يقول الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، شهر رمضان أنزل فيه القرآن أول ما أنزل، وإلا فالقرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم على مدار ثلاث وعشرين سنة، فهذا قول، وقيل: أنزل جملةً من السماء السابعة إلى سماء الدنيا كما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، وكما قال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]، فهذا الشهر هو شهر نزول القرآن فينبغي أن تكثر فيه من تلاوة القرآن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان جبريل يعارضني بالقرآن في كل عام مرة في رمضان ثم عارضني في هذا العام مرتين، وما أرى ذلك إلا لحضور أجلي)، فيستحب لك أن تكثر من قراءة القرآن الكريم في هذا الشهر، إذ هو شهر القرآن، ولذلك كان بعض أهل العلم يغلقون كتبهم ويقبلون على كتاب الله، لمدارسة كتاب الله، وتلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى.
يجوّز الجمهور ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحمل أمامة في الصلاة، فحمل المصحف من باب أولى؛ ولأن ذكوان مولى عائشة كان يؤمها من المصحف، فعلى رأي الجمهور، يجوز أن تقرأ -أيها الإمام- من المصحف، أما العبث الذي يحدث وهو أن المأموم يحمل مصحفاً ويتابع الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: (ما لي أنازع! لعلكم تقرءون بعدي؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن)، فهذه المنازعة لا تشرع، وليس فيها كبير فائدة ولا كبير معنى، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)، وهذا دليل يشجع على حضور الجماعات، وإن كان التأخير إلى الثلث الأخير من الليل أفضل لمن أطاق ذلك؛ وذلك لقول أمير المؤمنين عمر لما رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون مجتمعين: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل؛ بل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن صلاة آخر الليل مشهودة محضورة، فينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا كان الثلث الأخير من الليل، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه).
أولاً: هذا الخبر ثابت عن أم المؤمنين عائشة ، لكن ينبغي إذا درسنا مسألة من مسائل الفقه أن نأخذ بجميع الأدلة التي وردت فيها، لا نأخذ بحديث واحد، وإلا فالخوارج ضلوا ضلالاً بعيداً، بسبب أنهم أخذوا ببعض الأدلة وتركوا البعض، فهم جاءوا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يدخل الجنة قاطع)، وقالوا: إن قاطع الرحم يخلد في النار، وفي المقابل ضلت المرجئة ضلالاً بعيداً، بسبب أنهم أخذوا بحديث: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقالوا: إيمانه على إيمان جبرائيل وميكائيل مهما عمل من المعاصي، وتركوا آيات الربا وآيات القتل، وسائر الآيات التي وردت في مرتكبي الكبائر والصغائر.
إذاً: علينا أن نعمل بجميع الأدلة، فحديث عائشة رضي الله عنها: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إحدى عشرة ركعة).
ثانياً: قد ورد من حديث أم المؤمنين عائشة أيضاً وأخرجه البخاري عنها في الصحيح: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الليل ثلاث عشرة ركعة)، فقال بعض أهل العلم: إن الركعتين الزائدتين تحمل إما على سنة العشاء أو على نافلة الفجر، وهذا القول مدفوع؛ لأن قولها: كان، يفيد المداومة، ثم أيضاً قد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل، فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر)، فكان ذلك ثلاث عشرة ركعة.
وورد نحوه من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمثبت مقدم على النافي.
ثالثاً: أن حديث عائشة رضي الله عنها فيه وصف لصلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالت: (كان يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن -أي: أربعاً طويلة- ثم يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث) ، فإذا رُمت موافقة سنة الرسول عليه الصلاة والسلام فستأخذ بالسنة صفة وعدداً، لا تأخذ السنة من ناحية العدد وتترك السنة من ناحية الصفة، فإذا جاء شخص وقال: إني قد صليت إحدى عشرة ركعة في عشر دقائق أو في نصف ساعة، هل نقول: إنك أصبت سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ صحيح أنه أصابها من ناحية العدد، ولكنه لم يصبها من ناحية الصفة.
فإذا أردت الموافقة، فلتوافق في الصفة ولتوافق في العدد، لكن هب أنني جئت أوافق في الصفة فوجدت المصلين معي لا يطيقون ولا يتحملون، بل وأنا أيضاً لا أطيق ولا أتحمل صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف أصنع؟
قال العلماء: إذا قصرت في الصفة فزد في عدد الركعات؛ وذلك حتى تصل إلى أحب القيام إلى الله قيام داود، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب القيام إلى الله قيام داود) ، ولم يضبطه النبي بعدد، بل ضبطه النبي بزمن، فقال عليه الصلاة والسلام: (أحب القيام إلى الله قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه) ، فالرسول عليه الصلاة والسلام ضبطه بالزمن وليس بالعدد، وكذلك قوله تعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17] ضبطٌ بالزمن، وكذلك: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ [الزمر:9] أي: ساعات الليل، ضبطٌ كذلك بالزمن، فلذلك قال مالك رحمه الله: أستحب ستة وثلاثين ركعة، لماذا -يا مالك- وأنت رويت حديث أم المؤمنين عائشة في صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة؟!
فيرى هو وأصحابه وعموم جمهور العلماء: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلي في بيته إحدى عشرة ركعة يطول كما يشاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم لنفسه فليطول كيف يشاء) ، لكن إذا كنت تصلي بالناس فتراعي حال المأمومين.
وهنا بعض المناقشات الفقهية الخفيفة: هل إطالة القراءة مع قِلّت عدد الركعات أفضل أم التخفيف في القراءة والإكثار من عدد الركعات؟
فيرى البعض: أن طول القراءة أفضل؛ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصلاة طول القنوت) أي: طول القراءة فيها.
ويرى آخرون: أن الإكثار من السجود أفضل؛ لحديث: (أعني على نفسك بكثرة السجود) .
والأمر في هذا واسع، والنظر إلى حال المأمومين أمر مهم.
رابعاً: أن هناك عمومات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفادت تجويز الزيادة على إحدى عشرة ركعة، منها حديث: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة) ، وهذا في الصحيحين، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة أو حط عنك بها خطيئة)، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد)؛ وللحديث الذي سمعتموه آنفاً: (إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة) ، وقوله: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، وغير ذلك كثير كثير.
أما ما ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه من جمع الناس على أبي بن كعب على إحدى عشرة ركعة، فقد ورد أيضاً من عدة طرق يشد بعضها بعضاً أنه جمعهم على أبي على ثلاث وعشرين ركعة.
وجمع العلماء بين ذلك كـالبيهقي رحمه الله، فقال: فعل ذلك أحياناً، وفعل ذلك أحياناً، وهو الصحيح؛ لعلة وهي: أنه خرج عليهم وهم يصلون في الليل فقال: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل، وفي رواية أخرى: أنهم كانوا ينتهون عند بزوغ الفجر من الصلاة، فدل هذا على التنويع كما اختاره البيهقي رحمه الله تعالى.
أما الجمهور فيرون أن الآية منسوخة، فعلى هذا فالشيخ الكبير مخاطب بالصيام إن هو أطاق، فإذا لم يطق فالله تعالى يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، والذمم بريئة ما لم يكن هناك دليل صريح ملزم، والله تعالى أعلم.
أما المرضع والحامل، فما شأنهما؟ فيهما أقوال:
القول الأول: إنهما يفطران ويطعمان ويقضيان، أقول: هذا الجمع لا أعلم دليلا عليه، أي: الإفطار مع القضاء مع الإطعام.
القول الثاني: إنهما يقضيان فقط شأنهما شأن المريض وشأن المسافر، وهو قول الأحناف قياساً على المريض وعلى المسافر.
القول الثالث: لا قضاء عليهما ولا إطعام مستدلين بحديث أنس بن مالك الكعبي القشيري
: (إن الله وضع عن المرضع والحامل الصوم )، فقالوا: هذا رسولنا بين أن الله وضع عنهما هذا، لكن هل هذا الوضع مؤقت إلى أن تتحسن أحوالهما أم هو وضعٌ كلي؟ لا نستطيع الجزم بأنه وضعٌ كلي؛ لأن الصيام مكتوبٌ علينا، فعلى ذلك بالنسبة للحامل والمرضع يتلخص الأمر في شأنهما لمن أراد الاختيار: أنهما تقضيان إن استطاعتا، فإن لم تستطيعا أطعمتا، فإن لم تستطيعا القضاء ولا الإطعام فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.قال كثير من أهل العلم: أدخلت هذه الآية بين آيات الصيام؛ لبيان أنه يستحب للصائم أن يكثر من الدعاء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم)، فذكر منهم: (الصائم حتى يفطر)، وليس حين يفطر فقط، إنما حتى يفطر، فطول اليوم وأنت صائم، لك دعوة مستجابة.
قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]، عن أي شأن من شئون ربنا سبحانه سأل العباد نبيهم محمداً صلى الله عليه وسلم؟ هل سألوه عن رحمة الله؟ هل سألوه عن عفو الله؟ عن انتقام الله؟ عن صفات الله؟ كل ذلك ليس المراد هنا، إنما سألوه عن القرب والبعد، قالوا: أقريب ربنا فنناجيه يا رسول الله أم بعيد فنناديه؟! فقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]، فدليله أنهم لم يسألوه عن شيء في هذا الباب إلا عن القرب والبعد، فحذفت كلمة: (قل) فلم يقل الله: (فقل لهم: إني قريب) بل قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ ؛ للدلالة على القرب كذلك من ناحية النظم القرآني.
أجاب العلماء على ذلك بعشرة أجوبة وأزيد، فمن هذه الأجوبة:
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال -فيما أخرجه أحمد في المسند بسند حسن-: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحم إلا أعطي بها إحدى ثلاث: إما أن يصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يعطى مسألته، وإما أن تدخر له الإجابة إلى يوم القيامة)، فتقول: يا رب! ارزقني، قد ترزق عاجلاً غير آجل، وقد تدخر لك الإجابة إلى الآخرة، وقد تكون هناك مصيبة ستحل بك فصرفها الله عنك، هذه ثلاثة أجوبة.
الجواب الرابع: أن الإجابة مقيدة بمشيئة الله، كما قال تعالى: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ [الأنعام:41]، فجعلها مردودة إلى مشيئة الله.
الوجه الخامس: أنك تسأل ربك مسألةً ويعطيك ربك خيراً من هذه المسألة وأنت لا تشعر، قد يقول قائل: يا رب! زوجني فلانة، يرى أن في زواجه منها خيراً كثيراً، كما يصنع الذين أولعوا بفتاة أو بامرأة من النساء، ووقع الأمر بهم إلى الحد الذي جعل الشاعر الذي أحب امرأة سوداء يقول:
أحببت لحبها السودان حتى أحببت لحبها سود الكلاب!!
أحب الكلاب السوداء من أجل أن محبوبته سوداء! انظروا كيف أن الأمر وصل به إلى هذا الحد!
كل يوم يدعو: يا رب! زوجني فلانة، وربنا سبحانه يختار لك الخير، فيعلم أن زواجك من هذه المرأة شرٌ عظيم وأنت لا تشعر، قد تفتنك عن دينك، هذا شيء، وقد تتزوجها وتصاب بمرض من جراء زواجك بها، قد تتزوجها فتكون عقيماً، قد تتزوجها فلا تحفظ لك فراشك، قد وقد، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
قد يقول شخص: يا رب! يسر لي (فيزة) إلى الكويت أو إلى السعودية، وطول اليوم يدعو، وربه قد ادخر له رزقاً في هذه البلاد، ويريد حجبه عن السفر لنيل هذا الرزق، ويعلم أنه قد يسافر وقد يصاب بحادث أليم فيرجع مهشم الرأس، مقطع الأوداج، وقد كُسرت عظامه، وهشم وجهه والعياذ بالله! فربنا يختار الأنفع لنا، هو يعلم سبحانه وتعالى ونحن لا نعلم.
الوجه السادس: قد تتأخر الإجابة كي تكثر من الدعاء فتثاب، فإنك كلما قلت: يا رب! ارزقني فإنك تثاب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الدعاء عبادة)، ولذلك تأخرت الإجابة عن بعض أهل الفضل والصلاح أزمنة طويلة جداً، تأخرت الإجابة عن أيوب عليه الصلاة والسلام فلبث في بلائه ثمانية عشر عاماً، حتى رفضه القريب والبعيد إلا اثنان من أبناء عمومته. (قال أحدهما يوماً للآخر -لما طال أمد المرض بأيوب عليه السلام-: ترى يا هذا! لقد أذنب أيوب ذنباً لم يذنبه أحد من العالمين، قال: لماذا؟ قال: إنه مكث في بلائه ثمانية عشر عاماً وهو نبي ويدعو ولا يستجاب له، فهذا يدل على أنه صنع شيئاً لا نعرفه نحن إنما يعرفه الله، فما صبر الرجل حتى ذهب إلى أيوب وأخبره، فقال أيوب عليه السلام: الله أعلم بما تقولان، لكن الله يعلم أني كنت أمرُّ بالرجلين يختصمان في مال، فأكره أن يذكر الله سبحانه وتعالى في كذب، فأذهب إلى بيتي وآتي بمال من مالي فأدفعه إلى الخصم حتى لا يقسم بالله كاذباً، الله أعلم بما تقولان، وحزن حزناً شديداً عليه السلام لهذه المقالة، ودعا ربه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]. فخرج يوماً مع زوجته لقضاء حاجته، فانتظرته زوجته وقد كان حيياً عليه السلام، فذهب بعيداً عنها فأوحى الله إليه بقوله: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]، فضرب برجله فخرج الماء، فاغتسل وشرب فأذهب الله ما بخارجه وما بداخله من داء، فرجع إلى امرأته في أحسن ما يكون، فقالت له: أيا عبد الله! أما رأيت نبي الله ذاك المبتلى؟ فوالله! لقد طال عليّ المقام في انتظاره، فقال لها: أنا هو، قالت: اتق الله! ولا تهزأ بي ولا تسخر مني، فقال: أنا هو، فكررت عليه المقولة وقالت: والله! ما رأيت أحداً شبيهاً به منك إذ كان صحيحاً، قال: أنا هو فحمد الله سبحانه وتعالى على ما كان
الشاهد: أن البلاء لبث به زمناً طويلاً وربه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه حاله، ولكن كل دعوةٍ دعا بها أبوب أثيب عليها، ومن ثم جاءت التزكية والشهادة، ليست تزكية مزورة، إنما تزكية من رب العالمين، قال تعالى: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، ثلاث تزكيات من الله سبحانه وتعالى بعد هذا الجهد والعناء الطويل: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:25].
كذلك تأخرت الإجابة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها شهراً أو يزيد؛ وذلك عندما قذفت بما قذفت به أم المؤمنين عائشة ، ولا شك أنها كانت تدعو ربها، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام وأهل الإسلام كذلك كانوا يدعون ربهم أن يكشف هذه الغمة، فما جاء الخبر إلا بعد شهر من تهوك المتهوكين وإفك الأفاكين، والرسول يغتم لذلك غماً شديداً، والكل يدعو بكشف الغمة وزوالها، ولكنَّ الجواب تأخر والمصيبة ازدادت، ومصيبة أخرى وهي: أن الوحي ينقطع عن بيت رسول الله من النزول ويتأخر؛ فيتخذ ذلك أهل النفاق ذريعة للطعن في رسول الله، وفي بيت النبوة، ويقولون: ما انقطع الوحي إلا أن البيت تدنس، فبعد ذلك كله يأتي الفرج، عائشة تقول: والله! ما كنت أطمع في أكثر من أن يري الله نبيه رؤيا في منامه يبرئني الله بها، وأيضاً تقول عائشة : لشأني في نفسي أحقر من أن ينزل فيّ وحيّ يتلى، ولكن فضل الله أوسع، فلا شك أن في ذلك كله خيراً لأهل الإسلام، كما قال تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ [النور:11].
فأحياناً تتأخر الإجابة حتى تدعو وتدعو وتدعو، فتثاب وتثاب وتثاب، فكما أن المصلي يثاب والمتصدق يثاب والمعتمر يثاب والذاكر يثاب، فكذلك الداعي يثاب، فالله يختار لك أفضل مما تختاره أنت لنفسك والله سبحانه وتعالى أعلم.
قد يحجب عنك إجابة الدعاء بسبب مظالم العباد، فأنت تدعو ومظلوم يدعو عليك، دعوتك تصعد، ودعوته تصعد تدمر دعوتك، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول -فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى-: (وإياك ودعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها الله فوق الغمام ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)، أي: ولو بعد زمن، فإن نصر المظلوم حقٌ على الله سبحانه وتعالى.
ونضرب في ذلك أمثلة لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام: (
ونحوه صنع سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه؛ وذلك لما طعن فيه أهل الكوفة، حين أرسلوا رسالة إلى عمر رضي الله عنه: أن سعداً لا يحكم بالسوية، ولا يخرج في السرية، ولا يعدل في القضية، فأرسل عمر إلى مساجد الكوفة من يسأل عن أخبار سعد ، فذهب إلى المساجد وكل أهلها يثنون على سعد خيراً، فمر بمسجد لبني عبس، وقال -أي رسول عمر -: أناشدكم بالله أن تقولوا في سعد الذي تعلمونه، فقام رجل فقال: أما وقد نشدتنا بالله، فإن سعداً لا يحكم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يخرج في السرية! تعجب سعد من ظلم هذا الظالم المفتري الكذاب، فقال سعد : اللهم! إن كنت تعلم أن عبدك هذا قام رياء وسمعة؛ اللهم! أطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، فكبر الرجل حتى انحنى ظهره، وسقط حاجبه على عينه، ومع هذه الحال المزرية من الكبر كان يمشي في الطرقات يغمز الجواري ويتعرض لهن، فإذا عوتب قال: أصابتني دعوة سعد رضي الله تعالى عنه.
فإياك ودعوة المظلوم، فقد تدعو ومظلوم يدعو عليك فدعوته تدمر دعوتك. ومن أسباب حجب الدعاء أنك قد تدعو وأنت آكل للحرام كأكل الربا والرشوة وغيرهما من المحرمات، والنبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟)، قد تدعو الله بلسانٍ مغتاب تخوض به يميناً ويساراً في أعراض المسلمين والمسلمات، قد تدعو الله بقلب مليء بالغل والأحقاد والحسد للمؤمنين والمؤمنات، كيف يستجاب لك وأنت تتمنى من قلبك أن تنزل بصاحبك مصيبة، أو أن تنزل بجارك مصيبة، أو أن يخرص لسانه فلا يتكلم، أو أن يصاب بحادث؟! فكيف تدعو الله بقلب حمل هذا الدنس، وحمل هذا الوسخ؟!
قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي: فيما أمرتهم به من دعاء وَلْيُؤْمِنُوا بِي أي: ليصدقوني فيما أخبرتهم به، لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، والراشد هو المستمسك بدينه على صلابة فيه.
ومن مجيء الرفث الذي يراد به مقدمات الجماع، ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فقال في شأنه: (إن أخاً لكم ليقول الرفث)، وذلك أنه قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانــا الهـدى بعد العمى فقلـوبنا به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجـافي جنبـه عن يمينه إذا استثقلـت بالمشركين المضاجع
وقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ [البقرة:187]، هل كان هذا الرفث حراماً حتى يقال: (أُحِلَّ)؟
كان الأمر في أول فرض الصيام إذا غربت الشمس، لك أن تأكل وتشرب إلى حد أن تنام، مثلاً: لو أن المغرب يؤذن في الخامسة، لك مباح لك أن تأكل وتشرب إلى أمدين: الأمد الأول: إلى أن تنام، أو إلى أن يأتي عليك الفجر، فإذا نمت بعد الساعة الخامسة قبل أن تأكل خمس دقائق أو ساعة حرُم عليك الأكل والشرب إلى اليوم الثاني في المغرب، يعني: إذا نمت مثلاً بعد أذان المغرب مباشرة، فإنه يحرم عليك أن تأكل وتشرب إلى غدٍ وقت الإقطار، ولو نمت في الساعة التاسعة واستيقظت الساعة الحادية عشرة ليس لك أن تأكل ولا أن تشرب.
فكان هناك صحابي يقال له: قيس بن صرمة الأنصاري ، كان يعمل، فرجع مجهوداً من العمل، أصابه جهد شديد، رجع إلى بيته فقال لزوجته: هل عندكم طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق أبحث لك عن طعام، فذهبت تبحث له عن طعام، ومن شدة التعب الذي به نام، فلما رجعت ورأته نائماً، علمت أنه لن يأكل ولن يشرب إلا غداً في المغرب، فقالت له: خيبة لك، -ليس المراد بالخيبة على اصطلاحنا- فأصبح من غد صائماً، فلم يستطع أن يواصل فأغمي عليه في النهار، فنزل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ .. الآية [البقرة:187].
وكذلك كان قومٌ يخونون أنفسهم، فهذا عمر رجع يوماً متأخراً إلى امرأته، وأراد منها ما يريد الرجل من امرأته، فقالت له: إني نمت، فقال لها: ما نمت، قال تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ أي: تخونونها فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ [البقرة:187].
وقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187]، أي: طول الليل، هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187]، واللباس هنا: السكن والفراش، ليس كما ترجمه بعض الذين ترجموا القرآن، وهم لا يدرون عن معانيه شيئاً، ترجموه بالإنجليزية فقالوا: هُنَّ لِبَاسٌ، أي: هن (clothes) لكم وأنتم (clothes) لهن! فهذه الترجمة تنم عن جهل المترجم بروح الدين والشريعة.
فمثلاً: رجلٌ شتمك، إذا عفوت عنه لا تشتمه كما شتمك، إذا صفحت عنه تزيل أثر هذه المسبة من قلبك، كما فعل أحد السلف مع جارية أتت إليه بطعام، فلما أتت إليه بطعام كان فيه مرق، وعنده أضياف فأتت مسرعةً فسقط المرق على صاحب البيت أو على الأرض، فأراد سيدها أن يلطمها، فقالت له: إن الله يقول: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ، فقال: كظمت غيظي، فخشيت أن يعاقبها فيما بعد، فقالت: ويقول: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ، قال: عفوت عنك، قالت: ويقول: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله، فالصفح محو أثر الذنب.
والمباشرة أيضاً: تطلق على ما دون الجماع، لكن أبيح الجماع، وأبيح ما دونه في هذا المقام، وللصائم في النهار كذلك أن يقبل ويباشر ما دام أنه يأمن على نفسه أن يقع في الجماع؛ وذلك لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم، قالت: أيكم يملك إربه كما كان الرسول يملك إربه؟!)، وكان عبد الرحمن زوجاً لـعائشة بنت طلحة، فدخلا على أم المؤمنين عائشة وهما في عنفوان الشباب، وهما صائمان، فقالت له: يا عبد الرحمن! ما يمنعك أن تقبل زوجتك وتلاعبها؟ قال: يا أم المؤمنين! أقبلها وأنا صائم؟! قالت: كنت أصنع ذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فالآية مما يستدل بها على مشروعية الأخذ بالأسباب.
أما مسألة الإمساك التي يقول بها بعض من أهل العلم، فليست أبداً على الإلزام، إنما أخذها البعض من حديث زيد بن ثابت عندما سئل: كم قدر ما بين السحور والأذان؟
قال: قدر خمسين آية، هذا وصف حال، وإلا فقد قال سهل بن سعد : (كنت أتسحر مع أهلي ثم تكون سرعتي أن أدرك السجود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي الآية نصٌ على الوقت الذي لا يؤكل فيه ولا يشرب، ألا وهو: تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
وأحب هنا أن أنبه على أثر حذيفة بن اليمان -وإن كان ظاهره الحق إلا أنه شاذ ومعلول- حيث قال: (تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إنه والله! النهار، إلا أن الشمس لم تطلع )، فهو لا يثبت عن حذيفة رضي الله عنه؛ لأنه معلول وشاذ.
وقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، ليس المراد بالليل: اشتباك النجوم، إنما المراد بالليل: غروب الشمس؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم)، وما وجه الخيرية في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) وإنما هي دقائق؟
قال فريق من العلماء: حتى يقطع على جمهور الموسوسين وسوستهم، والله أعلم.
أما الشيعة: ففهموا من الآية: أنهم يمتنعون عن الأكل والشرب إلى أن تظهر النجوم؛ وذلك لأنهم لم يتأملوا أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الباب، فالحمد لله الذي وفقنا لسنته عليه الصلاة والسلام.
وفقنا الله وإياكم لكل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر