فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين فقال: (ذاك يومٌ ولدت فيه، ويومٌ بعثت أو أنزل علي فيه) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى.
وكذلك فقد جاء عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أنهما قالا: [ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر وفيه مات] هذا هو المشهور عند الجمهور، وقد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ورجاله رجال الصحيح.
فإذاً، هو قد ولد يوم الإثنين، ومات يوم الإثنين، وبعث وأنزل عليه يوم الإثنين صلى الله عليه وسلم، وأيضاً هاجر يوم الإثنين.
ومع كون ولادته يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، فإن ذلك لا يعني بأي حالٍ من الأحوال جعل ذلك اليوم مولداً يحتفل به فيه، فإن هذه بدعة من البدع ما فعلها صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من أصحابه ولا أحدٌ من السلف رحمهم الله تعالى في القرون الثلاثة، فلم يعرف عنهم الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم.
وإذا عرفنا كذلك أنه هاجر يوم الإثنين فأيهما أعظم بالنسبة للإسلام والمسلمين، وأكثر أثراً وظهوراً: يوم ولادته أم يوم هجرته؟ لا شك أن الهجرة أعظم، فإن الولادة لا تقارن بالنسبة للهجرة، ذلك اليوم الذي كان إيذاناً بانتقال الدين والمسلمين من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة القوة، من مرحلة الإيذاء والاضطهاد إلى مرحلة قيام الدولة، ولا شك أن الهجرة إذاً حدثٌ عظيم مبارك، ومن أجل ذلك جعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه بداية التاريخ الإسلامي.
المناسبة الحقيقة التي كانت فيها بداية الانطلاقة الكبرى في التاريخ الإسلامي هي الهجرة، لأن ما بعد الهجرة كان قيام الدولة والانتصارات والفتوحات والجهاد، وما بعد الهجرة كانت الانطلاقة في أرجاء الجزيرة العربية في نشر الدين وخارج الجزيرة العربية ، ولذلك لا يمكن أن نقارن يوم الهجرة بيوم المولد ولا يوم البعثة بيوم المولد، فإن يوم الهجرة أعظم من يوم المولد، ويوم البعثة أعظم من يوم المولد، ولكن كثيراً من المبتدعة لا يفقهون ذلك، فيحتفلون بميلاده ويفضلونه على الأيام الأخرى، وليس يوم ولادته بأحق من يوم بعثته ولا هجرته، بل وقد مات في يوم الإثنين.
ونقول لهم: إذا كنتم ستجعلون احتفالاً بمولده يوم الإثنين فلماذا لا تجعلون مأتماً في يوم وفاته، فإن البدعة واحدة؟ ما دمتم ستفرحون بيوم الإثنين فلتجعلوه مأتماً أيضاً، فإذاً يتبين لك أن القوم لا يسيرون على هدى ولا على طريقٍ مستقيم، وأن الاحتفال بالمولد النبوي إنما هو بدعة من البدع.
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم |
ما هي ضرة الدنيا؟ الآخرة، يقول القائل: فإن من جودك يعني: يا رسول الله، الدنيا والآخرة، ومن علومك: من للتبعيض، من علومك يا رسول الله علم اللوح والقلم، إذاً ماذا بقي لله عز وجل؟!
ولذلك يتبين لك أنما يقرأ في كثيرٍ من الموالد من القصائد إنما هو شركٌ أكبر، الشرك بالله بعينه، وإذا قال قائل: نستفيد بالسيرة ونذكر أحداث السيرة، فنقول: هانحن نذكر أحداث السيرة في غير يوم المولد، ولن يضيرنا أن نذكرها في غير يوم المولد، ولا يعني أن الإنسان إذا أراد أن يعرف سيرة النبي عليه الصلاة والسلام لا بد من يوم المولد ليعرف السيرة فيعرف السيرة في كل السنة.
إذاً، لا يجوز للإنسان أن يجمع بين زوجته وأخت زوجته؛ لأن الله نهى عن ذلك: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء:23] إلا إذا فارق إحداهما بموتٍ أو طلاق فعند ذلك يجوز أن يتزوج بالأخت الأخرى.
أما الربيبة وهي: ابنة المرأة التي تزوج بها من غيره، فهي أيضاً محرمة لا يجوز للرجل الزواج بها، وهي تكشف عليه لأنها من محارمه.
قمراء: اللون الأبيض المائل إلى الخضرة.
خرجت حليمة التماس الرضعاء في مكة ، وكان أهل مكة يرغبون في جعل أولادهم في البادية حيث يرتضعون من نسائها، ويمكثون فترة في ذلك الجو النقي فيصلب عودهم ويشتد، ويرتضعون من نسائها المعروفات بجودة الحليب واللبن، فلذلك كانوا يرغبون فيه، وكان النساء في البادية يبتغين أجراً من وراء إرضاع الأولاد الصغار لمثل أهل مكة التجار، فجاءت حليمة السعدية مع نسوة لها من أوائل من خرجن من مكة لابتغاء الرضعاء فيها.
قالت: "فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي قمراء، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى -أحد بني سعد بن بكرٍ- ثم أحد بني ناظرة قد أدمت أتاننا".
الأتان طبعاً هي أنثى الحمار، ومعنى أدمت: يعني حدث في ركب الدابة جروحٌ دامية باصطكاكها، إذاً الأتان الدابة فيها جراح.
"ومعي بالركب شارف والله ما تبض بقطرة لبن".
والشارف: هي الناقة المسنة لا يسيل منها قطرة لبن، لا يخرج منها شيء من اللبن أبداً.
"في سنة شهباء".
يعني: مجدبة لا خضرة فيها ولا مطر، فخرجت حليمة بأسوأ حال من مضارب قومها في البادية إلى مكة ، أتانٌ قد تجرحت أرجلها من اصطكاكها ببعضها من الهزال والضعف، وناقة مسنة ما يخرج منها قطرة لبن واحدة، في سنة مجدبة قد جاع الناس حتى خلص إليهم الجهد.
"ومعي ابن لي والله ما ينام ليلنا".
طيلة الليل يبكي؛ لأنه جائع.
"وما أجد في يدي شيئاً أعلله به، إلا أنا نرجو الغيث، وكانت لنا غنمٌ فنحن نرجوها، فلما قدمنا مكة ، فما بقي منا أحدٌ إلا عرض عليها محمد فكرهته".
كل النساء مع حليمة عرض عليهن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن كل واحدة تأبى أن تأخذه من هؤلاء المرضعات من أهل البادية، لماذا؟- فقلنا: "إنه يتيم، وإنما يكرم الظئر ويحسن إليها الوالد" -فهذا يتيم وأبوه ميت وإذا أخذناه فمن يعطينا؟!
فقلنا: "ما عسى أن تصنع بنا أمه أو عمه أو جده -إذا كان الأب ميتاً- فكل صواحبي أخذ رضيعاً -كل واحدة أخذت ولداً آخر- فلما لم أجد غيره رجعت إليه وأخذته، فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره".
وليست رغبة في الولد بل لأنه لا يوجد غيره- فقلت لصاحبي -وهو زوجها الذي معها، والعرب تطلق على الزوج صاحباً، قال الله تعالى: وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ [المعارج:12] فالصاحبة أيضاً الزوجة.
"فقلت لصاحبي: والله لآخذن هذا اليتم من بني عبد المطلب فعسى الله أن ينفعنا به، ولا أرجع من بين صواحبي ولا آخذ شيئاً -أرجع إلى البادية بدون ولد أرضعه أمام الناس- فقال: قد أصبت، قالت: فأخذته، فأتيت به الرحل، فوالله ما هو إلا أن أتيت به الرحل فأمسيت وقد أقبل ثدياي باللبن" -هذا أول شيء، مجرد ما أتت به رحل قومها (المكان الذي نزلوا به) أقبل الثديان باللبن.
حتى أرويته وأرويت أخاه الذي جئت به يبكي، وقام أبوه إلى شارفنا -أبوه صاحب اللبن، قام إلى تلك الناقة المسنة يلمسها- فإذا هي حافل باللبن -مليئة- فحلبها فأرواني وروي، فقال: يا حليمة تعلمين والله لقد أصبنا نسمة مباركة، ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمن -ما لم يكن يدور بالبال أعطانا أكثر- قالت: فبتنا بخير ليلة شباعاً، وكنا لا ننام ليلنا مع صبينا.
يعني: من قبل ما ننام الليل من بكاء الصبي الذي معنا، الآن هذا الصبي المبارك جاء وأشبعني وأشبع زوجي، وأشبع الولد وأشبع الناقة، وجاء الخير والبركة.
"ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا أنا وصواحبي، فركبت أتاني القمراء -أنثى الحمار التي أصابتها الدماء من اصطكاك رجليها- فحملته معي، فوالذي نفس حليمة بيده لقطعت الركب حتى أن النسوة ليقلن: أمسكي علينا، أهذه أتانك التي خرجت عليها؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها كانت أدمت حين أقبلنا فما شأنها؟ قالت: فقلت: والله حملت عليها غلاماً مباركاً".
لاحظوا أيها الإخوة النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره، حتى ولادة النبي عليه الصلاة والسلام ملفتة للنظر، وطفولته ملفتة للنظر، الله عز وجل يقيض من الأحداث ما يسلط به الضوء على النبي عليه الصلاة والسلام منذ طفولته كأن هذا الغلام سيكون منقذ البشرية.
فصارت ولادته في عام الفيل الذي اتجهت أنظار العالم كله إلى مكة بسبب حادثة أبرهة ؛ لأن حادثة أبرهة كانت شيئاً فوق الوصف،كانت شيئاً عجيباً، طير تحمل حجارة ترجم أفيالاً وتهلك الأفيال ومن عليها، ولذلك كان شيئاً قيظه الله تعالى لتأتي الأضواء والناس يعظمون الكعبة، وتصبح لقريش مكانة؛ لأن من قريش سيبعث النبي الذي سيدعو قريشاً ويدعو العرب وفي مكة ، ولذلك كانت بداية توجيه الأنظار توطئة لحادثة الفيل لكي يولد النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك العام، ويحفظ الناس ذلك العام جيداً وكل أحداث العام، وفيه الولادة النبوية، ثم بعد ذلك تأتي حليمة لتأخذه، وتأتي هذه الخيرات والبركات، ويصبح أمره عليه الصلاة والسلام منتشراً منذ صغره، هكذا يسير الله تعالى الأحداث لكي تتركز الأذهان، والأنظار تتجه إلى الأحداث المتعلقة بهذا النبي الكريم وتاريخ النبي الكريم منذ ولادته.
أي: كانت سنة قحط لكن لما جئنا بالمولود كان رعاة بني سعد يذهبون كلهم ويرجعون جياعاً، ما وجدوا خيراً ولا كلأ ولا شيئاً، وأغنامي ترجع شباعاً بطاناً حفلاً، أي: شبعانة سمينة، الثدي محمل باللبن.
فنحتلب ونشرب، فيقولون: ما شأن غنم الحارث بن عبد العزى ؟ -وهو زوج حليمة - وغنم حليمة تروح شباعاً حفلاً وتروح غنمكم جياعاً، ويلكم اسرحوا حيث تسرح غنم رعائهم، اجعلوا غنمكم تذهب مع المكان الذي تسرح فيه غنمهم، ربما يصير لكم مثلما حصل لهم، فيسرحون معهم فما تروح إلا جياعاً كما كانت وترجع غنمي كما كانت حفلاً سمانا.
قالت: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشب شباباً ما يشبه أحدٌ من الغلمان، يشب في اليوم شباب الغلام في الشهر يعني: ينمو ويزيد في اليوم ما ينموه الغلام العادي في شهر، ويشب في الشهر شباب السنة، فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة أنا وأبوه فقلنا: والله لا نفارقه أبداً ونحن نستطيع.
يعني: انتهت مدة الرضاعة سنتين حيث كان أهل البادية يأخذون غلمان أهل مكة إلى البادية سنتين للرضاعة؛ ويشب الغلام قوياً في ذلك الجو الصافي النقي.
ومع انتهاء السنتين تعلقت حليمة بالولد تعلقاً شديداً، وقالت هي وزوجها: والله لا نفارقه أبداً ونحن نستطيع، فلما أتينا أمه قلنا: أي ظئر! والله ما رأينا صبياً قط أعظم بركة منه، وإنا نتخوف عليه من وباء مكة وأسقامها فدعينا نرجع به حتى تبرئي من داءك، فلم نزل بها ملحين مقنعين حتى أذنت، فرجعنا به فأقمنا أشهراً ثلاثة أو أربعة، بعد هذه الأشهر الثلاثة أو الأربعة حدثت حادثة غريبة للغاية.
إني حملت به فوالله ما حملت حملاً قط كان أخف عليَّ منه، ولا أيسر منه، ثم أريت حين حملته أنه خرج مني نورٌ أضاء منه أعناق الإبل بـبصرى -قصور بصرى البعيدة عن مكة- نور عظيم أضاء أعناق الإبل بـبصرى ، ثم وضعته حين وضعته فوالله ما وقع كما يقع الصبيان، لقد وقع معتمداً بيديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء، فدعاه عنكما، فقبضته وانطلقنا. الحديث رواه ابن حبان والطبراني والبيهقي وأبو يعلى من طريق ابن إسحاق وقد صرح ابن إسحاق بالسماع في رواية السيرة، وقال الهيثمي في المجمع : رواه أبو يعلى والطبراني بنحوه، ورجاله ثقات، ولكثير من مقاطع الحديث شواهد تقويها فلعله يكون حسناً بشواهده.
وأما حادثة شق الصدر فقد جاءت من أحاديث أخرى، ومن ذلك حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال: كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهمٍ لنا ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخي اذهب فائتنا بزادٍ من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم فأقبل طيران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني إلى القفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي، فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماءٍ وثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسكينة، فذراها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة، فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفه، واجعل ألفاً من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي، أشفق أن يخر علي بعضهم -يعني هو رجح بهم وصاروا فوقه- فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا وتركاني، وفرقت فرقاً شديداً، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيته، فأشفقت علي أن يكون ألبس بي -جن تلبس بي- قالت: أعيذك بالله، فرحلت بعيراً لها فجعلتني أو فحملتني على الرحل وركبت خلفي، حتى بلغنا إلى أمي -التي هي
حادثة شق الصدر وقعت مرة أخرى في الإسراء والمعراج فكانت هذه من الصغر تمهيداً للرحلة السماوية، إعداداً أرضياً للرحلة السماوية، حادثة شق الصدر إذاً حدثت مرتين.
وهذا الحديثٌ رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإسراء، ورواه غيره أيضاً من حديث أنس : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طستٍ من ذهب بماء زمزم، ثم لئمه -الخياطة وهذه هي العملية الجراحية القديمة- ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو ممتقع اللون، قال
وهذا أيضاً يثبت قصة شق الصدر في صحيح مسلم والنبي عليه الصلاة والسلام صغير، ولما كان يلعب مع الغلمان حدث له حادثة شق الصدر، ولما كان قبل الإسراء والمعراج حدثت حادثة الشق الثانية.
ولذلك جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه.
طبعاً حاول بعض الوضاعين والكذابين أن يفتعلوا حديثاً فيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام طلب من ربه أن يحيي أمه وأباه، فأحياهما له، ثم عرض عليهما الإسلام فأسلما ثم ماتا.
وحاول الصوفية وغيرهم أن يروجوا لهذا الحديث، ولكن ينبغي أن يعلم أن الميزان عند الله ميزان العقيدة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام مع عظم مكانته لكن ما نفع أباه ولا أمه وقد ماتا على الشرك، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه أعرابي قال: (أين أبي؟ قال: في النار، فولى الأعرابي منزعجاً، فدعاه فقال: أبي وأبوك في النار) رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
معناه: أن أباه عليه الصلاة والسلام مات في الجاهلية على الشرك، فهو في النار، وأمه استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يؤذن له؛ لأنها ماتت على الشرك، ونحن عواطفنا تهفو إلى أن تكون آمنة في الجنة، وأنها آمنت وأسلمت، لكن العواطف شيء والحقائق العلمية شيءٌ آخر، فـآمنة ماتت على الشرك، والنبي عليه الصلاة والسلام لأنها أمه استأذن الله عز وجل أن يدعو الله بأن يغفر لها، فلم يقره على ذلك، ولم يأذن له به.
فهذا فيه أن مسألة العقيدة ليست واسطة، وأن الإنسان لا ينفعه إلا دينه وتوحيده، وإلا فلو كان ولده أعظم نبي فإنه لا ينفعه، فهذا ولد نوح مات كافراً، وهذا أبو إبراهيم مات كافراً، وهذه أم النبي عليه الصلاة والسلام وأبوه ماتا على الكفر، فلا مجاملات في مسألة التوحيد والشرك.
رب رد راكبي محمداً رده لي واصطنع عندي يدا |
قلت: من هذا؟ قال: عبد المطلب بن هاشم ، ذهبت إبلاً له فأرسل ابن ابنه في طلبها فاحتبس عليه ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها -يعني: من بركة النبي عليه الصلاة والسلام ما أرسل في شيء، في ضالة، في إبل تائهة، في مالٍ مفقود، إلا ووجده ورجع به- قال: فما برحت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل معه، فقال عبد المطلب : يا بني لقد حزنت عليك كالمرأة، حزناً لا يفارقني أبداً
) والحديث رواه الطبراني وغيره، وقال الهيثمي : رواه أبو يعلى والطبراني وإسناده حسن.ومن حديث جابر رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بـمر الظهران نجني الكباث فقال: عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه) وهذا النوع من الثمار لا يعرفه إلا من كان يرعى الغنم؛ لأنه من الأشياء التي تنبت في البراري وفي الأماكن التي ترعى فيها الأغنام، ولذلك قالوا له: (وكنت ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: نعم، وهل من نبي إلا رعاها؟!).
وهذا من إعداد الله للأنبياء، لأن سياسة الغنم ورعي الغنم تتطلب المحافظة عليها وصونها وحراستها عن الذئاب، وإيرادها المراعي الحسنة، والذي يتأمل يجد تشابهاً كبيراً بين رعي الغنم وسياسة الرعية يكون فيه إعداد الراعي في محافظته وحراسته، وجلب المنافع للغنم، وهذه تحتاج إلى علاج، وهذه تحلب، وهذه فيها جرب، وهذه عرجاء، وهذه ضعيفة وهزيلة، ولذلك رعاية الغنم فيها إعداد للاهتمام بالرعية والإشفاق على الرعية وحراستهم، وأن يأتي بالرعية إلى المكان الذي فيه فائدة لها، ويحرس الرعية عن كل ضار، وفيه تعليم وتحمل المسئولية.
إذاً، كان فتيان مكة ، يسمرون على خمر وعلى فواحش، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذهب ليرى سمرهم وهو صغير قبل البعثة، انشغل بحفلة زفاف والتهى بها حتى نام، والمرة الثانية نفس الشيء دخل مكة فحفلة زفاف دخل بها فالتهى بها، ولم يذهب إلى حيث يذهب فتيان مكة ، ولم يكن يتعاطى ما كانوا يتعاطون ويفعل ما كانوا يفعلون.
أولاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان مكتوباً عندهم في الكتب المتقدمة، وأن بحيرا الراهب عرفه بسيماه وذهب بنفسه ودخل بينهم حتى رأى الغلام قال: هذا رسول الله يعني: في المستقبل.
وأن سجود الشجر والحجر استرعى انتباه الراهب لما جاءت القافلة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
ودفاع بحيرا الراهب عن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء جنود الروم وقد عرفوا أنه سيخرج في هذا الشهر، وسيكون في هذا الطريق وسيأتيهم في هذا المكان، فدافع عنه حتى ردهم.
نقول: أولاً القصة عرفنا ماذا قيل في ثبوتها، لكن لنقل أنها ثابتة، هل يمكن لغلام التقى بهذا الراهب مدة وجيزة جداً أن يتعلم منه قرآناً كاملاً يحفظه ويسكت عنه، لا يعرف له أثر حتى يبلغ أربعين سنة ثم يقسطه عليهم على ثلاثة وعشرين سنة؟!
وهل كان الراهب سيعلم بحديث قصة خولة بنت ثعلبة مع زوجها أوس بن الصامت قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] قبل حصول الظهار وقبل حصول حادثة خولة بنت ثعلبة بأكثر من أربعين سنة يعلمها بحيرا الراهب يقولها له في قرآن كامل يحفظه منه في فترة وجيزة، التقى به فيها لما اطلع قال: أروني غلامكم، ويحفظه القرآن ثم يسكت عنه أربعين سنة ما يجيب آية واحدة ثم يقول: اقرأ .. سنعلم عند ذلك أن هذا الكلام الذي قالوه هراء، ولكنهم قالوه من عداوتهم للمؤمنين قالوا: هذا القرآن كله من بحيرا الراهب.
ويعرف طبعاً بحيرا الراهب قصة بدر وأنهم سينتصرون، ويعرف قصة أحد وأنهم سينهزمون، ويعرف الأحزاب وأن بني قريظة والمنافقين سيتحالفون، ويعرف قصة وقصة وقصة، طبعاً هذا الهراء لا يمكن أن يصدقه أحد.
وحلف الفضول كما قال محمد بن إسحاق: وتداعت قبائل من قريش إلى حلفٍ فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو عبد المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة، فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه هذه خلاصة حلف الفضول- وكانوا على من ظلمه حتى يردوا عليه مظلمته، فسمت قريشاً ذلك الحلف حلف الفضول.
وحديث: (شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحب أن لي حمر النعم وأني أمكثه) رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وقال الهيثمي : رجال حديث عبد الرحمن بن عوف رجال الصحيح.
فهذه أبرز الأحداث التي كانت في طفولة النبي صلى الله عليه وسلم من ولادته، وقلنا: كيف أن الله سبحانه وتعالى قيظ الأحداث التي ركز فيها على مكان ولادته وسنة ولادته، وكيف كان الغلام مباركاً لأول أمره كما دلت على ذلك قصة حليمة ، وكيف أن الله رعى نبيه من الصغر، ووقعت حادثة شق الصدر لإعداده للمستقبل، ونزع من قلبه حظ الشيطان منه، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم صار في كفالة جده بعد أمه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر