أيها الإخوة: إن موضوع الخلق من الموضوعات الإسلامية المهمة التي عليها يدور نجاح حياة المسلم، فكيف ينجح العالم في وظيفته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الزوج في حياته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الداعية في حياته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الأخ مع إخوانه إذا لم يكن على خلق؟
فالأخلاق عليها مدار نجاح الإنسان في هذه الحياة، حتى قال بعض العلماء: إن الدين كله هو الخلق، ونحن نعيش أزمة أخلاق في واقعنا، سواءً على مستوى العلاقات الزوجية، أو المصلين في المساجد، أو الطلاب والمدرسين، أو الموظف والمراجعين، أو الجار وجيرانه، بل بين طلبة العلم والعلماء والأقران، وهذا مما يؤكد أهمية طرق هذا الموضوع.
وحيث أن عدداً من الدروس في هذه الإجازة لها اتجاه علمي صرفٌ في المصطلح، أو التفسير وعلوم القرآن، أو أصول الفقه أو الفرائض أو اللغة ونحو ذلك، فإنني أجد أن الحديث عن موضوع الخلق من الموضوعات التي لا تقل أهميةً أبداً عن تلك المواضيع ، ولعلنا -إن شاء الله- سنكون مع مجموعة من الدروس في هذه الإجازة نقضي كل ليلة مع خلق من الأخلاق الإسلامية الحسنة، نبين فيه مكانة هذا الخلق في الإسلام وأدلته ومعناه، وشيئاً من تطبيقاته في الواقع.
وأقول: إن الموضوع مهم للغاية وأكثر مما قد يتصور البعض، وبعض الأخلاق لها جوانب فقهية وتتعلق بها أحكام، كما لو طرق -مثلاً- موضوع العدل فإنك ستلاحظ فيه أحكاماً في العدل بين الأولاد، والعدل بين الزوجات ونحو ذلك.
وقال ابن حجر -رحمه الله- في شرح كتاب الأدب من صحيح البخاري قال الراغب : الخَلق والخُلق في الأصل بمعنى واحد، كالشَرب والشُرب، لكن خُص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلق الذي بالضم بالتقوى والسجايا المدركة بالبصيرة، فالشكل والصورة التي تدرك بالبصر تسمى خَلْقاً، والسجايا والطبائع التي تدرك بالبصيرة تسمى خُلقاً.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في المفهم : الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال: أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل: العفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، والشفقة، والتوادد، ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك: أي: ضد الأخلاق المحمودة، كالكذب والغش والقسوة ونحوها من الأخلاق الرديئة، وسيكون مدار الدروس في هذه الإجازة -إن شاء الله- عن الأخلاق الحسنة.
ومما يؤيد أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف : تضمين علمائهم هذه الجوانب فيما كتبوه من أصول أهل السنة والجماعة ، كـالعقيدة الواسطية والطحاوية وغيرها، ومن أمثلة ذلك: قول الإمام الصابوني في تقريره لعقيدة السلف : ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام على اختلاف الحالات، وإفشاء السلام وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف، والسعي في الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمدار في فعل الخيرات أجمع، واتقاء عاقبة الطمع، ويتواصون بالحق والصبر.
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العقيدة الواسطية لما ذكر معتقد أهل السنة والجماعة قال: ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً -وشبك بين أصابعه-) وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضى بِمُرِّ القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر، والخيلاء، والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها.
إذاً: هذا هو المنهج الشامل للسلف الصالح -رحمهم الله- أهل السنة والجماعة بجانبيه العقدي والأخلاقي، وبقدر ما يحصل من النقص في أحدهما يكون النقص في الالتزام بهذا المنهج العظيم، ولذلك يمكن أن يوجد في الواقع طلبة علم جيدون من جهة العقيدة والتفسير ومصطلح الحديث وأصول الفقه واللغة العربية ونحو ذلك، لكنهم في جانب الأخلاق ليسوا بذاك، فلا شك أن في هؤلاء نقصاً بحسب ما نقص من أخلاقهم.
وموضوع الأخلاق موضوع خطير؛ لأنه يمكن أن يقدم بحسن الأخلاق منهج مسموم، كما يمكن أن يعرض الناس بسوء الخلق عن المنهج السليم.
فالخلق أطلق على الدين كله، وهو ما كان يأمر به صلى الله عليه وسلم من أمر الله وينهى عنه من نهي الله، والمعنى: إنك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن.
ولذلك جاء في الصحيحين : أن سعد بن هشام سأل عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: [كان خلقه القرآن] فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئاً. أي: لقد كفتني هذه العبارة البليغة الموجزة، حتى هممت أن أقوم ولا أسألها شيئاً.
وأصول الأخلاق مجموعة في قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
[الأعراف:199] فليس هناك في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، فهي أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فهذه الآية أرشدت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، ويقبل الاعتذار، ويعفو ويتساهل مع الناس، ويترك الاستقصاء والبحث والتفتيش عن أحوالهم، وكذلك يأخذ ما عفا من أموالهم وهو الفاضل، مثل قوله تعالى:
وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ
[البقرة:219] قال الله:
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
[الأعراف:199] أي: إذا سفه عليك الجاهل فلا تخاطبه بالسفه، كما قال تعالى:
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً
[الفرقان:63].
وقال أنس رضي الله عنه: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً وقال: ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي قط: أفٍ، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟] متفق عليه.
والبر: حسن الخلق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن الخلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وفسر حسن الخلق بأنه البر؛ فدل على أن حسن الخلق طمأنينة النفس والقلب.
وهذا الأمر هو الذي يدرك به الإنسان درجات العبادة الكبار، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) رواه أبو داود ، وهو حديث صحيح، وأبشر يا صاحب حسن الخلق ببيت في أعلى الجنة، فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) رواه الطبراني وإسناده صحيح، فالبيت العلوي جزاءٌ لأعلى المقامات الثلاثة وهي حسن الخلق.
وصاحب الخلق الحسن أقرب الناس مجلساً من النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) رواه الترمذي، وهو حديث صحيح.
فهذا الخلق الحسن أثقل شيء في ميزان العبد؛ لأن الأعمال توزن يوم القيامة وزناً حقيقياً ترجح الكفة بها، وأثقل شيء في الميزان الخلق الحسن، وهي وصيته صلى الله عليه وسلم للمؤمن في معاملة الناس حين قال: (وخالق الناس بخلق حسن).
وكذلك فإن أعظم نعم الله على العبد حسن الخلق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من خلق حسن) وكذلك فإن بعثته عليه الصلاة والسلام إنما هي لإتمام صالح الأخلاق، كما ذكر صلى الله عليه وسلم، وهي وصيته للصحابي لما قال له: (عليك بحسن الخلق) وهي الميزان الذي تقاس به الخيرية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (خياركم أحاسنكم أخلاقاً) ومن كان سهلاً هيناً ليناً حرَّمه الله على النار، وهذا دليل على أن من أسباب الوقاية من النار حسن الخلق.
ومن أسباب تجاوز الله عن العبد يوم القيامة حسن الخلق، فإن حذيفة رضي الله عنه قال: (أُتي الله بعبدٍ من عباده آتاه الله مالاً فقال: ماذا عملت في الدنيا قال: يا رب آتيتني مالاً فكنت أتجاوز على الموسر وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي) فقال عقبة بن عامر الجهني وأبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعناه من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
وحسن الخلق هو الذي لفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذا تقدم إليك من يخطب ابنتك فقال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) وفي رواية: (خلقهُ ودينه) فهذا هو الشيء الذي ينظر منه إلى الخاطب.
وحكمة الله البالغة اقتضت أن يجعل في البشر أخلاقاً عالية، وكذلك أخلاقاً سافلة، وعند المقارنة يظهر حسن هذا وقبح ذاك؛ لأن الضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تعرف الأشياء ، فلولا الظلام ما عرفت فضيلة النور، ولولا أنواع البلايا ما عرفت قيمة العافية، ولولا خلق الشياطين والهوى والنفس الأمارة بالسوء لما حصلت عبودية الصبر والمجاهدة وترتب الأجر والجنة عليهما.
إذاً: عندنا محاسن الأخلاق ومساوئ الأخلاق، فإذا قلت: محاسن الأخلاق مثل: الصدق، والأمانة، والوفاء، والإيثار، والكرم، والعفة، وكظم الغيظ، والتواضع، والإخلاص، والعدل، وغير ذلك؛ فإنك إذا قارنتها بغيرها تتبين جمال هذه الأخلاق، وضدها مثل: الكذب، والنفاق، والغدر، والخيانة، والبخل، والرياء، والكبر، والعجب، والمفاخرة، والحسد، والطمع، والحقد، والظلم، وغير ذلك من الأخلاق.
وكما أن حسن الخلق منجاة ونجاح، فسوء الخلق ضياع ودمار، ولا بد إذاً من الالتزام والتمسك بهذه الأخلاق الحسنة.
وكما كنا قد ذكرنا سابقاً في موضوع الآداب الشرعية شيئاً من المنظومات التي نظمها بعض أهل العلم في الآداب، فإننا سنذكر -إن شاء الله- في هذا الدرس شيئاً من المنظومات التي نظمها أهل العلم في الأخلاق.
ابن الوردي
رحمه الله تعالى:أبو الفتح البستي
رحمه الله تعالى، يقول في مطلعها :حسانها
والطبع صائغها إن لم يصغها قريع الشعرحسَّانُ
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في مسألة التخلص من الأخلاق الرديئة: اعلم أن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها، وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عملوا عليها ولم يظفر أكثرهم بتبديلها ... ثم قال: ونقدم مثلاً: نهر جارٍ في صببه ومنحدره، ومنتهٍ إلى تغريق أرض وعمران ودور، وأصحابه يعلمون أنه لا ينتهي هذا النهر حتى يخرب دورهم ويتلف أراضيهم، فانقسموا ثلاث فرق: فرقةٌ صرفت قواها وقوى أعمالها إلى سَكْره وحبسه وإيقافه، وقالوا: أحسن شيء أن نقفل النهر ونغلقه من أساسه، فلم تصنع هذه الفرقة كبير أمرٍ، فإنه يوشك أن يجتمع ثم يحمل على السكر الذي وضعوه للإغلاق، فيكون إفساده وتخريبه أعظم.
والفرقة الثانية: رأت هذه الحالة وعلمت أنه لا يغني عنها شيئاً، فقالت: لا خلاص من محذوره إلا من قطعه من أصل الينبوع، فرامت قطعه من أصله، فتعذر ذلك غاية التعذر، وأبت الطبيعة النهرية عليهم ذلك أشد الإباء، فهم دائماً في قطع الينبوع، وكلما سدوه من موضع نبع من موضع، فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزرع والعمارة وغرس الأشجار، فإذاً لا الإغلاق نفع ولا سده من أصله نفع.
فجاءت فرقةٌ ثالثة خالفت رأي الفريقين، وعلموا أنهم قد ضاع عليهم كثير من مصالحهم؛ فأخذوا في صرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى العمران، فصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضررون، فصرفوه إلى أرض قابلةٍ للنبات وسقوها به.
فإذا تبين هذا المثل؛ فالله سبحانه قد اقتضت حكمته أن ركَّب الإنسان على طبيعةٍ محمولة على قوتين: غضبية وشهوانية، وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق الناس وصفاتها.
وعلاجها: إما بتر الخلق من أصله وهذا غير ممكن، والحل هو تحويل هذا الخلق السيئ إلى مجرى خير، فلو كان عند الإنسان حسد -مثلاً- فليصرفه في المنافسة على الخير (لا حسد إلا في اثنتين) صاحب القرآن وصاحب المال الذي ينفقه في الخير ويهلكه في الخير، ويحرص على التنافس مع أهل الخير كما قال الله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ
[المطففين:26] ولو كان الإنسان فيه خيلاء فليختل على العدو في المعركة؛ لأن هذا النوع من الخيلاء مسموح به، وأيضاً لو أن إنساناً يعاني من الكذب، فإنه يصرفه إلى الكذب على العدو، والكذب للإصلاح بين المتخاصمين، وكذلك ما يكون بين الزوجين، كأن يقول: ما ذقت ألذ من هذا الطبخ! وهو قد ذاق ألذ منه، فإن هذا مسموح به بين الزوجين.
فإذاً: الإنسان الذي يريد سد النهر فإن الطبيعة النهرية تأبى ذلك، فأفضل حل هو أن يغير مجرى الخلق من الاتجاه السيئ إلى الاتجاه الحسن، وأن يروض نفسه، ولاشك أن الجبلة قابلة للتغيير، ولا يمكن أن نقول: إن الإنسان لا يمكنه التغيير، بل إنه يمكنه ذلك قطعاً، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتصبر يصبره الله) فمعلوم أن الحلم والصبر من الأخلاق، فلم يقل: إذا لم يكن عندك حلم فلن تكون حليماً أبداً، وإذا لم يكن عندك صبر فلن تصبر أبداً، وإنما قال: (والحلم بالتحلم) أي: إذا تكلفت الحلم حتى تتعود عليه صار ذلك طبيعةً لك وسجية، وكذلك الصبر إذا تصبرت فستصبح صبوراً.
فالصبر يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى، والعفة تجنب الإنسان الرذائل والقبائح، والشجاعة تحمل على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق، والعدل الذي يحمل على الاعتدال والتوسط.
هذه الأخلاق الفاضلة الأربعة هي رءوس الأخلاق، كما أن الأخلاق السافلة مبناها على أربعة أخلاق: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب.
فالجهل يري الإنسان الحسن قبيحاً، والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، والشهوة تحمله على الحرص والشح والبخل والرذائل والفواحش والدناءات، والغضب يولد الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه، ولذلك لابد من مراقبة هذه الأخلاق الدنيئة؛ حتى يتخلص الإنسان منها ولا يقع فيها؛ لأننا إذا عرفنا الأصل عرفنا كيف نتعامل.
وكذلك فإن المجاهدة من الأمور التي تعين الإنسان على اكتساب الأخلاق الحسنة، وكذلك فإننا نتوقع أن التدرج سيكون نافعاً في عملية تغيير الأخلاق؛ لأن من الصعب على الإنسان أن يقفز قفزة واحدة من خلق سيء إلى خلق حسن.
وكذلك من الأمور المهمة -وهذه النقطة تعيننا في مسألة ترك المثاليات-: أن بعض الناس يظن أنه يمكنه بسهولة أن يكتسب الخلق، والحقيقة أن القضية تحتاج إلى مجاهدة، والمجاهدة تبنى على المحاسبة، ويحتاج الإنسان إلى إخوان يوجهونه ويبينون له، وإلاّ فكيف سيكتشف عيب نفسه إذا لم يكن حوله من يقول له: فيك خلق سيء ويحتاج إلى تقويم، فأمر حسن أن يكون حول الإنسان من يرشده وينصحه.
وكذلك من الأمور المهمة في اكتساب الأخلاق الحسنة: أن يتطلع الإنسان إلى المعالي ويرفع نفسه إليها؛ لأن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها.
كذلك الإبدال: فإن الإنسان إذا استقام فإن البخل يتحول إلى كرم، والدياثة تتحول إلى غيرة، والكبر يتحول إلى تواضع، والوقاحة تتحول إلى حياء، وهذا مجرب عند بعض الذين يهديهم الله سبحانه وتعالى، فتتغير أخلاقهم فعلاً، فالهداية منبع التغير في الأخلاق.
ثم إن قراءة سير الصالحين من الأنبياء والعلماء الذين هم القدوة الحسنة خير معين على اكتساب الأخلاق الحسنة، فهذا الإمام أبو إسحاق الشيرازي -رحمه الله- يقول عنه الذهبي : الشيخ الإمام القدوة المجتهد، شيخ الإسلام أبو إسحاق الشيرازي، قال السمعاني : هو إمام الشافعية ومدرس النظامية وشيخ العصر، جاءته الدنيا صاغرة فأباها، واقتصر على خشونة العيش أيام حياته، كان زاهداً ورعاً متواضعاً طريفاً كريماً جواداً، طلق الوجه، دائم البشر، مليح المحاورة، وهذا الذي أكسبه محبة الناس وإقبال الطلاب عليه، ومن أمثلة ما حدث له مع بعضهم: قال خطيب الموصل : حدثني أبي قال: توجهت من الموصل سنة أربعمائة وتسعة وخمسين إلى أبي إسحاق ، فلما حضرت عنده رحب بي وقال: من أين أنت؟ فقلت: من الموصل . قال: مرحباً! أنت بلديي -أي: أنه هو وإياه من بلد واحد- قلت: يا سيدنا! أنت من فيروز آباد فكيف تقول لي: أنت بلديي؟! فقال: أما جمعتنا سفينة نوح؟! فشاهدت من حسن أخلاقه ولطافته وزهده ما حبب إلي لزومه، فصحبته إلى أن مات.
إذاً: مصاحبة أصحاب الأخلاق الحسنة يحمل الإنسان فعلاً على أن يتخلق بهذه الأخلاق الحسنة.
وقراءة كتب الترغيب والترهيب لبعض الأحاديث والآيات والنصوص ترغب في أخلاق حسنة، وبعضها ترهب من أخلاق سيئة، مثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضىً يوم القيامة) فمثل هذه النصوص تأمُّلها مهم جداً في اكتساب الأخلاق الحسنة، ولاشك أن مشوار التربية الذي يقطعه الإنسان في عمره في النتيجة النهائية هو الذي يصوغ أخلاقهم، والذي يجعلها تتحول إلى الأخلاق الحسنة.
كانت هذه مقدمة عن الأخلاق، وتعريف الأخلاق وأهميتها.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر