إسلام ويب

كتاب الصلاة [29]للشيخ : محمد يوسف حربة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مسائل الصلاة المهمة مسألة سجود السهو، وقد اتفق العلماء على مشروعية سجود السهو، سواء كان لزيادة أو نقصان، واختلفوا في عدد من المسائل فيه، كاختلافهم في حكم سجود السهو وأيضاً في بيان مواضع سجود السهو في الصلاة، وكذا في تحديد الأقوال والأفعال التي يشرع لها سجود السهو، وكذلك في صفة السجود من اشتراط التشهد له من عدمه.

    1.   

    سجود السهو

    الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد, وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:

    فقد قال المصنف رحمه الله: [الباب الثالث من الجملة الرابعة: في سجود السهو: والسجود المنقول في الشريعة في أحد موضعين:

    إما عند الزيادة أو النقصان اللذين يقعان في أفعال الصلاة وأقوالها من قبل النسيان لا من قبل العمد، وإما عند الشك في أفعال الصلاة.

    فأما السجود الذي يكون من قبل النسيان لا من قبل الشك، فالكلام فيه ينحصر في ستة فصول:

    الفصل الأول: في معرفة حكم السجود.

    الفصل الثاني: في معرفة مواضعه من الصلاة.

    الثالث: في معرفة الجنس من الأفعال، والأقوال التي يسجد لها.

    والرابع: في صفة سجود السهو.

    الخامس: في معرفة من يجب عليه سجود السهو.

    السادس: بماذا ينبه المأموم الإمام الساهي على سهوه.

    1.   

    حكم سجود السهو

    قال المصنف رحمه الله: [ الفصل الأول:

    اختلفوا في سجود السهو هل هو فرض أم سنة؟ فذهب الشافعي إلى أنه سنة. وذهب أبو حنيفة إلى أنه فرض, لكن من شروط صحة الصلاة] أي قال: بأنه فرض ومن شروط صحة الصلاة [وفرق مالك بين السجود للسهو في الأفعال] كالتشهد.

    [وبين السجود للسهو في الأقوال].

    أي: إذا زاد قولاً مثلاً: [وبين الزيادة والنقصان. فقال: سجود السهو الذي يكون للأفعال الناقصة واجب، وهو عنده من شروط صحة الصلاة هذا في المشهور عنه ].

    أي: إذا تركه بطلت الصلاة.

    [ وعنه أن سجود السهو للنقصان واجب، وسجود الزيادة مندوب ].

    إذا كان زاد في الأفعال والأقوال فإن سجوده يكون مندوباً ولا يجب.

    وأما مذهب أحمد فهو أن سجود السهو واجب, فإن كان مما ورد فعله في صلب الصلاة فتركه عمداً فصلاته باطلة؛ لأنه أخل بواجب في الصلاة, وذلك لأن الإمام أحمد يفرق في سجود السهو فيقول: ما ورد فعله في صلب الصلاة يسجد له في صلب الصلاة, وما ورد فعله بعد الصلاة يسجد له خارج الصلاة, وما لم يرد في صلب الصلاة ولا في خارج الصلاة فيقيسه على صلب الصلاة, فما كان في صلب الصلاة فتركه فصلاته باطلة؛ لأنه ترك واجباً في الصلاة, وإن كان مما ورد فعله بعد السلام، فإن تركه لا يبطل الصلاة؛ لأنه جبر للعبادة خارج عنها. نقله عنه ابن قدامة في المغني (2/29).

    سبب الاختلاف في حكم سجود السهو

    قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم: اختلافهم في حمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في ذلك على الوجوب أو على الندب: فأما أبو حنيفة فحمل أفعاله صلى الله عليه وسلم في السجود على الوجوب؛ إذ كان هو الأصل عندهم، إذ جاء بياناً لواجب كما قال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).

    وأما الشافعي فحمل أفعاله في ذلك على الندب، وأخرجها عن الأصل بالقياس، وذلك أنه لما كان السجود عند الجمهور ليس ينوب عن فرض، وإنما ينوب عن ندب، رأى أن البدل عما ليس بواجب ليس هو بواجب ].

    أي: لو ترك التشهد الأوسط، والتشهد عنده ليس بواجب، كفى عنه سجود السهو, إذاً فهو لا يكون واجباً, وهذا كلام وجيه.

    [ وأما مالك فتأكدت عنده الأفعال أكثر من الأقوال ] فمذهبه أن أفعال الصلاة آكد من الأقوال ولذلك يجب السجود للأفعال دون الأقوال.

    [ لكونها من صلب الصلاة أكثر من الأقوال أعني: أن الفروض التي هي أفعال هي أكثر من فروض الأقوال ].

    مثل: الركوع والسجود والاعتدال كلها أفعال, أما الأقوال: فكقراءة الفاتحة، والتشهد, وما دونهما كلها سنن.

    [ فكأنه رأى أن الأفعال آكد من الأقوال، وإن كان ليس ينوب سجود السهو إلا عما كان منها ليس بفرض، وتفريقه أيضاً بين سجود النقصان والزيادة على الرواية الثانية؛ ليكون سجود النقصان شرع بدلاً مما سقط من أجزاء الصلاة، وسجود الزيادة كأنه استغفار لا بدل ].

    فكان السجود للزيادة سنة, وأما النقصان فهو بدل, عما كان واجباً، هذه توجيهات المذاهب.

    وقد كنت أرجح ما ذهب إليه الشافعي ؛ لأن سجود السهو ورد بالفعل، وهو بدل عن المندوب, ولم يرد فيه أمر, ولكن بعد ذلك وجدت في صحيح مسلم : أنه ورد فيه الأمر, فرجعت إلى القول بالوجوب, فالحاصل: أن الأقرب في سجود السهو الوجوب؛ لورود الأمر به في حديث ابن مسعود عند مسلم بلفظ: ( إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين ). وهو حديث طويل.

    1.   

    مواضع سجود السهو

    قال المصنف رحمه الله: [ الفصل الثاني: معرفة مواضع سجود السهو اختلفوا في مواضع سجود السهو على خمسة أقوال:

    فذهبت الشافعية إلى أن سجود السهو موضعه أبداً قبل السلام.

    وذهبت الحنفية إلى أن موضعه أبداً بعد السلام.

    وفرقت المالكية فقالت: إن كان السجود لنقصان كان قبل السلام ]. لأنه جبر. [ وإن كان لزيادة كان بعد السلام ]. لأنه استغفار.

    [ وقال أحمد بن حنبل : يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام، ويسجد بعد السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد السلام، فما كان من سجود في غير تلك المواضع يسجد له أبداً قبل السلام ].

    فحاصل قوله: أن ما ورد فيه السجود، سجد فيه كما ورد, وما لم يرد سجد فيه قبل السلام.

    [وقال أهل الظاهر: لا يسجد للسهو إلا في المواضع الخمسة التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وغير ذلك إن كان فرضاً أتى به، وإن كان ندباً فليس عليه شيء ].

    سبب الاختلاف في مواضع سجود السهو

    قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم: أنه عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه سجد قبل السلام وسجد بعد السلام، وذلك أنه ثبت من حديث ابن بحينة ].

    فيما أخرجه البخاري و مسلم .

    [ أنه قال: ( صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس ) ]. يعني: قبل السلام.

    [ وثبت أيضاً أنه سجد بعد السلام في حديث ذي اليدين المتقدم إذ سلم من اثنتين ].

    وهو حديث متفق عليه.

    أوجه الجمع بين أحاديث سجود السهو

    [فذهب الذين جوزوا القياس في سجود السهو أعني: الذين رأوا تعدية الحكم في المواضع التي سجد فيها صلى الله عليه وسلم إلى أشباهها في هذه الآثار الصحيحة ثلاثة مذاهب: أحدها: مذهب الترجيح].

    رجحوا بعض الأحاديث على بعض, كالشافعي فإنه رجح السجود قبل السلام.

    [ والثاني: مذهب الجمع.

    والثالث: مذهب الجمع والترجيح ].

    يعني: جمعوا ورجحوا: فـالشافعي رجح السجود قبل السلام, وكذلك أبو حنيفة رجح السجود بعد السلام فقط, للأحاديث الواردة أنه بعد السلام, وأما مالك : فإنه جمع بين الأحاديث، فقال: ما كان عن نقصان فهو في صلب الصلاة؛ لأنه جبر, وما كان عن زيادة فإنه بعد السلام لأنه استغفار، وأما أحمد : فجمع ورجح, فقال: ما ورد في صلب الصلاة فإنه يكون في صلب الصلاة, وما ورد بعد الصلاة فيكون بعد الصلاة, ورجح فيما لم يرد, بأنه يلحق بصلب الصلاة.

    [ فمن رجح حديث ابن بحينة قال: السجود قبل السلام ]. وهو الإمام الشافعي .

    [ واحتج لذلك بحديث أبي سعيد الخدري الثابت ] الذي أخرجه مسلم .

    [ أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، أثلاثاً أم أربعاً، فليصل ركعة، وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان ).

    قالوا: ففيه السجود للزيادة قبل السلام ]. وهو كذلك؛ لأنه يحتمل أن تكون ركعة خامسة.

    وقال الشافعي : إنه ورد السجود للنقصان وللزيادة قبل السلام.

    [ قالوا: ففيه السجود للزيادة قبل السلام؛ لأنها ممكنة الوقوع خامسة، واحتجوا لذلك أيضاً بما روي عن ابن شهاب أنه قال: ( كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام ) ].

    وابن شهاب هذا ليس بصحابي وإنما هو تابعي، فحديثه مرسل.

    [ وأما من رجح حديث ذي اليدين فقال: السجود بعد السلام ] وهو قول أبي حنيفة.

    [ واحتجوا لترجيح هذا الحديث بأن حديث ابن بحينة قد عارضه حديث المغيرة بن شعبة ].

    حديث ابن بحينة : الذي فيه: أنه ترك التشهد فسجد قبل السلام, قد عارضه حديث المغيرة بن شعبة وهو [ ( أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين ولم يجلس, ثم سجد بعد السلام )].

    وهذا الحديث اخرجه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الترمذي , فيفهم من هذا: أن ترك التشهد مخير فيه بين أن يسجد قبل السلام أو بعد السلام؛ لأنه ورد في حديثين صحيحين: أنه سجد قبل السلام وبعده وقالت الحنفية: ما استدل به الشافعي من السجود قبل السلام معارض بحديث المغيرة بن شعبة , ولكن يبقى للإمام الشافعي حديث أبي سعيد الخدري : أنه يسجد قبل السلام.

    [ قال أبو عمر : ليس مثله في النقل فيعارض به ].

    يعني: حديث المغيرة بن شعبة ليس مثل حديث ابن بحينة من حيث النقل والقوة فلا يعارضه.

    [ واحتجوا أيضاً لذلك بحديث ابن مسعود ].

    الذي أخرجه البخاري و مسلم .

    [ الثابت: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خمساً ساهياً وسجد لسهوه بعد السلام )].

    [ وأما من ذهب مذهب الجمع ]. وهو الإمام مالك.

    [ فإنهم قالوا: إن هذه الأحاديث لا تتناقض، وذلك أن السجود فيها بعد السلام إنما هو في الزيادة، والسجود قبل السلام في النقصان، فوجب أن يكون حكم السجود في سائر المواضع كما هو في هذا الموضع، قالوا: وهو أولى من حمل الأحاديث على التعارض]. وأما من ذهب مذهب الجمع والترجيح وهو الإمام أحمد ].

    [ فقال: يسجد في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على النحو الذي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك هو حكم تلك المواضع، وأما المواضع التي لم يسجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحكم فيها: السجود قبل السلام. فكأنه قاس على المواضع التي سجد فيها عليه الصلاة والسلام قبل السلام ].

    أي: أنه رجح الأحاديث التي سجد فيها قبل السلام في ما لم يرد أنه سجد فيه.

    [ ولم يقس على المواضع التي سجد فيها بعد السلام، وأبقى سجود المواضع التي سجد فيها على ما سجد فيها، فمن جهة أنه أبقى حكم هذه المواضع على ما وردت عليه، وجعلها متغايرة الأحكام هو ضرب من الجمع ورفع للتعارض بين مفهومها، ومن جهة أنه عدى مفهوم بعضها دون البعض، وألحق به المسكوت عنه فذلك ضرب من الترجيح، أعني: أنه قاس على السجود الذي قبل السلام، ولم يقس على الذي بعده ].

    أقول: ومذهب أحمد أقيس؛ لأن الأصل بالجبران: أن يكون في صلب الصلاة, فلا يخرج عنه إلا ما أخرجه الدليل.

    [ وأما من لم يفهم من هذه الأفعال حكماً خارجاً عنها، وقصر حكمها على أنفسها وهم أهل الظاهر فاقتصروا بالسجود على هذه المواضع فقط ]. على الخمسة المواضع التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

    [ وأما أحمد بن حنبل ، فجاء نظره مختلطاً من نظر أهل الظاهر ونظر أهل القياس ]. وهذا كلام فلسفي منه رحمه الله.

    [ وذلك أنه اقتصر بالسجود كما قلنا بعد السلام على المواضع التي ورد فيها الأثر ولم يعده، وعدى السجود الذي ورد في المواضع التي قبل السلام. ولكل واحد من هؤلاء أدلة يرجح بها مذهبه من جهة القياس أعني: لأصحاب القياس وليس قصدنا في هذا الكتاب في الأكثر ذكر الخلاف الذي يوجبه القياس ].

    فهو يأتي بالقياس الذي ينبني على الأدلة.

    [ كما ليس قصدنا ذكر المسائل المسكوت عنها في الشرع إلا في الأقل، وذلك إما من حيث هي مشهورة وأصل لغيرها وإما من حيث هي كثيرة الوقوع ].

    فيذكرها وإن كان مسكوت عنها.

    [ والمواضع الخمسة التي سها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدها: أنه قام من اثنتين على ما جاء في حديث ابن بحينة ]. وترك التشهد الأوسط.

    [والثاني: أنه سلم من اثنتين على ما جاء في حديث ذي اليدين [ والثالث: أنه صلى خمساً على ما في حديث ابن عمر ، خرجه مسلم و البخاري .

    والرابع: أنه سلم من ثلاث على ما في حديث عمران بن الحصين ] وقد أخرجه مسلم .

    [ الخامس: السجود عن الشك على ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري وسيأتي بعد ] وهو حديث صحيح أخرجه مسلم .

    الاختلاف في سبب إيجاب سجود السهو

    قال المصنف رحمه الله: [واختلفوا لماذا يجب سجود السهو؟ فقيل: يجب للزيادة والنقصان، وهو الأشهر. وقيل: للسهو نفسه، وبه قال أهل الظاهر و الشافعي].

    ومذهب الشافعي : أنه يشرع للثلاثة: للزيادة والنقصان والشك.

    الراجح في سبب سجود السهو ومواضعه

    والراجح عندي مذهب الظاهرية؛ لأن أصحاب الأئمة رضي الله عنهم خرجوا عن هذه فبعضهم قال: لتكبيرات الانتقال, وبعضهم قال: لقراءة السورة، وخرجوا بخروجات كثيرة ما نستطيع نحصرها, ولم تنقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم, والرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون سها في القراءة أو سها في كذا, وقد ثبت عنه أنه سها في القراءة وردوا عليه ولم يسجد، فلهذا ترجح عندي في سجود السهو من حيث النظر والأثر ما ذهب إليه أهل الظاهر: من أنه يقتصر فيه على ما ورد في المواضع الخمسة, أما من حيث النظر: فإنه فعل زائد في الصلاة فيقتصر فيه على ما ورد فيه الخبر عنه صلى الله عليه وسلم, ولا يزاد عليه وأما مواضع سجود السهو فقيل: قبل السلام وبعد السلام، والإمام أحمد قال: يقاس عليها كذا؛ فأثبت سجوداً في غير الخمسة اضطراراً.

    وأما مواضع سجود السهو فالراجح من حيث الخبر: أن سجود الشك الذي هو الخامس يكون قبل السلام؛ لحديث أبي سعيد الخدري , وأما النقص كترك التشهد الأول، فهو مخير بين أن يسجد بعد السلام أو قبله؛ لثبوت ذلك في حديث ابن بحينة و المغيرة بن شعبة , وأما الزيادة التي في الموضع الثاني والثالث والرابع: فيسجد فيه بعد السلام؛ لثبوت ذلك في حديث ذي اليدين و ابن عمر و عمران بن حصين .

    1.   

    بيان الأفعال والأقوال التي يسجد للسهو لها

    قال المصنف رحمه الله: [الفصل الثالث: وأما الأقوال والأفعال التي يسجد لها: فإن القائلين بسجود السهو لكل نقصان أو زيادة وقعت في الصلاة على طريق السهو اتفقوا على أن السجود يكون عن سنن الصلاة دون الفرائض ودون الرغائب].

    في الفرائض مثلاً: لو ترك ركعة فإنه لا يتصور أن يسجد عنها بل لا بد أن يأتي بها، ولكن السنن كالتشهد الأول يسجد له, وأما الرغائب لأنهم يقسمون الصلاة إلى: فرائض, وسنن, ورغائب, فالرغائب: أقل من السنن, كتكبيرات الانتقال, وكقراءة سورة مع الفاتحة, هذه يسمونها رغائب.

    والشافعية يقسمونها إلى: ركن وبعض وهيئة, وغيرهم يقولون: ركن وسنة ورغائب.

    [ فالرغائب لا شيء عندهم فيها أعني: إذا سها عنها في الصلاة ما لم يكن أكثر من رغيبة واحدة ].

    وهذا لا دليل عليه.

    [ مثل ما يرى مالك : أنه لا يجب سجود من نسيان تكبيرة واحدة، ويجب من أكثر من واحدة ].

    والحنابلة يقولون: إن التكبيرات واجبة, ويستدلون بحديث المسيء صلاته, فيرون أنه يسجد لها، وهناك فرق عندهم بين الواجب والفريضة.

    [وأما الفرائض فلا يجزئ عنها إلا الإتيان بها، وجبرها إذا كان السهو عنها مما لا يوجب إعادة الصلاة بأسرها، على ما تقدم فيما يوجب الإعادة].

    يقول: إن كان هذا المتروك فرضاً, ولا يبطل تركه الصلاة فهذا يأتي به ويسجد للسهو, أما إذا كان هذا المتروك فرضاً وتركه يبطل الصلاة, فإنه لا يسجد للسهو؛ لأنه سيعيد الصلاة, كالأربع السجدات مثلاً، بعضهم قال: أن تركها يبطل الصلاة، وعليه أن يخرج ويعيد الصلاة، فهؤلاء لا يأتي عليهم الكلام الطويل الذي عند الشافعية، بل قالوا: لا يسجد ويعيد الصلاة.

    فالحاصل: أن من ترك الركن فلا بد عليه من الإتيان به والسجود للسهو له.

    [ وما يوجب القضاء ].

    يعني: الإتمام, التدارك.

    [ أعني: على من ترك بعض أركان الصلاة ].

    أي: فيمن ترك ركناً من أركان الصلاة, فإنه يجب عليه أن يعود إليه ما لم يأت بمثله, فإن ذكره بعد الإتيان بمثله فتلغى تلك الركعة, ويسجد للسهو، وهذا إن لم يكن المتروك مما يبطل الصلاة, أي: عند بعض العلماء, وليس عند كلهم, فالذي يقول: إن هذا المتروك يبطل الصلاة فالواجب عنده: أن يقيم الصلاة مرةً أخرى وأن يبدأ الصلاة ولا سجود عليه, ومن قال بالتدارك يعني: بالقضاء، فعنده أنه إن تذكره قبل الإتيان بمثله عاد إليه, وإن كان بعد الإتيان بمثله ألغيت الركعة وسجد للسهو.

    [ وأما سجود السهو للزيادة فإنه يقع عند الزيادة في الفرائض والسنن جميعاً، فهذه الجملة لا اختلاف بينهم فيها ].

    يعني: سواء كانت الزيادة زيادة سنن أو فرض.

    [وإنما يختلفون من قبل اختلافهم فيما هو منها فرض أو ليس بفرض، وفيما هو منها سنة أو ليس بسنة، وفيما هو منها سنة أو رغيبة] أي: عند التطبيق يختلفون هل هذا فرض أم لا، وهل هذه سنة أم لا، فيختلفون في تحقيق المناط مع حصول الاتفاق على المبدأ.

    [ مثال ذلك: أن عند مالك : ليس يسجد لترك القنوت؛ لأنه عنده مستحب، ويسجد له عند الشافعي ؛ لأنه عنده سنة، وليس يخفى عليك هذا مما تقدم القول فيه من اختلافهم بين ما هو سنة أو فريضة أو رغيبة.

    [ وعند مالك وأصحابه سجود السهو للزيادة اليسيرة في الصلاة، وإن كانت من غير جنس الصلاة ].

    يقول: إذا زاد شيئاً ولو لم يكن من جنس الصلاة سهواً فيسجد للسهو, فلو خطا خطوتين, فيسجد للسهو، وعند الشافعية: لو زاد شيئاً ليس من جنس الصلاة فلا يسجد لسهوه ولا لعمده.

    [ وينبغي أن تعلم أن السنة والرغيبة هي عندهم من باب الندب، وإنما تختلفان عندهم بالأقل والأكثر أعني: في تأكيد الأمر بها ].

    يعني: أن السنة والرغيبة مندوبة, ولكن السنة ما داوم الرسول صلى الله عليه وسلم عليها, والرغيبة لم يداوم عليها.

    [وذلك راجع إلى قرائن أحوال تلك العبادة، ولذلك يكثر اختلافهم في هذا الجنس كثيراً، حتى إن بعضهم يرى أن في بعض السنن ما إذا تركت عمداً إن كانت فعلاً، أو فعلت عمداً إن كانت تركاً أن حكمها حكم الواجب أعني: في تعلق الإثم بها ].

    يقول: إن بعض السنن كسنة الصبح, لو داوم الإنسان على تركها، وكذا الوتر فإنه يأثم.

    [ وهذا موجود كثيراً لأصحاب مالك .

    1.   

    حكم ترك السنن المتكررة بالجملة

    قال المصنف رحمه الله: [ وكذلك تجدهم قد اتفقوا ما خلا أهل الظاهر أن تارك السنن المتكررة بالجملة آثم، مثل ما لو ترك إنسان الوتر أو ركعتي الفجر دائماً لكان مفسقاً آثما، فكأن العبادات بحسب هذا النظر مثلها ما هي فرض بعينها وجنسها مثل الصلوات الخمس، ومنها ما هي سنة بعينها فرض بجنسها، مثل: الوتر وركعتي الفجر وما أشبه ذلك من السنن. وكذلك قد تكون عندهم الرغائب رغائب بعينها سنن بجنسها، مثل ما حكيناه عن مالك من إيجاب السجود لأكثر من تكبيرة واحدة أعني: للسهو عنها ] فهي رغيبة، ولكنها إذا كثرت صارت سنة.

    [ ولا تكون فيما أحسب عند هؤلاء سنة بعينها وجنسها ].

    يعني: هذا مذهب مالك فقط.

    [ وأما أهل الظاهر فالسنن عندهم هي سنن بعينها ] أي أن التقسيم السابق ليس موجوداً عندهم.

    [ لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله عن فروض الإسلام: ( أفلح إن صدق، دخل الجنة إن صدق ). وذلك بعد أن قال له: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه -يعني الفرائض- وقد تقدم هذا الحديث ].

    وأنا لي في المسألة كلام وسط بين أهل الظاهر وبين المالكية، وهو مأخوذ من بطون كتب الفقهاء الآخرين غير المالكية، كالشافعية.

    الراجح في مسألة تأثيم من داوم على ترك السنة

    فأقول: مذهب أهل الظاهر هو الراجح, من أن السنة لا تكون فرضاً؛ لأن حكم الواجب غير حكم المندوب كما هو مقرر في الأصول واجب, ومندوب وكذا، كما هو مقرر فكيف نرتقي إلى ذاك؟ إلا أن المداومة على ترك السنة المؤكدة قال الفقهاء: يخل بالمروءة وترد به الشهادة, وهناك فرق بين ما يخل بالمروءة وبين ما يكون إثماً, فالإخلال بالمروءة: قد يكون بواحد ولكنه ترد به الشهادة, فالأكل في السوق ليس حراماً، ولكن إذا وجد طالب علم يمشي ويأكل في الشارع، فهذا الأمر يخل بالمروءة وترد به الشهادة, فالحاصل: أن ترك السنن يخل بالمروءة وترد به الشهادة.

    وقد يجر بصاحبه إلى ترك الواجب, يعني: إذا تهاون بالسنن فهو ممن يحول حول الحمى ويوشك أن يقع فيه.

    فالذي لا يصلي الوتر، ولا يصلي سنة الظهر القبلية ولا البعدية، ويصلي الفروض فقط، قال الفقهاء عنه: هو كمن يبني بيتاً ولا يبني بجانبه مرافق، فلا يبني له حمام ولا يبني مرافق البيت الأخرى,

    سجود السهو لترك التشهد الأوسط

    قال المصنف رحمه الله: [ واتفقوا من هذا الباب على سجود السهو لترك الجلسة الوسطى، واختلفوا فيها هل هي فرض أو سنة ].

    فالاختلاف هنا لا يضر, لاتفاقهم على السجود فيه.

    الرجوع للتشهد الأوسط لمن نسيه

    قال المصنف رحمه الله: [ وكذلك اختلفوا هل يرجع الإمام إذا سبح به إليها أو ليس يرجع؟ وإن رجع فمتى يرجع؟ قال الجمهور: يرجع ما لم يستو قائماً ].

    فإذا استوى قائماً فلا يرجع.

    [ وقال قوم: يرجع ما لم يعقد الركعة الثالثة ]. أي: يقرأ الفاتحة، [ وقال قوم: لا يرجع إن فارق الأرض قيد شبر. وإذا رجع عند الذين لا يرون رجوعه، فالجمهور على أن صلاته جائزة. وقال قوم: تبطل صلاته ].

    أقول: روى الطحاوي عن قيس بن الربيع عن المغيرة بن شبيل عن شبيل عن قيس قال: ( صلى بنا المغيرة بن شعبة , فقام في الركعتين فسبح الناس خلفه فأشار إليهم: أن قوموا, فلما قضى صلاته سلم وسجد سجدتي السهو، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استتم أحدكم قائماً فليصلّ وليسجد سجدتي السهو, وإن لم يستتم قائماً فليجلس ولا سهو عليه ), وفي طريق أخرى عن إبراهيم بن طهمان عن المغيرة بن شبيل , نحوه بلفظ: ( فقلنا: سبحان الله، فأومأ وقال: سبحان الله؛ فمضى في صلاته فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس، ثم قال: إذا صلى أحدكم فقام من الجلوس فإن لم يستتم قائماً فليجلس وليس عليه سجدتان, فإن استوى قائماً فليمضِ في صلاته وليسجد سجدتين وهو جالس ).

    فالحديث الأول الذي من رواية قيس بن الربيع عن المغيرة بن شبيل عن قيس قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، والحديث الذي فيه إبراهيم بن طهمان لم يروه مرفوعاً وإنما جعله من كلام المغيرة بن شعبة، قال شيخنا الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (331): والرواية المرفوعة فيها قيس بن الربيع وفيه ضعف من قبل حفظه, إلا أن متابعة إبراهيم بن طهمان له وهو ثقة مما يقوي حديثه, وإن كانت رواية ابن طهمان لم يصرح فيها بالرفع, فهو مرفوع قطعاً؛ لأن التفصيل الذي فيه لا يقال من قبل الرأي، لا سيما والحديث في جميع الطرق عن المغيرة مرفوعاً, فثبت الحديث والحمد لله.

    ثم قال: وهو يدل على أن الذي يمنع القائم من الجلوس للتشهد إنما هو إذا استتم قائماً, أما إذا لم يستتم قائماً فعليه الجلوس، وفيه إبطال القول الوارد في بعض المذاهب: أنه إذا كان إلى القيام أقرب لم يرجع, وإذا كان إلى القعود أقرب رجع, فقد بان أن هذا التفصيل مع كونه مما لا أصل له في السنة فهو مخالف للحديث.

    1.   

    صفة سجود السهو

    قال المصنف رحمه الله: [الفصل الرابع: في صفة سجود السهو. وأما صفة سجود السهو: فإنهم اختلفوا في ذلك: فرأى مالك أن حكم سجدتي السهو إذا كانت بعد السلام أن يتشهد فيها ويسلم منها].

    أي: إذا سجد بعد السلام أعاد التشهد والتسليم.

    [ وبه قال أبو حنيفة ؛ لأن السجود كله عنده بعد السلام، وإذا كانت قبل السلام ].

    إن كان سجد قبل السلام.

    [أن يتشهد لها فقط ] يتشهد تشهدين, تشهد بعد السجدتين وتشهد بعد سجدتي السهو.

    [وأن السلام من الصلاة هو سلام منها وبه قال الشافعي ، إذ كان السجود كله عنده قبل السلام ].

    وهذا وجه ضعيف في مذهب الشافعي ، وهو أنه يعيد التشهد بعد سجدتي السهو قبل السلام.

    [ وقد روي عن مالك أنه لا يتشهد للتي قبل السلام، وبه قال جماعة ].

    وهو الصحيح في مذهب الشافعي : وهو أنه يسجد سجدتين للصلاة ويتشهد، ثم يسجد للسهو ويسلم, كما هو معروف.

    [ قال أبو عمر : أما السلام من التي بعد السلام فثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما التشهد فلا أحفظه من وجه ثابت ].

    يقول: إنه إذا سجد بعد السلام فيسلم, واما التشهد فلا أحفظ أنه يتشهد قال: (وأما التشهد فلا أحفظه من وجه ثابت).

    وهو كما قال: فحديث ابن مسعود ضعيف, وحديث عمران بن حصين ضعيف أيضاً, وفيهما أنه أعاد التشهد, إلا أنه قد صح عن ابن مسعود موقوفاً.

    سبب الاختلاف في صفة سجود السهو

    قال المصنف رحمه الله: [ وسبب هذا الاختلاف: هو اختلافهم في تصحيح ما ورد من ذلك في حديث ابن مسعود ] وهو حديث مرفوع.

    [ أعني: من (أنه صلى الله عليه وسلم تشهد ثم سلم )].

    وحديث ابن مسعود لفظه: ( إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث أو أربع، وأكثر ظنك على أربع تشهدت ثم سجدت سجدتين وأنت جالس قبل أن تسلم، ثم تشهدت أيضاً ثم تسلم ), وهو حديث والخلاصة أنه حديث ضعيف.

    [ وتشبيه سجدتي السهو ].

    أولاً: استدلوا بالحديث الضعيف.

    ثانياً: شبهوا سجدتي السهو.

    [بالسجدتين الأخيرة من الصلاة].

    كما أن السجدتين الأخيرة من الصلاة بعدها تشهد، فسجدتي السهو بعدها تشهد.

    [ فمن شبهها بها لم يوجب لها التشهد، وبخاصة إذا كانت في نفس الصلاة.

    وقال أبو بكر بن المنذر : اختلف العلماء في هذه المسألة على ستة أقوال:

    فقالت طائفة: لا تشهد فيها ولا تسليم ].

    لأنه يكتفى بتشهد الصلاة وتسليمها.

    [ وبه قال أنس بن مالك و الحسن البصري و عطاء . وقال قوم مقابل هذا، وهو: أن فيها تشهداً وتسليماً ].

    فيتشهد تشهدين، ويسلم أربع تسليمات.

    [وقال قوم: فيها تشهد فقط بدون تسليم، وبه قال الحكم و حماد و النخعي . وقال قوم مقابل هذا، وهو أن فيها تسليماً وليس فيها تشهد، وهو قول ابن سيرين ] أي: تسليماً خاصاً لسجود السهو.

    [والقول الخامس: إن شاء تشهد وسلم، وإن شاء لم يفعل] فجعله مخيراً.

    [ وروي ذلك عن عطاء .

    والسادس: قول أحمد بن حنبل : إنه إن سجد بعد السلام تشهد، وإن سجد قبل السلام لم يتشهد، وهو الذي حكيناه نحن عن مالك . قال أبو بكر : قد ثبت: ( أنه صلى الله عليه وسلم كبر فيها أربع تكبيرات وأنه سلم ) وفي ثبوت تشهده فيها نظر ].

    الراجح في التشهد والسلام لسجود السهو

    والراجح في المسألة: أنه إن سجد قبل السلام سلم للصلاة وكفاه هذا التسليم؛ لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه إذا سجد للسهو في الصلاة أن يسلم أربع تسليمات, تسليمتان للصلاة وتسليمتان لسجود السهو, وأما إذا سجد بعد التشهد فالراجح: أنه يسلم بعد سجود السهو بدون أن يتشهد؛ لأن الحديث المرفوع في التشهد ضعيف وشاذ، كما في الإرواء (2/128).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756460028