أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ [يوسف:43]، هذا يقوله ملك مصر لملئه وحاشيته، إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ ، أي: في رؤيا منامية، يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ ، أي: ضعاف هزال، وهذا منظر ملفت للنظر: أن يرى شخص رؤيا مؤداها: أن سبع بقرات هزال يأتين على سبع سمان فيأكلنهن.
وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ [يوسف:43]، والملأ: هم الأشراف، أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ [يوسف:43]، أي: أولوا لي رؤياي وعبروها لي، إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف:43]، إن كنتم من أهل العلم بتعبير الرؤى، لكنهم قالوا مقولة من لا علم له بهذا الباب: قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ [يوسف:44]، ومرادهم بالأضغاث: الأخلاط، أي: أخلاط من التي تأتي المرأ في نومه، والضغث: هو الخليط، والضغث أيضاً جاء في قوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص:44]، وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ [يوسف:44]، وهذه رؤيا قد ساقها الله إلى هذا الملك لأمر يريده ويدبره الله سبحانه، فالله هو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض.
قال الله سبحانه: وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ [يوسف:45]، أي: فأرسلوني إلى يوسف في السجن واسمحوا لي بزيارته، فأفاد السياق أنهم أذنوا له وأرسلوه، فانطلق قائلاً: يُوسُفُ [يوسف:46]، أي: يا يوسف! أَيُّهَا الصِّدِّيقُ [يوسف:46]، أي: يا أيها الصديق! يا من بشرتني بالنجاة، وفيه ثناء على الشخص بين يدي الطلب منه.
قال الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم مفسراً الرؤيا ومعبراً لها: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا [يوسف:47]، أي: متصلة متواصلة، تثمر فيها الأرض باستمرار طول السبع سنين، فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ [يوسف:47]، أي: فاتركوه في سنبله، وهذا من فن علم التخزين، فكتاب ربنا ما فرط الله فيه من شيء، فإن أصول العلوم في كتاب الله.. فأصل علم الحدادة في قوله: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11]، والهندسة والفواخير في كتاب الله: وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:13]، وكذلك قول الله تعالى: صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن:14]، وأصل علم الزراعة كذلك في كتاب الله، وأصول الصنائع كلها في كتاب الله، وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ [يوسف:47]، أي: اتركوه مخزنين له في السنبل، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ [يوسف:47]، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ [يوسف:48]، أي: قحط شديد، يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ [يوسف:48]، أي: تدخرون، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ [يوسف:49]، أي: يأتيهم الغيث، وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف:49] أي: يعصرون العنب فيصبح خمراً، ويعصرون القصب فيصبح سكراً.
هكذا فسر يوسف صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا للمك: تزرعون سبع سنين متصلة، فما حصدتم فذروه في سنبله، فهو يعلمهم كذلك ولا يكتفي بالإخبار، فهل يجوز من ذلك بيان وجوه الانتفاع للكفار؟ استدل به على جواز ذلك؛ لأن يوسف عليه السلام علم الكفار ما ينفعهم وينقذهم من المجاعات، فعندئذ يجوز مثل هذا ما لم يكن الكافر محارباً، وسيأتي في ذلك مزيد بحث إن شاء الله تعالى.
فيوسف أوَّل الرؤيا وعملهم كذلك طريقة العلاج أثناء هذه السنوات: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف:47-49].
وكذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان يقضي بينهما في مسألة العسيف المشهورة، فقال أحدهما: (يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا الرجل -أي: أجيراً عنده- فزني بامرأته، وإني قد أعطيت هذا الرجل مائة شاة ووليدة -أي: أمة فداء لابنه- ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني بغير ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وأقسم حتى يقذف في قلبيهما اليقين بالحكم الذي سيصدر- قال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: الشاة والوليدة رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا
ومن ذلك أيضاً: سرور النبي صلى الله عليه وسلم الزائد؛ فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسروراً تبرق أسارير وجهه من السرور، فسألته عائشة رضي الله عنها عن سبب سروره، فقال: (يا
فكهذا ينبغي للشخص -خاصة من سيتقلد منصباً كيوسف صلى الله عليه وسلم- أن يبرئ ساحته حتى لا يتهم، وأن يبعد الظنون عن نفسه، فهذا مقصد شرعي، فلذلك لما أرسل الملك رسوله قائلاً: (ائْتُونِي بِهِ)، لم يتعجل يوسف ولم يتسرع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثنياً عليه في هذا الصنيع: (لو لبثت ما لبث يوسف لأجبت الداعي)، وفي رواية: (ثم أتاني الداعي لأجبته)؛ ففي هذا ثناء على يوسف عليه الصلاة والسلام، ومن العلماء من يقول: إن الشخص إذا لم يكن يتحمل السجن وأتاه الداعي فليخرج، وحمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا.
فمن ثم قال الله سبحانه وتعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، ولا يخفاكم -معشر الإخوة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وقال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ومن هنا تظهر فائدة العلم.
قال الله سبحانه وتعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ [يوسف:50]، أي: ارجع إلى سيدك الملك، فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:50]، ولم يقل: فاسأله ما بال امرأة العزيز؟ فالتعميم أولى من التخصيص؛ لأن التعميم أولى وأبعد عن التجريح والإهانة من التخصيص، ومن ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع من رجل شيئاً وأراد أن يخطب في الناس خطب فقال: (ما بال أقوام يصنعون كذا وكذا)، ولا يسمي هذا الشخص باسمه، عليه الصلاة والسلام.
فمن ثم قال يوسف عليه الصلاة والسلام معمماً غير مخصص: فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي: ما شأنهن، إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50]، فسألهن الملك كما أفاده السياق، قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ [يوسف:51]، أي: ما شأنكن إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ [يوسف:51]، مظهرة للحق ومجلية له، ومعترفة بالذنب: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51]، اعترفت هذه المرأة بالحق الذي كان من أمرها مع يوسف صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينصر الله سبحانه وتعالى الفضيلة، وهكذا ينصر الله الفضلاء، فهي تثني على من امتنع عن فعل الفاحشة معها، وثَم نساء يلعنَّ من فعل الفاحشة معهن، وثم نساء وفتيات يتلذذن لحظة من اللحظات بالفاحشة، ثم بعد ذلك يلعن من ارتكب معهن الفاحشة في الدنيا قبل أن يأتي يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، لكن ينصر الله الفضيلة، ويعز الله أهلها دائماً.
وبرأ الله جريجاً العابد كذلك؛ فقد أتته إحدى المومسات، وقالت لقومها: لأفتنن جريجاً ، فذهبت إليه تدعوه إلى البغاء معها، فأبى عليها وامتنع، فأمكنت نفسها من راعي للغنم، فحملت منه وولدت، فأتاها قومها وقالوا لها: من أين جئت بهذا الولد؟ قالت: من جريج ! فجاءوا إليه وأنزلوه من صومعته وضربوه وآذوه، وهدموا الصومعة، فقال: ائتوني بالطفل، فأتي به، فقال له: يا غلام من أبوك؟ قال: أبي الراعي! وبرأ الله جريجاً بذلك، فبنوا له صومعته وقالوا: إن شئت أن نبنيها من ذهب فعلنا، فقال: لا أعيدوها كما كانت.
وبرأ الله سبحانه وتعالى زيد بن أرقم لما نقل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقولة أهل النفاق؛ إذ قال عبد الله بن أبي ابن سلول : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، فجاء ابن أبي وأنكر ذلك أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك على زيد بن أرقم ، فأنزل الله تبارك وتعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد بن أرقم يقول له: (إن الله قد صدقك يا
وكذلك كانت ثَم جارية زمن عائشة رضي الله عنها تأتي عائشة فتقول:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني
وكانت تكثر من ذلك، فسألتها عائشة رضي الله عنها عن سبب قولها لهذا البيت، فحكت لها ما هذا معناه: أنها كانت عند قوم، ففقدوا وشاحاً من ابنتهم، فاتهموا به الجارية، قالت: ففتشوا كل شيء فيّ حتى فتشوا قبلي، قالت: وبينما هم كذلك إذ جاءت حديّة فألقت الوشاح علي وهم يفتشونني، فأظهر الله عز وجل براءتي. وهكذا ينجي الله المتقين، وهكذا يبرئ الله ساحة المظلومين، وإن كان هذا في الدنيا فهو في الآخرة آت يقيناً لا محالة، فربنا سبحانه ينصر أولياءه ويبرئ ساحاتهم.
فقوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:52] هل هو قول المرأة أو قول يوسف؟ فيه وجهان لأهل العلم:
الوجه الأول: أن المرأة تحرص على إرضاء يوسف في غيابه، وتريد كذلك أن تكون وفية أمام يوسف عليه السلام.
والوجه الثاني: أنه من قول يوسف حتى يبرئ ساحته ولا يكون قد خان سيده الذي كان يعمل عنده، وكما تقدم: أن تبرئة الساحات مطلوب خاصة لمن سيتقلد عملاً من الأعمال المهمة التي تهم العموم، والله أعلم.
وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ، ولا يوفق الخائن في تدبيره وسعيه، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف:53]، هل هو قول يوسف أو قول المرأة؟ فيه قولان كذلك: فمن العلماء من قال: لما سمع يوسف ذلك قال: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ، ومنهم من قال: إن المرأة ما زالت مستمرة في تخطئة نفسها وإظهار براءة يوسف صلى الله عليه وسلم.
إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53]، وهم قليل، وغفور: أي كثير المغفرة رحيم بخلقه، فباب التوبة دوماً مفتوح، فليقبل على الله كل مذنب، وليقلع عن ذنبه، وليقبل إلى الله كل ظالم وليقلع عن ظلمه.
وحينئذٍ سأل يوسف صلى الله عليه وسلم عملاً عند هذا الملك -وهو كافر- لمصلحة عامة يراها صلى الله عليه وسلم، ولأمر يريده الله سبحانه وتعالى.
والجواب فيه تفصيل: فإن كان هذا العمل عند المشرك فيه إهانة لدين المسلم، فلا يسوغ له أن يعمل عنده. أما إذا لم يكن فيه إهانة وكان العمل في نفسه مشروعاً، فلا بأس بهذا العمل، فقد أورد البخاري في صحيحه باباً: (هل يؤاجر المسلم نفسه من مشرك في أرض الحرب؟) وأورد حديث خباب بن الأرت قال: كنت قيناً في الجاهلية، فعملت للعاص بن وائل ، ثم جئت أتقاضاه فقال: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومعنى قيناً: أي حداداً، والعاص بن وائل هو العاص بن وائل السهمي والد عمرو بن العاص ، قال: فقلت له: لا والله لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم ييحيك، قال: أو أنا ميت ثم حي؟ قلت: نعم، ستموت ثم تحيا، قال: فعند ذلك أعطيك حقك؛ فأنزل الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [مريم:77-80]، ففي قوله: (كنت قيناً فعملت للعاص بن وائل) ما يدل على الجواز.
وقد ورد في هذا الباب أثر عن علي ينظر في إسناده: أنه كان جائعاً ذات يوم فعمل عند يهودي على استخراج ماء من بئر كل دلو بتمرة، فاستخرج إلى أن استجمع تمرات تكفيه، ثم ترك العمل. وهذا لم أبحثه بعد، ثم هو موقوف إن صح على علي رضي الله تعالى عنه.
وكشاهد آخر لهذا المعنى الذي ينبغي أن يكون في المستأجر: قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39]، وقال تعالى في شأن جبريل عليه السلام وهو السفير بينه وبين رسله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:20]، أي: قوي له مكانة، مطاع هناك في الملأ الأعلى، وأيضاً هو أمين، فَوُصف جبريل بالقوة والأمانة كذلك.
وهنا يوسف عليه السلام يقول: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، حفيظ الأمانة، عليم القوة، وكما سلف فالقوة بحسبها، فقوة الطبيب لا تكون في بدنه بالدرجة الأولى؛ إنما تكمن في قدرته على تشخيص الأمراض، ووصف العلاج المناسب للداء، وقوة المهندس لا تكمن في بدنه بالدرجة الأولى بل في عقله وذكائه وقدرته على التخطيط، وقوة المدرس تكمن في علمه وإيصاله المعلومة إلى طلابه، وقوة العالم تكمن في حفظه وذكائه وعلمه بأحوال الناس، وإعطاء الفتيا المناسبة لكل حال من الأحوال، وهكذا فالقوة بحسبها وبمنزلتها، فقد يكون الشخص قوياً في دينه لكنه لا يصلح في جانب آخر من الجوانب.
فعلى سبيل المثال: أبو ذر رضي الله عنه في دينه أقوى من خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد قال النبي في أبي ذر : (ما أقلت الغبراء -أي: الأرض- ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من
قال يوسف عليه السلام: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، أي: عليم بتسيير الأمور بإذن الله، فالسنوات القادمة سنوات شدة ومجاعة تحتاج إلى حفظ وعلم بالإدارة كذلك.
والجواب: أن المقامات تختلف، فإذا كان المقام مقام ظلم متفش، وبتوليك للإمارة ستصلح ما أفسد غيرك من الناس، وترى في نفسك القدرة على ذلك؛ فلا بأس حينئذ بطلب الإمارة، وقد طلبها يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم.
والسؤال الثاني الذي يطرح نفسه: وهو قوله: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ، فكيف زكى نفسه ورب العزة يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]، ويقول: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:49]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم -وقد أثنى رجل على رجل فأطرى وبالغ في الثناء-: (ويحك! قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك، إن كان أحدكم لا محالة فاعلاً فليقل: أحسب فلاناً كذا وكذا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً) .
فكيف نوفق بين هذه النصوص وبين سؤال يوسف وبين تزكيته لنفسه؟
والجواب: أن المقام مقام يحتاج إلى بيان القدرات، وهذا من بيان القدرات، وليس من باب التعالي على الخلق، وأيضاً قد زكى النبي قوماً من صحابته كي تحفزهم هذه التزكية على ممارسة العمل ابتغاء وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عثمان : (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)، وقال في شأن علي : (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ثم قال: أين
إذاً: معشر الإخوة! تجوز التزكية أحياناً بحسب الاحتياج إليها، فقد يكون في التزكية -أحياناً- دفع للهمم وشحذ لها؛ لمواصلة العطاء، أما إذا كان في التزكية قطع للأعناق وتملق وتكلف، فتذم حينئذٍ التزكية، وينبغي أن ننزل الأمور المنزلة اللائقة بها، وهذا هدي نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وجاء عدي بن حاتم الطائي وهو معروف بكرمه وببذله للإسلام وبعطائه، وقد ارتد قومه بعد وفاة الرسول وثبت هو، وحارب قومه إلى أن يسلموا، فجاء إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوجد أمير المؤمنين عمر معرضاً عنه، فناداه: يا أمير المؤمنين! أما تعرفني؟ فقال عمر : أعرفك وكيف لا أعرفك؟ أنت الذي أسلمت وثبت إذ كفروا، أنت الذي أعطيت إذ منعوا، أنت عدي بن حاتم ، فقال: إذاً لا أبالي يا أمير المؤمنين!
فأحياناً يحتاج الشخص إلى إظهار مناقبه وبيان قدراته لعمل يوكل إليه.
فأجابه الملك إلى طلبه، فهو عنده كما ذكر من قبل: مكين أمين، قال الله سبحانه وتعالى وهو الذي يولي الناس المناصب، وهو الذي ينزعها منهم، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، وما الملك إلا سبب، قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فالذي مكن له في الحقيقة هو الله وليس الملك، فما الملك إلا سبب من الأسباب، قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ [يوسف:56]، أي: ينزل منها حيث أراد.
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ [يوسف:56]، أي: نتفضل برحمتنا على من نشاء، ونصيب بفضلنا من نشاء، كما قال تعالى في السحاب المسخر الذي ينزل على أنه غيث فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، فالله يرزق من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، فإذا علم الناس ذلك فعليهم أن يأتوا البيوت من أبوابها، ويطرقوا باب ربهم سبحانه وتعالى الذي لا يغلق، فإليه المنتهى في كل شيء: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42]، فخزائن كل شيء بيديه، والأمر في كل شيء ينتهي إليه سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:56]، فالمحسن لا يذهب إحسانه عند الله سدى، بل الله له شاكر، قال تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، فالله لا يضيع أجر المحسنين أبداً، بل يثيبهم على أجرهم، ويعجل لهم بالخيرات أحياناً، ويدخر لهم كامل الثواب أحياناً أخرى.
فليفهم ذلك الفاهمون، وليعمل لذلك العاملون، وليحسن في الأبواب كلها المحسنون، وليس هذا في الدنيا فحسب؛ بل قال تعالى: وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يوسف:57]، فلنحتسب الأجور عند الله، ولنقدم على عمل الصالحات والإحسان؛ فربنا رب شكور غفور وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر