنازير، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:60]، من هم هؤلاء؟ هم ذرية يعقوب صلى الله عليه وسلم!
فأمر الهداية لا يملكه أي شخص كائناً من كان إلا الله سبحانه وتعالى، هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ما من قلب أراد أن يُقيمه إلا أقامه، وما من قلب أراد أن يزيغه إلا أزاغه، وقصص القرآن الكريم تؤيد لنا هذا المعنى حتى لا نأسى على القوم الكافرين، وحتى لا تذهب أنفسنا على قوم حسرات، تخيل نبياً كريماً خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء؛ ينزل إلى الأرض وهو نبي كريم تائب تلقى كلمات من ربه فتاب عليه، ويُبتلى ببلية عظمى، ما هي هذه البلية؟ أحد أبنائه يقتل الآخر! تخيل لو حدثت لك هذه الحادثة، جاء أحد بنيك وقتل الآخر ظلماً وعدواناً! على من تبكي يا ترى؟!
على القاتل الذي أوجب لنفسه بفعله النار، أو على المقتول الذي ذهب ولم يعد إلى يوم الدين، بل قد تتجه إليك أنت التهم، في حياتنا الدنيا إذا جاء ولد من أبنائك وقتل الآخر، تجد التهومات تنصب عليك أنت، لعله كان يكسب من الحرام، لعل أحدهما ولد زنى، لعل.. لعل.. تأتي التهومات لك في بيتك وفي داخل دارك، فالهادي هو الله سبحانه وتعالى، ليس لنا من أمرنا شيء، والواقع يثبت لنا ذلك، تجد فاجراً من الفجار وابنه في غاية الصلاح، وتجد رجلاً في قمة الصلاح وابنه شرير مفسد.
فالهادي هو الله سبحانه وتعالى، وإن وضع المربون للتربية قواعد، وإن أسسوا لها الأسس، فإنما هي أسباب يؤخذ بها ولكن يُعتقد دائماً أن الهادي هو الله سبحانه وتعالى؛ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56].
قال الله جل ذِكره في كتابه الكريم: وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ [القمر:41]الأشياء المخوفة التي ترهبهم، ونفس القول في تأويل النذر كالقول السابق في قوم لوط صلى الله عليه وسلم.
قال الله جل ذكره في كتابه الكريم موجهاً الخطاب إلى المشركين: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ) الذين أهلكهم الله أم تظنون أنه قد كُتبت لكم براءة في الكتب؟ هل سطر في الكتب أن مشركي قريش لن يمسهم العذاب؟ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر:43]، أي: في الكتب التي سبقت، هل قرأتم في الكتب التي نزلت على الأنبياء أنكم -يا معشر قريش- كتبت لكم براءة ولن تعاقبوا ولن تؤاخذوا؟ وهذا أسلوب تهكمي فيه سخرية من هؤلاء القوم ومن أفكارهم.
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [القمر:44]، (أم) هنا تختلف في تأويلها عن (أم) في الآية التي قبلها، فـ(أم) في الآية التي قبلها: (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ) استفهامية تحمل معنى الاستنكار والتوبيخ والتقريع، أما (أم) هنا في: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) بمعنى: بل، فالمعنى: بل يقولون: نحن جميع منتصر، أي: أن هؤلاء الكفار يقولون: (نحن جميع): أي: نحن جمعٌ، بدليل قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [القمر:45]، فقولهم (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي: باجتماعنا معاً سننتصر على محمد.. بل على العقوبات التي تأتينا.. بل على الملائكة كما قال أبو جهل لرسول الله: أتتوعدني وأنا أكثر هذا الوادي نادياً، فقال الله سبحانه وتعالى: فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:17-18]، وكما ذكر بعض المفسرين في تأويل قوله تعالى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30]، قالوا: إن أهل الشرك لما نزلت هذه الآية فُتِنوا بها، وقالوا: نحن أكثر عدداً، نحن تسعة عشر ألفاً أو نزيد، فكل ألفٍ منا يوكلوا بأحد هؤلاء الخزنة، ونحن جميعٌ منتصر؛ لأن عددنا أكثر من هؤلاء الملائكة، وسننتصر عليهم! يا لهذا الجهل وهذا الغباء! والعياذ بالله.
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [القمر:44] فرد الله عليهم: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45]، هذه الآية تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان أهل الشرك قد جمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه جموعاً، وكان من الصحابة من يقول لما نزلت هذه الآيات قبل أن تتحقق: أي جمعٍ هذا الذي سيهزم؟ ومتى سيهزم؟ ولما جاء يوم بدر، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه إلى السماء قائلاً: (اللهم! إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر.. سيهزم الجمع ويولون الدبر)، وما هي إلا لحظات في يوم بدر حتى هُزِم الجمع وولوا الأدبار كما وعد الله سبحانه وتعالى.
وإن لحقت بهم الهزيمة فهذه الهزيمة لا تقارن بعذاب الآخرة، قال سبحانه: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46]، أي: أشد وأعظم.
قال الله جل ذكره: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وكل شيء مُثبَت كما روى عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).
فالشاهد قوله: (كن رجلاً) فكان في الحال! إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، الله قادر في شأن هذا المريض الذي عظم مرضه واستعصى على الأطباء أن يقول له: اشف، فيُشفى بإذن الله بكلمة كن إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، كن غنياً، كن فقيراً، كن ملكاً، كن وزيراً، فلتُقتَل.. فلتمت.. فلتحيا، كل ذلك بأمر الله، ومن العلماء من قال: إن أعظم هذه الأمور على الإطلاق أمر الساعة، كما قال تعالى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77].
ثم يبين سبحانه أن هذا الإهلاك ليس بنهاية للمطاف، فيقول سبحانه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [القمر:52]، لم يقتصر الأمر على إهلاكهم، بل كل شيءٍ فعلوه مسطر عليهم، وسيلاقونه يوم القيامة، وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر:52-53]، هكذا يبين ربنا سبحانه وتعالى أن الهلاك ليس بنهاية للمطاف، وأن الموت ليس بنهاية للمطاف، إنما: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:52-55].
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: هذه المصطلحات التي أتت إلينا من بلاد الكفر ينبغي أن توزن بوزنها في الشرع، فالشاذ جنسياً، والعلاقات الجنسية؛ كل هذه مصطلحات دخيلة علينا وعلى شرعنا، وهم إنما أطلقوا على الزنا علاقة جنسية للتهوين من أمره ومن شأنه، واسمه في الشرع: زنا، والشاذ جنسياً اسمه: مخنَّث، فلا نحب أن تُسحب هذه الاصطلاحات الواردة إلينا من بلاد الكفر وتطغى على اصطلاحاتنا الشرعية، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهانا أن تغلبنا الأعراب على اسم صلاتنا العشاء، فقال: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء يسمونها العتمة لإعتام الإبل) مع أن الرسول سمى العشاء: العتمة.
فجدير بنا ألا نصبغ أسئلتنا بهذه الأخلاق السيئة، فكلٌ له حكم، والمخنث الذي هو بين الرجال والنساء له حكم، والمخنث من الرجال الذي يؤتى له حكم آخر، ففي المسألة تفصيل:
وأما معاملاته من الرجال والنساء وهو شاذ فعلى حسب شذوذه، إن كان لا يشتهي النساء ولا يصفهن، فله حكم، وإن كان يشتهيهن أو كان يصف النساء لا يدخل عليهن؛ لحديث: أن مخنثاً قال: إذا فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بـابنة غيلان فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان، فقال الرسول: (لا يدخلن هذا عليكن).
والسؤال: رجل من أهل القاهرة، ومن وجهاء القاهرة، له شقة يمتلكها هناك، فمات له ميت وله أصدقاء من المنصورة، ومن الإسكندرية وطنطا، تربطهم به صداقة قوية، فلما مات له الميت توقَّع يقيناً أنه سيأتيه أصحابه إذ قد علموا بالوفاة التي حدثت له.. مع العلم أن هذه الشقة مليئة بالأغراض المعيشية، فمات له ميت وله أصدقاء سيأتونه يقيناً من عدة بلدان بعيدة، وسيأتيه عدد ضخم من الزوار والمعزيين، فقال لي: ماذا أصنع لاستقبال هؤلاء الأضياف الذين أتوني للتعزية، والسؤال لك: هل التعزية في الميت مشروعة أو ليست بمشروعة؟
الجواب: ورد حديث: (لا عزاء بعد ثلاث) وهو ضعيف، فعلى كلٍ أننا في اليوم الأول أو الثاني، والتعزية مشروعة.
وأنا لست بمخطئ إذا ذهبت إليه من المنصورة كي أعزيه في القاهرة، وأنا ما شددت إليه رحلاً، وأما حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، ما هو المستثنى منه؟ هل شد الرحال لطلب العلم حرام؟ وزيارة أخي في القاهرة مثلاً أو زيارة عمي في الإسكندرية ما المانع منه؟
إذاً: إذا ذهبت أنا وإخواني لتعزية صديقي في القاهرة، فوجدنا البيت ضيقاً لا يسع، هل يجوز لي أن اعمل لهم خيمة في الشارع يجلسوا فيها؟
الآن البيت ضيق، وما وجدت في البيت سعة، والجو حار، فوضعنا خيمة تغطينا من الحر أو البرد هل هذا جائز أو هناك خلاف؟ وهل هناك شيء شرعي يمنع؟
ثم إن وجدت الناس في الخيمة يتكلمون ويلغون بالكلام، فقلت: أحضر مسجلاً مع شريط للحصري يتعظون به هل يجوز أو لا يجوز؟ وربما هناك من يقول: إن استماع القرآن خير من اللغو.
الآن: أنا كسائل من العوام طرحت المسألة بكل حيثياتها، هل هذا الشيء بهذه الملابسات المحيطة حرام؟
هناك حديث جرير رضي الله عنه: (كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة)، والحديث ضعيف فيه هشيم بن بشير وهو مدلِّس وقد عنعنه، وأحمد بن حنبل رحمه الله قال في إجاباته لـأبي داود في العلل: لا أرى لهذا الحديث أصلاً.
فالحديث ضعيف، وعلته عنعنة هشيم بن بشير عن إسماعيل بن خالد ، وقال بعض العلماء: سقط بينهما شريك ، وقيلت أقوال أُخر، وقد حسنه البعض، فهذا رأي الإمام أحمد ، والدار قطني أيضاً فإنه ذكر كلاماً حول هذا الحديث في العلل.
الحقيقة -يا إخوة- الفتوى بالتحريم لا تُطاق، وتعليم الناس السنة ينبغي أن يكون شيئاً فشيئاً.
وأما أمر التعزية على المتيسر، ويجوز أن تعزي بالتلفون أو الطريق أو البيت، أو العمل، على المتيسر، لكن الفتيا بالتحريم دائماً تحتاج إلى تمهل وتريث، وقبل أن تفتي بالتحريم مع هذه الملابسات المحيطة بمسألتنا لابد أن تعلم أن كل مسألة تقدر بقدرها، وتكون هذه وصفة خاصة بالجواز لمن هذه حاله، ولا تطَّرد فيما سواها، والله أعلم.
ويجب ملاحظة أننا لا نقول فتوى عامة: أن الخيمة جائزة، ويقف صف طويل يعزي، وبالسيارات الفارهة التي جاءت تعزي، لا، لم نقل بهذا، تكلمنا على فتوى معينة في ملابسات معينة، والأصل في التعزية على ما تيسر، في البيت.. في العمل.. بالهاتف.. في الطريق.. في اليوم الأول.. اليوم الثاني.. اليوم العاشر.. كله جائز.
شخص مثلاً يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ عزاء جعفر بن أبي طالب في المسجد! أقول: إن هذا لم يثبت، ومن وجده فليأتنا به.
إذاً: السنة أن التعزية على ما تيسر كما سمعت، والرسول لما مات جعفر أمهل ثلاثاً ثم ذهب إلى أهله يعزيهم، فالسنة أن تعزي كما جاء، لكن إن جاءنا شخصٌ له ملابسات خاصة يجوز لنا أن نفتيه بفتاوى خاصة على قدر حاجته وانتهى الأمر، والله أعلم.
الجواب: أما كون الملائكة تلعن من فعل ذلك فليس بصحيح.
أما هل يصح أن ينام الرجل على جنابة؟
فهذا أيضاً سؤال إجابته تحتاج إلى فهم الحديث لا إلى التسرع فيه.
يجوز مع الكراهة، ولماذا الكراهة؟
لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، لما سُئل هذا السؤال، قال له السائل: (يا رسول الله! أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ)، قد يتوهم متوهم أن قوله: (نعم، إذا توضأ) أنه حرام عليك أن تنام إلا إذا توضأت، والصواب أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا كان قال: (لا، إلا إذا توضأ) يفيد التحريم، لكن حينما قال: (نعم، إذا توضأ)، فكأنه بقوله: نعم، يشير إلى الجواز، وبقوله إذا توضأ استحباب الوضوء قبل النوم، فإذا استدل به مستدل على المنع والتحريم لا يكون استدلاله في محله؛ لأن الحديث ما أفاد نهياً صريحاً عن النوم، لكن قال: (نعم) ثم قال: (إذا توضأ)، فلا يساوي (لا، إلا إذا توضأ) والفرق واضح بين اللفظين، فدقة فهم أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام تستطيع من خلالها أن تصل إلى الحكم المراد.
ثم في الباب أدلة أُخر: سُئلت عائشة : (أكان النبي صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب)، أي: ينام قبل أن يغتسل أم يغتسل قبل أن ينام؟ قالت: (ربما فعل هذا، وربما فعل ذاك)، قال: (الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة).
الجواب: مسألة متى ينتهي وقت العشاء فيها:
قولان:
قيل: قبل الفجر بقليل، وقيل: عند منتصف الليل.
وسؤالي هنا: متى منتصف الليل؟ وفي حديث الرسول: (وقت العشاء إلى منتصف الليل)، الليل يكون من أذان المغرب إلى أذان الفجر.
لكن كيف أحدد نصف الوقت هذا؟
نقسم الوقت من المغرب إلى الفجر، مثلاً: المغرب يؤذن الساعة الخامسة، والفجر يؤذن الساعة الرابعة، فيكون المجموع إحد عشرة ساعة، ونقسم على اثنين، ويكون هذا منتصف الليل، وهل الصحابة كانوا يفعلون ذلك؟ لا، ما كان الصحابة يعملون ذلك، والرسول يقول: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام أخَّر العشاء يوماً إلى منتصف الليل، وقال: (هذا وقتها لولا أن أشق على أمتي)، ما المراد بقوله: (هذا وقتها)؟ أي: هذا وقتها المستحب.
فهل وقتها المستحب يكون آخر الوقت الذي بعده تصبح قضاءً؟ وكيف كان الصحابة يكتشفون منتصف الليل وليس معهم ساعات، رجل نام ساعتين في الليل، ثم وقام، كيف يعرف أن منتصف الليل جاء أو لا؟ هل يصلي قضاءً أو يصلي حاضرة؟
فاتضح صحة رأي الجمهور في تحديد وقت صلاة الفجر، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى)، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يأتي وقت الصلاة الأخرى، باستثناء الفجر بالإجماع؛ فوقتها ينتهي بطلوع الشمس، ويكون حديث عبد الله بن عمرو : (وقت العشاء إلى منتصف الليل)؛ على أنه وقت استحباب لا وقت تحريم.
مع العلم أن الأمور التقريبية هذه لا تضبط بها نهايات الأوقات ولا بدايتها، وقد ورد في الأحاديث: (حتى ذهب من الليل نصفه).. (حتى ذهب من الليل ثلثه)، (حتى ذهب من الليل أكثره)، شيء تقريبي، وتحديد أوقات الصلوات أشياء ثوابت يعرفها العوام بلا ساعات وبلا منبهات وبلا إذاعة ولا أي شيء، الفجر إذا ظهر الخيط الأبيض من الأسود، الظهر عند الزوال، العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، المغرب إذا غربت الشمس، العشاء إذا سقط الشفق، وهذا كله تستطيع أن تتعلمه في يوم واحد، لكن منتصف الليل شيء لا يُتعلم بالسهولة واليسر.
الجواب: الحق والصواب عند الله واحد، أما اجتهاداتنا في الدنيا فقد تختلف وتتنوع، والموفق منا للحق والصواب مأجور أجران، والذي لم يوفق للحق والصواب له أجر كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام.
الجواب: معناه صحيح، لكن ليس بهذا اللفظ، إنما لفظه: (إنما الطاعة في المعروف)، وهو ثابت في صحيح البخاري.
الجواب: خال الزوج ليس بمحرم، ويجوز له أن يتزوج بالمرأة إذا مات زوجها، فهو أجنبي عن المرأة.
الجواب: تعلمه بأن في كل أصبع ثلاث عقد، وثلاثة في خمسة بخمسة عشر.
وهل يأتي بمسبحة يتعلم بها ضبط العد؟
وأنا لم أقل: إنها مستحبة، أنا أقول: شيءٌ أضبط به العد الذي أرشدني إليه الرسول، الرسول أرشد إلى ثلاثة وثلاثين، وأنا لا أعرف أن أضبط الثلاثة والثلاثين، أريد أن أصل إلى طريقة أمتثل بها حديث الرسول، وأبتعد بها عن الشكوك.
وقد دخل ابن مسعود المسجد فوجد قوماً قد جمعوا أكواماً من الحصى، فيقولون: نسبح مائة، فيسبحون مائة ويحضرون أحجاراً ويرموا بها، وهذه الصورة تختلف عن مسألتنا، ثم إنهم في الآخر كانوا من الخوارج، يعتريهم ما يعتري الخوارج من مسائل التباهي بالأعمال والإكثار من الذكر، وقد قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم)، فإنكار ابن مسعود ليس من أجل الحصى الذي تضبط به التسبيحات التي حث عليها الرسول، إنما هو لأمر استحدثوه وهو أنهم جلسوا وجمعوا أكواماً من الحصى ويقولون: يا جماعة! نسبح مائة، ويسبحون مائة ويرمون بالأحجار، فتختلف المسألتان.
فالشاهد: أن هذه المسألة قابلة للأخذ والرد، والفتيا بالتحريم حقيقة صعبة، لك أن تقول بالتحريم إذا أتيتنا بعالم قبلك من أوائل سلفنا الصالح قال بتحريم هذه الطريقة لتحديد الذكر بعد الصلاة، ليس كفعل الخوارج الذي انتقده ابن مسعود على الأقوام الذين جمعوا الحصى، هذه تختلف يقيناً عن مسألتنا كمنظر وكهيئة وكواقع من كل الجوانب. فالمسألة إذاً قابلة للأخذ والرد.
ولذلك ترى بعض العلماء أجازها كشيخ الإسلام ابن تيمية ، لكن نحن نقول: إن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعقد التسبيح باليد، ومن لم يستطع تكون حالته خاصة، تكون الفتيا له خاصة، وإلا هدي رسول الله أكمل وأتم هدي.
وهو خلاف الأولى في حقي وفي حقك، لكن في حق رجل لا يستطيع العد، هل هي خلاف الأولى؟ في حق رجل مستطيع العد وإتقان العد هي خلاف الأولى، لكن في حق رجل لا يستطيع الوصول إلى العدد إلا بهذه الطريقة لا يقال: إنها خلاف الأولى.
وهي مثل مسألة الخط في المسجد، هذه فقهيات لازم تُفهم حتى لا تصطدم بالعامي، الخط الذي يخط في المسجد لضبط القبلة، قد يأتي أحد المشايخ ويقول: الخط بدعة، لماذا؟ يقول: لأنه لم يكن في مسجد رسول الله خط، فنقول: حقاً لم ينقل أن مسجد الرسول كان فيه خطوط لضبط القبلة، لكن مسجد الرسول كانت قبلته في الأمام مباشرة، لكن هذا المسجد فيه انحراف، القبلة إلى اليمين قليلاً أو إلى اليسار كثيراً، أنا لا أستطيع أقدر الميول كم هي؟ فصنعت خطاً لضبط القبلة، هل أنا آثم بهذا الخط؟ أو هل أنا مبتدع لكوني حرصت على ضبط قبلتي؟ الاحتجاج بأن مسجد الرسول ليس فيه خط لا ينسحب علي هنا؛ لأن المقامين مختلفان، القبلة هنا في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام مستقيمة للأمام، والقبلة عندي الآن فيها ميول، فالمقامات تختلف، فلذلك هذه المسألة تحتاج إلى إمعان نظر، ولا تحتاج إلى تقليد في كل الأحوال؛ لأن لنا علماء، ومن فضل الله أن علماءنا ليسوا بواحد ولا باثنين ولا بثلاثة فقط، إنما لنا علماء لهم اجتهادات، عندك مثلاً مالك ، الشافعي ، أحمد ، اقرأ أقوال هؤلاء العلماء في المسائل، ولا تتحجر على عالم واحد، بل اطلع وافهم، وهذا المطلب الذي أردناه، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضاه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر