إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أحييكم في هذه الليلة في هذا المكان المبارك في بيت من بيوت الله عز وجل، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ليلتنا هذه ذات فائدة وما يقدم فيها له أثر في حياتنا ومعاملاتنا. والمسلم الحقيقي هو الذي يسير على نور من ربه، ويسلك صراط الله المستقيم، ويسير على طريق أهل السنة والجماعة ، الطريق الذي سار فيه الأنبياء والعلماء والشهداء، الطريق الذي بيَّن الله أنواره ومعالمه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والذي نلاحظه على الكثيرين أنهم قد يهتمون بأبواب أو بأجزاء من هذا الطريق، فقد يهتمون بالعقيدة فقط، أو يركزون على الطريقة الصحيحة في التفقه، والأخذ بالدليل، والبحث عن الحديث الصحيح، وقد يركزون على أعمال القلوب فقط وأمور الرقائق، وقد يركِّزون على الجانب الخلقي السلوكي، والصحيح والحظ العظيم هو التركيز عليها كلها مجتمعة، حتى يجعل طريقه هذا طريقاً متكاملاً.
وموضوع التعامل من الموضوعات المهمة، وأهل السنة والجماعة لهم أصول في قضايا التعامل والقضايا السلوكية ولم يتركوها هملاً، وإنما وضعوا لها ضوابط مستمدة من القرآن والسنة.
ونحن نجد الآن بين المسلمين تنافراً في شخصياتهم، وخلافات كثيرة بينهم، وطريقة معاملة بعضهم لبعض ليست صحيحة، وباختصار قد تقطعت أواصر الأخوة الإيمانية فيما بينهم.
وهذا التقطع نشأ من عدم الاهتمام بمراعاة الجانب السلوكي الخلقي، وعدم الاهتمام بمشاعر الأخ المسلم، وعدم الاهتمام من الأخ المسلم بنفسية أخاه المسلم، كيف يعامله؟ كيف يتجنب الأشياء التي تؤذيه؟ كيف يبتعد عن جرح شعوره بالتصرفات القاسية المؤذية؟
والحقيقة -أيها الإخوة- أننا كثيراً ما نتلفظ بكلمات، ونأتي بأفعال لها مردود سلبي وسيئ على علاقتنا الأخوية مع إخواننا الآخرين، ينبغي أن ننقي هذه التعاملات، وأن نعرف كيف نتكلم، وكيف نخرج الأخ المسلم من موقف حرج يتعرض له، وكيف نتجنب إحراجه.
واليوم لا يوجد اهتمام بقضية عدم إحراج المسلم لأخيه المسلم، إلا من رحم الله يهتم بهذا الأمر.
هناك أناس من المسلمين يتميزون بالغلظة والجفاء واللامبالاة، لا يسألون عن أوضاع إخوانهم المسلمين، ينتقدونهم بأمور وطرق تجرح مشاعرهم، لا ينتقون الألفاظ المناسبة، فنريد أن نبيَّن في هذا الدرس أن هذا الأمر من صميم الإسلام، ونريد أن نبين من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن قبل ذلك أن هذه المسألة قد رُكِّز عليها تركيز عظيم، وأنها لم تهمل، وأنه يجب على الفرد المسلم أن يتمعن فيها وينظر كيف يعامل إخوانه.
وفي هذه الأثناء تنزل الآيات، ويصف القرآن هذا الصلح بأنه فتح مبين إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:1-2] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعاً).
لماذا كانت هذه الآية لها أثر عظيم؟
لأنها أزالت الكآبة والحزن من نفوس الصحابة.
إذاً: كان القرآن ينزل لأهداف منها: معالجة الحزن والكآبة في نفوس الصحابة، يقول الله عز وجل بعد غزوة أحد -تعليقاً عليها في الآيات-: فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ [آل عمران:153]، ففي غزوة أحد قتل من الصحابة خلق عظيم، وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أكبر حملة ألوية الدعوة إلى الله، وكان رجلاً صنديداً فقُتل، والرسول صلى الله عليه وسلم جرح جراحاً شديدة، وأشيع أنه قتل، وصلت هزيمة بالمسلمين.
يقول الله عز وجل: فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ [آل عمران:153]، ما معنى فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ ؟ ذكر بعض أهل التفسير من أوجه ما قيل في هذه الآية قول عبد الرحمن بن عوف : الغم الأول بسبب الهزيمة.
والغم الثاني: حين قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن قمئة : قتلت محمداً، وصدقه الكفار وبعض المسلمين.
لما شعر المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، نسوا في غمرة الغم العظيم الهزيمة، وصاروا الآن في الغم الجديد، وهو قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فانظر كيف عالج الله أثر الهزيمة في النفوس، بأن أعطاهم غماً آخر غير حقيقي وهو مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فانشغلت النفوس به عن الهزيمة، ثم تبين أنه غير مقتول، وكانت قد نسيت أشياء من الهزيمة، فانظر كيف عالج الله هذه النفسيات، وكيف شفى الله نفوس المسلمين من أمور كثيرة.
إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أحييكم في هذه الليلة في هذا المكان المبارك في بيت من بيوت الله عز وجل، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ليلتنا هذه ذات فائدة وما يقدم فيها له أثر في حياتنا ومعاملاتنا. والمسلم الحقيقي هو الذي يسير على نور من ربه، ويسلك صراط الله المستقيم، ويسير على طريق أهل السنة والجماعة ، الطريق الذي سار فيه الأنبياء والعلماء والشهداء، الطريق الذي بيَّن الله أنواره ومعالمه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والذي نلاحظه على الكثيرين أنهم قد يهتمون بأبواب أو بأجزاء من هذا الطريق، فقد يهتمون بالعقيدة فقط، أو يركزون على الطريقة الصحيحة في التفقه، والأخذ بالدليل، والبحث عن الحديث الصحيح، وقد يركزون على أعمال القلوب فقط وأمور الرقائق، وقد يركِّزون على الجانب الخلقي السلوكي، والصحيح والحظ العظيم هو التركيز عليها كلها مجتمعة، حتى يجعل طريقه هذا طريقاً متكاملاً.
وموضوع التعامل من الموضوعات المهمة، وأهل السنة والجماعة لهم أصول في قضايا التعامل والقضايا السلوكية ولم يتركوها هملاً، وإنما وضعوا لها ضوابط مستمدة من القرآن والسنة.
ونحن نجد الآن بين المسلمين تنافراً في شخصياتهم، وخلافات كثيرة بينهم، وطريقة معاملة بعضهم لبعض ليست صحيحة، وباختصار قد تقطعت أواصر الأخوة الإيمانية فيما بينهم.
وهذا التقطع نشأ من عدم الاهتمام بمراعاة الجانب السلوكي الخلقي، وعدم الاهتمام بمشاعر الأخ المسلم، وعدم الاهتمام من الأخ المسلم بنفسية أخاه المسلم، كيف يعامله؟ كيف يتجنب الأشياء التي تؤذيه؟ كيف يبتعد عن جرح شعوره بالتصرفات القاسية المؤذية؟
والحقيقة -أيها الإخوة- أننا كثيراً ما نتلفظ بكلمات، ونأتي بأفعال لها مردود سلبي وسيئ على علاقتنا الأخوية مع إخواننا الآخرين، ينبغي أن ننقي هذه التعاملات، وأن نعرف كيف نتكلم، وكيف نخرج الأخ المسلم من موقف حرج يتعرض له، وكيف نتجنب إحراجه.
واليوم لا يوجد اهتمام بقضية عدم إحراج المسلم لأخيه المسلم، إلا من رحم الله يهتم بهذا الأمر.
هناك أناس من المسلمين يتميزون بالغلظة والجفاء واللامبالاة، لا يسألون عن أوضاع إخوانهم المسلمين، ينتقدونهم بأمور وطرق تجرح مشاعرهم، لا ينتقون الألفاظ المناسبة، فنريد أن نبيَّن في هذا الدرس أن هذا الأمر من صميم الإسلام، ونريد أن نبين من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن قبل ذلك أن هذه المسألة قد رُكِّز عليها تركيز عظيم، وأنها لم تهمل، وأنه يجب على الفرد المسلم أن يتمعن فيها وينظر كيف يعامل إخوانه.
فالصحابة كانوا يدخلون بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم يريدون أن يأكلوا، ثم يمكثون بعد الأكل وقتاً طويلاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن ينصرف إلى أهله، ويرتاح، وينام، ويخلد إلى نفسه قليلاً.
وكان من الصحابة من يطيل في المجلس، وهذه الإطالة فيها أذى لصاحب البيت، فنزلت هذه الآية: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [الأحزاب:53]، اخرجوا بسرعة حتى يتهيأ لصاحب البيت أن يذهب إلى أهله، ويجلس، ويستريح: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ [الأحزاب:53] أي: أذىً نفسياً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، كان يستحي أن يقول: قد أطلتم فانصرفوا، ولكنه يريد منهم أن يشعروا بأنفسهم. بأن الوقت قد حان للانصراف.
قضية النجوى التي قال الله في شأنها: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:10]، لو وُجد ثلاثة في مجلس فلا يجوز لاثنين الحديث دون الثالث سراً من دون علمه بما يقال؛ فهذه هي النجوى.
فلا يجوز أن تأخذ شخصاً وتتكلم معه في السر، وتترك الشخص الآخر في المجلس، إلا إذا كان معه شخص رابع فلا مانع، حتى لا تحزنه؛ فربما يشعر أنك والآخر تتآمران عليه، أو أنه ليس على مستوى الكلام الذي تسر به إلى أخيك، هذا فيه أذى، ويدخل فيه أيضاً كما ذكر بعض أهل العلم، أن الاثنين يتحدثان بلغة لا يفهمها الشخص الثالث حتى ولو كانا يتكلمان بصوت مرتفع.
وقد تحدث هذه عند ما يكون رجل من كبار السن في المجلس، وهو لا يعرف اللغة الإنجليزية، فيأتي اثنان كل شخص يتكلم مع الثاني باللغة الإنجليزية، والكبير لا يفهم ماذا يقولان، وفي هذا أذى للنفوس ولذلك نهى الله عنه في القرآن، وكذلك على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإن ذلك يحزنه)، وهو حديث في الصحيح.
وبعد فترة من الزمن أعطى الله يوسف عليه السلام الملك والحكمة، وأعطاه النبوة، وقلَّده خزائن الأرض، وجاء بإخوته، وأبيه، وأهله من البدو وأسكنهم في المدينة.
فما هو موقف إخوة يوسف أمام أخيهم القادر، صاحب السلطة؟ يستطيع أن يفعل بهم أي شيء، ما هو موقفهم أمامه؟ وبأي شيء يشعرون؟ يشعرون بالخجل، بل بغاية الخجل منه، وقد يشعرون بالخوف من أن قد يبطش بهم.
فهذا الموقف ماذا يفعل فيه المسلم الحقيقي؟ يوسف عليه السلام كان حليماً، لا يريد أن ينتقم، فماذا فعل؟ وماذا قال لإخوته؟
قال: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف:100]، لم يقل: أخرجني من الجب، وإنما قال: أخرجني من السجن فقط، فلم يذكر الجب مطلقاً مع أن الله أخرجه من الجب لماذا؟
حتى لا يشعرهم بأنهم أخطئوا، وأنه يوبخهم.
وأيضاً هو عندما أتى بأهله رفع عنهم جهد الجوع والتعب الشديد، والعيشة القاسية في البادية، وأتى بهم إلى المدينة، فحتى لا يَمتنَّ عليهم، ماذا قال لهم؟
قال: وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف:100] أي: الحمد لله الذي جاء بكم من البدو، ولم يقل: وأنا أتيت بكم من البادية، ووطّنتكم في المدينة، وأعطيتكم وأعطيتكم وأعطيتكم ... لماذا؟ حتى لا يشعرون بالذل، وأنه هو الذي تفضل عليهم، وإنما تلافى هذا الشعور الخاطئ، حتى يحفظ كرامتهم وماء وجههم، فصلاة الله وسلامه على هذا النبي الكريم.
ثم قال: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف:100] من المخطئ؟
إنهم إخوته الذين أخطئوا لكنه قال: من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، فوضع القضية بكاملها على الشيطان، ولماذا وضع القضية بكاملها على الشيطان؟
حتى لا يشعرهم بأنهم أخطئوا.
وهذا أسلوب نحن نفتقده، فنحن نفتقد أسلوب التعامل مع شخص أخطأ عليك، ثم قدرت عليه وأصبحت في موقف القوة، كيف تعامله؟ كيف تعفو عنه وتصفح؟ ليس فقط تعفو وتصفح، بل كيف تتجنب أن تشعره بأنك تتفضل عليه اليوم، يوسف ليس فقط عفا عنهم، لكنه لم يشعرهم أنه قد تفضل عليهم، فقال: فعلت لكم، وفعلت لكم ... وأنا الآن أنعم عليكم وأعف عنكم، أنتم ظلمتموني، لكن أنا أحسن منكم... لا. لكن أتى بهذا الأسلوب اللطيف.
لماذا كان من السنة أن الراكب يسلم على الماشي؟
لأن الراكب الذي يركب السيارة أو الدابة مستواه أعلى من الماشي على رجله، فعندما يبتدئ الراكب بالسلام على الماشي يكون في هذا إكرام لنفس الماشي.
وعندما يسلم الماشي على القاعد، من الذي في الموقف الأعلى؟ الماشي، فهو الذي يمر على القاعد؛ لذا فهو الذي يلقي عليه السلام، وفي هذا اعتبارات معينة في آداب السلام لحفظ المشاعر ومراعاة الشعور.
وبعض الناس الجهلة اليوم إذا جاء ووجد المجلس ممتلئاً، يقول: قم، فيقيم شخصاً ويجلس مكانه، وهذا خطأ؛ لأنك عندما تقول له: قم أمام الناس، ثم تقعد مكانه فقد آذيته، وجرحت شعوره أمام الناس، ولكن اجلس حيث انتهى بك المجلس.
ولذا فإن بعض المتكبرين عندما يدخل المجلس ولا يجد مكاناً في صدر المجلس يستمر واقفاً ينتظر شخصاً يقوم حتى يجلس مكانه، عجيب! أين التواضع؟ وإن قام شخص فبنفس منكسرة لا عن طواعية، بخلاف ما لو دخل وجلس فقام له شخص وقال له: اجلس في المكان هذا، أو صاحب البيت طلب منه أن يجلس في هذا المكان، أما هذا فينتظر ليقوم له شخص حتى يجلس في مكانه. وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه، يقول: لا. اجلس فيه.
وعن أبي هريرة أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به).
فمثلاً: كان شخص جالساً في مكان كالصف الأول في المسجد فأحس بريح في بطنه وأنه بحاجة إلى أن يجدد الوضوء فترك مكانه وذهب إلى مكان الوضوء ليتوضأ ويرجع، وفي أثناء غيابه جاء شخص وقعد في مكانه، وعندما رجع الشخص الذي ذهب يتوضأ إلى مكانه وجد أن هناك شخصاً آخراً فيه، فمن الأحق بالمجلس؟
الأول؛ لأن غيابه قصير، بخلاف شخص ذهب إلى البيت أو خرج ثم جاء بعد ساعة، انتهى حقه في المجلس، لكن فترة غياب بسيطة تحفظ لصاحب المجلس مكانه، أي: إذا رجع فهو أحق به حفظاً لنفسيته وشعوره.
فلماذا جعل الإسلام صاحب البيت أولى بالإمامة من الضيف، حتى لو كان الضيف أحفظ؟
لأنه صاحب البيت والسلطان، فليس من المناسب لمشاعره ونفسيته أن يتقدم عليه أحد الضيوف، فمادام هو صاحب البيت فهو أحق بالإمامة، إلا إذا تنازل وقال: صلِّ يا فلان! فهنا يجوز للضيف أن يتقدم.
وهذا الكلام فيما لو أن المسجد كان بعيداً جداً، ولا يسمعون النداء، أو أن الصلاة فاتتهم، أو تعذَّر خروجهم من البيت، وإلا فالأصل أنهم يصلون في المسجد.
احتراماً لنفسيته ومشاعره، فالكبير هو الذي يتكلم أولاً قبل الصغير، هذا من آداب الإسلام، فلو تكلم الصغير أولاً لكان فيها نوع من الاستهانة بالكبير، وإذا لم يرد الكلام تكلم الصغير.
وفي الحديث الصحيح عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه، أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً، وهو بـالأبواء أو ودان ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان محرماً، والمحرم لا يجوز له أن يصيد وهو محرم، ولا أن يأكل صيداً قد صِيدَ لأجله.
والصحابي هذا لا يعرف الحكم، جاء واصطاد للرسول صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً -والحمار الوحشي يجوز أكل لحمه، لكن الحمار الأهلي الذي في المدن والذي يحملون عليه لا يجوز أكله، لكن الحمار الوحشي الذي يعيش في الصحراء أو في الغابات فإنه يجوز أكله- وجاء يهديه إليه، فتصور الموقف، رجل يهدي لآخر هدية، يقول له: تفضل هدية، لكنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصح أن يأكل منه، فماذا يجب عليه؟ أن يرده، ولو رده إلى صاحبه لتأثر، فماذا فعل عليه السلام؟
فالرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن السبب، قال: يا فلان! لم نرده عليك أنك دون المقام، أو أن هديتك ليست في المستوى، لا، وإنما رددناه عليك لأنَّا في حالة إحرام، ولا يجوز لنا أن نأكل الصيد الذي صيد لأجلنا، فلما بين السبب ارتاح الصحابي واطمأن.
وذات مرة أهدى أحد الصحابة خميصة لها أعلام -نوع من الملابس فيه زينه- للنبي صلى الله عليه وسلم، فلبسه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قام للصلاة صار هذا الثوب يشغله في الصلاة، وهو لا يحب أن يشغله شيء عن الصلاة، فخلعها وقال: (اذهبوا بها إلى
ولو ردها إلى الصحابي لتأثرت نفسيته وشعر بالحزن، فقال عليه الصلاة والسلام: (وأتوني بانبجانية
إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أحييكم في هذه الليلة في هذا المكان المبارك في بيت من بيوت الله عز وجل، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ليلتنا هذه ذات فائدة وما يقدم فيها له أثر في حياتنا ومعاملاتنا. والمسلم الحقيقي هو الذي يسير على نور من ربه، ويسلك صراط الله المستقيم، ويسير على طريق أهل السنة والجماعة ، الطريق الذي سار فيه الأنبياء والعلماء والشهداء، الطريق الذي بيَّن الله أنواره ومعالمه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والذي نلاحظه على الكثيرين أنهم قد يهتمون بأبواب أو بأجزاء من هذا الطريق، فقد يهتمون بالعقيدة فقط، أو يركزون على الطريقة الصحيحة في التفقه، والأخذ بالدليل، والبحث عن الحديث الصحيح، وقد يركزون على أعمال القلوب فقط وأمور الرقائق، وقد يركِّزون على الجانب الخلقي السلوكي، والصحيح والحظ العظيم هو التركيز عليها كلها مجتمعة، حتى يجعل طريقه هذا طريقاً متكاملاً.
وموضوع التعامل من الموضوعات المهمة، وأهل السنة والجماعة لهم أصول في قضايا التعامل والقضايا السلوكية ولم يتركوها هملاً، وإنما وضعوا لها ضوابط مستمدة من القرآن والسنة.
ونحن نجد الآن بين المسلمين تنافراً في شخصياتهم، وخلافات كثيرة بينهم، وطريقة معاملة بعضهم لبعض ليست صحيحة، وباختصار قد تقطعت أواصر الأخوة الإيمانية فيما بينهم.
وهذا التقطع نشأ من عدم الاهتمام بمراعاة الجانب السلوكي الخلقي، وعدم الاهتمام بمشاعر الأخ المسلم، وعدم الاهتمام من الأخ المسلم بنفسية أخاه المسلم، كيف يعامله؟ كيف يتجنب الأشياء التي تؤذيه؟ كيف يبتعد عن جرح شعوره بالتصرفات القاسية المؤذية؟
والحقيقة -أيها الإخوة- أننا كثيراً ما نتلفظ بكلمات، ونأتي بأفعال لها مردود سلبي وسيئ على علاقتنا الأخوية مع إخواننا الآخرين، ينبغي أن ننقي هذه التعاملات، وأن نعرف كيف نتكلم، وكيف نخرج الأخ المسلم من موقف حرج يتعرض له، وكيف نتجنب إحراجه.
واليوم لا يوجد اهتمام بقضية عدم إحراج المسلم لأخيه المسلم، إلا من رحم الله يهتم بهذا الأمر.
هناك أناس من المسلمين يتميزون بالغلظة والجفاء واللامبالاة، لا يسألون عن أوضاع إخوانهم المسلمين، ينتقدونهم بأمور وطرق تجرح مشاعرهم، لا ينتقون الألفاظ المناسبة، فنريد أن نبيَّن في هذا الدرس أن هذا الأمر من صميم الإسلام، ونريد أن نبين من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن القرآن قبل ذلك أن هذه المسألة قد رُكِّز عليها تركيز عظيم، وأنها لم تهمل، وأنه يجب على الفرد المسلم أن يتمعن فيها وينظر كيف يعامل إخوانه.
إنه راغ إلى أهله بدون أن يقول لهم: عن إذنكم سأذهب وآتي بالغداء، ثم هم يقولون: لا نريد، وهو يقول: لابد منه، ولكن راغ إلا أهله بخفية، وأخذ عجلاً وجعله حنيذاً وهذا طعام لذيذ، وهذا من أجل إكرام الضيف، ثم قربه إليهم، ولم يقل: تعالوا أنتم على الأكل، بل قربه إليهم، فمن الآداب أن تقرب الطعام إلى الضيف.
ولكن لو حدثت صعوبة في تقريب الطعام للضيف؛ لأن السفرة لابد أن تجهَّز-لأننا الآن لم نعد نأكل صنفاً واحداً بل نأكل عشرين صنفاً، فيصعب أن تأتي بالرز، ومن ثم اللحم، والفواكه، والكيك- فلا بأس بأن تضعه في غرفة ثم تدعوهم إليه، لكن لو قربته إليهم لكان أحسن.
ثم قال: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] واليوم بعض الناس يضعون الطعام ويسكتون، ولا يقولون للضيوف شيئاً، والضيوف ينظرون ويخجلون أن يمدوا أيديهم، لكنَّ إبراهيم عليه السلام قال: ألا تأكلون؟ وهذا من مراعاة شعور الضيف.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني مجهود -قد بلغ مني الجهد وما عندي شيء آكله- فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء -انظر الزهد- ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا الليلة يرحمه الله؟ فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله!
فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته -الصحابي يقول لامرأته-: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعليهم بشيء -أي: اجعلي الأولاد الصغار يتلهون بشيء- فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنَّا نأكل، فإذا أهوى ليأكل، قومي إلى السراج حتى تطفئيه.
فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها -أضاءت السراج- ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته.
انظر -سبحان الله العظيم!- كيف فقه النساء، هذا الأدب العظيم، قامت كأنها تصلحه فأطفأته، لماذا أطفأته؟ حتى لا يشعر بأنهما لا يأكلان معه؛ لأنه لا يوجد إلا طعام قليل قدماه وجلسا ولم يأكلا، ولو كان الضوء موجوداً لشعر الضيف بالإحراج ولم يهنأ بالأكل لأنه يأكل وهما لا يأكلان!
فانظر إلى تلك المرأة كيف راعت شعور هذا الضيف، وأطفأت السراج حتى لا يرى هذا الضيف أنهم لا يأكلان شيئاً، ليس هذا فقط.
قال: فجعلا يريانه أنهما يأكلان، أي: أتيا بأصوات وحركات إذا سمعها الشخص الآخر يتوهم أنهم يأكلون، انظروا الصحابة إلى أي درجة وصل بهم الأمر، قال: فقعد وأكل الضيف، فباتا طاويين، والأولاد الصغار ناموا من الجوع.
ونحن اليوم نبذر، فالواحد منا عنده الملايين ويقدم للضيف مائدة طويلة عريضة أنفق عليها الألوف، لكن ليس هذا هو الكرم الحقيقي، الكرم هو أن يكون ليس عندك شيء أو عندك شيء تحتاجه، فتؤثر به غيرك، فهذا أعلى الدرجات، ولكن مع ذلك إذا جاءك الضيف وعندك قليل أو كثير أنت تكرمه، لا كما يفعل الناس اليوم يتكلفون ما ليس في وسعهم، وربما يحلفون بالطلاق على الضيف إلا نزل عندهم وأقاموا له الذبائح وهذا يحلف بالطلاق، والثاني مثله...!
والحلف بالطلاق من عادات الجاهلية، وربما يرفض، أو يعتذر؛ فيقع الطلاق على زوجته من حيث لا يشعر. وما المانع من أن يعزم عليه بدون طلاق حتى لا يقع فيما لا يحمد عقباه بعدها؟
ثم يأتي هذا الشخص إلى العلماء يسال: أنا حلفت على الضيف بالطلاق ولم يفعل، فما حكم زوجتي؟
لماذا أورطت نفسك أصلاً في هذا؟!
والتلفظ بالطلاق في هذه المناسبات صار -مع الأسف- مسألة من أسهل الأمور عند الناس. وهذا أمر ينبغي علينا الانتهاء عنه واجتنابه.
فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة)، أي: مِنْ عِظم ما فعلوا عجبَ الله عز وجل من صنيعهما، سبحان الله العظيم! وفي رواية: (ضحك الله من صنيع فلان وفلانة) وضحك الله عز وجل صفة تليق بجلاله وعظمته، ليست كضحك المخلوقين، وهي تدل على رضا الرب عز وجل عن هذا الفعل، ولكنه ضحك يليق بجلاله وعظمته.
أحياناً يأتيك ضيف، وتكرمه، وتذبح له، فيشعر الضيف أنك تكلفت، فبعض الناس يتعمَّدون إشعار الضيف أنهم تكلفوا له، أتينا بالذبيحة وصنعنا وفعلنا، فيُحرَج الضيف.
انظر معي إلى هذا الحديث الذي رواه أبو داود وابن حبان عن لقيط بن صبرة قال: (كنت وافد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما قدمنا لم نصادفه في منزله، وصادفنا
شخص آتى له ضيف فجأة، ولا يوجد عند صاحب البيت أكل، كيف يتلافى الضيف الموقف ويشعر صاحب البيت أنه لا يضر وأنه غير متأثر، ولا يعتبرها إهانة؟
هذا الحديث الصحيح في السلسلة الصحيحة ، يقول ثوبان رضي الله عنه: ( نزل بنا ضيف بدوي ) أي: عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام بيوته -ما هي بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل هي فلل؟ كل بيت حجرة، هذه حجرة عائشة ، وهذه حجرة أم سلمة، ولو وقف الواحد فيها لضرب رأسه بالسقف.
( فجعل يسأل عن الناس ) هذا البدوي أتى من البادية، والرسول صلى الله عليه وسلم حكيم يهتم بأمور المسلمين، فجلس مع البدوي يسأله، يقول: كيف البادية عندكم؟ أظنهم يصلون ويؤدون الشعائر، ومهتمين بالدين، ويراعون الحلال والحرام، ويسألون عما أشكل عليهم؟ فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل البدوي عن الناس في البادية: ( كيف فرحهم بالإسلام؟ وكيف حدبهم على الصلاة؟ فما زال يخبره من ذلك بالذي يسره، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نضراً، فلما انتصف النهار وحان أكل الطعام، دعاني مستخفياً -انظر الأدب، فلم يقل: يا ولد! أحضر الطعام، لا- قال: دعاني مستخفياً لا يألو: أن ائت فقالت عائشة لما ذهب ثوبان إليها: والذي بعثه بالهدى ودين الحق ما أصبح في يدي شيء يأكله أحد من الناس. فردني إلى نسائه -الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الخبر، يقول: اذهب إلى فلانة، وإلى فلانة، على زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم كلهن- كلهن يعتذرن بما اعتذرت به عائشة رضي الله عنها، قال: فرأيت لون رسول الله صلى الله عليه وسلم خسف
والبدوي كان ذكياً رضي الله عنه، وكان رجلاً فقيهاً، لم تجعله البادية ينسى قضية الاهتمام بالنفوس ومراعاة الشعور، ( فقال البدوي لما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرج، قال: إنَّا أهل البادية معانون على زماننا، لسنا بأهل الحاضرة، فإنما يكفي القبضة من التمر، يشرب عليها من اللبن أو الماء فذلك الخصب ) أي: إذا وجد تمر وعليه ماء أو لبن، فهذا أعلى شيء، وهذا هو الخصب.
وبعد ذلك حلب له الرسول صلى الله عليه وسلم، وصارت معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم حيث درت شاة من الشياه، وشرب البدوي حتى ارتوى.
فانظر كيف أن هذا البدوي من فطنته ورقته ومراعاته لهذه الأشياء ذكر هذا الكلام، حتى لا يحرج الرسول صلى الله عليه وسلم.
لمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً، وعك أبو بكر وبلال -أصابهم المرض- قالت عائشة : فدخلت عليهما فقلت: يا أبتي! كيف تجدك؟ ويا بلال! كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله |
وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى، يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة بواد وحولي إذخر وجليل |
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل |
هذه أشياء كانت في مكة وبلال يحن إليها، الإذخر، ومياه مجنة ، وشامة وطفيل، أشياء تُذكّر بلالاً بـمكة. وهذه الوحشة التي يعاني منها بلال هي لأنهم تركوا البلد والوطن لله مهاجرين في سبيل الله، قالت عائشة : (فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها -أي نقها من الأمراض- وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حُمَّاها فاجعلها بـالجحفة) كان في المدينة حمى فنقلت كمعجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت بـالجحفة، وهو مكان يبعد عن المدينة .
فانظر كيف راعى الرسول صلى الله عليه وسلم أحوال هؤلاء الغرباء وشعورهم، وفي البخاري أيضاً عن مالك قال: (أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون -أي: أتينا من بلدتنا نطلب العلم عند الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن في سن الشباب، متقاربون في السن- فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، فلما ظن أنّا قد اشتقنا إلى أهلنا، سألنا عمن تركنا خلفنا، فأخبرناه -أي قال: كيف أهلكم؟ كيف تركتموهم؟ كيف الذين جئتم من عندهم؟- ثم قال عليه السلام: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم).
لم يقل: ابقوا عندي زيادة تتعلمون، بل راعى شعورهم، فهم شباب صغار فارقوا الأهل والأوطان والأحبة، قال: (ارجعوا إلى أهليكم ) شفقة بهم وعليهم، ومراعاة لنفوسهم وشعورهم.
يقول علي رضي الله عنه: ( كنت رجلاً مذاءً )، أي يخرج منه المذي بسرعة وبكثرة عند ملامسة النساء أو الاجتماع بالزوجة مثلاً، وزوجته هي فاطمة الرسول بنت صلى الله عليه وسلم . والمذي هو الذي يخرج من الرجل عند مداعبة الزوجة، أو عند الجماع فالذي يخرج المني لا المذي. فكان علي رضي الله عنه لا يدري بحكم المذي هذا، وكان يغتسل حتى ولو كان الجو بارداً إذا خرج منه حتى تشقق ظهره.
فأراد أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحكم، ولو أنه سأله لشعر بالحرج منه، وهذا الشيء الذي يسأل عنه يخرج منه عندما يجلس علي مع بنت الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقال علي : ( فأمرت
وجاء معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه إلى المدينة ولم يكن يعلم أن الكلام في الصلاة قد حرم، فعطس رجل من الناس، فقال له معاوية بن الحكم : يرحمك الله، فضرب الصحابة على أفخاذهم فقال: ما فعلت؟! وهو في الصلاة ولا يدري أن الكلام في الصلاة قد حرِّم، لأنه في أول الأمر كان الكلام في الصلاة مباح، كان الواحد يسأل الآخر ويقول: متى نزلت هذه الآية التي نسمعها الآن من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ثم نزل قول الله عز وجل: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] ومُنع الكلام.
فلما سلموا من الصلاة وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يرفق بهذا الرجل ويقول: ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي كذا وكذا ) فعلمه بدون أن يشهر به، وبدون أن يقسو عليه.
وكذلك الأعرابي الذي بال في المسجد، رفق به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعطس رجل في مجلس ابن المبارك ولم يقل الحمد لله، فرموه الناس بأبصارهم، ينكرون عليه كيف لم يقل: الحمد لله، فتدارك عبد الله بن المبارك الرجل قبل أن تلتهمه أبصار الناس، فقال له: ماذا يقول الرجل إذا عطس؟ قال: يقول: الحمد لله، قال عبد الله بن المبارك : يرحمك الله.
فانتهت المشكلة، جعله يقول: الحمد لله من غير إحراج، ورد عليه يرحمك الله.
ومن الأمثلة -أيها الإخوة- التي تدل أيضاً على مراعاة النفوس في طلب العلم: ذُكر أن الأصمعي اجتمع بـالخليل بن أحمد ، وحرص على فهم العروض منه -العروض هي أوزان الشعر- فأعياه ذلك، فقال له الخليل بن أحمد يوماً -يريد أن يفهمه من غير أن يجرح شعوره-: قطِّع لي هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع |
ففهم ما أراد، فأمسك عنه ولم يشتغل به.
مثل هذا حادثة زيد بن أرقم -في الصحيح- لما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقول المنافق وتكذيبه للرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء المنافق وحلف أنه ما قال هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بقول المنافق ولم يأخذ بقول زيد بن أرقم -وهو شاب صغير- فاتهم الناس زيد بن أرقم وقيل له: ما أردت إلا أن مقتك رسول الله وكذبك والمسلمون.
قال: فوقع عليَّ من الهم ما لم يقع على أحد.
قال: ( فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قد خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني، وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، ثم إن
مشاركة الحزانى في أحزانهم:
وفي يوم بدر عندما أسر الرسول صلى الله عليه وسلم سبعين من المشركين، سأل الصحابة، قال: ( ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال قال عمر: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت، فإذا كان من الغد جئت، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر يبكيان، فقلت: يا رسول الله! من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت -انظر قال عمر : أخبرني ماذا يبكيك لعلي أشارك في البكاء يا رسول الله!- وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما
فهذا ابن الخطاب يريد أن يشارك بالبكاء.
وكذلك عائشة لما رميت في حديث الإفك، واتهمها المنافقون وسرت الإشاعة بين المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتبين له شيء، واعتزل عائشة ، تقول عائشة : ( وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها فجلست تبكي ).
مع أن المشكلة ليست مشكلتها هي، لكن جلست تبكي من باب مشاركة عائشة في المصيبة.
الشاهد: أن مشاركة الناس في أحزانهم مهمة، فلا يكون المرء في مصيبة وهو يبكي وأنت بجانبه تضحك، وتقول أمامه الطرائف والنكت.
ولو أنه فرح، ماذا تفعل؟ تشاركه أيضاً في الفرح.
كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة العسرة المعروفة والمشهورة لما تاب الله عليه وبشره شخص بصوت من بعيد، يقول: ( فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة -انظر الصحابة كيف يشاركون بعضهم البعض- ويقولون: لتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس، فقام
عندما يتنافس اثنان في عمل، وواحد منهما ينجز العمل والثاني لا ينجزه، والذي لم ينجز العمل هو صادق يريد إنفاذ العمل، لكن فاز به الآخر، فلابد من مراعاة شعور هذا الرجل.
كان اثنان من الصحابة - معاذ ومعوذ - يتسابقان لقتل أبي جهل، وأحدهما هو الذي قتله فعلاً بالضربة القاضية، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتياه بعد القتل، قال: ( أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله ) أي: كلاكما شارك في قتله، لماذا؟ مراعاة للشعور، حتى لا يشعر الشخص الآخر أن ذاك هو الذي أدى المهمة وهو فشل.
ولو رأيت إنساناً في غم، ماذا تحاول أن تفعل؟ تهون عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم في حادثة النفقة على نسائه، -والرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده النفقة- جلس مهموماً حزيناً، فدخل عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً، فقال عمر في نفسه: ( لأقولن شيئاً أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! لو رأيت
فانظر إلى عمر كيف فعل هذا التصرف حتى يخفف عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
أحد الصحابة جاء وليس معه راحلة، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً يريد شيئاً، فما تفطن له الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، قال الراوي: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل شيء ) حتى ظن الصحابة أنه لابد من توزيعها على المسلمين.
فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف فطن لهذا الرجل، فهو يصرف بصره لأنه محتاج إلى شيء ولا يتكلم لأنه محرج، ولا يريد أن يعرف الناس.
معرفة وجوه الناس: إذا كان فيه جوع أو مشكلة أو شيء يُعرف من وجهه، ولو كنت تتفرس في وجوه إخوانك المسلمين لعرفت من وجوههم ماذا يريدون.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: ( آلله الذي لا إله إلا هو! إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه -أي: من بيوتهم إلى المسجد- فمر
( ثم مرَّ بي
فكان عليه الصلاة والسلام يعلم من نبرات الصوت ومن الألفاظ ومن تعابير الوجه ما هي حالة المتكلم، ولذلك في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام لـعائشة : (إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت عليَّ غضبى -مراعاة الزوج لحال زوجته- أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد -تحلفين برب محمد- وإذا كنت عليَّ غضبى قلت: لا ورب إبراهيم).
ولو أن أناساً احتاجوا للسؤال وجاءوا إلى رجل عنده خير وأرادوا من الخير الذي عنده، فحتى لا يريق ماء وجوههم، لا ينتظرهم حتى يسألوه، لكن يقول: لعلكم جئتم تحتاجون شيئاً، ماذا تريدون؟
ولذلك لما جاء أبو عبيدة من البحرين على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة جياع، سمعوا بالخبر فجاءوا للرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فتعرضوا له في الطريق، فما انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يقولوا له: سمعنا أن أبا عبيدة جاء من البحرين فأعطنا من المال الذي جاء به، لا. بل بادرهم هو، قال: ( أظنكم سمعتم أن
ولو أن شخصاً أخطأ وندم على خطئه، أو عمل عملاً خطأ، فيحاول المسلم أن يستر على أخيه المسلم، ولو أخطأ في حقك لا تدعُ عليه، وتقول: اللهم أهلكه، ولكن قل: اللهم اهده، اللهم يسر له أمره، اللهم اغفر له ...
قال المقداد: ( فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي -وبقي نصيب الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت له بعد- فقال: محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، وما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيت فشربتها، فلما أن وغلت في بطني، وعلمت أنه ليس إليها سبيل -لا يمكن أن تخرج- ندمني الشيطان -وهذا الشيطان لا يترك أحداً، لا إذا أطاعه ولا إذا عصاه- فقال: ويحك! ما صنعت؟! أشربت شراب محمد؟! فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك؟ يقول فقال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فَسلّم كما كان يُسلّم، ثم أتى المسجد فصلى، فلما أتى شرابه كشف عنه فلم يجد فيه شيئاً، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليَّ فأهلك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني -هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، حريص على المؤمنين، عزيز عليه ما عنتم، بالمؤمنين رءوف رحيم- فلما سمع فقلت: اشرب يا رسول الله! فشرب وشرب وشرب، قال: فلما رأيته قد شرب وشبع، ضحكت حتى استلقيت على قفاي من الضحك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إحدى سوءاتك يا مقداد! فقلت: يا رسول الله! صار من أمري كذا وكذا. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: هلا أيقظت صاحبيك ليشربا معنا الآن، قال: والله يا رسول الله! لا أبالي من شرب بعدك بعدما شربت يا رسول الله!
وهذه قصة صحيحة رواها مسلم وغيره.
مثال: يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ) إذا أحدث أحدكم في صلاته ) وهذا موقف محرج، تصور شخصاً واقفاً في الصلاة، وخرجت منه ريح، أو أنه سجد وخرجت منه ريح، ماذا يفعل؟
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف) لماذا؟
كأنه أصابه الرعاف، لأنه لو ما فعل كذا وخرج، يقول الناس: هذا فعلها في الصلاة، لكن عندما يخرج ويده على أنفه يظن الناس أن به رعافاً.
والله الذي لا إله إلا هو! إن هذا لدين عظيم، ووالله الذي لا إله إلا هو لا تجدون هذا عند اليهود أو النصارى أو سائر أصحاب الديانات، بل ولا عند أصحاب الأدب أو من ليس عندهم أدب؛ لأن هذا شيء خاص بعظمة هذا الدين.
وقد يقول قائل: ليتك ما علمتنا وما أعلنت هذا، فلو رأينا من يخرج من الصف نقول: أكيد أنه كذا وكذا، لكن بعض أهل العلم قال: لو رأيت رجلاً خرج من الصف وهو على هذه الحال هل تجزم أنه قد أحدث في الصلاة؟ لا. لأنه قد يكون رعف فعلاً، فما زال في الأمر احتمال، فمع هذا الحديث إلا أنك لا تستطيع الجزم بالحال التي هو عليها.
في حديث صحيح آخر -لولا أن الصحابي قاله- قد تستغربون من لفظه، فيه لفظ بعض الناس يظنون أنه شَين في الحديث، فيقولون: كيف تقوله في المسجد؟! لكن لأنه حديث صحيح رواه الطبراني في الأوسط عن جابر، وهو في صحيح الجامع (نهى صلى الله عليه وسلم عن الضحك من الضرطة) قد يكون بعض الناس جالسين في المجلس، ثم يحدث شخصاً حدثاً فيه صوت، ماذا يفعل الناس؟ يضحكون، على ماذا؟ على هذا المسكين.
هذا مسكين عنده غازات، لا يملك نفسه وليس متعمداً، عدل الجلسة فإذا به يخرج منه هذا: (فعلام يضحك أحدكم مما يفعل؟!)، أي: هذا الشيء قد يحدث منك ومن غيرك، فلماذا تضحك على أخيك المسلم؟ فاستمر في حديثك وكأنه لم يحدث شيء، وهذا من الآداب، حتى لا يُحرج الرجل القاعد، فلو ضحكوا عليه لعله يترك المجلس ويذهب.
كذلك لو وقع شخص وقعة مشينة، أو تعثر فوقع ماذا يفعل الناس؟ يضحكون عليه، عن الأسودي قال: ( دخل شباب من قريش على
ومن هذا الباب أيضاً -عدم إحراج الناس- قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا تحدوا النظر إلى المجذومين)، وفي رواية: (لا تديموا النظر إلى المجذومين) أي: الذي به جذام أو برص أو أي تشوه في الخلقة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تحدوا النظر إلى المجذومين) إذا رأيت أبرص أو من فيه بهاق أو مجذوماً لا تحدق فيه، لماذا؟
بعض الناس قد يقول حتى لا تنتقل إليك العدوى، وهذا ليس بصحيح، لكنَّ السبب حتى لا تحرجه.
إذا جاء رجل مصاب بالبرص أو غيره فدخل وجلس، فجعل الناس ينظرون إليه. فماذا يحدث في نفسه؟ يحزن.
ومن الغرائب أني ذات مرة قلت هذا الحديث في مسجد، وكان رجل يجلس وفيه هذا المرض، وليس أحد من الناس ينظر إليه فلما قلت هذا الحديث إذا بالذي بجواره ينظر إليه بنوع من الاحتقار، وكأن الواحد يقول: ما أصابني الذي أصابك، أين أنا وأين أنت؟ وهذا ابتلاء من الله، يمكن أنه الآن كُفّرت عنه سيئات كثيرة هي ما زالت على ظهرك.
انظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يرى أحد الصحابة قد أصابه الأذى.
كعب بن عجرة جيء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الإحرام، قال: (فحُمِلتُ إليه والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام ملطفاً عليه: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى -أي: لم أكن أتوقع أن يصل بك الحال إلى ما أنت عليه الآن- أتجد شاة؟ قلت: لا، فنزلت هذه الآية فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] -تخفيف من الله على عباده- فقال: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، نصف صاع طعام لكل مسكين، قال: فنزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة، فقال عليه السلام: احلق رأسك واذبح أو صم أو أطعم) مع أنه في الإحرام لا يجوز حلق الشعر، لكنه مسكين القمل قد آذاه.
من مراعاة الشعور أيضاً المرأة البكر، إذا جاء القاضي يسألها أمام الناس، يقول لها: ترضين بفلان؟ هل تتوقعون امرأة بكراً تقول أمام القاضي: نعم أرضى بفلان، وأمام العالم والناس؟ بل تسكت، كيف يعرف القاضي أنها موافقة؟ بالسكوت، ولذلك عليه الصلاة والسلام قال: (ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله! وكيف أذنها؟ قال: أن تسكت -وفي رواية-: إذنها صماتها) إذا سكتت فهي موافقة، وإذا رفضت ستقول: لا.
فلماذا جعل الصمت؟ حتى لا تحرج هذه المرأة المسكينة، انظر إلى الإسلام كيف يراعي الشعور.
مثلاً: الزوجة تريد أن تلعب.
الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي صغيرة، والمرأة وهي صغيرة تحب اللهو واللعب في حدود الشرع، فلا يأت واحد يغلق عليها ويحجر، ويقول: ممنوع أن تلعبي أو تقومي أو تتحركي من مكانكِ، بل تغسلين، وتطبخين، وتكنسين فقط، وليس لك غير هذا. لا، لا يصلح هذا.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يداعب نساءه، وكان يداعب عائشة ، وأم سلمة ، ويمازحهم، ويتكلم ويتلطف معهم، ومرة سابق عائشة في السفر، قال للصحابة: تقدموا، حتى لا يراهم أحد، فسابق عائشة.
عن عائشة رضي الله عنها: ( أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -كانت عندها دمى تلعب بها- قالت: وكانت تأتيني صواحبي، فكنَّ ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: يحدث نوع من الخجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم- قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إليّ ) يدخلهنَّ على عائشة يلعبن معها.
لو أنَّ ناساً مخلصين عملوا عملاً ولم ينجحوا، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من غزية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم، إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غزية أو سرية تخفق وتصاب إلا كَمُلَ أجرها) أخفقوا ولم ينتصروا فلهم الأجر كاملاً، والذين انتصروا وأخذوا المغانم لهم ثلثي الأجر.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (أيما مسلم رمى بسهم في سبيل الله فبلغ مخطئاً أو مصيباً فله من الأجر كرقبة أعتقها من ولد إسماعيل) فلو كان معك بندقية وجاءك أعداء المسلمين، وأطلقت عليهم، أصبت أو لم تصب كأن لك من الأجر مثل رقبة أعتقتها من ولد إسماعيل، حديث صحيح رواه الطبراني عن عمرو بن عنبسة.
وكذلك يقول عليه الصلاة والسلام في مراعاة شعور الناس الذين يريدون أن يخرجوا للجهاد وما استطاعوا: (إن في المدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر) أي: أصبح لهم الأجر مع أنهم قاعدون، لكنهم لا يستطيعون الذهاب للجهاد.
وفي مراعاة شعور التائب إذا تاب من الذنب، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد ولا يثرِّب) أي: لا يعيِّبها، شخص عمل الذنب وتاب، لا تعيّره بالذنب تقول: اذكر كذا، لكن استر عليه، من ستر مسلماً ستره الله، ولا تعيبه أمام الناس أنه فعل الذنوب ما دام أنه تاب.
وختاماً:
أيها الإخوة: من عظمة هذا الموضوع ومن أهميته أنه ليس فقط مراعاة شعور بني الإنسان ونفسياتهم، بل إن الإسلام جاء بمراعاة شعور الحيوانات، تقول لي: كيف جاء الإسلام بمراعاة شعور الحيوانات؟
أقول لك: اسمع هذا الحديث الصحيح: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضعاً رجله على صفحة شاة -أي: أتى بشاة ووضع رجله على جنب الشاة- وهو يحد شفرته ) تخيل المنظر: الشاة على الأرض وهو واضع رجله عليها، ويحد الشفرة (وهي تلحظ إليه ببصرها -وهذا شيء يقطع القلب حتى ولو حيواناً، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل في هذه الحالة- فقال: أتريد أن تميتها موتات -مقرعاً وموبخاً، تميتها قبل أن تموت- هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها) مراعاة للشعور حتى في البهائم، وهذا من رحمة الإسلام.
فإذاً -أيها الإخوة- نقول: هذا الباب باب عظيم، وقل من ينتبه له من المسلمين اليوم، وكم من أناس جرحوا شعور إخوانهم بكلمات وتصرفات سيئة، وكم من أواصر تقطعت وأناس هجروا بعض ولم يسألوا عن بعض بسبب كلمة واحدة قالها واحد للآخر في المجلس، كلمة أدت إلى قطيعة سنوات، لماذا؟ لعدم الاعتناء بالشعور والنفوس.
وفقنا الله وإياكم لأن نقوم بحقوق إخواننا، وأن نعتني بمشاعرهم، وأن يوفقنا وإياكم للقيام بحقوق الأُخوة الإسلامية، وأن يجعلنا إخواناً متحابين في سبيله، قائمين بشرعته، ونصر دينه، وأن يغفر لنا ولكم، وأن يدخلنا الجنة بحوله، وقوته، ورحمته رجالاً ونساءً وأولاداً، وصلى الله على نبينا محمد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر