وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فحديثنا -أيها الإخوة- عن علمٍ عظيمٍ من أعلام المسلمين، وشيخٍ مبجل، ومحدِّثٍ كبيرٍ، وهو من كبار الحفاظ الذي وصفه الإمام الذهبي رحمه الله تعالى بقوله: "الإمام الناقد المجوِّد، سيد الحفاظ"، وهذا الشيخ الجليل هو: عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى.
أما نسبه: فهو: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري -وقيل: الأزدي مولاهم- البصري اللؤلؤي، ويُكَنَّى بـأبي سعيد رحمه الله تعالى.
ولد سنة: [135هـ] كما قال الإمام أحمد رحمه الله.
ونشأ في بيت متواضع، فلم يكن أبوه مهدي من العلماء إطلاقاً، بل ربما لم يكن شخصاً صاحب عقل، وسنأتي على قصةٍ له تبين ذلك، بل كان رجلاً عامياً بمعنى الكلمة، ولكنه خرج من صلبه -والله يصطفي من خلقه من يشاء، ويخرج من يشاء ممن يشاء- هذا الرجل العامي إمامٌ عظيمٌ من أئمة المسلمين، وهو عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله.
وكَوْن بيت هذا الرجل ليس ببيت علم، ثم يخرج منه هذا العالم؛ فإنه يدل على نبوغه وعصاميته في طلب العلم.
قال أبو عامر العقدي: "كنت سبباً في طلب عبد الرحمن بن مهدي للحديث، فقد كان يتبع القُصَّاص، فقلت له: لا يحصل في يدك من هؤلاء شيء".
أي: لن يفيدك القُصَّاص؛ لأنه لا هم لهم إلا تحديث الناس بما هب ودب من غير تأكد ولا تثبت، والمهم عندهم أن يُغْرِبوا على العامة، ويأتون لهم بالطرف، وأن تشدَّ إليهم الأبصار، وتُفتح لهم الأسماع ولو أتوا بالأعاجيب، فكان يعجبه شأنهم منذ الصغر، ولكن لما نصحه أبو عامر رحمه الله، وقال له: لا يحصل في يدك من هؤلاء شيء، التفت إلى الحديث، وتمييز صحيحه من سقيمه، وطلبه على أصوله، فصار علماً مبرزاً.
وسمع عبد الرحمن بن مهدي من سفيان الثوري ، وهو من أجِلَّة شيوخه، سمع منه سنة: (152هـ)، و(153هـ)، و(154هـ)، و(155هـ)، و(156هـ).
فقال عبيد الله العنبري : دعوه، وكيف هو؟ يستفهم من هذا الحدث -الغلام- يقول: ما هو الصحيح؟
فأخبرته.
فقال: صدقت يا غلام، إذاً أرجع إلى قولك وأنا صاغر.
وهذا الرجوع إلى الحق من تواضع العلماء رحمهم الله، ولو جاء من غلام صغير، ولو كان أمام الناس، وهذه وإن كان ظاهرها الحط من شأن هذا الكبير، لكنها في الحقيقة ذِكْرٌ وشَرَفٌ، فإن الإنسان يعظم في نفوس الناس؛ إذا رجع إلى الحق، وإن كانت المسألة في ظاهرها جهلٌ منه في هذه المسألة، أو نقص، لكن يطغى على هذا النقص رجوعه إلى الحق.
وصحب عبد الرحمن بن مهدي شيخه سفيان وحج معه سنة: (159هـ) ثم رجع إلى البصرة (160هـ)، فمات سفيان الثوري في دار عبد الرحمن بن مهدي ، أي: مات الشيخ في دار التلميذ.
فقال: أحفظ حديثاً.
وهذا سِيْقَ مساق المبالغة، وإن لم تُرَد الحقيقة، فإنه لا شيء أعظم من أن يغفر الله الذنب، ولكن حفظ الحديث أيضاً -إذا صحت النية فيه- من الأسباب العظيمة لمغفرة الذنوب، ورفع القدر والدرجة عند الله تعالى.
قال علي بن المديني رحمه الله: ستةٌ كادت تذهب عقولهم عند المذاكرة - أي: من شدة شهوتهم للحديث- وهم:
1- يحيى .
2- وعبد الرحمن بن مهدي.
3- ووكيع بن الجراح.
5- وأبو داود.
6- وعبد الرزاق.
1- المثنى.
2- سعيد.
3- أبو خلدة.
4- يزيد بن أبي صالح.
5- داود بن قيس.
6- جرير بن حازم، وغيرهم رحمهم الله.
وسمع من:
1- عمر بن أبي زائدة.
2- هشام بن أبي عبد الله التستوائي.
3- إسماعيل بن مسلم العبدي، قاضي جزيرة قيس.
4- سفيان ، وهو من أجِلَّة شيوخه.
5- شعبة ، وهو كذلك أيضاً.
6- عكرمة بن عمار .
7- عمران القطان .
8- يونس بن أبي إسحاق .
9- عمار بن سلمة .
10- مالك بن أنس .
11- عبد العزيز بن الماجشون .
12- وغيرهم من الأئمة الأعلام.
وحدَّث عن عبد الرحمن بن مهدي عدد من الأَجِلاَّء، ومنهم:
1- ابن المبارك .
2- ابن وهب .
وهما من شيوخه لكنهما حدثا عنه.
وحدَّث عنه كذلك:
3- علي بن المديني .
4- يحيى بن سعيد القطان .
5- أحمد بن حنبل .
6- إسحاق بن راهويه.
7- ابن أبي شيبة.
8- بندار .
9- أبو خيثمة .
10- القواريري .
- وعدد من العلماء.
حتى قالوا: وخلفٌ يتعذر حصرهم، الذين حدثوا عن عبد الرحمن بن مهدي.
وسئل الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي -وكانا قرينين، شيخا أهل البصرة- ووكيع ، مَن الأعلَم منهم؟
قال: كان عبد الرحمن أكثرهم حديثاً.
وقال الإمام أحمد: "هو أفقه من يحيى القطان ، وهو أثبت من وكيع؛ لأنه أقرب عهداً بالكتاب، اختلفا في نحوٍ من خمسين حديثاً للثوري، فنظرنا، فإذا عامة الصواب مع عبد الرحمن.
فقال في قصة في ضبطه: حدثنا عبد الرحمن، أخبرنا أبو زرعة ، قال: سمعت نوح بن حبيب يقول: حضرنا عبد الرحمن بن مهدي ، فحدَّثَنا عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى في قوله عز وجل: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7] حديث في هذه الآية.
إذاً عبد الرحمن بن مهدي يقول: عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى ، وساق الحديث، مَن شيخ عبد الرحمن بن مهدي؟ سفيان، ومن شيخ سفيان؟ منصور، ومن هو شيخ منصور ؟ أبو الضحى .
فقال رجلٌ حضر معنا: يا أبا سعيد -أي: عبد الرحمن بن مهدي- حدثنا يحيى بن سعيد -أي: القطان- عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى. يعني: يحيى بن سعيد القطان روى لنا الحديث وخالفك، أنت تقول: عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى ، ويحيى بن سعيد القطان يقول: عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى ، فجعل بدلاً مِن منصور أبا سفيان في السند.
فسكت عبد الرحمن بن مهدي إجلالاً وتواضعاً، فهو لا يريد أن يخطئ يحيى بن سعيد القطان .
وقال له آخر في المجلس نفسه: يا أبا سعيد! حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى ، فـوكيع أيضاً خالفك، وروى السند مثلما رواه يحيى بن سعيد.
قال: فسكت، وقال: حافظان. أي: يحيى بن سعيد القطان ، ووكيع، ثم قال: دعوه، يعني: دعوا هذا الأثر، دعوا هذا الحديث.
قال الراوي: ثم أتوا يحيى بن سعيد هؤلاء الطلبة خرجوا من مجلس عبد الرحمن بن مهدي وذهبوا إلى يحيى بن سعيد، فأخبروه أن عبد الرحمن بن مهدي حدَّث بهذا الحديث، عن الثوري، عن منصور، عن أبي الضحى ، فأُخْبِر أنك تخالفه، ويخالفه وكيع.
فأمسك عنه، وقال: حافظان.
قال: فدخل يحيى بن سعيد ، ففتش كتبه وخرج، وقال: هو كما قال عبد الرحمن عن سفيان، عن منصور، فالذي ضبط هو ابن مهدي .
قال الراوي: فأُخْبِر وكيع بقصة عبد الرحمن، والحديث، وقوله: حافظان.
فقال وكيع : عافى الله أبا سعيد ، لا ينبغي أن يُقْبَلَ الكذب علينا، ثم نظر وكيع وراجع كتبه، فقال: هو كما قال عبد الرحمن ، اجعلوه عن منصور، وعدِّلوه.
وقال: عبد الرحمن ثقة، خيار، صالح، مسلم، من معادن الصدق.
وقال جرير الرازي: "ما رأيت مثل عبد الرحمن بن مهدي ، ووصف عنه بصراً بالحديث وحفظاً".
وقال علي بن المديني: "كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس"، قالها مراراً.
وقال مرةً: "أعلم الناس بالحديث ابن مهدي"، والذي يشهد له: علي بن المديني ، وهو من كبار العلماء والنقاد.
وقال أيضاً: "لو حلفت بين الركن والمقام أني لم أر أعلم من ابن مهدي، لصدقتُ".
وقال أيضاً: "كان يحيى بن سعيد أعلم بالرجال، وكان عبد الرحمن أعلم بالحديث، وما شبَّهتُ علم عبد الرحمن بالحديث إلا بالسحر".
وقال أيضاً: كان علم عبد الرحمن في الحديث كالسحر.
وقال الشافعي: "لا أعرف له نظيراً في هذا الشأن".
وقيل لـأبي نعيم: "أيُّما أحب إليك: عبد الرحمن بن مهدي عن مالك؟ أم روح بن عبادة عن مالك؟
فقال: عبد الرحمن إمام وهو أحب إلي من كل أحد".
فقيل له: إن عبد الرحمن عَرَض على مالك ، وروح بن عبادة سمعه لفظاً.
وهذه المسألة تعود إلى طرق الرواية:
- أعلى طريقة للرواية طريقة السماع: أن يسمع الطالب من فم الشيخ، فيحفظه، أو يكتبه، ويقول: سمعت، وحدثنا، وحدثني، هذه أعلى مرتبة وهي مرتبة السماع.
- المرتبة الثانية: العَرْض: أن الشيخ يُعْرَض عليه الحديث من قبل أحد الطلبة، ويُقرأ عليه والشيخ يقر، فيقول الطالب: أخبرنا، ولا يقول سمعتُ، لأن الشيخ ما تكلم، الذي قرأ -الآن- هو الطالب والشيخ يُقِر، فالطالب يقول: أخبركم فلان، أو حدثكم فلان، ويذكر أحاديث الشيخ، والشيخ يسمع ويُقِر، هذه الطريقة اسمها: طريقة العرض، أدنى من مرتبة السماع عند كثير من المحدِّثين.
فلما سئل أبو نعيم : حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك عندك أحسن، أو روح بن عبادة عن مالك؟
فقال: عبد الرحمن إمام، وهو أحب إلي من كل أحد.
فقيل له: إن عبد الرحمن عَرَض على مالك، أي: عبد الرحمن أخذ حديث مالك بطريقة العَرْض، وروح بن عبادة سمعه لفظاً بطريقة السماع، والسماع أعلى من العرض.
فقال أبو نعيم : عَرْض عبد الرحمن أجل وأحب إلينا من سماع غيره، مع أن السماع مرتبة أعلى من العَرْض.
وقال محمد بن أبي بكر المقدمي: "ما رأيت أتقن لما سَمِعَ ولما لم يَسْمَع لحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي، إمام ثبتٌ، أثبتُ الناس في يحيى بن سعيد ، وأتقن من وكيع ، كان قد عَرَضَ حديثه على سفيان".
وقال ابن حبان: "كان في الحفَّاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين، ممن حفظ وجمع وتفقَّه وصنَّف وحدَّث".
وقال يزيد بن هارون: "وقعت بين أسدين: عبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى القطان" كأنه يقول: لا أستطيع أن أفضل أحدهما على الآخر، وأنهما متقاربان ومتساويان وقرينان، ولا أرجح أحداً على الآخر.
وقال الخطيب البغدادي عن عبد الرحمن بن مهدي: "كان من الربانيين في العلم، وأحد المذكورين بالحفظ، وممن برع في معرفة الأثر، وطُرق الروايات، وأحوال الشيوخ".
وقال الذهبي فيه: "الحافظ الكبير، والإمام العَلَم الشهير".
وقال أبو نعيم في الحلية: "الإمام الرضي، والزمام القوي، ناقد الآثار، وحافظ الأخبار".
وقال ابن ناصر الدين: عبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد الحافظ المشهور، والإمام المنشور، كان فقيهاً مفتياً، عظيم الشأن، وهو فيما ذكره أحمد : أفقه من يحيى القطان، وأثبت من وكيع في الأبواب".
ولا شك أن مما ساعده على تبوء هذه المكانة أن شيخه سفيان الثوري ، فحديثه عن سفيان نفعه جداً، لأنه لازم سفياناً، ولازم مالكاً كذلك.
قال نعيم بن حماد: "قلت لـعبد الرحمن بن مهدي: كيف تعرف صحيح الحديث من غيره؟
قال: كما يعرف الطبيبُ المجنونَ".
كأنه يقول: كما أن المجنون لا يخفى على العادي فضلاً عن الطبيب، فكذلك الحديث الصحيح لا يخفى عليَّ من غيره، فأنا أميزه تمييزاً واضحاً، كما أن الطبيب يميز المجنون من غيره، أو ربما من المحتمل أنه إذا قصد بالمجنون المصروع، فإن الطبيب يعرف من حركات المصروع أنه مصروع، وقد يخفى على غيره، فكأنه يقول أنا أميز الأشياء الخفية كما يميز الطبيبُ المصروعَ، وربما لا يعرف شأنه إلا الطبيب.
ولذلك يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "معرفة الحديث إلهام".
قال ابن نمير : صَدَقَ، لو قلتَ: من أين؟ لم يكن له جواب، يعني: أحياناً الحديث المعلول لا يستطيع أن يقول لك الناقد إن سبب الضعف، أو العلة كذا، لكن يتكون عنده مع مرور الزمن، وطول الوقت حس وشعور خفي يدرك به أن هذا صحيح، وأن هذا معلول بحيث لو قلت له: ما هو سبب الضعف؟ لا يوجد راوي معين ضعيف يقول لك فيه مثلاً: فلان ضعيف، أو فلان كذاب، أو ما فيه انقطاع واضح حتى يقول لك: هذا الحديث الحسن عن عمر فيه انقطاع، ما هناك شيء مميز وواضح حتى يقوله لك عن سبب الضعف، لكن يوجد علة خفية، فالحافظ أو الناقد يعرف بحسه هذه العلةَ حتى من خفائها أنه لا يستطيع أن يشرحها لغيره بالخبرة، ومثلوا له بمثال، وهذا المثال ورد في قصة لـعبد الرحمن بن مهدي.
قال علي بن المديني: أخذ عبد الرحمن بن مهدي على رجل من أهل البصرة حديثاً لا أسميه حديثاً، قال: فغضب له جماعة؛ لأن عبد الرحمن بن مهدي انتقده على هذا الحديث كيف يأتي به، فجاء هؤلاء البصريون أصحاب الرجل الذي حدَّث بالحديث والذي لا يثبت عند عبد الرحمن بن مهدي، وقالوا له: يا أبا سعيد! من أين قلت هذا في صاحبنا؟ بيِّن سبب ضعف الحديث الذي تدَّعي أن صاحبنا أخطأ.
قال: فغضب عبد الرحمن بن مهدي، وقال: أرأيتم لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال: هو بَهْرَج، يقول له: من أين قلت لي: إنه بهرج؟!
طبعاً الدنانير كانت تصنع من الذهب في الماضي والدراهم من الفضة، وكان هناك في سوق الذهب نُقَّاد أو صيارفة خبراء في الذهب، لو أعطيته دينار الذهب يقول لك: هذا صافٍ، أو مغشوش، أو مزيف بدون فحص كيميائي، ولا مختبري، ولا مكبرات، إنما بالخبرة، فهم عائلةٌ صاغَةٌ، أخذ هذا العلم في الصياغة عن أبيه عن جده، عائلة فيها هذا من كثرة الممارسة للصياغة والنظر في الدنانير، والوزن باليد، والصوت.. ونحو ذلك، فبالخبرة والنظر يعرف الصائغ المحترف أن هذا مزيَّف أو نقي، فشبهوا ذلك بعلم العلل الخفية، وبعض المحدثين يعلمون العلل بدون أسباب واضحة، لكن بالخبرة والحس التي تكون مع الزمن، والاشتغال وطول الممارسة، هؤلاء الصاغة يعرفون الدنانير الصحيحة من المزيفة بمجرد النظر أحياناً، فقال لهم لَمَّا قالوا: هات، بيِّن لنا سبب ضعف حديث صاحبنا البصري، فغضب عبد الرحمن بن مهدي، وقال: أرأيتم لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال: هو بَهْرَج -مزيف- يقول له: من أين قلت لي: إنه بهرج؟! الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم، تعال اشتغل في الحديث عشرين سنة مثلما أنا اشتغلت، ثم تميز مثلي.
وهذا بطبيعة الحال شيءٌ يستقر في نفوس كبار الحفاظ والنقاد والمحدثين، فيعرفون بعض الأحاديث بالخبرة.
ولذلك قال عبد الرحمن بن مهدي: "معرفة الحديث إلهام"، أي: شيء يقذفه الله في نفس الشخص، ومع الخبرة والممارسة يكون له بصيرة فيه.
ونقد الدراهم والدنانير التي يعرفها هؤلاء الصاغة من غير فحصٍ، بل يعرفونها بالمعاينة، وكذلك يميز أهل الحديث وبعض النقاد وبعض العلماء من المحدثين بعلم يخلقه الله في قلوبهم بعد طول الممارسة للحديث والاعتناء به. وعبد الرحمن بن مهدي واحد من هؤلاء قطعاً.
قال علي بن المديني : قدمتُ الكوفة ، فعُنِيْتُ بحديث الأعمش -أي: جعلت أتتبع حديث الأعمش حديثاً حديثاً، أيُّ واحدٍ عنده حديث عن الأعمش، أذهب إليه وأسمعه منه- فجمعتها -أي: جمعت أحاديث الأعمش- حتى ظننت أني قد استكملت أحاديث الأعمش ، فلما قدمتُ البصرة ، لقيتُ عبد الرحمن -أي: ابن مهدي، شيخه- فسلمت عليه، فقال: هات يا علي ما عندك.
فقلت: لا أحد يفيدني عن الأعمش شيئاً، يقول لشيخه عبد الرحمن بن مهدي بكل ثقة من كثرة جمعه لأحاديث الأعمش : أنا وصلت إلى مرتبة لا أحد يفيدني في أحاديث الأعمش شيئاً، أي شيء ستقوله لي قد سمعته، جمعته وانتهيت، لا جديد يؤتى إليَّ من أحاديث الأعمش.
قال: فغضب عبد الرحمن بن مهدي -وهذه تربية الشيخ للتلميذ- وقال: أهذا كلام أهل العلم؟! أن يقول الرجل: انتهى العلم، وختمتُ العلم الفلاني، ولا أحد يستطيع أن يفيديني شيئاً؟! ومَن يضبط العلم، ومَن يحيط به؟! مثلك يتكلم بهذا؟
قلت: نعم.
قال: اكتب.
قلت: ذاكرني فلعله عندي، أي: أعطني طرف الحديث شفوياً، فربما يكون عندي فلا أحتاج إلى أن أكتب وأخرج الكرَّاس والأقلام.
قال: اكتب، لستُ أملي عليك إلا ما ليس عندك.
قال: فأملى عليَّ ثلاثين حديثاً من أحاديث الأعمش لم أسمع منها حديثاً.
ولذلك ورد في الرواية الأخرى، قال: فجعلتُ أتعجب من معرفته بما ليس عندي، مع أنه لم يسرد عليه أحاديث الأعمش التي عنده، فأملى عليَّ ثلاثين حديثاً لم أسمع منها حديثاً.
ثم قال: لا تعد.
قلت: لا أعود.
وهذا تربية من عبد الرحمن بن مهدي لـعلي بن المديني.
قال علي بن المديني: وكان سليمان من أعلم أصحابنا بالحج، فشهد له فعلاً بعلمه التام بالمناسك.
قال: فذهبنا فدخلنا عليه، وسلَّمنا وجلسنا بين يديه.
فقال: هاتا ما عندكما، أظنك يا سليمان صاحب الخطة، والمؤامرة، وأنك حِكْتَ شيئاً قبل الإتيان إلى المجلس، يعني: من فراسة عبد الرحمن بن المهدي رحمه الله أنه عرف من عيني سليمان أنه جاء لتِحَدٍّ لشيء ما.
قال سليمان معترفاً: نعم، لا أحد يفيدنا في الحج شيئاً، ما يمكن أن تجد لي حديثاً أو أثراً لا أعرفه في مسألة من مسائل الحج.
قال علي بن المديني: فأقبل عليه بمثل ما أقبل عليَّ، أي: تعنيفاً وتوبيخاً.
ثم قال: يا سليمان! ما تقول في رجل قضى المناسك كلها إلا الطواف بالبيت فوقع على أهله؟ أي: جامع زوجته قبل الطواف.
فاندفع سليمان ، فروى حديث (يتفرقان حيث اجتمعا، ويجتمعان حيث تفرقا) هذه المسألة لم يثبت فيها حديث صحيح مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن ورد حديث ضعيف، وهناك فتاوى عن الصحابة، وجاءت آثار عن عبد الله بن عمرو ، وعن عمر ، وعن غيرهما في أن الرجل إذا جامع زوجته في الحج، يفرَّق بينه وبين زوجته، وتذهب مع رفقة مأمونة إلى حيث ينتهي الحج، ثم يأخذ زوجته.
إذا جامع قبل عرفة ، يفسد الحج، ويفرَّق بينهما، ويكملان الحجة الفاسدة، ثم يأتيان بحجة بدلاً منها صحيحة من العام القادم مع ذبح بدنة، وإذا جاء في العام القادم ليحج الحجة الجديدة، حصل خلاف بين أهل العلم هل يفرَّق بينهما، أو لا، وإذا فُرِّق بينهما من أين؟ ومتى؟ حتى لا يحدث ما حدث في العام الذي قبله، هل يفرَّق بينهما من حين الإحرام؟ أو يفرَّق بينهما عند الموضع الذي جامعها فيه في الحجة الماضية؟ فلو كان مثلاً جامعها بعد فجر يوم عيد الأضحى، هل نقول لهما: أنتما معاً إلى أن تصلا إلى منى يوم العاشر فنفرقكما عن بعضكما، وتجتمعا بعد ذلك إذا انتهيتما؟ وهل تكون التفرقة في المكان الذي جامعها فيه.
مثلاً: وصل إلى منى ، نقول: أنت جامعتها الحجة الماضية في منى ، الآن وصلت إلى منى ، فانفصل عنها؟ هل يكون التفريق في المكان، أو في الوقت؟ إذا جاء إلى نفس الوقت الذي كان قد أتى به في تلك الحَجَّة، يفرق بينهما؟
المسألة فيها كلام طويل.
قال: فاندفع سليمان فروى (يتفرقان حيث اجتمعا، ويجتمعان حيث تفرقا).
فقال عبد الرحمن بن مهدي لـسليمان : اروِ، هات نص الآثر، ومتى يجتمعان؟ ومتى يتفرقان؟ قال: أنت تقول الآن: (يتفرقان حيث اجتمعا، ويجتمعان حيث تفرقا) وحيث ممكن للمكان وممكن للزمان، يقول: فصِّل، هات التفريق في الزمان، وهات التفريق في المكان، وهات من روى بهذا من الصحابة ومن التابعين، ومَن الذي رُوِيَت عنه آثار التفريق في المكان والزمان والخلاف في الروايات.
قال: فسكت سليمان .
فقال: اكتب.
وأقبل يُلقي عليه المسائل ويملي عليه حتى كتبنا ثلاثين مسألة، في كل مسألة يروي الحديث والحديثَين، ويقول: سألت مالكاً ، وسألت سفيان ، وعبيد الله بن الحسن.
قال: فلما قمتُ، قال: لا تَعُد ثانياً تقول مثلما قلتَ.
فقمنا وخرجنا، قال علي بن المديني : فأقبل عليَّ سليمان ، وقال: لماذا خرج علينا من صلب مهدي هذا؟ ومهدي هو أبو عبد الرحمن ، قال: لماذا أنجب هذا؟ لماذا طلع علينا من الأب هذا؟ كأنه كان قاعداً معهم، سمعتُ مالكاً وسفيان وعبيد الله، يتعجبون من حفظه.
أقول تعليقاً على القصة الماضية:
عندما يكون عند الطالب شيخ مربٍّ، وليس فقط يلقي معلومات تخرج نماذج جيدة، ولذلك عبد الرحمن بن مهدي يُخرج علي بن المديني ، مثل: علي بن المديني يخرج البخاري ، ولم يكن أولئك العلماء مجرد مثقِّفين ومحفِّظين، ويلقوا المعلومات، كانت هناك تربية، يعني: قضية الوعظ والتعنيف والتوبيخ على ما يبدر من الطالب من اعتداد بالنفس، أو ثقة زائدة فيما عنده، أو يظن أنه حصَّل العلم وختمه ولم يعد هناك شيء زائد، ويُلام ويقرَّع، ويُثبَت له بالدليل من الشيخ أن عنده نقصاً، وأنه ما استكمل، هذا يربي عند الطالب ويؤسس في نفسه التواضع للعلم ولأهل العلم، وأنه لا يمكن أن يظن يوماً واحداً أنه ختم العلم، فمن ظن أنه قد علم، فقد جهل، ولذلك يقولون: "كلما ازددنا علماً، ازددنا جهلاً" فكلما اكتشفنا أن هناك أشياء وأشياء ما اطلعنا عليها، وهناك أشياء ستأتي بالتأكيد لم نطلع عليها، فنكتشف جهلنا بأنفسنا بمزيد من الاطلاع على العلم.
ولذلك ذو العقل يشقى بعقله، ولكن أخا الجهالة مُكَيِّف، يظن أنه على شيء.
ولذلك -الآن- تعرض مسائل في مَجالس العامة، بعضهم بأدنى سبب وبأدنى مناسبة يتكلم ويفتي، وهو لم يطلع على فتاوى أهل العلم، ولا على خلاف العلماء، ولا على الأدلة، ولا على ما صح، ولا على ما ضعف، يتكلمون ويهيمون ويسرحون، وطالب العلم تأتي إليه المشكلات والأشياء العويصة، ويتوقف عندها، ويحار فيها، ويسلِّم بعجزه وتقصيره أحياناً، وتخفى عليه أشياء، فيَعرف هذا الشخص قيمته.
وثانياً: أن الشيخ الذي يربي لا بد أن يكون عنده ما يربي، ويكون عنده تفوق :-
لأن القضية ليست أنه فقط يقول: لا تظن نفسك علمت، ثم لا يستطيع أن يقنعه بأنه جاهل وعنده نقص، أو أن عنده ما ليس عنده، فعند ذلك عندما يكون هذا العالم عنده ما يميزه عن الطالب.. عنده محفوظات كثيرة يستطيع أن يقنع الطالب بعد ذلك أنه يحتاج لمزيد من التعلم، وأنه لا زال في الطريق أو في أوله.
يقول القواريري : أملى عليَّ ابن مهدي عشرين ألف حديث حفظاً.
وقد بلغ من تبجيل العلماء له أن حدَّث عنه ابن المبارك ، وابن وهب، وهما من شيوخه.
وأخذ عنه سفيان حديثاً، قال عبد الرحمن بن مهدي : سمع سفيان الثوري مني حديثاً، فكتبه، فكون عبد الرحمن بن مهدي يكون عنده حديثاً ليس عند الثوري هذه لمفردها منقبة عظيمة.
وقال ابن مهدي : ربما كنت أماشي عبد الله بن المبارك ، فأذاكره بالحديث، فيقول: لا تبرح -قف! انتظر- حتى أكتبه، ويكتب الشيخ عن التلميذ -يكتب عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن مهدي- فهذه منقبة لـعبد الرحمن بن مهدي ، وتواضع من ابن المبارك ، وتواضع يتعلمه الطالب من الشيخ.
وقال خالد بن خداش : كنت عند حماد أنا وخويل ، فجاء عبد الرحمن بن مهدي ، فجلس، ثم قام وانصرف، فقال حماد: هذا من الذين لو أدركهم أيوب لأكرمهم، وأيوب من كبار العلماء والمحدثين.
وقال حماد بن زيد : لئن عاش عبد الرحمن بن مهدي ليخرجن رجل أهل البصرة ، فكأنه قال: سيخرج عالماً بصرياً نفتخر به على سائر البلدان، ونقول: هذا عين أهل البصرة، رجل أهلالبصرة خرج منها، نستغني به عن غيره، أو أنه يقول: إنه سيكون له شأن عظيم، والبلد ستكون قد أخرجت عالِمَها إذا استمر الأمر بـعبد الرحمن بن مهدي على ما هو عليه، وفعلاً كان ذلك.
قال زياد بن أيوب: كنا في مجلس هشيم، فلما قام هشيم أخذ أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين ، وخلف بن سالم، بيد فتىً أمَّنَ، فأدخلوه مسجداً، وكتبوا عنه وكتبنا، فإذا هو عبد الرحمن بن مهدي.
وعبد الرحمن بن مهدي أكبر من الإمام أحمد ، ويحيى بن معين، وهو شيخ الجميع، لكن معنى ذلك أنهم كتبوا عنه وهو لا يزال شاباً، ولم يكتبوا عنه لما صار شيخاً كبيراً فقط، بل كتبوا عنه قبل ذلك.
وقال ابن المديني : إذا اجتمع يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل، لم أحدث عنه. فإذا اختلفا -قال بعضهم مثلاً: هذا يُحْتَجُّ به، وقال الآخر: هذا لا يُحْتَجُّ به- أخذت بقول عبد الرحمن؛ لأنه أقصدهما، وكان في يحيى تشدداً، وكما قال العلماء: يقسَّم أهل الجرح والتعديل إلى ثلاثة أقسام:
1 - قسم متشدد ومتعنت، وربما يضعف الراوي الثقة أحياناً، أو يقدح فيه لسبب ليس بقادح.
2- قسم متوسط.
3- قسم متساهل، ربما يوثق الضعفاء.
عبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل معدودان في الطبقة المتوسطة المعتدلة من علماء الجرح والتعديل.
وكان يحيى بن سعيد القطان رحمه الله فيه شيء من التشدد، لا يقبل الروايات إلا من أناس بلغوا الغاية.
وقال أحمد بن حنبل : اختلف عبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح في نحو من خمسين حديثاً من حديث الثوري ، فنظرنا فإذا عامة الصواب في يد عبد الرحمن .
وسأله ابنه صالح بن أحمد بن حنبل: أيُّما أثبت عندك: عبد الرحمن بن مهدي ، أو وكيع ؟
فقال الإمام أحمد: عبد الرحمن أقل سَقْطاً من وكيع في سفيان ، قد خالفه وكيع في ستين حديثاً من حديث سفيان ، وكان عبد الرحمن يجيء بها على ألفاظها، وهو أكثر عدداً لشيوخ سفيان من وكيع، وروى وكيع عن نحو من خمسين شيخاً لم يروِ عنهم عبد الرحمن ، ولقد كان لـعبد الرحمن تَوَقٍّ حسنٍ، أي: ينتقي.
وقال أبو حاتم: "عبد الرحمن بن مهدي أثبت أصحاب حماد بن زيد ، وهو إمام ثقة، أثبت من يحيى بن سعيد، وأتقن من وكيع، وكان قد عَرَض حديثه على سفيان الثوري".
وقال علي بن المديني : "نظرت! فإذا الإسناد يدور على ستة، ثم صار علم هؤلاء الستة إلى اثني عشر، ثم انتهى علم الاثني عشر إلى ستة -مرة أخرى- فنظر في أكثر الأسانيد فوجدها تدور على ستة من كبار العلماء، مَن بعدَهم تلاميذهم أشهر وأكثر من روى عن الستة اثني عشر شخصاً، الطبقة الثانية، ثم لوحظ أن هؤلاء الاثني عشر الذين رووا عنهم، اجتمع علم الاثني عشر عند ستة، الطبقة الثالثة، الستة هؤلاء هم:
3- يحيى بن زكريا بن أبي زائدة .
4- وكيع بن الجراح.
6- يحيى بن آدم.
وهؤلاء هم شيوخ: علي بن المديني ، والإمام أحمد ، ويحيى بن معين.
الطبقة التي بعدهم هي:
1- علي.
2- يحيى .
3- أحمد .
4- ابن أبي شيبة ، وغيرهم.
الطبقة التي بعدها: البخاري وغيره.
قال ابن أبي حاتم : فقد بان بذلك جلالة عبد الرحمن عند الثوري ، إذا بدأه بهذا القول.
فالمعروف أن الطالب هو الذي يطلب من الشيخ، لكن هنا الشيخ يقول: لو أن كتبي عندي لحدثتك، أو كأن سفيان يقول له: إنني أفيدك الآن من حفظي، لكن لو كانت كتبي عندي لحدَّثتك منها، فـسفيان رحمه الله تعرض للمحنة، واضطر للهروب، واختفى فترة من الزمن، ما كان له فيها مجالس، وربما خشي على كتبه التي كتب فيها الأحاديث من التغيير، فدفنها، وقد تلف كثيرٌ منها حتى أنه جاء بعد مدة يستخرجها مع بعض تلاميذه من حفرة، فقال له أحد تلاميذه ممازحاً: وفي الركاز الخُمُس أعطنا خُمُس الكتب هذه.
فكأن سفيان يقول لـعبد الرحمن إجلالاً له: أنا أعطيتك مما أحفظ، لكن لو كان كتبي عندي لأعطيتك منها أحاديث ربما ليست عندي في حفظي.
وقال حماد بن زيد: "إن كان يؤتى لهذا الشأن، فهو هذا الشاب". أي: عبد الرحمن بن مهدي الذي يؤتى إليه. فقال هذا الكلام بعدما قام عبد الرحمن من عنده.
وقال عبد الرحمن: "كُتِبَ عني الحديث في حلقة مالك بن أنس".
وكان حماد بن زيد إذا نظر إلى عبد الرحمن بن مهدي في مجلسه، تهلل وجهه.
وبلغ من اعتناء سفيان بتلميذه عبد الرحمن بن مهدي كما قال مهدي بن حسان والد عبد الرحمن : كان عبد الرحمن يكون عند سفيان عشرة أيام إلى خمسة عشرة يوماً بالليل والنهار متواصلة، فإذا جاءنا ساعةً -أي: يزور أباه وأمه وأهله- جاء رسول سفيان في أثره، فيقول: سفيان يدعوك، فيَدَعنا ويذهب إليه.
فكأن سفيان لا يريد أن يغيب عنه تلميذه عبد الرحمن.
أولئك أناس كانوا مخلصين في تعليم الناس، إذا رأى طالباً حافظاً، فهذه فرصة أن يُوْدِعَه علمه، إن وجده مخلصاً، حافظاً، ذكياً، ألمعياً، فاهماً، فهي فرصة أن يُعْتَنَى به، ولذلك من أسباب النبوغ عند السلف: أن الشيوخ يعتنون بالتلاميذ؛ ولو غاب التلميذ أرسل الشيخ في طلبه، لا يجلس الشيخ في برج عالٍ، يقول: الذي يأتيني أحدثه، والذي لا يأتيني لا أسأل عنه! وكان للشيخ خواص من الطلاب معه في سفره وحضره، في بيته ومجلسه ومسجده،ومعه في جميع الأماكن، كما كان سفيان يرسل رسولاً وراء عبد الرحمن بن مهدي إلى بيته.
ومن تقدير سفيان لـعبد الرحمن بن مهدي : قال عبد الرحمن بن مهدي : أفتى سفيان الثوري في مسألة، فرآني كأني أنكرت فتياه بالنظر، أي: سئل سفيان عن مسألة، فأفتى فيها، فلاحظ سفيان في المجلس أن وجه عبد الرحمن بن مهدي فيه تغيُّرٌ ما، كأنه لَمْ تَرُقْ له هذه الفتوى، فقال سفيان لـعبد الرحمن التلميذ: أنتَ ماذا تقول؟
قلت: كذا وكذا، خلاف ما يقول.
قال: فسكت ولم يقل شيئاً، وسكوت سفيان هذا معناه: إجلال لـعبد الرحمن التلميذ، ولم يعترض على جوابه، ولم يرد عليه، فكأنه سلَّم له بالجواب، أو أقر بصحة جوابه.
قال يحيى بن عبد الرحمن بن مهدي: إن أباه قام ليلةً، وكان يحيي أكثر الليل، فلما طلع الفجر، رمى بنفسه على الفراش فنام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فقال عندما استيقظ مؤنباً نفسه: هذا مما جنى عليَّ الفراش، فجعل على نفسه ألا يجعل بينه وبين الأرض فراشاً شهرين فتقرحت فخذاه.
وهذه القصة حصلت مرة وبدون قصدٍ منه رحمه الله، ومع ذلك فإنه قد امتنع عن أن يرقد على فراش؛ لأن الفراش كان سبباً في استغراقه في النوم، وبطبيعة الحال فإن الإنسان لا يجوز له أن يتعمد فعل نافلة تؤدي إلى تفويت فريضة، لكن الذي يحدث بغير قصد لا يأثم به الإنسان ولا يؤاخذ.
وقال عبد الرحمن بن عمر عن يحيى بن عبد الرحمن بن مهدي : ودخلت يوماً دار عبد الرحمن ، فإذا هو قد خرج عليَّ وقد اغتسل وهو يبكي، فقلت: ما لك يا أبا سعيد ؟
قال: كنت من أشد الناس في النفور من القراءة، ومن مثل هذه الأشياء، أي: أكره أن أفعل الرُّقْيَة، فاضطرني البلاء حتى قرأتُ على ماء شيئاً، فاغتسلتُ به.
وكان ورد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله في كل ليلة نصف القرآن، كما قال علي بن المديني ، فإنه كان يحب أن يختم القرآن في كل ليلتين، وهذا يدل على أن الرجل لم يكن صاحب حديث فقط، وإنما صاحب عبادة، وصاحب قرآن، وبعض الناس إذا اشتغلوا بطلب العلم؛ أهملوا جانب العبادة، فصار عندهم شيء من القسوة في القلب، وكذلك بعض الذين يشتغلون بالحديث بالأسانيد والرجال والطرق والتصحيح والتضعيف، ولا يكون عندهم اهتمام بالعبادة، كقراءة القرآن، وقيام الليل، لا شك أن ذلك يُحدث عندهم نوعاً من القسوة، ولم يكن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله من هؤلاء مطلقاً، مع أنه كان من أئمة الجرح والتعديل وعلم الرجال والأسانيد، ولكن مع ذلك ها هو يقوم أكثر الليل، ويختم القرآن في كل ليلتَين مرة.
وقال أيوب المتوكل : كنا إذا أردنا أن ننظر إلى الدين والدنيا، ذهبنا إلى دار عبد الرحمن بن مهدي .
أما بالنسبة للدين: فواضح ماذا يعني الذهاب لـعبد الرحمن بن مهدي ؟
وأما بالنسبة للدنيا: فلعل الراوي - أيوب المتوكل - يقصد أنهم إذا أرادوا الإكرام بالطعام والتوسيع عليهم، يذهبون إلى دار عبد الرحمن بن مهدي ، فإنه كان يكرم طلابه ويكرم ضيوفه، ويعطيهم ويوسِّع عليهم، فيقولون: إذا أردنا الدين الأسانيد، وأردنا الأحاديث وأردنا العلم، جئنا عبد الرحمن بن مهدي ، وإذا أردنا الدنيا من الإطعام والإكرام والتوسعة؛ جئنا دار عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله.
وهكذا ينبغي أن يكون أهل العلم، عندهم خلقٌ حسنٌ، وتعاملٌ جيدٌ مع الناس، ومن ذلك: الإكرام فإنه -لا شك- يأخذ بمجامع القلوب.
وأما بالنسبة لحجه؛ فقد قال رسته رحمه الله، وهذا لقب لـعبد الرحمن بن عمر ، وهو أحد المحدثين: كان عبد الرحمن يحج كل عام، فهو صاحب عبادة في الحج أيضاً.
قال ابن المديني : دخلت على امرأة عبد الرحمن بن مهدي ، وكنت أزورها بعد موته، فرأيت سواداً في القبلة، فقلت: ما هذا؟
قالت: موضع استراحة عبد الرحمن، كان يصلي بالليل، فإذا غلبه النوم، وضع جبهته عليها، أي: إذا غلبه النوم، اتكأ بجبهته على هذا الموضع من الجدار، فلذلك تراه أسوداً مما يعلق بالجدار من ذلك الاتكاء.
وهذا يعني أنه -رحمه الله- ما كان ينام ويستغرق في النوم، بل إنه يأخذ إغفاءة وهو متكئ، ويضع جبهته على الجدار، حتى إذا ارتاح قليلاً، عاد للقيام رحمه الله تعالى.
وهكذا يُبْنَى الإيمان وقواعد الأدب في نفس الطالب بحسب ما يرى من حياة شيخه القدوة.
وهذا توقير منه للعلم رحمه الله لا استكباراً؛ لأن مجلس حديث النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يُتأدب معه، فإنه عليه الصلاة والسلام لو مات، فلا ترفع الأصوات فوق حديثه ولو بعد وفاته، فإذا قُرئ حديثُه، خُفِضت عند حديثه صلى الله عليه وسلم الأصوات، ولذلك فإنه رحمه الله تعالى كان عنده هذا المبدأ في دروسه.
وكذلك فإنه قد حصل مرة من المرات أن أحد الطلاب ضحك في المجلس، فيقول عبد الرحمن بن محمد بن سلام: حدثنا عبد الرحمن بن عمر ، قال: ضحك رجلٌ في مجلسه وسمعه.
ولا شك أن من قلة الأدب في مجلس العلم، أو مجلس الحديث أن تقرأ أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يضحك شخصٌ! فضحك رجلٌ في مَجلسه وسَمعه، فقال: من هذا الذي يضحك؟ فأعاد مراراً، يقول لهم: من هذا الذي يضحك؟! فأشاروا إلى رجل، فأقبل عليه، وهو يقول: تطلب العلم وأنت تضحك؟! تطلب العلم وأنت تضحك؟! مرتين، لا حدثتكم شهرين، فقام الناس فانصرف.
وكان رحمه الله في ذاته مقتدياً بالنبي عليه الصلاة والسلام في عدم الإغراق في الضحك، فقال الراوي: ولا أعلم أني رأيت عبد الرحمن ضاحكاً شديداً بقهقهة إلا التبسم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أكثر ضحكه تبسماً، فإن خشي عليه أن يغلبه الضحك لشدة الموقف؛ أمسك على فمه رحمه الله تعالى.
وكذلك فإن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله كان في مسألة الورع والاحتياط في الكلام في غاية الدقة والانتباه.
قال عبد الرحمن بن عمر : وسمعت عبد الرحمن قال لرجل: لا أفعل.
ثم سأله الرجل.
فقال: إني قد قلت: لا أفعل.
قال: إنك لم تحلف، فماذا يمنعك أن تفعل؟
قال: هذا أشد، لو حلفتُ، لكفَّرت.
فهذا من احتياطه رحمه الله؛ (لو حلفتُ، لكفَّرت).
قال رسته : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: الجهمية يريدون أن ينفوا الكلام عن الله، وأن يكون القرآن كلامه -أي: يريدون أن ينفوا أن يكون القرآن كلام الله، وأن الله كلم موسى- وقد أكَّده الله، فقال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] فقد أكَّد الله أنه كلم موسى بقوله: تَكْلِيماً [النساء:164].. وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164].
فأما الجهمية القُدامى، فإنهم قد حاولوا أن تكتب هذه اللفظة في القرآن: (وَكَلَّمَ اللهَ مُوسى)، بدل وَكَلَّمَ اللَّهُ [النساء:164] لكي ينسبوا الكلام إلى موسى، وينفوا عن الله الكلام، فقال كاتب المصحف وكان سُنِّيَّاً: يا أحمق، إذا غيرنا هذه، فماذا أفعل بقول الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] ؟! كيف بها في هذه؟!
أما الذين تأثروا بمذهب الجهمية من المتأخرين، مثل: الأشاعرة ، فإنهم إذا أتوا إلى هذه الآية: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] ولا يستطيعون أن يحرفوها، يقولون: كَلَّمَهُ يعني: جرَّحه بأظافر الحكمة، وهذا من أفسد الكلام والتفسير، وما الحاجة إلى تجريح موسى بأظافر الحكمة؟! فإن الله يقذها في قلب موسى بدون تجريح، وهل يحتمل كلام العرب كل هذا التعسف لكي يُصْرَف اللفظ عن ظاهره من أجل مذهب فاسد، أو قواعد من علم الكلام الفاسد التي أخذوها عن الكفار!
وقال إبراهيم بن زياد الملقب بـسبلان : قال لي ابن مهدي: "لو كان لي سلطان، لألقيت من يقول: إن القرآن مخلوق في دجلة بعد أن أضرب عنقه".
وفي رواية قال: "لو كان لي سلطان، لقمت على الجسر -الذي يعبر منه جسر النهر- فلا يمر بي أحدٌ إلا سألته عن القرآن، فإذا قال مخلوق؛ ضربتُ عنقه وألقيته في الماء".
وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضاً: "إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون اللهُ كلَّم موسى، وأن يكون استوى على العرش، أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم".
وهذه الشدة على أهل البدعة واجبة لكي تحاصَر البدعة، لأن أهل البدع لو تُرك لهم المجال؛ فإن أمرهم سيتفشى، فكان السلف في أشد ما يكون على أهل البدع بمحاصرتهم.
قال ابن مهدي بحضرة يحيى القطان وقد جاء ذكر الجهمية، ما كنت لأناكحهم، ولا أصلي خلفهم، ولو أن رجلاً منهم خطب إلى أَمَة لي ما زوجتُه.
قال: أخبرني يحيى -يعني: يحيى بن سعيد القطان صاحبه- أنه يرى برأي جهم فضربتُ على حديثه.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "من قال: القرآنُ مخلوقٌ، فلا تصلِّ خلفه، ولا تمشِ معه في طريق، ولا تناكِحْه".
وقال: "من زعم أن القرآن مخلوق استتبته، فإن تاب وإلا ضُرِبَت عنقه؛ لأنه كافرٌ بالقرآن، قال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]".
وقال عبد الرحمن بن عمر : سمعت عبد الرحمن بن مهدي قد سئل عن الصلاة خلف أصحاب الأهواء؟ فقال: يُصَلَّى خلفهم ما لم يكن داعيةً إلى بدعةٍ، مجادلاً بها، إلا هذين الصنفين لا يُصَلَّى خلفهم، الجهمية ، والرافضة ، فإن الجهمية كفارٌ بكتاب الله عز وجل، والرافضة ينتقصون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكرت عند عبد الرحمن بن مهدي قصة أحد الجهمية أنهم ذكروا عنده أن الله تبارك وتعالى خلق آدم بيده، وهذا حديثٌ صحيحٌ، والله قال في القرآن: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وأخبر أنه خلق آدم بيده.
وعندما سمع هذا الجهمي الكلام؛ قال مستهزئاً: عَجَنَه بيده وحَرَّك بيدَيه العجين.
فقال عبد الرحمن لما سمع قصة هذا الجهمي: لو استشارني هذا السلطان في الجهمية لأشرت عليه أن يستتيبهم، فإن تابوا، وإلا ضُرِبَت أعناقهم.
وقال له رجل: ما رأيك بمن مشى إليهم يتعلم منهم بعض ما يجيدون من أساليب الكلام؟
قال: لا، مشيك إليهم توقير، وقد جاء في الآثار أن من وقر صاحب بدعة؛ فله كذا وكذا من العذاب، وكذا من الذم الذي جاء في حقه.
فهذه الشدة على أهل البدع كانت مطلوبة، ولا شك، لأننا لو نظرنا بعد عبد الرحمن بن مهدي لمَّا قامت المعتزلة ورفعوا رءوسهم، وتولوا الأمور، كانت فتنة الإمام أحمد رحمه الله، وفتنة أهل الحديث التي حصلت في زمن ابن أبي دؤاد لما زين للمأمون القول بخلق القرآن، فحمل المأمون كل القضاة والعلماء وأهل الحديث والأئمة والخطباء بالقوة عليه، حتى وصل الأمر إلى قتل بعضهم وسجنهم وضربهم كما كان المعتصم يفعل، والإمام أحمد رحمه الله مُلْقَىً لصف الجلادين، كل جلاد يضربه سوطين بأقوى ما عنده، ويقول المعتصم للجلاد: شد يدك، قطع الله يدك. فيعتزل، ويأتي الثاني، ويعتزل، ويأتي الثالث.. وهكذا حتى كان كل جلاد يضرب بأقوى ما عنده.
فلا عجب بعد ذلك أن نرى بأن السلف كانوا يعرفون ما يمكن أن تؤدي إليه البدعة إذا استحكمت، ولذلك كانوا شديدين على أهل البدع كما فعل عبد الرحمن رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيراً.
ذكر له رجل أن المبتدعة عندهم صلاة وصيام أي زيادة على العبادة المشروعة.
فقال: لا يقبل الله إلا ما كان على الكتاب والسنة، ثم قرأ قوله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27] فلم يقبل ذلك منهم، ووبخهم عليه، يقول ابن مهدي شارحاً الآية: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27] قال: فلم يقبل ذلك منهم، مع أنها زيادة عبادة، فذلك غلو، فلم يقبل الله ذلك منهم، ووبخهم عليه، ثم قال: الزم طريق السنة.
وهذه القصة يرويها عبد الرحمن بن عمر الملقب بـرسته ، قال: سمعت ابن مهدي يقول لفتىً من ولد الأمير جعفر بن سليمان الهاشمي : مكانك انتظر، لا تذهب، فقعد حتى تفرق الناس.
انظر الحكمة! لا يريد أن يوبخه أمام الناس، قال: انتظر، كأنه يقول: أريدك على انفراد.
ثم قال له: يا بني! تعرف ما في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف؟ والكورة معناها: البلد. فيقول: أتعرف ما يوجد في هذه البلدة من الأهواء والاختلاف والبدع التي خرجت؟
ومن البدع التي كانت موجودة بدعة الجهمية، وبدعة المجسمة الذين يشبهون الله بخلقه؛ كما يُرْوَى عن مقاتل بن سليمان البلخي ، قال: هاتوا أي شيء من الإنسان أشبهه لكم بالله -تعالى الله عما يقول علواً كبيراً- ولا أتحرج إلا في اثنتين: اللحية والفرج -تعالى الله عن قوله- هذه بدعة المجسمة الذين يشبهون الله بخلقه، والجهمية ينفون عن الله الصفات، وأهل السنة يثبتون لله الأسماء والصفات، لكن ليست كما للمخلوقين، وإنما على الوجه اللائق به جل وعلا.
قال له: يا بني! أتعرف ما في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف؟ وكل ذلك يجري منك رضاً إلا أمرك، وما بلغني فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصل إليكم -يعني: السلطان- فإذا صار إليكم، جل وعظُم.
يعني: يقول له: أنت سمعت بالأهواء والبدع التي حصلت في هذه الجهة من البلدان التي أنتم مسئولون عنها وأنت راضٍ ولم تغير، ولم تنكر، والأمر سهل إذا ما وصل إليكم، لكن إذا وصل إليكم، جل وعظُم؛ لأنه إذا وصل إليهم واعتقدوه حملوا الناس عليه كما فعل المأمون والمعتصم والواثق عندما حملوا الناس عليه بالقوة، أو على الأقل إذا ما أنكروه، ولا ردعوا من اعتقده؛ فإن المبتدعة سيتشجعون، وليس هناك سلطان يردعهم، ولذلك قال: فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصل إليكم، فإذا صار إليكم، جلَّ وعظُم؛ لأنه سيجري تحت علمكم ومعرفتكم، فلا تنكرون، فينتشر، أو تعتقدون، فتحملون الناس عليه.
قال: يا أبا سعيد! وما ذاك؟!
قال: بلغني أنك تتكلم في الرب وتصفه وتشبِّهُه، وهذا يدل على أن عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- لم يكن مغفلاً ولا يدري ماذا يحدث حوله، بل كان يعرف البدع ومدى انتشارها، ومن الذي يعتقدوها، فتصل إليه الأخبار، وينصح، ويكلم.
قال: بلغني أنك تعتقد مذهب المجسمة المشبِّهة الذين يشبهون الله بخلقه.
قال الغلام: نعم يا أبا سعيد، نظرْنا، فلم نر من خلق الله شيئاً أحسن ولا أولى من الإنسان، فأخذ يتكلم في الصفة والقامة.
وقولهم: انظرنا! حجة تافهة للمجسِّمة، بأي شيء نشبه الله من مخلوقاته؟ فوجدنا أن أحسن المخلوقات هو الإنسان، فقلنا: إذاً هو يشبه الإنسان.
قال له عبد الرحمن: رويدك يا بني حتى نتكلم أولاً في المخلوق، دعنا الآن من الكلام في الخالق، لنتكلم في المخلوق، فإن عجزنا عن المخلوق، فنحن عن الخالق أعجز، تصوَّر الآن وشبِّه هذا الكلام الذي سأقوله لك وجسِّمه وهو في مخلوق، وفسِّر لي كيف يكون، أخبرني عن حديث حدثنيه شعبة، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله في قوله تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18] أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى في الإسراء والمعراج من آيات ربه الكبرى، قال عبد الله بن مسعود يفسر الآية: [رأى جبريلَ له ستمائة جناح] قال: شبِّه هذا؟ جبريل له ستمائة جناح، تتخيل ستمائة جناح كيف هي مركبة؟! أتستطيع أن تشبِّه هذا وتجسِّمه وتتخيَّله؟
فبقي الغلام ينظر محتاراً -فعلاً- كيف يشبِّه ستمائة جناح بشيء من المخلوقين، أو يتخيَّله، أو يأتي بمثال.
فقال له عبد الرحمن: يا بني! فإني أهوِّن عليك المسألة، وأضع عنك خمسمائة وسبعاً وتسعين جناحاً، أتنازل لك عنها، هذه لا أريدها منك، وأتنازل لك عنها، صف لي خلقاً بثلاثة أجنحة، وركِّب الجناح الثالث منه موضعاً حتى أعلم، أي: خلق له جناحين كيف يكون؟ مثلِّ وهات مثالاً على خلق له بثلاثة أجنحة، أين يكون الجناح الثالث؟
فبقي الغلام محتاراً بطبيعة الحال، وعلم أنه ضال مخطئ، قال: يا أبا سعيد! قد عجزنا عن صفة المخلوق -فعلاً- ونحن عن صفة الخالق أعجز، فأشهدك أني قد رجعت عن ذلك، وأستغفر الله.
وهذا مثال رائع للغاية، كيف كان عبد الرحمن بن مهدي يناقش ويقنع.
وكلامه -رحمه الله- في مسائل الاعتقاد كثير: وهذه طائفة منه.
يقول الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن مهدي: كان يتوسع في الفقه، كان أوسع فيه من يحيى -أي: يحيى بن سعيد القطان- وكان يحيى يميل إلى قول الكوفيين، وكان عبد الرحمن يذهب إلى بعض مذاهب الحديث، وإلى رأي المدنيين.
وطريقتهم في ذلك الوقت هي الأخذ بآثار القرآن والسنة، فهم أناس عندهم فهم وعلم باللغة، يأخذون بالقرآن والسنة، ويجمعون الأحاديث، وآثار الصحابة، يفتون بها ويتبعونها، هذا هو المذهب.
قال محمد بن أبي بكر المقدمي: "ما رأيت أحداً أتقن لما سمع، ولما لم يسمع، ولحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي".
وقد بلغ في الإتقان مبلغاً عظيماً جعل يحيى بن سعيد يقول كلمة فيها تواضع، وفيها أيضاً تزكية بالغة لـعبد الرحمن بن مهدي ، يقول يحيى بن سعيد رحمه الله: ما سمع عبد الرحمن من سفيان عن الأعمش أحب إليَّ مما سمعتُ أنا عن الأعمش ، أي: عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش ، أحب إليَّ وأوثق عندي مما سمعتُ أنا عن الأعمش، لشدة ضبط عبد الرحمن، ولشدة ضبط سفيان .
وقال علي بن المديني رحمه الله عن عبد الرحمن بن مهدي: كان يعرف حديثه وحديث غيره، وكان يُذكر له الحديث عن الرجل، فيقول: خطأ، ليس هكذا الحديث، ثم يقول: ينبغي أن يكون هذا الشيخ من حديث كذا من وجه كذا، قال: فنجده كما قال، أي: إنه لا يقول فقط: إنه خطأ، لكن يقول: أظن أن الصواب كذا، كما تقدم في قصة عبد الرحمن بن مهدي مع وكيع ويحيى بن سعيد .
حيث جعلا حديث سفيان عن أبيه، وعبد الرحمن روى الحديث عن سفيان عن منصور، مع أن يحيى بن سعيد ووكيع كلاهما قد رواه عن سفيان عن أبيه، لكن عبد الرحمن بن مهدي رواه عن سفيان عن منصور ، ورجعا إلى قوله.
ومن دقته: أنه كان لا يحدث بالمعنى، بل يحدث باللفظة، وهذه المسألة عند المحدثين: هل تجوز الرواية بالمعنى أم لا؟ والذين أجازوها اشترطوا فيها شروطاً؛ منها:
1- أن يكون عالماً باللفظ.
2- أن يكون عالماً بما يوحي به المعنى.
إلى آخره.
وبعضهم قال: لا تجوز الرواية بالمعنى، إنما يرويه كما سمع، إما أن يحفظه فيرويه، أو لا يروي شيئاً.
فكان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله ممن لا يحدث إلا باللفظ، ولا يجيز التحديث بالمعنى.
وهو يقول عن نفسه: لئن أعرف علة حديث أحبُّ إليََّ من أن أستفيد عشرة أحاديث.
وكذلك قال علي بن المديني : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: خالفني ابن المبارك في حياة سفيان في حديث عن إبراهيم في عدة أم الولد، قال: ليس هو حديث ابن أبي ثابت، ابن المبارك رحمه الله رأى هذا، وقد كان من كبار الحفَّاظ، قال عبد الرحمن : فسألت سفيان عنه، فقال: هو حديث ابن أبي ثابت ، فـسفيان الثوري أكَّد ما حفظه عبد الرحمن.
وقال عمرو بن علي : سألت عبد الرحمن بن مهدي عن حديث لـعبد الكريم المعلم؟
فقال: هو عن عبد الكريم .
فلما قام سألته فيما بيني وبينه.
قال: فأين التقوى؟
يعني: أنه سأل عبد الرحمن بن مهدي عن حديث لـعبد الكريم المعلم يريد نص الحديث، وعبد الرحمن بن مهدي لم يعطه نص الحديث، قال له: هو عن عبد الكريم، أي: يكفيك أن الحديث الذي تسأل عنه يرويه عبد الكريم هذا، وعبد الرحمن بن مهدي لا يرى أن عبد الكريم المعلم ثقة، وبالتالي لا يروي حديثه.
فالطالب جاء في المجلس وسأله عن حديث عبد الكريم المعلم ، قال: هو عن عبد الكريم، ولما قام الطالب من الدرس، اختلى بالشيخ، وقال له: حدثني حديث هذا الرجل. قال: فأين التقوى؟
يقول: إذا كانت التقوى قد حجزتني عن الرواية عمن ليس بثقة عندي في العلانية، فلا بد أن تحجزني في السر، كيف أنا ما أجبت عنه علانية، ولا أعطيتك حديثه، ثم في السر أعطي حديثه! لا أعطي حديثه؛ لأن عبد الكريم هذا كان عند عبد الرحمن بن مهدي غير قوي، ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: إذا حدَّث عبد الرحمن عن رجل، فهو حجة، يعني: شيوخ عبد الرحمن بن مهدي ثقات، لأنه لا يحدث إلا عن ثقة، وقد سمع من الثقة ومن غير الثقة، ولذلك يطرحون أحاديث كثيرة جداً مع أنهم سمعوها، ويحدثون بأحاديث معينة فقط، ومثل: عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- لا يحدِّث إلا عن ثقة، وهذه فائدة في المصطلح.
وقال علي بن المديني : أعلم الناس بقول فقهاء أهل المدينة السبعة:
1- الزهري .
2- ثم بعده مالك .
3- ثم بعده ابن مهدي.
فمن أقواله التي أثرت عنه والتي تصلح أن تكون قواعد في العلم والأدب:
1- قال: معرفة الحديث إلهام.
2- وقال أيضاً: فتنة الحديث أشد من فتنة المال والولد، كم من رجل يُظَنُّ به الخير قد حَمَلَه الحديث على الكذب شهوة أن يجتمع عليه الناس، وأن يأخذوا عنه، وأن يقال: فلان عن فلان، وأن يدخل في الأسانيد، فإذا لم يكن صاحب حديث، ويريد أن يدخل نفسه في هذه الصنعة بسبب شهوة الحديث ربما يكذب.
3- ومن أقواله كذلك: يحرم على الرجل أن يفتي إلا في شيء سمعه من ثقة.
وهذا فيه تعليم لبعض الناس الذين يتفاءلون بالفتيا، فيقول لك: هذا كذا، فتقول: مَن الذي حدثك به؟ فيقول: لا أدري، سمعته مرة في مجلس.. لا أدري من الذي قال، ومرة سمعت كذا في ذهني؛ لكن يقول: مُحَرَّمٌ على الرجل أن يفتي إلا في شيء سمعه من ثقة.
4- وقال عن الولع بالحديث: إن الحديث إذا تمكن من الإنسان، صار مسيطراً عليه، يقول: الغرام في طلب الحديث مثل: لعب الحمام، ونطاح الكباش؛ لأن أهل الحمام يولعون باللعب بها جداً، وتصبح هذه قضيتهم وشغلهم الشاغل، وكذلك الذين يهوون مصارعة ومناطحة الكباش ويجتمعون لها، تكون لهم لذة يعني: الغرام بالحديث، بل هو أشد.
5- وقال رسته : سألت ابن مهدي عن الرجل يتمنى الموت مخافة الفتنة على دينه.
قال: ما أرى بذلك بأساً، لكن لا يتمناه من ضُرٍّ به أو فاقة، تمنى الموتَ أبو بكر وعمر ومن دونهم، فإذا كان يتمنى الموت حتى لا يفتن في دينه، فلا بأس، أما أن يتمنى الموت في ضر نزل به، فلا، لأجل الحديث.
6- ومن تواضع عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله كما يروي رسته : قام ابن مهدي من المجلس، وتبعه الناس يمشون خلفه فالتفت إليهم يقول لهم: يا قوم، لا تَطَأُنَّ عقِبي، أي: لا تمشوا ورائي، ولا تَمُشُنَّ خلفي، حدثنا أبو الأشهل، عن الحسن، قال عمران: [خفق النعال خلف الأحمق قلَّما يُبقي من دينه] قال: لا تمشوا ورائي، لأن المشي ورائي فتنة لي، وإن خفق النعال خلق الأحمق قلَّما يبقي من دينه، مع أن الرجل من أعقل العقلاء.
7- ومن أقواله العظيمة التي تنبئ عن التواضع وحب العلم وحب طلبة العلم، يقول: "إذا لقي الرجلُ الرجلَ فوقه في العلم؛ فهو يوم غنيمة" إذا التقيت مع أحد أعلم منك في مجلس فهذا يوم غنيمة لما ستستفيد منه.
و"إذا لقي الرجل من هو مثله: دارسه، أي: مدارسة ومذاكرة، كما فعل هو مع وكيع في الحرم من العشاء إلى الفجر، دارسه وتعلم منه.
وإذا لقي من هو دونه: تواضع له وعلَّمه".
ولا يكون إماماً في العلم من حدَّث بكل ما سمع، وإنما يجب أن ينتقي، ولا يكون إماماً من حدَّث عن كل أحد، ولا مَن يحدث بالشاذ.
8- ومن أقواله المأثورة: إنما مثل صاحب الحديث بمنزلة السمسار، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغير بصره.
يقول: السمسار الذي يتابع الأسعار والأشياء، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغيرت عليه الأسعار والبضائع والأشياء، وإذا دخل يأتي كأنه لا يعرف ولا يدري ماذا يفعل، وخبرته تغيرت.
قال: صاحب الحديث بمنزلة السمسار، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغير بصره، فكأنه يقول: لا إجازة ولا عطلة من طلب العلم، لا بد كل يوم أن يطلب العلم، إذا غاب صاحب الحديث عن الحديث خمسة أيام، تغير، فكما أن السمسار يحتاج إلى متابعة الأسعار باستمرار؛ كذلك صاحب الحديث يحتاج إلى متابعة الحديث باستمرار.
9- وقال ابن مهدي: لا ينبغي لمصنفٍ أن يصنف شيئاً من أبواب العلم إلا ويلتجئ بحديث: (إنما الأعمال بالنيات).
10- وقال: يحرم على الرجل أن يروي حديثاً في أمر الدين حتى يتقنه ويحفظه كالآية من القرآن، أو كاسم الرجل، أو كما يحفظ اسمه، يحفظ الحديث ويرويه، وإلا لا يرويه.
11- وقال: "الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الأكل والشرب".
12- وقال: لا نعرف كتاباً في الإسلام بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك ، ولم يقل: صحيح البخاري مع أن البخاري أنفع من موطأ مالك وأصح؛ لأن البخاري ما جاء إلا بعد ابن مهدي ، فـالبخاري تلميذ علي بن المديني ، وعلي بن المديني تلميذ عبد الرحمن بن مهدي ، فـعبد الرحمن بن مهدي لم يرَ البخاري.
13- وقال أيضاً: لا يجوز أن يكون الرجل إماماً حتى يعلم ما يصح مما لم يصح، وحتى يعلم بمخارج العلم، وحتى لا يحتج بكل شيء، بل يحتج بأشياء معينة.
فإذاً الذي ليس عنده تمييز الصحيح من السقيم، هذا لا يصلح أن يكون عالماً.
14- وقال: أئمة الناس في زمانهم:
2- حماد بن زيد بـالبصرة .
15- وقال: ما خصلة تكون في المؤمن بعد الكفر بالله أشد من الكذب وهو أشد النفاق.
16- وقال: لولا أني أكره أن يُعصى الله تعالى؛ لتمنيت ألَّا يبقى أحد في المصر إلا اغتابني، أي شيء أحسن من أنك تأتي يوم القيامة تجد حسنات في صحيفتك مأخوذة من الذي اغتابك وأنت لم تتعب عليها، ولا عملتها؟!
ومما قالو عن حفظه أيضاً: ما قاله محمد بن يحيى الذهلي: ما رأيت في يد عبد الرحمن بن مهدي كتاباً قط، كله من حفظه.
قال رسته : سألت ابن مهدي عن الرجل يبني بأهله؛ فيترك الجماعة أياماً، هل العرس عذر في ترك صلاة الجماعة؟
مثلاً: بعض الناس إذا كان عرسه الليلة؛ لا تراه يصلي الفجر في المسجد، هذه مفروغ منها، فشاع عند بعض الناس أن الذي أعْرَس -الذي يبني بامرأة- يُعذر عن صلاة الجماعة، أسبوع، أو ثلاثة أيام.
قال رسته : سألت ابن مهدي عن رجل يبني بأهله يترك الجماعة أياماً.
قال: لا. ولا صلاةً واحدةً.
وهاك قصة تبين حرص الرجل على أولاده ومتابعته لهم:
قال رسته: وحضرتُ ابن مهدي صبيحة بَنَى على ابنيه -يعني: زوج ابنيه- فخرج فأذن الفجر، ثم مشى إلى بابهما -باب بيت كل واحد- والجواري والخدم موجودون، قال للجارية: قولي لهما يخرجان إلى الصلاة.
فخرجن النساء والجواري من البيت، فقلن: سبحان الله! أيُّ شيء هذا؟!
كأنهن يقلن: ما هذا التشديد؟!
فقال: لا أبرح حتى يخرجا إلى الصلاة، أنا جالس.
فخرجا بعدما صلى، تأخرا في الخروج، فبعث بهما إلى مسجد خارج من الدير، أي: بعيداً عن البيت. قال: اذهبا إلى ذلك المسجد.
وقال رسته : وكان عبد الرحمن يحج كل عام، فمات أبوه وأوصى إليه، فأقام على أيتامه، فسمعتُه يقول: ابتليت بهؤلاء الأيتام، فاستقرضت من يحيى بن سعيد أربعمائة دينار احتجت إليها في مصلحة أرضهم. فكان الرجل حريص على أولاده، وحريص على الأيتام الذين هم عنده، ما كان مضيعاً كما يفعل بعض الناس إذا طلب شيئاً من العلم، ضيع الأهل والأولاد، وضيع مَن عنده، علماً بأنهم كانوا -ولا شك- ليسوا مع أولادهم كل الوقت؛ لأنهم احتاجوا إلى أشياء من الوقت كثيرة.
قال ابن مهدي : لزمت مالكاً حتى ملَّني، فقلت يوماً: قد غبتُ عن أهلي هذه الغيبة الطويلة، ولا أعلم ما حدث لهم بعدي.
قال: يا بني! وأنا بالقرب من أهلي ولا أدري ما حدث بهم منذ خرجت.
فمع تضحيتهم بالأسفار والتغيب، لكنهم ما كانوا مهملين في المتابعة، فإذا حضر عند أهله تابعهم، وأمرهم بالصلاة، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] .
وكانوا عند حماد بن زيد ، فسئل عن مسألة، فقال: أين ابن مهدي ؟ مَن لهذا إلا ابن مهدي ؟ قال: فأقبل عبد الرحمن ، فسأله عن ذلك، فأجاب، فلما قام من عنده، قال: هذا سيد البصرة منذ ثلاثين سنة. هذا من ثناء حماد رحمه الله وهو شيخه عليه.
ويقولون: لو أن رجلاً ذبح شاةً بسكين لرجل لم يأمر به، أو كان ثمنه من حرام؛ كانت ميتة، وما رأيت قولاً أخبث من قولهم، فنسأل الله تعالى السلامة والعافية.
وكان عبد الرحمن بن مهدي ضد أهل الرأي، لأنه من أهل الأثر ، وأهل الرأي كانوا لا يعتمدون على الآثار، والآثار مهمة جداً؛ فهي أقوال الصحابة، والتابعين؛ وهم أفقه الأمة، فكانوا يُعْمِلون القياس، أهل الأثر كـعبد الرحمن بن مهدي رحمه الله يرون كيف يُعْمَل القياس الآن وعندنا نصوص، لكن أولئك قوم أعجبوا بعقلياتهم، فانتهوا بذلك عن الأثر، وجلسوا يفرعون المسائل ويقيسون، وأهملوا الأخذ بالآثار، ولا شك أن الناس تفاوتوا في هذا، فمنهم من كان يأخذ بقليل من الرأي مع كثير من الأثر، ومنهم من كان يأخذ بكثير من الرأي مع قليل من الأثر، ومن الذين كان اهتمامهم بالرأي أكثر من اهتمامهم بالأثر: أبو حنيفة رحمه الله، وليس هذا نقيصة في الرجل؛ لكن هذا هو الواقع، لأن أبا حنيفة رحمه الله لم يكن جَمَّاعاً للأحاديث مشتغلاً بالرحلة والجمع، لكنه كان صاحب ذهن وقاد، وكان أحمد رحمه الله صاحب حديث، والأصوب هو الاعتماد على أقوال الصحابة.
ولذلك كان عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله لا يعجبه اتجاه أبي حنيفة مطلقاً في قضية اتباع الرأي؛ لأن الآثار موجودة، وكان يخشى أن تفتح باباً لا يُسَد في تقديم الرأي على الأثر في النهاية، أو إهمال الآثار، والأخذ بهذه الأَقْيِسَة والأشياء العقلية، ولذلك قال عبد الرحمن بن عمر: شهدت عبد الرحمن بن مهدي وقد أراد أن يشتري وصيفةً له من رجل من أهل بغداد ، فلما قام عنه، أُخْبِر أنه وضع كتباً من الرأي وابتدع ذلك، فجعل يقول: نعوذ بالله من شره، وكان من قبل إذا أتاه قربه وأدناه، ولكنه لما سمع عنه أنه يكتب في الرأي، ويبتعد عن الأثر، فلما جاءه، رأيته دخل وعبد الرحمن مريض، فسلم، فلم يرد عليه فقعد، فقال له عبد الرحمن: يا هذا، ما شيء بلغني عنك؟ إنك ابتدعت كتباً، أو وضعت كتباً من الرأي، فأراد الرجل الآخر أن يتقرب إليه بسوء رأيه في أبي حنيفة .
فقال: يا أبا سعيد ! إنَّما وضعت كتباً رداً على أبي حنيفة ، أي: الرجل الذي لا يعجبك منهجه أنت، أنا وضعت كتباً في الرد عليه.
فقال له: ترد على أبي حنيفة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصالحين؟!
فقال: لا، أرد الرأي بالرأي.
فقال: إنما ترد على أبي حنيفة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصالحين، فأما ما قلتَ فرد الباطل بالباطل، اخرج من داري. فالرجل أراد أن يدافع عن نفسه، فقال له: مُحَرَّمٌ عليك أن تتكلم أو تتمكن في داري. فقام وخرج.
تنبيه: قال الكوثري ، مجنون أبي حنيفة عن عبد الرحمن بن مهدي: كان زلق اللسان، ليس عنده اتزان، لا يعرف أبا حنيفة ، سيء الصلاة، فبعد ذلك كونهم يقرءون بعض الكتب، ينتبهون من التعليقات؛ لأن بعض التعليقات ربما تكون سُمَّاً، كما علق الكوثري على هذا، واتهم عبد الرحمن بن مهدي بأنه يسيء الصلاة.
وقيل لـعبد الرحمن بن مهدي : إن فلاناً قد صنف كتاباً في السنة رداً على فلان.
فقال عبد الرحمن: رداً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
قيل: لا، بكلام.
قال: رد باطلاً بباطل، ما فعل شيئاً.
رحمه الله رحمة واسعة، وأثابه خيراً جزيلاً وأجراً عظيماً على ما نافح عن دينه، وأبان من الحق، ونقل من السنة.
فالله يرفع درجته، ويغفر ذنبه، ويلحقه بالرفيق الأعلى.
ونسأله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بعلم ذلك الرجل وما روى.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر