يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! إن الله تعالى يخوف عباده، ويرسل عليهم ما يشاء من جنده؛ لعلهم يئوبون إليه ويرجعون، قال الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء:59] وقال عز وجل: وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً [الإسراء:60]، وقال تعالى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126] وقال: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام:43] وقال: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ [الإسراء:68] وقال: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام:65] قال مجاهد رحمه الله: " الصيحة والحجارة والريح (أو من تحت أرجلكم) قال: الرجفة والخسف، وهي عذاب أهل التكذيب "، وعن مجاهد قال: " عذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة " إسناده صحيح.
فالله عز وجل أهلك أقواماً من قبلنا بالرجفة كما أهلك قوم شعيب: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف:78].. وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [الأعراف:155] أخذتهم الرجفة؛ لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم، ولم ينهوهم عن عبادة العجل، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده، كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات، والحوادث لها أسبابٌ وحكم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك.
عن صفية بنت أبي عبيد قالت: [زلزلت الأرض على عهد
وقد تكلم أهل العلم هل للزلازل صلاةٌ تخصها عند حدوثها؟
فقال الشافعي رحمه الله: آمر بالصلاة منفردين، ويستحب أن يصلي منفرداً ويدعو لئلا يكون غافلاً، وكذلك سائر الآيات كالصواعق والريح الشديدة.
وقال أحمد رحمه الله: يصلي للزلزلة الدائمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الكسوف بأنه آيةٌ يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة الواحدة فلا تبقى مدةً تتسع للصلاة.
وعن جعفر بن برقان قال: " كتب إلينا عمر بن عبد العزيز في زلزلة كانت بـالشام أن اخرجوا يوم الإثنين من شهر كذا وكذا، ومن استطاع منكم أن يخرج صدقةً فليفعل، فإن الله تعالى قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15] " سنده حسن.
عباد الله! إن من أشراط الساعة كثرة الزلازل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل) رواه أحمد والبخاري عن أبي هريرة مرفوعاً.
وقال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (يا
وهذه الزلازل من حِكَم الله تعالى، فإذا وقعت بالمسلمين فإنها من الرحمة بهم، بالإضافة لما فيها من التخويف والتذكير، والعقوبة للعصاة، قال عليه الصلاة والسلام: (أمتي هذه أمةٌ مرحومة، عذابها في الدنيا: الفتن والزلازل والقتل والبلايا) رواه أبو داود ، وهو حديثٌ صحيح.
وقال عز وجل مذكراً بذلك اليوم: إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً [الواقعة:4-5] ورج الأرض: زلزلتها، وقال تعالى مذكراً بيوم الدين في سورةٍ عظيمة من السور: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا [الزلزلة:1-3] (إذا زلزلت الأرض زلزالها) أي: تحركت من أسفلها، (وأخرجت الأرض أثقالها) أي: ألقت ما فيها من الموتى، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1] وكقوله: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ [الانشقاق:3-4].
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقيئ الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة) تتقيأ تقيئاً وتخرج ما في بطنها ( تقيئ الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوان ) جمع اسطوانة، عبر عن ذلك لكثرة الشيء الذي يخرج من الذهب والفضة، مثل الاسطوان تلقيه الأرض على ظهرها، من الذهب والفضة، مما فيها: وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا [الزلزلة:3] استنكر أمرها بعد أن كانت قارةً ساكنةً ثابتة، وهو مستقرٌ على ظهرها، فتقلبت الحال، فصارت متحركةً مضطربة، قد جاءها من أمر الله ما قد أُعد لها من الزلزال الذي لا محيد لها عنه.
ثبات الأرض نعمة من الله.
يا أيها الناس! الذين تمشون عليها ساكنين آمنين مطمئنين، اذكروا أن ثبات الأرض واستقرارها نعمة من الله، فهو الذي أرساها، وهو الذي ثبتها، فيذكر عباده ببعض الزلازل بهذه النعمة، ولذلك يستغرب الإنسان يوم القيامة، ما يحدث للأرض بعد أن كانت ثابتةً قارةً ساكنة؟!
a= 6006141>يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا[الزلزلة:4] عن أبي هريرة قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ أو أَمَّة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها) إذاً: الأرض ستخبر بما عملنا عليها، وذلك بما أوحى الله إليها وأمرها، ويقول لها: قولي فتقول.
: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:5] فتخرج ما في بطنها وتحدِّث بما أمرها الله به، عندما يقول لها: قولي فتقول.
فإذاً تأمل يا عبد الله! وتفكر في هذه القضية، وهي أن الأرض ستخبر بما عملت عليها في جميع الأماكن علت أو نزلت، ستخبر الأرض بما عملت عليها يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً [الزلزلة:6] أي: فرقاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6]، فيجازون عليها من خيرٍ أو شر: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] قال: [ذلك لما نزلت هذه الآية: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان:8] كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه، فيجيء المسكين إلى أبوابهم، فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجوزة، ونحو ذلك، فيردونه ويقولون: ما هذا بشيء، إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه، أي: نؤجر على الكثير، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير، الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك، يقولون: إنما وعد الله النار أهل الكبائر، فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه، فإنه يوشك أن يكثر، وحذرهم اليسير من الشر فإن يوشك أن يكثر، فنزلت: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7]].
ذرة: أي: وزن أصغر النمل، فمن يعمل مثقال ذرة من خيرٍ فإنه يراه حاضراً يوم القيامة، ومن يعمل مثقال ذرةٍ من الشر يجده حاضراً أمامه يوم القيامة، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:30].
عباد الله! بماذا تذكرنا الزلازل؟ بهذا اليوم، فلمثل هذا اليوم اعدوا يا إخواني!
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يؤدي إلى أهل الحقوق حقوقهم، وأن يتجاوز عنا بمنه وكرمه وفضله، وأن يرحمنا برحمته وعفوه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ) فقد ذكر بعض أهل العلم في معناه: أن أهل الجاهلية كانوا يتلاعبون بالأشهر الحرم، فإذا طال عليهم توالى ثلاثة أشهر حُرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم لا يقاتلون فيها أنفسهم، شق ذلك عليهم وثقل وأرادوا القتال، فماذا يفعلون بمحرم؟ يقدمونه، يؤخرونه، ويستعملونه في القتال، ويحرمون صفر مكانه، ويتلاعبون في الأشهر الحرم، فيقدمون ويؤخرون، ويزيدون وينقصون، ويحلون ما أرادوا تحليله ويحرمون بدلاً منه، إلى أن جاء الإسلام فوافق حجة الوداع رجوع التحريم إلى محرم الحقيقي، ورجع كل شهرٍ إلى حقيقته التي خلق الله عليها السماوات والأرض، وصارت المطابقة بين الواقع وبين ما قدره الله وشرعه، في تلك الحجة -حجة الوداع- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ).
أما قوله: (ورجب مضر) فإن مضر: حيٌ من أحياء العرب وقبيلة من قبائلهم، أضاف رجب إليهم؛ لأنهم كانوا أشد العرب تعظيماً له، وسميت الأشهر الحرم لعظم حرمتها، وحرمة الذنب فيها، ولذلك قال الله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36] وكان القتال محرماً على المسلمين في الأشهر الحرم في أول الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك وأمر بقتال المشركين في أي زمان وفي أي مكان، وهذا قول جمهور أهل العلم، ونص على نسخه الإمام أحمد رحمه الله وغيره.
ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله مقعداً هذه القاعدة العظيمة: الزمان ثلاثة أنواع: أولاً: يوماً لم تعظمه الشريعة أصلاً، ولم يكن له ذكرٌ في السلف ، ولم تحدث فيه حادثة معينة.
فتعظيمه وتخصيصه بعبادة أو زينة أو احتفال بدعةٌ شنيعة، كأول خميس من رجب ليلة الجمعة التي يصلون فيها صلاةً يسمونها صلاة الرغائب، ويومٌ في وسط رجب فيه صلاة يزعمون أنها صلاة أم داود، وكل ذلك بدعةٌ منكرة، وتخصيص بعض الأيام بصيام وليلها بقيام من بين سائر الليالي والأيام لا يكون ذلك، فينبغي أن يصام منه كأي شهرٍ آخر، مثل أيام البيض والإثنين والخميس، أو صيام يوم وإفطار يوم ونحو ذلك.
ثانياً: ما جرت فيه حادثة معينة لم تجر في غيره، ولكن هذا الجريان لهذه الحادثة لا يوجب أن تجعل موسماً، ولا تجعل عيداً ولا تُعظم، كخطبة النبي صلى الله عليه وسلم في غدير خم ، أو المولد، فيوم المولد حدث فيه حدثٌ معين، وهو ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا اليوم ولا الحدث يوجب أن نحتفل به أو نخصصه بعبادةٍ معينة من بين سائر أيام العام، وقد حدث للنبي صلى الله عليه وسلم خطبٌ وعهودٌ ووقائع ومعارك في أيام كثيرة لم يحتفل بها الصحابة، ولم يخصصوها بعبادةٍ معينة.
ثالثاً: ما هو معظمٌ في الشريعة، كيوم عاشوراء، ويوم عرفة، والعشر الأواخر من رمضان، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وليلة الجمعة ويومها، والعشر الأُول من محرم، ونحو ذلك، فهذه يقتصر فيها على ما فعله السلف ، ولا يحدث فيه أشياء جديدة، وإنما يقتصر على ما ورد عن السلف من الاجتهاد فيها بالعبادة، طول القيام، الصيام، فيما ورد فيه ذلك، والحمد لله.
وهكذا تكونون أمةً وسطاً، لا إفراط ولا تفريط ولا غلو، وإنما العبادة وفق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف من بعدهم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من القائمين بالملة الحنيفية، وأن يجعلنا من المستقيمين على السنة النبوية، وأن يجعلنا من العاملين بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الشريعة السمحة.
اللهم اغفر لمن مات من المسلمين من الموحدين يا رب العالمين، اللهم ارحم موتى المسلمين الذين ماتوا في هذه المصيبة، اللهم خفف عن المصابين مصابهم، اللهم واشف مرضى المسلمين مما أصابهم، اللهم إنَّا نسألك أن تجعل ما أصاب الموحدين من المسلمين كفارةً ورفعةً لهم في الدنيا والآخرة يا رب العلمين.
اللهم آمنا في البلاد، وأرشد الأئمة ولاة أمور العباد، وانشر رحمتك على العباد يا رب العالمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله الجليل العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر