أما بعد:
فيقول الله تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ [يوسف:69]، أي: ضمه إليه قائلاً: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يوسف:69]، أي: لا تحزن، ولا تتضايق، ولا تتبرم بالذي صنعه إخوتك معك، فهذا يدل على أن شقيق يوسف لقي عناءً وشدة وإهانة من إخوته بعد فراق يوسف كذلك، وبدليل الآتي: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ [يوسف:89]، فلهذا كان شقيق يوسف يلاقي عناءً من إخوته بعد فراق أخيه يوسف صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ [يوسف:70]، أي: نادى منادٍ، فالأذان هو الإعلام، أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70]أي: يا أصحاب العير! يا أصحاب هذه الإبل! إنكم لسارقون، قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ [يوسف:71]، يؤخذ من قوله: قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ إعمال القرائن، فالمتهم البريء يكون جريئاً، فهؤلاء ناداهم المنادي: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70]، فلم يقفوا في مكانهم، ولم يهربوا؛ بل قالوا وأقبلوا عليهم، فالمتهم البريء يكون جريئاً في أكثر الأحيان، حتى العجماوات تفهم ذلك، يقول العلماء: إذا كان بجوارك هرة وأنت تأكل سمكاً فناولتها قطعة أكلتها آمنة مطمئنة بجوارك، لكن إذا سرقت الهرة سمكة هربت تأكلها بعيداً خفية عن عينك، فحتى العجماوات تفهم شيئاً من هذا.
فإذا أعطاك صاحب اللقطة شيئاً بنفس طيبة من غير طلب منك ولا إلزام منك له بشيء، فاقبله ولا بأس بذلك، ودليل ذلك وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72]، أما قوله: زعيم، فمعناه: كفيل وضامن، ومنه قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
فالزعيم معناها: الكفيل والضامن، فكأن المنادي ينادي ويقول: ولمن جاء بصواع الملك مكافأة، وهي: حمل بعير أزوده به، وأنا ضامن، وكفيل بذلك، : قَالُوا تَاللَّهِ [يوسف:73]، أي: والله! لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ [يوسف:73]، بل نحن قوم ضعفاء جئنا نلتمس الطعام لأهلينا وأسرنا، ولم نأت للسرقة، ولم نأت للفساد أبداً، تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ [يوسف:73].
وهذا كان في شرع يعقوب عليه السلام، أما في شرع أمة محمد عليه الصلاة والسلام: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38]، لكن في شرع يعقوب عليه السلام كان السارق يؤخذ عبداً مسترقاً مقابل السرقة، فأنت إذا سرقت مني شيئاً فيحق لي أن آخذك كعبد عندي مقابل سرقتك، أبيعك إن شئت، أو أستخدمك في أعمالي إن شئت؛ على ما يقتضيه معنى العبد، فكان هذا في شرع يعقوب، وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لعلات؛ دينهم واحد وأمهاتهم شتى)، أي: أصل دينهم التوحيد واحد، لكن الشرائع فيها بعض الاختلاف.
فإخوة يوسف هم الذين اقترحوا العقوبة لما سئلوا: قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:74-75]، أي: خذوا من وجدتم الصواع في رحله كعبد لكم، كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [يوسف:75]، أي: في شريعتنا، فالذين اقترحوا العقوبة هم إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام بهذا الذي سمعتموه: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ .
كذلك نلفت النظر هنا إلى شيء لعله ينفع فيما بعد، وليس فيه خبر عن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وإنما نقله كثير من المفسرين: أن يوسف عليه السلام إذ كان صغيراً كانت عمته تربيه، فلما تقدم به السن بعض الشيء أراد أبوه أن يأخذه من عمته، وكانت عمته قد أحبته حباً زائداً؛ فطلبت من أبيه أن يبقيه عندها، فأبى، فألصقت به تهمة السرقة وأنه أخذ شيئاً منها، ومن ثم قبضته عندها في بيتها، ومن ثم قالوا: قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77]، وهذا سيأتي، وتقدم أنه ليس فيه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه مأخوذ من الإسرائيليات، والله تعالى أعلم.
كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76]، أي: دبرنا ليوسف، فهذا التدبير كان من الله سبحانه وتعالى، وهذا الحكم باسترقاق السارق الذي حكم به إخوة يوسف كان بإذن الله أيضاً، فوُفق يوسف عليه السلام لهذه الحيلة بإذن الله تعالى.
كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [يوسف:76]، أي: بالنبوة والعلم، فالعلم بعد الإيمان ومع الإيمان، نرفع درجات من نشاء بالعلم والفقه، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76]، كل عالم فوقه عالم، كل عالم فوقه عالم، وعلم الله فوق علم جميعهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن بعض أبواب العلوم كالطب مثلاً: (ما أنزل الله داءً وإلا وأنزل له دواء؛ علمه من علمه وجهله من جهله)، فكل صاحب علم فوقه عليم، كما قال تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ .
ثم قال إخوة يوسف وقد أظهروا ما بداخلهم تجاه أخيهم: قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77]، يريدون يوسف عليه السلام، ويريدون أيضاً أن العرق دساس، إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ، فأخرجوا ما بداخلهم تجاه أخيهم، ويوسف يعلم مرادهم عليه الصلاة والسلام.
فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ [يوسف:77]، لم يظهرها لهم يوسف صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي أن يتحلى المسئول عن العمل بالحلم وترك المعاجلة بالعقوبة؛ فالحليم: هو الذي لا يعاجل بالعقوبة، بل يصبر ويتريث، وينظر بعد ذلك هل الأمر هذا يستحق المعاقبة على فعله أو لا يستحق.
وكما لا يخفى أن الله وصف إبراهيم عليه السلام الذي هو جد يعقوب أبي يوسف عليه السلام وصفه بالحلم، ومناسبة ذلك: أنه قد صدر من قوم لوط ما صدر من جرم وفحش ومنكر، ومرت الملائكة عليهم السلام بإبراهيم صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم لتدمير مدائن قوم لوط، فسألهم إبراهيم عليه السلام إلى أين يذهبون، قالوا: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود:70]، أي: لندمر عليهم مدائنهم، يقول تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود:74]، أي: يطلب إمهال قوم لوط، ويطلب تأخير العذاب عن قوم لوط، فأثنى الله عليه بقوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75]؛ فالحليم هو الذي لا يعاجل بالعقوبة، لكن لم يجب إبراهيم إلى طلبه؛ لأن أمر الله قد جاء، قال الله: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود:76].
فينبغي أن يتسم الفضلاء بالحلم، وألا يكونوا سريعيِّ الانفعال، إنما يتريث أحدهم ويدرس المسألة، ويعيد النظر وينظر مرة ثانية وثالثة: هل الأمر يستحق العقاب أو العفو؟ وما نوع العقاب الذي يستحقه الأمر؟ هل عقاب بالكلمة يكفي، أم عقاب بالسوط، أم عقاب بالسجن واللازم المطلوب؟ فينظر ويعيد النظر مرة بعد مرة.
قال تعالى: فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ [يوسف:77]، أي: لم يظهرها لهم عليه الصلاة والسلام، قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ [يوسف:77].
فالعزيز -على سبيل المثال- اسم من أسماء الله، وأطلق هنا العزيز على عزيز مصر فقالوا: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ [يوسف:78]، وكذلك المؤمن اسم من أسماء الله، وأطلق الله على عبادة المؤمنين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن، فأخبروني ما هي؟)، وربنا هو الأعلى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وقال الله لموسى: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى [طه:68]، وهناك أسماء لله يتسمى بها ربنا لا يشاركه فيها غيره، كلفظ الجلالة: (الله) كما قال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، على الوجهين من أوجه التأويل، أي: هل تعلم أحداً تسمى (الله)؟ أو هل تعلم له شبيهاً أو نظيراً؟ وكذلك الاسم الآخر: (الرحمن) فلا يتسمى شخص أحد بـ(الرحمن)، ولما تشدق مسيلمة الكذاب ولقب نفسه برحمان اليمامة، فكان دائماً يوصف بالكذاب، فلا يقال إلا: مسيلمة الكذاب .
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا [يوسف:78]، توسلوا بشيخوخة أبيهم إلى يوسف عليه السلام، فالكبير كان له حق، وما زال له حق، فقد جاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الأصغر منهما يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبِّر كبِّر)، يعني: أن الأكبر هو الذي يتكلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيتني الليلة أتسوك بسواك، فجاءني رجلان فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبِّر كبِّر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا)، أي: ليس على طريقتنا ولا على أدبنا هذا الشخص الذي لا يوقر الكبير، فللكبير حق.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن؛ أخبروني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فأردت أن أتكلم فنظرت فإذا شيوخ القوم -وفي رواية: فإذا أنا أصغر القوم- فاستحييت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة)، فانظر إلى حياء ابن عمر أن يتكلم بحضرة كبار السن رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فعلينا أن نتأدب بهذا الأدب مع الكبار، فكم صلى هذا الكبير لله من صلاة، وكم ركع لله من ركعة، وكم سجد لله من سجدة، وكم ابتلي فصبر فأجر على صبره، وكم سبح من تسبيحة، وكم كبر من تكبيرة وهلل من تهليلة! فجدير بنا معشر الإخوة! أن نوقر كبار السن، وأن ننزلهم منازلهم اللائقة بهم، فهذا هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فلنتأدب بأدب نبينا محمد عليه أفضل صلاةٍ وأتم تسليم.
قال الله سبحانه وتعالى: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف:78]، حفاظاً على الميثاق الذي واثقوا به أباهم، إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36]، فعلامات الإحسان ظاهرة وبادية على يوسف عليه السلام، على وجه هذا الكريم الحليم العفيف عليه الصلاة والسلام.. علامات الإحسان بادية على وجه هذا المظلوم الذي رفعه الله سبحانه.
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:79]، نعوذ بالله أن نظلم ونأخذ أحداً مكان أحد، فلا يصح هذا ولا يعقل، إن الله قال في كتابه الكريم: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:36-37]، ماذا في صحف موسى؟ وماذا في صحف إبراهيم الذي وفى؟ قال تعالى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم:38]، فلا يؤخذ شخص بجريرة شخص آخر، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:38-39].. وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا [الأنعام:164]، فما بال شخص يقتل آخر بريئاً من أجل شخص آخر، فلا يصح ولا يجوز، يعلمنا هذا نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم؛ فقد أمرنا بالاقتداء به كذلك.
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف:79]، ولم يقل: أن نأخذ إلا من سرق، لكن قال: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:79]، أترضى لنا بهذا الظلم.. نأخذ شخصاً بريئاً ونترك مرتكب الجريمة؟ إنا إذاً لظالمون، لا يصح ولا يليق أبداً أن يؤخذ البريء ويترك المتهم، لا يؤخذ البريء ويترك الجاني، أي شرع هذا؟ فحاولوا معه وحاولوا، ولكن لم تجدِ المحاولات معه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم تجد محاولة من أراد أن يلقي ببريء مكان متهم.
قال الله سبحانه: فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف:80]، يتناجون فيما بينهم، ويتسارون فيما بينهم.
فانظر إلى فهم ابن عباس وتمشيه مع كتاب الله، وتدبره لآيات كتاب الله العزيز، وانظر إلى حالك مع كتاب الله، إن الله يقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] .. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، فلتستغفر الله يا عبد الله، لتستغفر الله حتى تزال الحجب التي على قلبك من جراء المعاصي، وتفهم كتاب الله على الوجه اللائق به، مستعيناً بالله ثم بالمذاكرة وبالمتابعة.
وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:81]، فنحن وعدناك أن نحفظ أخانا ولكن ما كنا للغيب حافظين، فقد يقول العبد يوماً: إن شاء الله سأفعل كذا، ولا يشاء الله له أن يفعل، كما قال موسى عليه السلام للخضر : سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، فمرت حالتان وقبيل الحالة الثالثة قال موسى: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:76]، وما صبر موسى بعد الثالثة، قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (وددنا والله أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من أخباره)، مع أن موسى قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا [الكهف:69]، لكن لم يشأ الله ذلك.
فإخوة يوسف قالوا: نحفظ أخانا، ثم قالوا بعد ذلك: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:81].
وسبحت المدينة لا تلمها رأت قمراً بسوقهم نهارا
أي: سبح أهل المدينة.
فقولهم: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) أي: واسأل أهل القرية، ومن أهل العلم من أورد وجهاً آخر فقال: واسأل القرية نفسها ببيوتها وأشجارها وأحجارها، فأنت نبي، والأنبياء لهم مثل هذه الخصائص، قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم علي)، فهذه من خصوصيات الأنبياء.
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ، أي: فقد شاع الخبر فيها، وأي بلاء أشد من هذا البلاء؟! وأيضاً على يعقوب عليه السلام أي بلاء أشد من أن يؤخذ ولده بجريرة السرقة؟! فالبلدة كلها تتحدث، مصر تتحدث أن ثَم رجالاً قدموا من بلاد كنعان أحدهم قد سرق، هكذا يتحدث أهل هذه القرية، والعير أيضاً: وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا [يوسف:82]، فالعير وأصحاب القوافل يتحدثون أيضاً أن ولداً من أولاد يعقوب قد سرق، فتخيل أنت هذا المأزق وهذه المحنة، وهذا الابتلاء الشديد!!
إذا أتاك آت وقال: ولدك سارق، ولدك أخذ كعبد مسترق من أجل السرقة.. إنه بلاء تلو بلاء يعتري الأنبياء وأهل الفضل والصلاح، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبتلى الرجل على قدر دينه؛ فإذا كان في دينه صلابة زيد له في البلاء)، وكما قال ابن مسعود : (يا رسول الله! ما لك توعك كما يوعك رجلان؟ قال: أجل؛ إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا الأجر كما يضاعف لنا البلاء).
فنبي الله يعقوب ابتلي بفراق يوسف، ثم ابتلي بفراق شقيق يوسف بنيامين، وليس بموته، فالموت كتبه الله على كل نفس، ولكن لسرقة ولاسترقاق ناله بعد هذه السرقة، وأصبح الناس يتحدثون، فالقوافل راجعة إلى بلادها تحمل الطعام والشراب، وإخوة يوسف يرجعون إلى بلادهم بتخلف أخيهم، وبحمل تهمة السرقة إلى أبيهم.. هكذا يبتلي الله سبحانه أهل الفضل والصلاح، وهكذا الحياة الدنيا، يصبر على ذلك الصابرون وييأس اليائسون.
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ [يوسف:84]، أي: أعرض عنهم وانصرف، فلم يقبل عليهم، وقد أصيب بسببهم برزيتين كبيرتين: بفقدان يوسف عليه الصلاة والسلام، ولم يدر ما صنعوا به، ثم بفقدان أخيهم واتهامه بالسرقة.. إلى من يشكو؟ إلى عدو شامت، أو إلى جار حاسد، أو إلى متربص يتربص به الدوائر؟ ومن يشكو؟ أيشكو أبناءه الذين هم من صلبه؟!! إلى من يشكو إلا إلى الله سبحانه وتعالى الذي يسمع ويرى.
قال تعالى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ [يوسف:84]، أنساه حب يوسف شأن بنيامين ، (وَقَالَ يَا أَسَفَى) أي: يا أسف تعال وحل، تعال وحل يا ندم، وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84]، أي: ممتلئ هماً وغماً وكرباً ونكداً، فالكظيم هو الممتلئ، ومنه قوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84]، تبدل سواد العين بياضاً، وهو ممتلئ حزناً وهماً وغماً عليه الصلاة والسلام، قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا [يوسف:85]، أي: حتى يبلى جسمك، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ [يوسف:85]، قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86]، أشكو ما بداخلي من هموم وغموم وآلام وأحزان إلى الله، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86] .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا [يوسف:88]، وانظر إلى هذه الذلة والمهانة والانكسار، وانظر كيف يرفع الله سبحانه وتعالى المظلوم وكيف يخفض الظالم! انظر إلى هذه الذلة والانكسار في قول إخوة يوسف الذين ظلموه يوماً ما، انظر إليهم وقد قالوا له: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ [يوسف:88]، أي: في الأبدان، أولادنا مرضوا، وآباؤنا تعبوا وأصيبوا بالعمى، وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ [يوسف:88]، ونحن فقراء، فالبضاعة التي أتينا بها قليلة لا تستحق أن نعطى من أجلها طعاماً وزاداً، ولكن نرجو كرمك بعد كرم الله، و(مزجاة) أي: قليلة، ومنه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا [النور:43]، أي: يسوقه سوقاً قليلاً قليلاً ضعيفاً ضعيفاً حتى يضم بعضه إلى بعض، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا [يوسف:88]، هكذا يتسول الظالم من المظلوم، قال إخوة يوسف ليوسف: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88].
ونظيره في قول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في رسالته لـهرقل : (من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم)، وفي مصالحته يوم الحديبية: (هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله
قَالُوا تَاللَّهِ [يوسف:91]أي: والله لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91]، أي: فضلك الله علينا وإن كنا لخاطئين، اعتراف منهم بالذنب في كلمة قصيرة موجزة، ولكن بعد ماذا؟ بعد أن قطعوا الأرحام، وفرقوا بينهم وبين أخيهم يوسف، وفرقوا بين الوالد وولده، فبعد أن قطعوا الأرحام وتسببوا في ذهاب بصر أبيهم، قالوا كلمة: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91]، فبماذا يجيب يوسف هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام؟!
قال يوسف معلماً لنا ومبيناً كيف تكون الأخلاق.. قال يوسف محسناً عافياً عن إخوته قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف:92]، أي: لا تعيير ولا توبيخ مني أبداً عليكم! قضي الأمر، لا تتوقعوا بعد ذلك مني توبيخاً ولا تأنيباً ولا تجريجاً بكم، ولا تشهيراً أبداً، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92].
وهذا شأن المحسنين، يقابلون السيئة بالحسنة: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، بهذا تنال الدرجات العلى من الجنان، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] ، لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92]، يغفر الله لكم ما قدمتموه، وهو أرحم الراحمين.
هذه هي إجابتنا على هؤلاء الذين ينكرون المعجزات التي تحدث للأنبياء وللأولياء الصالحين المتمسكين بكتاب الله، لا الأولياء المشعوذين المشركين الذين ينحرفون عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من معجزة أوتيها نبي إلا وأوتي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام معجزة من جنسها كما قال الإمام الشافعي ، وقد ورد في سير أعلام النبلاء أن أحد أحفاد قتادة بن النعمان دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقال له عمر بن عبد العزيز : من أنت؟ فقال له: من أنا، ألا تعرفني؟ قال: ما أعرفك، من أنت؟ قال:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أجمل الرد
فعادت كما كانت لأول وهلة فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد
قال العلماء -وهذا أحتاج إلى نظر في إسناده إلى الرسول بسند آخر غير السير-: إن الله رد على قتادة عينه ببركة دعاء رسولنا محمد بيد النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
ترى من الذي أوصل هذه الريح من دولة إلى أخرى؟! إنه الله سبحانه، فهو قادر على كل شيء، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام حدثت له من هذا النوع معجزات ومعجزات، ففي اليوم الذي مات فيه النجاشي في الحبشة والرسول بالمدينة يخرج -وليس ثَم هواتف- إلى أصحابه فيقول: (إن أخاً لكم بالحبشة قد مات؛ فهلموا نصلي عليه)، فيصفهم صفوفاً ثلاثة أو صفين، ويكبر عليه أربعاً، وكذلك لما استشهد الثلاثة الشهداء: زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة ؛ خرج الرسول -وعيناه تذرفان- إلى أصحابه ينعي الثلاثة قائلاً: (إن إخوانكم قد لقوا ربكم عز وجل، ما يسرهم أنهم عندنا) .
قال يعقوب: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا [يوسف:94-95]، أي: جلساؤه، تَاللَّهِ [يوسف:95]، أي: والله إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف:95]، ما زلت تخرّف، والضلال: هو الذهاب عن القصد والصواب، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا [يوسف:96]، بقدرة الله سبحانه، فماذا قال بعد أن ارتد بصيراً؟ ذكّر بنعم الله، وهكذا الأنبياء يعرفون نعم الله سبحانه، قال مذكراً بفضل الله: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:96]، فلا يتذكرون إلا فضل الله عليهم عند حلول الخيرات أو الملمات.
وسليمان عليه السلام لما رأى عرش ملكة سبأ مستقراً عنده ماذا قال؟ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]، فهل قال ناجح في الامتحان ومتفوق فيه: هذا من فضل الله عليّ؟ هل قال قائل هذه المقولة لما بشر بنجاحه في الامتحان؟ هل قالها لأول وهلة؟! ما نجد أحداً يقول هذا إلا القليل النادر.
وإذا طرح سؤال مؤداه: لم أخر يعقوب عليه السلام الاستغفار لأبنائه؟
فمن أهل العلم من قال: شدة وجده وحزنه منهم لم تجعله يبادر لهم بالاستغفار في الحال، وهذا قول تكلم به البعض، ولكن آخرون -وهم الأكثر- قالوا: أخر الاستغفار إلى وقتٍ الإجابة فيه أجدر وأولى، وهو الثلث الأخير من الليل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا كان الثلث الأخير من الليل، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأجيبه)، هكذا يقول ربنا سبحانه إذا كان الثلث الأخير من الليل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر