إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [3]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الجن عالم غيبي، وإيماننا بوجودهم مبني على صحة الآثار الواردة في ذلك، وقد ظهر من العقلانيين من ينكر وجود الجن كما ينكرون ظهور الدجال ونزول المسيح آخر الزمان، وحجتهم في ذلك أن الأحاديث الواردة في ذلك أحاديث آحاد، وإن بلغت حد التواتر فإنما هي كلام نقل بالمعنى لا يلزم الأخذ به، وبهذا الفكر المشوش والتأويل الساقط ردوا كثيراً من الأحاديث في باب العقائد.

    1.   

    إنكار بعض العقلانيين لوجود الجن بدعوى أن العقائد لا تثبت بالآحاد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.

    أما بعد:

    فكنا ذكرنا لكم فيما سبق ما نقله الشيخ مصطفى صبري عن بعض القاديانية في تأويل قول الله: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40], وهذا الاحتمال يفتح الطريق للتأويل ويمنع الحكم بكفر صاحبه حتى وإن كان احتمالاً ضعيفاً, كاحتمال أن يكون المراد من الخاتم في هذه الآية الزينة لا الخاتمة؛ لأن معنى خاتم النبيين يحتمل أمرين: أنه آخر النبيين فهو خاتمهم وآخرهم, وأنه زينة النبيين. وبما أن الآية ليست قطعية الدلالة بأن رسولنا هو آخر الأنبياء عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

    إذاً: لا يمكن أن نكفر القادياني الذي يدعي أنه نبي بعد نبينا صلوات الله وسلامه عليه، قالوا: ولأن الأحاديث التي تنص على أنه آخر الأنبياء آحاد، والإجماع الذي يدل على ذلك غير قطعي, وعليه يمكن أن نتوقف في كفر من ادعى النبوة بعد نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

    يقول الشيخ مصطفى صبري عليه رحمة الله في الجزء الرابع صفحة تسعين من كتابه موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه: وأنا لا أظن عضواً في هيئة كبار العلماء يشك في أن محمداً صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، ولكن كيف يكون التردد في الإفتاء بكفر من قال به وأجاز أن يبعث الله نبياً بعده؟ كيف يشكك في كفر القائل بهذا؟ فإذا كان المفتي المتردد لا يفهم الملازمة بين هذه الأمور فسلام على العلم والعلماء وعضوية كبار العلماء.

    قرأت مقالةً في مجلة الرسالة بعنوان: القرآن والمسلمون, للشيخ العصري محمود شلتوت , وكيل كلية الشريعة، وقرأت معها مقالة لصاحب المجلة الأستاذ الزيات وهو يشيد بمقالة الوكيل, ويعدها انبعاث الأزهر، ورأيت مقالة الشيخ المثني عليها والتي كان فيها، وينحى باللائمة على كتب التفسير المعروفة المتداولة في أيدي العلماء، مدعياً أن أهل التفاسير الماضية ما فهموا القرآن، وهذا القول منهم يتضمن القدح في الأئمة المجتهدين الذين استنبطوا الأحكام من القرآن، بل إن التفاسير القديمة تنتهي إلى تفسير الصحابة والرسول، على نبينا صلوات الله وسلامه.

    ولعل الشيخ القادح لا يعجبه إلا مثل تفسيره في مقالة سابقة له قائلة: بأن القرآن جعل عقيدة العرب في تصوير الشيطان كشخص له حياة مع كونه في الحقيقة عبارة عن نزعات الشر المنبثة في العالم, فليس ببعيد أن يلغى في التفسير الجديد الذي يعجبه كثيراً من الأحكام المنصوص عليها في القرآن بادعاء كونها مجاراة لأهواء العرب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم القريب من عهد الجاهلية.

    والحق أن القرآن الذي هو كلام الله جل وعلا لا يمكن أن تتصور فيه مجاراة الأهواء، وإنما للعصريين أنفسهم أهواء يشذون بها عن المسلمين, ويريدون تنزيل بعض آيات القرآن عليها، وتراهم عاجزين عن كتابة فصل يستحق أن يسمى تفسير القرآن من غير مراجعة كتب التفسير القديمة التي ادعى الشيخ أن أصحابها ما فهموا القرآن، أو مراجعة ما بقي في ذاكرتهم من تلك الآثار التي ورثوها معنا من العلماء الماضين.

    نعوذ بالله من هذا الضلال الذي تعيشه هذه الأمة في هذه الأيام، ويقال بعد ذلك: هذا داعية إصلاح! بينما الإمام النووي يتعقب ويرد عليه في كتاب كامل، وكل منهم يختم كلامه بأنه الأثري، وأي أثرية يا من هدمتم الأثر.. أي أثرية؟ سبعون حديثاً أنكرها ثم يقال: أثرية!

    إنكار الغيبيات عند بعض العقلانيين ليس جحوداً بها

    إنكار بعض الغيبيات مما وردت في بعض الأحاديث النبوية مندرج تحت قاعدة درسها كثير من الناس في عدة جامعات وهي: أن أخبار الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة، وهي قاعدة باطلة كما سنشير إليها إن شاء الله.

    إذاً: فالشيخ شلتوت لا ينكر هذه الغيبيات جحوداً بها، وإنما لشيء درسه في صغره فبقي عليه في كبره، ولو قلت: ليس له عذر، فيقولون: عذره أنه درس في الجامعات وقد درجت على التقليد، فقرروا لهم أن حديث الآحاد لا يؤخذ به في الاعتقاد.

    ومن أجل هذا أنكر بعض الغيبيات كالجن، وكنزول نبي الله عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وغيرها ثم تراجع.

    وأنا أقول: يا من زعمت أنك تدرس الأثر! مَن مِن أئمتنا قال: إن أحاديث نزول نبي الله عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام آحادية؟ وهل على هذا دليل أو أثر؟!

    تأويل العقلانيين لبعض أحاديث العقائد عند ثبوت تواترها

    وقد رد الشيخ الكوثري أيضاً على شلتوت إنكاره نزول عيسى كما نقل ذلك الشيخ مصطفى صبري عليه رحمة الله في كتابه: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، في الجزء الرابع، صفحة إحدى وعشرين مبيناً رد الكوثري على الشيخ شلتوت من كتاب: التصريح بما تواتر في نزول المسيح, وبين أن الأحاديث التي وردت في نزول نبي الله عيسى عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه تبلغ سبعين حديثاً، ثم علق الشيخ مصطفى صبري فقال: لكن المنكر -يعني: شلتوت - لا يلتفت إليها بحجة أنها أخبار آحاد.

    ورد الأحاديث المتواترة بدعوى آحاديتها، ثم تأويلها على فرض تواترها، قد تبناها في هذا العصر الحاضر، محمد عبده وتبعه عليها الضالون الزائغون, وغالب ظني أنني كنت ذكرت هذا ونقلته من تفسير المنار, في الجزء الثالث، صفحة سبع عشرة وثلاثمائة، في أحاديث عيسى والدجال.

    يقول: حديث الرفع والنزول في آخر الزمان له تخريجان: أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي لأنه من أمور الغيب، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي؛ لأن المطلوب فيها هو اليقين، وليس في الباب حديث متواتر.

    الأمر الثاني: يقول: حتى لو قلتم بتواترها فلا نأخذ بها؛ لأن تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته إلى الناس، وهو ما غلب في تعليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم والأخذ بمقاصد الشريعة، دون الوقوف عند ظواهرها, والتمسك بقشورها دون لبابها, وهو حكمتها وما شرعت لأجله؛ فالمسيح عليه السلام لم يأتِ لليهود بشريعة جديدة، ولكنه جاء بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، ويوقفهم على فقهها، والمراد منها, ويأمرهم بمراعاته وبما يجذبهم إلى عالم الأرواح بتحري كمال الآداب.

    أي: ولما كان أصحاب الشريعة الأخيرة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها، بل وألفاظ من كتب فيها معبراً عن رأيه وفهمه -يقصد هنا المذاهب الأربعة-.

    يقول: وكان ذلك مزهقاً لروحها ذاهباً، فكان لابد لهم من إصلاح عيسوي يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين وأدبه الحقيقي, وكل ذلك مطوي في القرآن.

    يقول: وهكذا كما كان في التوراة حصل في هذه الأمة، فلابد إذاً من إصلاح عيسوي.

    وقال عن طريق القرآن: يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين وأدبه الحقيقي، وكل ذلك مطوي في القرآن، الذي حجبوا عنه بالتقليد، الذي هو آفة الحق وعدو الدين في كل زمان.

    فزمان عيسى على هذا التأويل هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه روح الدين والشريعة الإسلامية.

    يعني زمان محمد عبده يقول: لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر.

    يقول: ولأهل هذا التأويل أن يقولوا: ظواهر النصوص لا يمكن تأويلها، على هذا التخريج الذي يقوله محمد عبده .

    يقول لكن نحن عندنا مخلص ومخرج من هذا، فلأهل هذا التأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعنى، كأكثر الأحاديث، والناقل لها بالمعنى ينقل ما فهمه، وعليه فلا نتقيد بألفاظها، ولا نتحاكم إلى ألفاظها؛ لأنها منقولة بالمعنى.

    وسئل عن المسيح الدجال ، وقتل عيسى على نبينا وعليه الصلاة السلام له, فقال: إن الدجال عرضة للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على هديها والأخذ بأسرارها وحكمها، وإن القرآن أعظم هاد إلى الحكم والأسرار وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام مبينة لذلك... إلى آخره كلامه.

    هؤلاء هم دعاة الإصلاح، وأنا أعجب! من هذا، فكأنه لا يوجد جريمة في هذا الوقت إلا اتباع المذاهب الأربعة، وتتوالى ضرباتهم المتتالية، كوجوب التخلي عن هذه الكتب، واستبدالها بكتب هؤلاء المصلحين، والرد على النووي؛ لأنه من أهل الجمود والتقليد، وممن يخلط في العقيدة وغير ذلك!

    وتأمل ما ذكره الشيخ مصطفى صبري رحمه الله في كتابه: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، في الجزء الأول، صفحة ثلاثٍ وثلاثين ومائة حين يقول: محمد عبده بنهضته الإصلاحية زعزع الأزهر عن جموده على الدين فقرب كثيراً من الأزهرين إلى اللادينيين خطوات، ولم يقرب اللادينيين إلى الدين خطوة، وهو الذي أدخل الماسونية في الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين الأفغاني ، كما أنه على ما يقال شجع قاسم أمين على ترويج السفور في مصر.

    ثم قال الشيخ عليه رحمة الله معلقاً على هذا الكلام في الصفحة التي بعدها: وكان من مضار الشيخ بالإسلام وعلمائه الناشئين بعده أن حملة الأقلام بمصر المنحرفين عن الثقافة الإسلامية تأثروا بآرائه الشاذة، التي أخذوها من كتبه، وأوجدوا لهم من السمعة العلمية السامية ما لا يزال طنينه في أذن الشرق الإسلامي, ولا شك في تأييد القوة الناصرية له، وكان ذلك حثاً للذين يحبون الشهرة والظهور من شباب العلماء وكهولهم على نيل ما أرادوه بواسطة الشذوذ في الرأي، والتزلف إلى الكتاب المتفرنجين بل والانتماء إلى الماسونية، والله يعلم حقيقة ما في قلوب عباده.

    1.   

    الدعوة الوهابية وموقفها من المذاهب الأربعة

    لما قامت الدعوة الوهابية قام الضجيج حولها وتركز على أمرين:

    أولاً: أن الدعوة الوهابية خرجت عن المذاهب الأربعة والخروج عنها ضلال، وهذا كاف عند المسلمين لإسقاط من من خرج عنها.

    والثاني: أنها تكفر المسلمين وتستبيح دماءهم، فكان كل وهابي يكتب بعد ذلك دفاعاً عن الوهابية، يبرئ الشيخ محمد بن عبد الوهاب عليه وعلى المسلمين أجمعين رحمة الله.

    ولأنه لو ثبت عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه لا يتقيد بالمذاهب الأربعة، وأنه يضلل من يلتزم بها، لضلله علماؤنا، وضللوا من تبعه وانتهى أمره، لكن كلهم يقولون هذا لا علاقة لنا به، وهذا يقوله كل من كتب عن الدعوة الوهابية، وهذا كتاب قرأته من قريب عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه، بقلم الشيخ أحمد بن حجر بن محمد آل أبو طامي آل بن علي ، قدم له وصححه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الباز .

    يقول في صفحة ستٍ وخمسين: وقد ذكر الشيخ يعني الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ، عليهم جميعاً رحمة الله كلاماً طويلاً إلى أن قال: ونحن أيضاً في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل -فهو مقلد حنبلي- ولا ننكر على من قلد الأئمة الأربعة دون غيرهم، يعني: أن من قلد غير المذاهب الأربعة ننكر عليه كمن قلد ابن حزم ، أو قلد الشيعة، أو قلد الزيدية، أما المذاهب الأربعة فعلى العين والرأس, فهذا ما يقوله محمد بن عبد الوهاب في رسائله للمعترضين عليه, وينقلها هذا الشيخ عنه، ثم ذكر سبب إنكاره على غير المذاهب الأربعة فقال: لعدم ضبط مذاهب الغير، كالرافضة، والزيدية، والإمامية ونحوهم، ونحن لا نقرهم ظاهراً على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد من الأئمة الأربعة، أي: نحن نلزم المسلمين بأن يكونوا أحنافاً، أو شافعية أو حنابلة أو مالكية.

    وبهذا استحق مرتبة الاجتهاد، فيقولون: إياكم أن تقولوا عن محمد بن عبد الوهاب إنه يجتهد، فلا أحد منا يدعي ذلك إلا أنا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب، أو سنة، غير منسوخ ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه وقال به إمام من الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب.

    يقول: نحن حنابلة، لكن إذا صح عندنا نص من كتاب أو سنة، غير منسوخ ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه, وقال به إمام من الأئمة لأربعة أخذنا به, ثم مثل على ذلك، فقال: مثل تقديم الجد على الإخوة في الإرث، فالإمام أحمد يورث الإخوة مع الجد، وأبو حنيفة لا يورث الإخوة مع الجد ويجعل الجد أباً، وأتباع محمد بن عبد الوهاب وهذا الآن في المحاكم في السعودية جعلوا الجد أباً، وما ورثوا الإخوة مع الجد.

    يقول: لأن عندنا حجة في ذلك وهي ليست منسوخة ولا مخصصة ولا معارضة وقال بها إمام، وإذا قلنا بمسألة لم يقل بها أحد من الأئمة الأربعة فاضربونا على رءوسنا.

    انظر لهذه الأمور وكيف أن موضوع الخروج على المذاهب لا يمكن عندهم.

    هذا في صفحة ستٍ وخمسين ينقله الشيخ أحمد بن حجر كما قلت.

    ومثل هذه النقول كثيرة، وأنا أريد أن أعلم هؤلاء السفهاء الذين يسمون أنفسهم الآن أنهم سلفية، إلى من ينتمون؟ إذا كان هذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول: نحن لا نقر أحداً على الخروج عن المذاهب الأربعة، ونتقيد بها, ونحن لا نخرج, ولا بد من أن يلتزم بقول واحد منهم، ونحن قد لا نتقيد بالمذهب الحنبلي في مسائل معينة، وهذا لا حرج فيه, بل هذا الذي كان عليه أئمتنا، حتى لا يخرج أحد عن هذا ويأتينا ببدع ما أنزل الله بها من سلطان تحت دعوة الإصلاح.

    ثم يذكر حال العلماء، وثناء العلماء على الدعوة الوهابية, وأنها متقيدة بالمذاهب الأربعة المهدية.

    ويقول الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية من علماء الأزهر الشريف في كتاب أثر الدعوة الوهابية، قال: إنهم -أي: الوهابية- لحنابلة متعصبون لمذهب الإمام أحمد في فروعه، إذاً: الوهابية متعصبون لمذهب الإمام أحمد في فروعه ككل أتباع المذاهب الأخرى، فهم لا يدعون لا بالقول ولا بالكتابة أن الشيخ ابن عبد الوهاب أتى بمذهب جديد، ولا افترى علماً غير ما كان عند السلف الصالح، وإنما كان عمله وجهاده لإحياء العمل بالدين الصحيح، وإرجاع الناس إلى ما قرره القرآن في توحيد الألوهية والعبادة لله وحده ذلاً وخضوعاً ودعاء، ونذراً وحلفاً وتوكلاً وطاعةً لشرائعه إلى آخر ما ذكر.

    فما أشيع عنا أننا نحرج عن المذاهب الأربعة فهو باطل ضلال؛ وعليه فهؤلاء السفهاء الآن لا شك في ضلالهم، عندما يعبرون بأن الخروج عن المذاهب الأربعة إصلاح، وأن من يلتزم بالمذاهب الأربعة يسير على آثار وقيود الآباء والأجداد، فأعوذ بالله من هذا الضلال.

    1.   

    بطلان نسبة القول بتكفير المسلمين لمحمد بن عبد الوهاب وأتباعه

    والأمر الثاني: تكفير المسلمين، ويعلم الله أنه لا يمر أسبوع إلا وأتلقى مكالمات من أقطار العالم، تارةً من الجزائر، وتارةً من أمريكا وغيرها وأسئلة بعضهم عن المشايخ الذين تربوا عليهم، فقلت: يا عباد الله! كل إنسان يخطئ ويصيب، وأنتم ما تقولون؟ فيقول أحدهم: كافر مرتد خارج عن الإسلام، وهذا القول من بعض الصغار الذين يقال لهم: دعاة السلفية والأثر، وأقول: اتق الله في نفسك يا عبد الله! قل: أخطأ، فكل إنسان يخطئ ويصيب، ما عندك إلا القول بالتكفير؟! ويريد أن يأخذ مني الفتيا بتكفيره، وأقول: أما تتقون الله في أمة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ بل إن بعضهم يقول: يا شيخ! من لم يكفرهم فهو كافر، فأقول له: ماذا تقول؟

    أتقصد أنني كافر؟ فيقول: أنا أقول: إذا لم تكفر هؤلاء فأنت كافر.

    قلت: هذه السفاهة أعني: تكفير المشايخ وتكفير من لم يكفرهم ما تعلموها إلا على أيدي هؤلاء السذج الذين يسمون أنفسهم بالمصلحين، هؤلاء ما تعلموا على من يدرس العلم بالطريق الشرعي على أئمتنا الكرام.

    قلت: يا أخي! أصحاب هذه الكتب وأحفادها هم الآن الذين يقولون بهذه الدعوة التي أنت تكفرهم، قال: نحن نأخذ الحكمة من الشيطان، ونقول: إنه كافر. وأقول: يعني: تعلمنا من كتبهم أن نكفرهم أيضاً.

    وفي موضوع التكفير قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في صفحة اثنين وستين كما ينقله عنه مؤلف الرسالة بأنه يكفر الناس عموماً وأنه يوجب الهجرة إليه على من لم يقدر على إظهار دينه، وأنه يكفر من لم يكفر، يعني: ولم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب : وإذا كنا لا نكفر من عبد القبور من العوام لأجل جهلهم، وعدم من ينبئهم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله، إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.

    يقول: لا نكفر من عبد القبور، وطاف حولها إلا إذا قامت الحجة عليه، أما من ليس عندهم من ينبئهم فلا نقول عنهم كفار، وهذا يرد الضجيج الذي أثير أن هؤلاء يكفرون المسلمين، وأهل المذاهب الأربعة.

    ثم قال في ما نقله عنه في صفحة واحدة وثلاثين، في عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجميع النجديين، يقول: عقيدتهم كعقيدة السلف الصالح، على ما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأصحابه والتابعون، والأئمة المهتدون كـأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وسفيان الثوري ، وابن عيينة ، وابن المبارك ، والبخاري ، ومسلم ، وأبي داود، وسائر أهل السنن وأمثالهم ممن تبعهم من أهل الفقه والأثر، كـالأشعري ، وابن خزيمة ، وتقي الدين ابن تيمية ، وابن القيم ، والذهبي رحمهم الله جميعاً.

    نحن على المذاهب الأربعة، وعلى ما كان عليه أئمة المسلمين هذا اعتقادنا، وهذا في الكتب التي ألفت في ترجمة الشيخ والدفاع عنه، وفي تبرئته مما نسب إليه.

    بيان صحة حديث الأعمى في التوسل خلافاً لبعض أتباع محمد بن عبد الوهاب

    وهنا أورد حديثاً لا شك في صحته، وما حام حوله أحد من أئمتنا وبحثه الشيخ أحمد بن حجر في هذا الكتاب.

    ومن العجب أن الشيخ عبد العزيز بن باز علق على الكتاب، وتعقب الشيخ ابن حجر في بعض المسائل وصحح كلامه, لكن هذا الحديث لم يعلق عليه بشيء، فترك هذان الشيخان الكلام عليه، وحديث النبي عليه الصلاة والسلام لا بد من الدفاع عنه دون انتقاص لأحد.

    وهو حديث الأعمى في صفحة خمس وأربعين، يقول هنا في موضوع التوسل: الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يجيزون التوسل المشروع ويمنعون من التوسل الممنوع، فلهم حق لا غبار عليه.

    ثم يقول: التوسل المبتدع هو التوسل بالذوات الصالحة، مثل أن يقول: اللهم إني أسألك بجاه الرسول عليه الصلاة والسلام، أو بحرمة فلان، أو بحق الأنبياء والمرسلين، أو بحق الأولياء والصالحين، يقول: فنهاهم الشيخ عن هذا، وأجاز لهم القسم الثاني، وهو التوسل المشروع بمحبة الصالحين، وبدعائهم وغيرها من الأمور المشروعة، يقول: وتمسك المجوزون بآيات لا تمت إلى دعواهم بصلة؛ كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] .

    يقول في التفسير الوارد عن السلف وأجلاء المفسرين: إن ابتغاء الوسيلة يكون بالأعمال الصالحة، لا شك في ذلك, كما تمسكوا ببعض أحاديث موضوعة، وبأحاديث ضعيفة ومثل لها وقال: كحديث الأعمى.

    وحديث الأعمى ليس بضعيف, وما أحد من أئمتنا تكلم عليه بضعف، ولذلك لا بد من بيان القضية فيه، ثم بعد ذلك نذكر معنى الحديث.

    ونقل هذا من كلام ابن تيمية وكلامه على العين والرأس وفهمه معتبر, لكن يقول أئمتنا: إن الحديث ثابت ثبوت الشمس في رابعة النهار، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والترمذي في السنن، وابن ماجه في سننه، والنسائي في عمل اليوم والليلة, صفحة سبع عشرة وأربعمائة، ورواه الحاكم في مستدركه الجزء (1/313، 526) وابن خزيمة في صحيحه الجزء الثاني صفحة (225)، والطبراني في معجمه الكبير والصغير، وابن السني في عمل اليوم والليلة، والبيهقي في دلائل النبوة في الجزء السادس، صفحة ستٍ وستين ومائة، وفي كتاب الدعوات الكبير، في صفحة واحدة وخمسين ومائة.

    والحديث صححه ابن خزيمة ، والحاكم ، وأقره الذهبي ، وصححه النووي ، وصححه المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الأول، صفحة ثلاثٍ وسبعين وأربعمائة، إلى ستٍ وسبعين وأربعمائة.

    وتتابع أئمتنا على تصحيحه كما في شرح الأذكار في الجزء الرابع، صفحة اثنتين وثلاثمائة، وتحفة الذاكرين للإمام الشوكاني ، في صفحة سبع وثلاثين، وصفحة سبع وثلاثين ومائة.

    ولفظ الحديث عن عثمان بن حنيف : (أن رجلاً أعمى ضرير البصر جاء إلى نبينا عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه وقال: يا رسول الله! ادع الله لي أن يرد علي بصري، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن شئت صبرت، وإن شئت دعوت لك)، (فقال يا رسول الله! بل ادع لي، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو ويقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه أن تقضى لي، اللهم فشفعه في) وورد في بعض الروايات: (وشفعني فيه)، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    يقول عثمان بن حنيف: فذهب الأعمى وتوضأ وصلى ركعتين، يقول: فما هو إلا ساعة وقد جاء وعاد النور إلى عينيه وذهب العمى منهما.

    والحديث كما قلت: صحيح، وأورده أئمتنا في دلائل النبوة، وهو ثابت ثبوت الشمس في رابعة النهار.

    والشيخ هنا يقول: ضعيف, وما تعقبه من صحح كتابه وهذا خطأ، ولابد من بيان هذا الأمر، و(الدين النصيحة: لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) لأن حديث النبي عليه الصلاة والسلام إما أن يثبت أو أن يقال عنه: ضعيف, والخطأ لا بد من رده على من قاله كائناً من كان.

    وليت الشيخ هنا أشار إلى مصدر واحد فقط من كتب السنة التي ذكرت أو نقلت أن الحديث ضعيف.

    والإمام ابن تيمية أورد الحديث في مجموع الفتاوى، في الجزء الأول، صفحة خمسٍ وستين ومائتين، وحكم بصحته أيضاً، وهو في كتاب: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، في صفحة خمسٍ وتسعين، وخمسٍ وثلاثين ومائة، وخمسٍ وأربعين ومائة، وكلامه متتابع.

    يقول: وقد روى الترمذي من جملة كلامه حديثاً صحيحاً عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( أنه علم رجلاً أن يدعو فيقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد! يا رسول الله! إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي، اللهم فشفعه في)، وهذا في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة للإمام ابن تيمية يصحح الحديث ولا كلام كما قلت على تصحيحه.

    معنى حديث الأعمى في التوسل بالنبي

    فـابن تيمية لم يضعف الحديث، لكن كلامه على معنى الحديث، قال ابن تيمية: هنا توسل -أي: الأعمى- بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام ولم يتوسل بذاته، فهو عندما قال: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك، يقول: إنه يقصد بدعاء النبي، يعني: يا رب! أنا أسألك بالنبي؛ لأنه سيدعو لي فأجب دعائي، (يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي) أي: أريد منك أن تدعو لي.

    لكن هذا التوجيه مع شهرة من قال به، فيه شيء من البعد؛ لأنه قال هذا الدعاء بعيداً عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يخاطبه وقال: يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي، ولم يقل له: ادع لي بهذا الدعاء، ولذلك اعتبر هذا الحديث دليلاً على مشروعية صلاة الحاجة، وهذا ما فعله النووي في الأذكار، وفعله أيضاً الأئمة الآخرون الذين كتبوا في عمل اليوم والليلة، قالوا: من أراد حاجةً فليصل ركعتين ويدعو بهذا الدعاء، ولم يعتبروا هذا من خصوصية الأعمى, لكن كما قلت: هذا القول على العين والرأس، وهو قول القائل: هو توسل بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام لا بذاته.

    والإمام الشوكاني ومعه جم غفير، يقول في تحفة الذاكرين صفحة ثمانٍ وثلاثين ومائة: وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل، مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى، وهو المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, هذا نص كلام الإمام الشوكاني .

    وهم يقولون عن الشوكاني : الإمام السلفي الذي لا يلتزم بربقة التقليد.

    وأنا عندما كنت أقرر للإخوة الطلاب في كلية الشريعة في مبحث التوسل في السنة الثانية، كنت أتوقف في المسألة، وأقول: إن الأقوال تحتملها أدلة الشريعة, لكن ما رأيت من نص عليه من أئمتنا بخصوص هذا الحديث، وإن كان الحكم ثابتاً عند أئمتنا وأنه من التوسل المشروع.

    أقول: إن قوله: (أسألك وأتوجه إليك بنبيك)، على نبينا صلوات الله وسلامه، ليس فيه دليل على التوسل بالذات صراحة, كما قال الشوكاني ، ولا على أن هذا توسل بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام.

    وفيما يبدو لي أن هذا يعود إلى نوع من أنواع التوسل المشروع، وهو التوسل بالأعمال الصالحة كقولك: أتوسل إليك بحبي لنبيك، عليه الصلاة والسلام.

    فقوله: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك) أي: بحبي لنبيك، وباتباعي لنبيك عليه الصلاة والسلام، وهذه جائزة في كل وقت, تقول: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك عليه الصلاة والسلام، أن تفرج كربي, وأن تقضي حاجتي, وأن تدخلني الجنة، هذا توسل مشروع بالإجماع.

    لكنه هنا حذف المضاف وذكر المضاف إليه, والمعنى: أتوسل إليك بحبي بنبيك، الأصل بحبي لنبيك, فقوله: أسألك بنبيك أو أتوجه إليك بنبيك، يحتمل الذات، ويحتمل دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، ويحتمل حبنا للنبي عليه الصلاة والسلام، فالحديث يحتملها جميعاً، والدلالات كلها معتبرة، ومن قال بواحدٍ منها فهو على هدى.

    وعليه: فالتوسل بذات النبي عليه الصلاة والسلام، قال به الشوكاني .

    وهذا ما نقله عبد الرحيم في كتابه حيث يقول: فيه التوسل بذات النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من كلام الشوكاني ، الذي سينقله ويعلق عليه.

    والإمام ابن تيمية رحمه الله يقول: هذا القول في الأصل منقول عن السلف، وهذا في مجموع الفتاوى في الجزء الأول، صفحة خمسٍ وستين ومائتين، ورواه في قاعدة جليلة، صفحة خمسٍ وتسعين، يقول: نقل عن بعض السلف والعلماء السؤال بالنبي عليه الصلاة والسلام.

    فهم عثمان بن حنيف لحديث التوسل وأنه ليس خاصاً بزمن النبي صلى الله عليه وسلم

    وعثمان بن حنيف الذي روى الحديث من الأنصار الأبرار، وأول مشاهده أحد، وشهد ما بعدها، وانفرد الترمذي وحده فقال: إنه شهد بدراً، وقد استعمله عمر وعلي رضي الله عنهم أجمعين. وتوفي عثمان بن حنيف في خلافة معاوية رضي الله عنه.

    وهو أخو سهل بن حنيف الذي كان من أتباع علي رضي الله عنه وتوفي سنة ثمانٍ وثلاثين للهجرة، وصلى عليه علي صلاة الجنازة, وكبر عليه ست تكبيرات، وكان علي إذا صلى على أحد من المسلمين كبر أربع تكبيرات كما هي السنة, وإذا صلى على صحابي يكبر خمساً إجلالاً له، ولما صلى على سهل بن حنيف قال: إنه بدري، وأهل بدر لهم منزلة خاصة, فكبر عليه ست تكبيرات، وأثر علي في صلاته على سهل بن حنيف وتكبيره ست تكبيرات، ثابت صحيح في مصنف عبد الرزاق في الجزء الثالث صفحة ثمانين وأربعمائة، وفي مصنف ابن أبي شيبة في الجزء الثالث، صفحة واحدة وثلاثمائة، وكل من كان من أهل بدر كان علي يفعل معه ذلك، كما ثبت في شرح معاني الآثار للطحاوي في الجزء الأول، صفحة سبعٍ وتسعون وأربعمائة، وسنن الدارقطني في الجزء الأول، صفحة واحدة وتسعين، والسنن الكبرى للبيهقي في الجزء الرابع، صفحة سبعٍ وثلاثين، ومصنف ابن أبي شيبة في الجزء الثالث، صفحة ثلاثمائة وثلاث, عن عبد بن خير قال: كان علي رضي الله عنه يكبر على أهل بدر ستاً، وعلى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام خمساً، وعلى سائر المسلمين أربعاً.

    فـعثمان بن حنيف، فهم أن هذا الحديث ليس من باب الخصوصية, وليس من باب دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، ولهذا الأمر وقعت هذه القصة في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، فرجل كان له حاجة إلى عثمان بن عفان، فكان كلما جاء عثمان اعتذر له، فجاء هذا السائل أعني: صاحب الحاجة إلى عثمان بن حنيف، وقال: لك مكانة عند الأمير فكلمه ليقابلني وليستمع إلى حاجتي، فقال: ألا أعلمك؟ يعني: ما يعينك على هذا ثم ذكر له هذا الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام علم الأعمى أن يدعو بدعاء الحاجة، وقضيت حاجته, ورد الله بصره، والمعنى: واعمل أنت بهذا فلعل الله أن يفتح صدر عثمان رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام إلى ما تريد.

    فذهب وصلى ركعتين, ودعا بهذا الدعاء, ثم جاء إلى عثمان بن عفان ، قال: ففتح له الباب, وأجلسه بجواره على الطنفسة, وأقبل عليه بكله وقضى حاجته، فلما خرج زار عثمان بن حنيف فشكره، وقال: جزاك الله خيراً؛ لأنك كلمت الأمير من أجلي؟ قال: والله ما كلمته، ماذا جرى؟ قال: أنا دعوت بالدعاء وظننت أنك كلمته, قال: لا.

    وهذه الرواية ثابتة في دلائل النبوة للبيهقي ، وفي معجم الطبراني الصغير بسند صحيح، وقد قال ابن تيمية: إن ثبتت هذه الرواية فهي دليل لمن قال بجواز هذا الدعاء بعد النبي عليه الصلاة والسلام, وأن هذا ليس من خصوصيات الأعمى.

    وعلى كل حال فهذا الحديث صحيح ثابت، وقول من قال: وتمسكوا بأحاديث ضعيفة كحديث الأعمى, هذا كلام باطل؛ بل هو حديث صحيح لا غبار عليه ولا ضعف فيه.

    فأقول: كما أنه يصحح للإنسان خطؤه في أمور أخرى، فمن باب أولى أن يصحح الخطأ في هذه القضية، والشيخ عبد العزيز بن باز عندما أخطأ المؤلف في صفحة ثمان ومائة، في حكايته كلاماً عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب تعقبه، فيلزمه أن يصحح ما أخطأ فيه من تضعيف الحديث.

    والشيخ أحمد بن حجر عندما نقل عن مصطفى الحفناوي قوله في الشيخ محمد بن عبد الوهاب : لما اتصل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ببيت سعود, وتزوج محمد بن سعود بابنت الشيخ، وأنه عندئذ تشيع السعوديون بالمذهب الجديد.

    فالشيخ عبد العزيز علق على هذه المقولة, ووضع اسمه على التعليق، فقال: قوله: عندئذ تشيع السعوديون، يوهم كلامه هذا أن آل سعود تشيعوا بدعوة الشيخ محمد رحمه الله بسبب المصاهرة، وليس الأمر كذلك، إنما قام الإمام محمد بن سعود رحمه الله وأولاده وأحفاده بمناصرة دعوة الشيخ من أجل أنها دعوة إلى الحق، والدين الصحيح لا من أجل المصاهرة، وإن ثبت وجودها في ذلك الوقت.

    وأنا أقول: الله عليم بصحة هذا، لكن إذا كنا نتعقب الشيخ ابن حجر في هذا الخطأ، فمن باب أولى أن نقول: إنه أخطأ في حكمه على هذا الحديث, حين قال: إنه ضعيف, مع أنه حديث صحيح.

    1.   

    التحذير من بعض الدعوات الإصلاحية المعاصرة

    يقول الشيخ مصطفى في سياق رده على محمد عبده ومحمود شلتوت: كيف أنكر وجود إبليس، كما أنه حصل منه إنكار لنزول نبي الله عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ثم تراجع بعد ذلك, لكن التراجع عن نزول عيسى تراجع شفوي، مع أنه هنا ينقل عنه. فيقول: ثبت ما يشير إلى تراجعه في كتاب ألفه في فن البدعة، وعلى كل حال هذا إن ثبت, لكن كما قلت: ثبت وقوفه في ذلك القول ودفاعه عنه، وُردَّ عليه في عددٍ من الكتب.

    ومع ذلك ينعته عبد المجيد سليم بأنه من العلماء البارزين المصلحين، لأنه قال: إن فقه الأئمة المجتهدين مبني على اتباع الأئمة الأربعة، وهؤلاء يتبعون هذا.

    وهذا الكلام الذي يقولونه ما تجرأ أحدٌ أن يقوله قبلهم.

    لذلك نحن أمام بلاء لا يعلم شناعته إلا الله، يراد من الأمة متابعة الأذهان حتى يتلاعبوا بدين الله الجليل تحت ستار الإصلاح وأمثاله، وأنه لا حرج إذا أخطأت، ولك أجر عند الله فلا حرج إذاً أن تقول: لن ينزل المسيح أو أنكرت خروج الدجال ، أو خروج يأجوج ومأجوج وسبب هذا أنك تعلمت شيئاً وأثر فيك وهو أن حديث الآحاد لا يؤخذ به في قضية الاعتقاد؛ لأنك ممن يتبنى بدعة الإصلاح، فكل ذنب لك مغفور, لكن إياك أن تقول: أنا حنفي, أو شافعي، أو غير ذلك. والله إن هذا هو الضلال الذي لا ضلال بعده.

    وقد ذكرت لكم دعوة بعض المصلحين في هذه الأيام عندما تكلم عن مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل فقال وبئس ما قال: إنه أقرب إلى السنة في الأصول والفروع من بقية المذاهب، ولكن مع ذلك هو إتباع للمذهب، وليس اتباعاً للسنة بل أقرب إليها في الأصول وفي الفروع، نعوذ بالله من هذا الضلال.

    ثم حكم وبئس ما حكم فقال: لقد كانت الأمة في ضلال, وأصبحت الآن في صحوة؛ لأنها بدأت تعود إلى الكتاب والسنة، وأي كتاب وسنة إذا خرجنا عن مذاهب أئمتنا؟ ولذلك قلت ولا أزال أقول: أئمتنا كلهم من أهل القرون الثلاثة المفضلة، ما بين القرن الثاني، والقرن الثالث للهجرة، والسلفية المعاصرة إنما وصفوا بذلك لمضيهم على منهج السلف كـأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، فهل صار اتباعهم اليوم ضلالاً وعاراً؟ نسأل الله أن يلهمنا رشدنا, وأن يحسن ختامنا, إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    يقول في المبحث الثاني: في تكليف الجن وجزائهم.

    الجن مكلفون عند الجماعة، وعند أهل السنة, وعند أهل الإسلام، ولا خلاف في ذلك، كما أنه لا خلاف في وجودهم، وقد نص على ذلك الشبلي في كتاب آكام المرجان في صفحة أربعٍ وثلاثين، ونص عليه ابن حجر في فتح الباري في الجزء السادس، صفحة أربعٍ وأربعين وثلاثمائة، والعيني في الجزء الخامس عشر، صفحة أربعٍ وثمانين ومائة، ونقلاً عن ابن عبد البر : أنه لا خلاف في تكليفهم بتوحيد الرحمن وأركان الإسلام.

    وأترك بقية المبحث فيما يتعلق بتكليفهم وجزائهم إلى المباحث القادمة إن شاء الله.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين, وسلم تسليماً كثيرا.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

    اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا.

    اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

    وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756535678