أما بعد:
فيا عباد الله! يكون المرء مسلماً، ويولد في الإسلام، ويعيش بين المسلمين، وربما يكون ضالاً فيهديه الله عز وجل، فيغشى دور العبادة، ويصحب الأخيار، ويأتي الطاعات، وينتهي عن كثير من المحرمات، وربما شرع في طلب العلم، ولكن يبقى في نفسه من آثار الجاهلية ما يبقى، يدخل في الإسلام لكن دخولاً ليس بالكلي، فتبقى معه آثار من آثار الجاهلية، وبعضهم تظهر في نفسه بعد حين من الزمن من تلك المورثات الأولى التي كان عليها أيام ضلاله، ويدخل بعضهم في الهداية، ولكن يبقى فيه من لوثات المجتمع الفاسد الذي كان فيه، أو مما ورثه عن بعض أهله وعادات آبائه وأجداده مما يخالف شريعة الإسلام، وهذا عيب كبير أن نكون مسلمين ولكن فينا من لوثات الجاهلية، وأن تظهر علينا علامات الهداية وسمت الإسلام والتمسك بالسنة، ولكن فيها رذاذ يصيبنا من الجاهلية.
لقد جاء الله بالإسلام، فمحا الجاهلية، وتتبعت الشريعة كل أمر من أمور الجاهلية القبيحة لتنسفه وتحرمه، وتعظ الناس به، قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] يذكّر النساء المسلمات بالبقاء في البيوت فلا يخرجن لغير حاجة شرعية، كالصلاة في المسجد بشرطها، أو حاجة دنيوية لا أن يخرجن من غير حاجة.
وقال تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية، وقال قتادة : إذا خرجن من بيوتهن كانت لهن مشية وتكسر وتغنج، فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال مقاتل في تبرج الجاهلية: أن تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله، وربما كشف النحر وما على النحر من الحلي نتيجة عدم شد الخمار، هذا من تبرج الجاهلية، فذكر الله النساء المسلمات بترك ذلك فقال: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] لا يريد الشارع أن تبقى عند المرأة المسلمة خصلة من تلك الخصال الذميمة من العهد السابق، وعن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189].
لقد كانوا -أيها الإخوة- يدعون الإنسان لمن تبناه، فيأتي إنسان يتبنى شخصاً له أب معروف، فيلغي اسم أبيه، وينسبه إلى نفسه، أو له أب غير معروف فيعطيه اسماً يضيفه إليه، وينسبه إلى نفسه؛ عن عائشة رضي الله عنها أن أبا حذيفة ، وكان ممن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالماً ، وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد ، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً ، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5].
لكن لا تجوز النسبة لغير أبيه الحقيقي، وإن لم يعرف فلا ينسب إلى شخص ليس بولده فيرث ظلماً مع أولاده من تركته، وربما كشف كذلك على بنات هذا الرجل، بحجة أنه ولد من أولاده وليس كذلك، فجاءت الشريعة بتحطيم هذه العادة الجاهلية، وأنزل الله في كتابه آية يبين فيها تحريم ذلك، وتغير اسم زيد بن محمد إلى زيد بن حارثة ، ورجع إلى اسمه الأصلي، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب زوجة زيد ، وكان من أكبر العيوب في الجاهلية، أن يتزوج الإنسان زوجة ابنه بالتبني، فكان تحطيمها بتزويج زينب للنبي عليه الصلاة والسلام، لإزالة تلك العادة الجاهلية، ونسخ ذلك، وعندما كان يدخل الشخص في الإسلام كان يمحو من نفسه عادات الجاهلية، ويقاوم نفسه التي تريد العودة إلى الطبع الأول، وربما غلب شيء أو جهل الإنسان شيئاً -والجاهلية من الجهل- فخرج منه أمر يكرهه الشارع، فيعاتب عليه وينبه إليه، كما حصل لـأبي ذر رضي الله عنه، فروى المعرور بن سويد ، عن أبي ذر قال: رأيت عليه برداً وعلى غلامه برداً، فقلت -أي: لـأبي ذر :- لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة، وأعطيته ثوباً آخر، فيوافق ما عليك ويكتمل الطقم، فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها، فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (أساببت فلاناً؟ قلت: نعم، قال: أفنلت من أمه؟ قلت: نعم، قال: إنك امرؤٌ فيك جاهلية، قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن، قال: نعم) رواه البخاري وفي رواية مسلم : (نعم.. على حال ساعتك من الكبر).
فـأبو ذر رضي الله عنه لعله كان يجهل ذلك، واستغرب كيف فاتت عليه مع كبر سنه، فأكد له عليه الصلاة والسلام أنها من الجاهلية وإن غفل عنها، ثم أوصاه فقال: (هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولايكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه، فليعنه عليه) رواه البخاري ، وفي رواية: (إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله وعليه وسلم، فقال: يا
حصل بينه وبين إنسان سوء تفاهم، فعيره بأمه، وفي رواية أنه قال له: يا بن السوداء، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنك امرؤٌ فيك جاهلي) أي: خصلة من خصال الجاهلية، وهكذا قالها عليه الصلاة والسلام صريحة، وأبو ذر من هو؟ من أصدق الناس لهجة، وأتقاهم لله تعالى، لكن ظهر منه في لحظة من ضعف مكنونٌ من مكنونات الجاهلية، التي كانت قد ترسبت في الباطن عبر السنوات الطويلة التي عاشها في الجاهلية، ظهرت على حين غفلة وغضب، فعاتبه عليه الصلاة والسلام، وبيَّن له ذلك، لأن الإسلام لا يريد أن ترجع أمور الجاهلية، ولا أن تبرز أمور الجاهلية، بل يريدها نقية، يريد شخصية إسلامية سوية طاهرة ليس فيها من الأمر الأول شيء.
وقال عليه الصلاة والسلام ذلك في القصة المشهورة التي رواها جابر رضي الله عنه قال: (غزونا من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ساب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين لعاب فكسع أنصارياً، أي: ضربه على القفا يمزح، وكان ذلك عيب عند أولئك، فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها خبيثة) رواه البخاري . (ما بال دعوى الجاهلية) أي: كيف ظهرت بينكم؟ كيف رجعتم إلى الاستنصار بالقبيلة والجماعة، وتتعادون، ويتحزب لكل إنسان جماعته وفرقته، ويتفرقون ويقتتلون؟ هذه دعوى الجاهلية، كيف ظهرت بينكم؟
ما بال دعوى الجاهلية، ترجعون إليها بعد أن هداكم الله؟! مع أنهم رفعوا شعارات إسلامية، فقال هذا: يا للمهاجرين! وقال هذا: يا للأنصار! والمهاجرون والأنصار اسمان إسلاميان، هؤلاء هاجروا إلى الله ورسوله، وهؤلاء نصروا الله ورسوله، ولكن مع ذلك لم يرض بها عليه الصلاة والسلام، لأنها على طريقة الجاهلية في التحزب والتعصب والتقاتل، وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) وقال: (أربع من الجاهلية لا يترك) وستبقى الأمة مبتلاة بهن، ستبقى هذه الأربع موجودة وحية في هذه الأمة مع أن هذه الأربع من أمور الجاهلية (الفخر بالأحساب) يفتخرون تعالياً وتكبراً كل إنسان بأصله وقبيلته (والطعن في الأنساب) فيذم ويطعن ويشتم في نسب الشخص الآخر (والاستقاء بالنجوم، والنياحة) قال (والنائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران أو درع من جرب).
فهذه أمور الجاهلية، حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنها لا تزال تسري في الأمة، لكي ننتبه لها، ولا نقع فيها، بالرغم من أننا مسلمون، ولكن قد يرجع شخص إلى الطبع الأول، وإلى هذه السيئة التي تسري في الأمة.
وقال عليه الصلاة والسلام في قوم من العرب، والعرب كانوا مشهورين بالفخر بالآباء، وكانوا يتطاولون على بعضهم في ذلك، وينشدون الأشعار في الفخر، ويؤدي ما يؤدي إليه من احتقار الخلق والبغي والحرب بينهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس قسمان؛ أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من جنهم، أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن) .
عُبِّية الجاهلية: فخرها، ونخوتها، وتكبرها، أذهبه الله.. محاه الله.. حرمه الله، ولم يبق الناس يتفاضلون إلا بالإيمان والتقوى، ليدعن هذا الفخر بالآباء مع أن الآباء جاهليون كفرة؛ من فحم جهنم، لكن كان لا يزال هناك من يفتخر بآبائه وأجداده، وإذا لم يترك هذا سيكون عند الله أهون من الجعلان، وهي تلك الدويبة السوداء التي تدير الخراءة بأنفها، صوَّر عليه الصلاة والسلام هذا الفخر بأقبح صورة لحشرة تدفع بأنفها العذرة، هكذا قال عليه الصلاة والسلام محارباً هذه الرذيلة التي ربما تظهر في الأمة.
ولما جاءه رجل ممثلاً عن امرأة ضربت بطن الأخرى فأسقطت جنينها، فالنبي عليه الصلاة والسلام قضى بالدية على عصبة القاتلة، فقال الرجل: تغرمني من لا نطق وأكل، ولا شرب واستهل، فمثل ذلك يطل، أي: يبطل دمه وليس له حق، فقال صلى الله عليه وسلم (سجع كسجع الأعراب؟!) أي: رجعتم إلى الكهان، وإلى منطقهم، وشابهتموهم في السجع، وكان الكهان يسجعون، وقضى بالغرة عبد أو أمة مقابل الجنين الذي سقط، وهي عشر الدية، ورفض منطق الجاهلية، بل إنه عليه الصلاة والسلام، كان يغير الأسماء الجاهلية، ليمحو آثار الجاهلية، وقال أحد أولاد الصحابة: كان اسم أبي في الجاهلية عزيزٌ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، العزيز الصلب، ولعله كره له هذه الصفة لأن المؤمن هين لين، فسماه عبد الرحمن، وكذلك قال بشير ابن الخصاصية رضي الله عنه: أنه كان يماشي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر قصته وفيها تغير اسمه إلى بشير ، وكان الصحابة يقاومون الأسماء الجاهلية، فهذا ابن عباس رضي عنه، قال: (من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر ، ولا تقولوا الحطيم ، فإن الرجل في الجاهلية كان يحلف، فيلقي سوطه أو نعله أو قوسه) رواه البخاري .
هذا الحجر: المنطقة غير المبنية من الكعبة، كان أهل الجاهلية يسمونه الحطيم ، وكانت أصنامهم فيه، وكان الشخص إذا أراد أن يحلف مد عصاً إلى هذه الأصنام الموجودة في الحطيم ليحلف ويسمونه بالحطيم ، فنهى ابن عباس عن تسميته بالحطيم وسماه الحجر ، وهو الاسم الإسلامي المتعارف عليه هكذا، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم تحرجوا من أشياء كانت في الجاهلية، فتحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة ؛ لأن أصنام الجاهلية كانت عليها، وأهل الجاهلية كانوا يطوفون بها، حتى أنزل الله تعالى قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] وأزيلت الأصنام، ورجعنا إلى طريقة أمنا هاجر ، وتلك الذكرى العطرة.
وكان الصحابة قد تحرجوا أيضاً من التجارة في الحج، لأنها كانت من عادات الجاهلية، فكيف يخلطون الدنيا بالآخرة، وقال ابن عباس رضي الله عنه: [كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] في مواسم الحج] رواه البخاري .
هكذا إذاً أيها الأخوة، هكذا كانت تسير الأمور، وهكذا المحو لعادات الجاهلية، والإنكار والإباء أن تبرز صفة جاهلية بين المسلمين، فكانوا يريدونها نقية، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحيينا على الإسلام، ويميتنا على الإيمان، ويجنبنا الجاهلية أقوالاً وأفعالاً، إنه سميع مجيب قريب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله! كيف يكون ظهور الجاهلية بين أقوام من أهل الدين؟ يكون ذلك بمثل هذه العصبيات التي حذر منها النبي صلى الله وعليه وسلم، فيتعصب الناس لأقوال ولمذاهب مثلاً كما كان أهل الجاهلية يتعصبون لقبائلهم ويتعصبون لأنسابهم، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أمور من السنة المتنوعة، قال: ومنها أنواع تكبيرات العيدين، يجوز وكلٌ مأثور، ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع والتخميس والتسبيع، وإن اختار، أي: من اختار التكبير أربعاً، ثم تكلم عن التعصب للمذاهب، والأخذ بقول ومحاربة الأقوال الأخرى وبعضها صحيح، قال: حتى صار الأمر بأتباعهم، أي: أتباع المذاهب، إلى نوع جاهلية، فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية جاهلية، مع أن الجميع حسن، قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالاً بإفراد الإقامة، وأمر أبا محذورة بشفعها، فلو أذن مؤذن على أذان أبي محذورة ، فلا ينكر عليه لثبوت ذلك، ومن تعصب لقول واحد مع أن القول الآخر صحيح، وعادى ووالى من أجل ذلك؛ فهو من أهل الجاهلية.
وكذلك لما تلكم -رحمه الله- في مسألة البسملة في الصلاة، وذكر عن أقوال أهل العلم في إثبات كونها آية من القرآن، وفي قراءتها أقوال ذكرها، ثم ذكر أن بعض الناس من هذه الأمة، قد تفرقوا في ذلك، ورفعوا الألوية إظهاراً لشعار الفرقة، مع أن المسألة سهلة وواسعة، ولا تحتاج إلى هذه العصبية مطلقاً.
إذاً فيمكن أن يحصل تعصب لأقوال من أناس يزعمون التدين، مع أن الكل صحيح مادام أنه قد ثبت بالأدلة.
إننا أيها الإخوة! قد تظهر فيها أشياء من هذه الجاهلية، فنتعصب للقريب على البعيد، ويرجع الواحد إلى شعار الجاهلية فمثل: (أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على البعيد) أليس شعاراً جاهلياً؟ ومع هذا فإنهم يفعلونه، ألسنا نحتقر أحياناً أشخاصاً من جنسيات أو بلدان مع أنهم من المسلمين، فنستهزئ بهم، ونذكر ما يسمى بالنكات أو الطرائف عنهم، احتقاراً لهم؟ أو نقول لشخص فيه شيء من السذاجة: (عقليته عقلية كذا) ونحو ذلك؟
أليس فينا مفاخرة؟ أليس فينا مباهاة؟ ألسنا قد ندخل في الدين ونظهر سمات الاهتداء، ثم ننكشف في معاملة من المعاملات المالية، مع أن الشريعة حرمتها فنفعلها؟ وقد نشهد لشخص زوراً في محكمة؟
ألسنا قد نعتدي على المال العام، فنأخذ منه، بحجج مزيفة؟ ونعتدي على حقوق النشر والطبع المحفوظة للآخرين، وربما قال بعضنا: هذا للكفار، وهل كل أموال الكفار مباحة، أم أموال الكفار الحربيين هي المستباحة؟ فنعتدي بحجج واهية، أليس الواحد منا إذا صار في مكان أو وظيفة مهمة، ربما استكبر ومدح فاسقاً، وتعالى على الخلق وظلم، وربما هو يظهر شيئاً من علامات الدين؟
أليس يوجد فينا إسراف، وتبذير وبذخ في تصميم بيوتنا وتزويقها وجمع التحف فيها، ثم نحن نظهر التدين، والدين يقضي ألا إسراف وأن الله لا يحب المسرفين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تزويق البيوت؟
أليس أيها الأخوة ربما ظهر بذاءة في كلامنا؟ بل ربما ظهرت في كلامنا منكر كحلف بغير الله، مع أننا نقول: إننا من أهل التوحيد، وهذا مثال قد حدث على عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فكيف كانوا يتتبعون هذا الأمر؟
عن سعد رضي الله عنه قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت؛ كلهم قاموا عليَّ في المجلس -لأنه قال كلمة باطلة مع أنه ما قصد ذلك، ولكن مما كان تعود عليه في السابق سنين طويلة يتلفظ بها في الجاهلية، فخرجت الآن- وقالوا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأتيته فأخبرته، فقال لي: (قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات، وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له) رواه النسائي رحمه الله، فهكذا إذاً على أخيهم يعاونون وينبهون، وهكذا يجب أن يكون حالنا أيها الإخوة.
أليس فينا أحياناً خصال من عدم التنازل، وعدم العفو، وعدم المسامحة مع أن الدين يقتضي المسامحة؟ ونصرُّ ونركب في رءوسنا جاهلية جهلاء في ألا نكسر كلمتنا، ولا نتنازل لإخواننا المسلمين، ويظن الواحد بالجاهلية أنه إذا تنازل لن يعود رجلاً، وأن رجولته قد نقصت، أليس كذلك يحدث بيننا أيها الإخوة؟ وهكذا وهكذا من الأشياء الكثيرة مما نرثه أحياناً من عادات أهلينا السيئة، بل إن النساء أيضاً حتى لو احتجبت وسلكت سبيلاً كثيراً طيباً من الدين، فإنه يظهر عليها أحياناً من ذلك، فتقول: هذه لم تزرني فلا أزورها، وهذه دعوتها فلم تجبني والآن دعتني فلا أجيبها، هكذا نتعامل مع أننا ينبغي علينا أن نرجع إلى الدين الحنيف، وأن نتخلص من سائر هذه العصبيات، وهذه الترهات من أمور الجاهلية.
فهذه تذكرة والذكرى تنفع المؤمنين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيدنا إلى صوابنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً يرزقنا اجتنابه، وأن يقيمنا على الملة السمحاء، وأن يرزقنا التمسك بالعروة الوثقى، وأن يخرج من أنفسنا أمور الجاهلية، إنه سميع مجيب قريب.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واعل كلمة الدين، وانصر أهل السنة يا رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر