وبعد:
ففي سلسلة (أضواء على سير العلماء) نتحدث في هذه الليلة -إن شاء الله تعالى- عن سيرة العالم الوزير الكامل الإمام العادل عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد بن الحسن بن جهم الشيباني الدوسي العراقي الحنبلي ، صاحب المصنفات رحمه الله تعالى، وهذا الإمام عربيٌ شيبانيٌ.
كان مولده في سنة بـقرية بني أوقر من الدور إحد بلدان العراق ، ولذلك يقال في نسبه: الدوري.
ودخل بغداد في صباه، وطلب العلم، وقرأ القرآن بالراوية على جماعة.
وسمع الحديث من جماعة، منهم: القاضي أبو الحسين بن الفراء ، وابن الزاغوني ، وعبد الوهاب الأنماطي ، وغيرهم.
وقرأ القرآن بالقراءات السبع.
وشارك في علوم الإسلام، ومهر في اللغة، وكان يعرف مذهب الإمام أحمد رحمه الله، والعربية، والعروض.
يقول الذهبي عنه كما في السير: "كان سلفياً أثرياً". وهذه صفة مهمة للعلماء.
سلفياً: يتبع السلف في المعتقد.
أثرياً: يعتمد الأثر والحديث والدليل في أقواله الفكرية وغيرها.
وقرأ الفقه على أبي بكر الدينوري .
وقرأ الأدب على أبي منصور الجواليقي .
وصَحِبَ أبا عبد الله محمد بن يحيى الزبيدي الواعظ الزاهد من حداثته، وأخذ عنه التألُّه والعبادة، وانتفع بصحبته حتى إن الزبيدي كان يركب جملاً ويعتم بإزار ويلويها تحت حنكه وعليه جبة وهو مخضوب بالحناء، فيطوف بأسواق بغداد ويعظ الناس، وزمام جمله بيد أبي المظفر ابن هبيرة ، فكان ابن هبيرة رحمه الله يمسك بجمل هذا الواعظ يمشي به وهو يطوف على الناس يعظهم، وكلما وصل الزبيدي موضعاً، أشار أبو المظفر بمسبحته ونادى برفيع صوته: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير) وهذا الذكر يقال عند دخول السوق.
وكان رحمه الله تعالى متشدداً في اتباع السنة وسيرة السلف الصالح، ولما طلب العلم حصل أنه رحمه الله أمضه الفقر، وأعيته الحاجة، واحتاج إلى موردٍ للكسب، فتعرض للكتابة فصار كاتباً -حصل على وظيفة كاتب- وتقدم وترقى في الكتابة لدى الخليفة، وصار على مشارف الخزانة، ثم ولي ديوان الزمام، أي: ديوان يُعْنَى بالشئون المالية المدنية والعسكرية، وفيه تُحفظ السجلات، وهو من التراتيب الإدارية في الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، فلوحظ عليه الأمانة وجودة العمل وإتقانه، فكان قوياً أميناً، فتولى ديوان الزمام للخليفة المقتفي لأمر الله ، وفي سنة: (544 هـ) عينه وزيراً، واستمر في الوزارة لابنه المستنجد بالله بعد الخليفة المقتفي.
وكان -رحمه الله تعالى- ديِّناً، خيِّراً، متعبداً، عاقلاً، وقوراً، متواضعاً، باراً بالعلماء، مكباً -مع أعباء الوزارة- على العلم وتدوينه، كبير الشأن، وكان حسنة الزمان في ذلك الوقت.
ولما وصل إلى حديث: (من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين) شرح الحديث، وتكلم على معاني الفقه، وآل به الكلام إلى أن ذكر مسائل الفقه المتفق عليها والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين: أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، فكان هذا كتاب فقه فيه أقوال العلماء في المسائل المختلفة الفقهية داخلٌ ضمن شرحه لـصحيح البخاري وصحيح مسلم ؛ ولكن الناس أفردوه عن الكتاب الأصلي، وطُبِع باسم الإفصاح عن معاني الصحاح ، وهو كتاب مهم، ولكنه في الحقيقة قطعة من الكتاب الأصلي في شرح الصحيحين.
هذا الكتاب صنفه في ولايته للوزارة، واعتنى به، وجمع عليه أئمة المذاهب، فكان يعرف آراء المذاهب من أصحابها، وأوفدهم من البلدان لأجل هذا الكتاب، وحضروا عنده، وأنفق على تأليف ذلك الكتاب مائة ألف دينار يدخل فيها نفقات العلماء الذين رحلوا واجتمعوا وتباحثوا في هذا الكتاب.
وحدَّث بهذا الكتاب، واجتمع خلق عظيم لسماعه، وبُعِث به إلى العظماء في أطراف المملكة الإسلامية، واستُنْسخت منه نسخٌ كثيرة، وبلغ ذلك الكتاب إلى السلطان نور الدين الشهيد رحمه الله، واشتغل الفقهاء في ذلك الزمان بكتاب الإفصاح عن معاني الصحاح يدرسونه في المساجد، ويعيده المعيدون، ويحفظ منه الفقهاء.
وكذلك صنف في النحو كتاباً اسمه المقتصد ، وعرضه على أئمة الأدب في عصره، وشرحه ابن الخشاب في أربعة مجلدات.
وكذلك صنف كتاب العبادات الخمس على مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وحدَّث به بحضرة العلماء من أئمة المذهب.
وله أرجوزة في المقصور والممدود، وأرجوزة في علم الخط.
هذا الرجل من عَظَمَته أنه اشتغل بالعلم وألف وهو وزير.
ولكن الرجل لما بلغ ذلك المنصب لم يفسد، ولم ينشغل بأمور الدنيا، ولم يترك طلب العلم، وهذا درسٌ عظيمٌ جداً يؤخذ من حياة هذا الإمام، بل إن أخلاقه قد ازدادت بعد توليه الوزارة، وكان يقول بعد توليه الوزارة: لا تقولوا في ألقابي: سيد الوزراء. لماذا نهاهم عن تسميته بسيد الوزراء؟
قال: لأن الله تعالى سمى هارون وزيراً.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن وزيريه من أهل السماء: جبريل، وميكائيل، ومن أهل الأرض: أبو بكر ، وعمر .
فإذا قيل: سيد الوزراء، قد يُتَوَهَّم دخول هارون، وأبي بكر ، وعمر في هؤلاء الوزراء، ولا يمكن أن يكون سيداً لهم، ولا يجوز أن يكون كذلك، فكان يتنبه حتى لهذه المسائل.
وكان متواضعاً رحمه الله تعالى، لم يشغله أو يطغه المنصب، بل كان ملتزماً لجانب التواضع، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اختارني، واختار لي أصحاباً، فجعلهم وزراء وأنصاراً) يقول الوزير ابن هبيرة رحمه الله: "ولا يصلح أن يقال عني: إني سيد هؤلاء السادة".
1- قام بالعدل.
2- جاد على الناس.
3- أصلح ما فسد من قبل.
4- شجع الناس على طلب العلم، ورفع منزلة العلماء وقدرهم عنده، وكان صاحب عبادة بالإضافة إلى ذلك.
من الذين ترجموا للوزير ابن هبيرة : ابن الجوزي رحمه الله.
لما ولي الوزير أبو المظفر الوزارة، بالغ في تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدِّثين والصالحين، واجتهد في إكرامهم وإيصال النفع إليهم، وارتفع به أهل السنة غاية الارتفاع.
فالرجل عمل خطوة مهمة جداً وهي تقريب خيار الناس من الفقهاء والمحدِّثين والصالحين، فجعلهم عنده في مجلسه يستشيرهم ويأخذ بعلمهم.
وكذلك جعلهم في الوظائف المختلفة؛ وظف العلماء، وعندما يوظف العلماء لا شك أنه يحصل خير عظيم جداً، وارتفع أهل السنة في عصره، لأنه كان سلفياً، ومن النادر أن يصل إلى هذا المنصب في ذلك الوقت سلفيٌ عالِمٌ، يتبوأ مكان الوزارة بعد الخليفة مباشرة، هذا شيء نادر للغاية، وهذه من مآثر ابن هبيرة رحمه الله.
قال مرة في وزارته: "والله لقد كنت أسأل الله تعالى الدنيا لأخدم بما يرزقنيه الله منها العلم وأهله".
فإذاً كان قصده من طلب الدنيا خدمة العلم وأهل العلم، وليس أن يحصل على منصب شخصي، أو منفعة مادية، لم يكن لأجل مصلحته، وإنما لمصلحة العلم وأهله.
ومن هذا! ينبغي أن يتعلم كل من وصل إلى منصب مهما كان؛ مديراً، أو وزيراً، أو وكيلاً، أو غير ذلك، ماذا يفعل إذا وصل إلى منصب الوزارة؟
القيام بالعدل.
تقريب الأخيار، ووضعهم في الوظائف والمناصب المختلفة، واستشارتهم.
تقريب العلماء، والعمل بكلامهم وأحكامهم التي يقولونها.
إصلاح ما فسد من قبل.
عدم الانشغال عن العلم.
رفع منزلة العلماء.
إقامة الدروس وحضورها، وإقامة المناقشات العلمية والمباحثات تكون بين يديه.
إكرام أهل العلم، وإجراء الرواتب لهم، وتفريغهم للعلم، بجعل الأعطيات لهم ليتفرغوا لطلب العلم.
إقامة السنة ونصر السنة وأهلها، وفي المقابل طمس البدعة، وإبعاد أهل البدعة، وكبتهم.
التواضع، لأن المنصب يُطْغِي، ومن حوله ينفخون فيه، ولكن إذا كان ممن وفقه الله، فإنه لا يتأثر بهذا النفخ، بل يكون على جانب العدل.
لما تولى الوزارة، مع هذه الولاية التي تولاها، التي كان يمكنه أن يخفض ويرفع بإشارة إصبع، يعاقب، أو يكرم، ونحو ذلك في أمور الدنيا، الرجل كان حسَّاساً، طالباً للعدل، متحرياً لبراءة ذمته.
وقد حصلت له قصص، منها هذه القصة:
ذكر مرة في مجلسه مسألة تفرد بها الإمام أحمد عن الثلاثة: أبي حنيفة ، والشافعي، ومالك .
فادَّعى أبو محمد الأشيري المالكي أنها رواية عن مالك ، قال: هذا القول الذي تقول: إنه تفرد به أحمد ، لم يتفرد به أحمد فقط، وهو رواية عن مالك ، ولكن لم يوافق الأشيري على ذلك أحد من العلماء الحاضرين من المالكية وغير المالكية، وأحضر الوزير للإثبات كتب مفردات أحمد التي فيها بيان المسائل التي انفرد بها أحمد عن الأئمة الثلاثة، وهذه المسألة كانت منها، كما قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله. ولكن الأشيري المالكي أصر على دعواه أن هذه رواية عن مالك.
فصار عند ابن هبيرة -رحمه الله- غضب من هذا الرجل الذي يصر على غير الحق، هذه الكتب، وهذه الإثباتات، وهؤلاء العلماء، وهذا يقول: ليست من مفردات أحمد ، فاحتدَّ ابن هبيرة رحمه الله، وقال له: بهيمةٌ أنت؟ أما تسمع هؤلاء الأئمة يشهدون بانفراد أحمد بها، والكتب المصنفة وأنت تنازع؟! وتفرق المجلس.
فلما كان المجلس الثاني، مجلس علم، يحضره الوزير ابن هبيرة رحمه الله ومعه العلماء، واجتمع الخلق للسماع، أخذ ابن شافع في القراءة، فقام ابن هبيرة ومنع الدرس من الابتداء، وقال: قد كان الفقيه أبو محمد جرى في مسألة أمس على ما لا يليق به من العدول عن الأدب والانحراف عن نهج النظر حتى قلت تلك الكلمة -أي: هذا الأشيري المالكي انحرف عن نهج النظر، وفعلاً هو مخطئ، وهذه الإثباتات، لكن يقول: أنا قلت له كلمة عظيمة وهأنذا، فليقل لي كما قلت له أمام الحاضرين جميعاً -الآن القصاص- فلست بخيرٍ منكم، ولا أنا إلا كأحدكم، فضج المجلس بالبكاء -تأثر الناس جداً من هذا الموقف- وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء، وأخذ الأشيري يعتذر، ويقول: أنا المذنب والأولى بالاعتذار من مولانا الوزير.
وهو يقول - ابن هبيرة -: القصاص.. القصاص.. يطلب ويصر على القصاص، اقتص مني وقل لي مثلما قلت لك.
فقال يوسف الدمشقي مدرس النظامية: يا مولانا! إذا أبى القصاص، فالفداء، الآن الأشيري يرفض أن يقول لك تلك الكلمة كما قلت له، وهو راضٍ، فنعدل من القصاص إلى الفدية.
فقال الوزير: له حكمه.
فقال الأشيري : نعمك عليَّ كثيرة، فأي حكم بقي لي؟!
فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الاعتداء عليك، فلا بد من تعويض، ما دمت أنك ترفض القصاص.
فقال الأشيري : عليَّ بقية دين منذ كنتُ بـالشام.
فقال الوزير: يعطى مائة دينار لإبراء ذمته وذمتي، فأُحضر له مائة دينار.
فقال له الوزير: عفا الله عنك وعني، وغفر لك ولي.
وذكر ابن الجوزي أنه قال: يعطى مائة دينار لإبراء ذمته -أي: من الدَّين- ومائة دينار لإبراء ذمتي -من الكلمة التي قلتها له- فأعطاه مائتي دينار.
و الأشيري من علماء المالكية، كان قد طلبه الوزير ابن هبيرة، فأينما وجد عالم مجيد.. عالم جيد يطلبه، ولو كان في آخر الدنيا.
وكان الأشيري عند نور الدين الشهيد محمود بن زنكي رحمه الله، فسمع به الوزير ابن هبيرة ، واستقدمه وطلبه من نور الدين ، فأعطاه وأرسله إليه وأكرمه، وصار عنده في المجلس وفي المباحثات التي تكون.
فقال ابن الجوزي : هذا ظاهرٌ في اللغة والفقه.
أما اللغة: فإن العرب تقول: كيف كنت الليلة؟ إلى وقت الزوال.
وأما الفقه: فإن أبا حنيفة يصحح الصوم بنية قبل الزوال، فقد جعل ذلك الوقت في حكم الليل.
فأعجبه هذا القول، وكان يقول بين الجمع الكثير: ما كنت أدري معنى هذا الحديث حتى عرَّفنيه ابن الجوزي ، فكنت أستحي من الجماعة، يقول: إذا جاء للوزير يقول العالم الوزير: أفادنيه ابن الجوزي بين الجماعة، فأستحي من هذه الكلمة.
ورتب الوزير ابن هبيرة لـابن الجوزي درساً في داره كل يوم جمعة.
ومن تواضعه أيضاً: أنه سمع مرة أحد الفقراء يقرأ القرآن في داره، فأعجبته قراءته، فقال لزوجته: أريد أن أزوجه ابنتي -أي: الوزير ابن هبيرة يزوج ابنته لذلك الفقير، فغضبت زوجته.
وكان يُقرأ الحديث عنده كل يوم بعد العصر.
وكان يكثر مجالس العلماء والفقراء وكانت أمواله مبذولةً لهم.
وكانت السنة تدور وعليه ديون، ولذلك قال: ما وجبت عليَّ زكاةٌ قط، لأن كل الدخل الذي كان يأتيه -مع أنه كان دخلاً كبيراً في هذا المنصب- كله يذهب لأعمال البر وصلة العلماء، وبذله لأهل العلم، ولذلك كان لا تدور عليه السنة إلا وهو مدين، ولذلك قال بعض الشعراء فيه:
يقولون: يحيى لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذلُه |
إذا دار حولٌ لا يُرى في بيوته من المال إلا ذكره وفضائلُه |
ومن تواضعه: أنه كان يتحدث بنعم الله تعالى عليه، ويذكر في منصبه شدة فقره القديم، وكان يقول: نزلت يوماً إلى دجلة، وليس معي رغيفٌ أعبر به -يقول: جاءتني أيام ما عندي رغيف. يقول هذا في حال الوزارة بعد أن صار في ذلك المنصب، وإذا رأيت رجلاً صار ذا مال أو ذا منصب يذكر فقره أو حاله الأول من الضعف وهو في حال القوة والغنى، فهذا في معدنه خيرٌ عظيمٌ.
ودخل عليه يوماً تركياً -وكان الأتراك قد أتي بهم وجُلِبوا إلى المملكة الإسلامية في ذلك الوقت، وكانوا جنوداً حتى صاروا عماد جيش الدولة- فقال لحاجبه: أما قلتُ لك: اعط هذا عشرين ديناراً ووِقْراً من طعام، وقل له: لا تحضر هاهنا؟
فقال: قد أعطيناه.
فقال: عد وأعطه، وقل له: لا تحضر، ثم التفت إلى الجماعة، وقال: لا شك أنكم تريبون بسبب هذا. أي: عندكم ريبة الآن مني؛ لأني أقول له: اعطه، وقل له: لا يعود.
قالوا: نعم.
قال: هذا كان في القرى، فقُتِل قتيل قريباً من قريتنا، فأخذ مشايخ القرى، وأخذني مع الجماعة -يبدو أنه كان شرطياً، فلما قُتل القتيل هذا التركي، جمع مشايخ القرى، وكان ابن هبيرة مع المحشورين قبل أن يتولى الوزارة- قال: وأمشاني مع الفرس، وبالغ في أذاي وأوثقني، ثم أخذ من كل واحد شيئاً وأطلقه -أي: رشوة- ثم قال لي: أي شيء معك؟ قلت: ما معي شيء، فانتهرني، وقال: اذهب، فأنا لا أريد اليوم أذاه، وأبغض رؤيته.
وفي رواية لهذه القصة أنه قال: إنني سألت هذا التركي في الطريق أن يمهلني لأصلي الفرض، فما أجابني وضربني على رأسي، وكان رأسي مكشوفاً، فكنتُ أنقم عليه حين رأيته لأجل الصلاة لا لكونه قبض عليَّ، فإنه كان مأموراً. ولذلك لما جاءه التركي، قال: أعطوه مالاً، وأعطوه كذا، وقولوا له: لا يأتي، فكان يقول: إنني لم أنقم عليه لأنه أمسك بي، لكنني نقمت عليه لأنه لم يمهلني حتى أصلي فرض الصلاة.
وكان بعض الأعاجم قد شاركه في زراعة، وآل الأمر إلى أن هذا الأعجمي ضرب الوزير -قبل أن يتولى الوزارة- وبالغ في ضربه.
ولما وَلِي ابن هبيرة الوزارة، أتى بالأعجمي وأكرمه ووهب له وأعطاه، مع أنه كان قد أساء إليه، الآن هذه فرصة للانتقام؛ لأنه صار صاحب قدرة وقوة.
فقال له عون الدين ابن هبيرة أقتلته؟
قال: نعم. جرى بيني وبينه كلام، فقتلته.
فقال الخصم بعد هذا الاعتراف: سلمه إليَّ حتى نقتله، فقد أقر بالقتل.
فقال عون الدين: تبيعونيه؟ كأنه يريد أن يفدي هذا القاتل، فاشتراه منهم بستمائة دينار، وسلَّم الذهب إليهم، ورضي أهل القتيل بالفدية.
فقال للقاتل: اقعد عندنا لا تبرح، فجلس عنده، وأعطاه الوزير خمسين ديناراً.
فقلنا للوزير: لقد أحسنت إلى هذا وعملت له أمراً عظيماً، وبالغت في الإحسان إليه، ما هو السبب؟
قال الوزير: أمنكم أحدٌ يعرف أن عيني اليمنى لا أبصر بها شيئاً؟
فقلنا: معاذ الله، لا ندري أنك لا ترى بعينك اليمنى، كأن العين كان ظاهرها أنها سليمة؛ لكنها في الحقيقة معطوبة.
فقال: بلى والله -أي: أنها معطوبة- أتدرون ما سبب ذلك؟
قلنا: لا.
قال: هذا الذي خلَّصته من القتل جاء إليَّ وأنا في الدور ومعي كتاب من الفقه أقرأ فيه، ومعه سلة من الفاكهة -أيام طلب العلم- فقال: احمل هذه السلة، فقلت له: ليس هذا شُغْلي، فاطلب غيري، فثاكَلَني ولكَمَني على عيني فعطبها، ومضى، ولم أره بعد ذلك إلى يومي هذا، فلما رأيته الآن تذكرت ما صنع بي، فأردت أن أقابل إساءته إليَّ بالإحسان مع القدرة.
هذا شيء من عدل هذا الرجل وتواضعه رحمه الله تعالى، ولا شك أن هذا شيء لا يبلغه إلا نادر من الناس، القليل والقليل جداً، ولا شك أنه أمر صعب، وهذا داخل في قوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134] أي: الذين يمتنعون عن الانتقام ممن أساء إليهم، يكظمون الغيظ.
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس ِ [آل عمران:134] أي: إذهاب ما في الصدر على الشخص.
والأول قد يكون واجباً؛ لكن الثاني لا يكون واجباً.
أي: أنه يجب عليك شرعاً أن تُخرج من صدرك أي ضغينة على مَن ظلمك، لكن لا يجب عليك العفو عنه؛ لكن لو فعلته فلا شك أن هذا من مقامات الإحسان.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] أي: من مقامات الإحسان ألَّا تجد في نفسك شيئاً عليه.
فالرجل بحقٍ قد وصل إلى هذه المقامات العالية.
قال ابن الجوزي: كان الوزير ابن هبيرة رحمه الله يجتهد في اتباع الصواب، ويحذَر من الظلم، ولا يلبس الحرير.
قال لي لما رجعت من مكان، وكان قد ذهب لقتال بعض أهل البغي وإخماد فتنتهم: دخلت على المقتفي -أي: الخليفة- فقال لي: ادخل هذا البيت وغيَّر ثيابك، فدخلتُ، فإذا خادمٌ وفرَّاشٌ معهما خِلَع الحرير، فقلت: والله ما ألبسها، فخرج الخادم وأخبر الخليفة، فسمعتُ صوته يقول: قد والله قلتُ: إنه لا يلبسها - المقتفي كأنه أراد اختبار الوزير- فأعطى الفراش حلل الحرير، وكان المقتفي معجباً به.
ولما استخلف المستنجد بعد أبيه المقتفي ، دخل ابن هبيرة عليه، فقال: يكفي في إخلاصي أني ما حابيتك في زمن أبيك، قال: صدقت. ولذلك فإن المستنجد قد مدح وزيره ابن هبيرة بأبيات منها:
ضَفَت نعمتان خصتاك وعمَّتا فذكرهما حتى القيامة يُذْكَرُ |
وُجُودُك والدنيا إليك فقـيرةٌ وَجُودُك والمعروف في الناس يُنْكَرُ |
فلو رام يا يحيى مكانـك جعفر و يحيى لكفَّا عنه يحيى وجعفر |
يقصد يحيى البرمكي وابنه جعفر بن يحيى اللذَّين وَزَرا لـهارون الرشيد ، ثم قضى الرشيد على فتنة البرامكة، لكنهما كانا وزيرين مشهورين جداً.
ولو أرى من ينوي لك السوء يا أبــ ـا المظفر إلا كنت أنت المظفر |
وكان أيضاً يتأسف على ما دخل فيه من أعمال السلطنة، ويخشى أن يكون قد ظَلَم، أو أكل شيئاً بغير حق، ولذلك فإنه كان يتأسف على الدخول فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ) ولكن نسأل الله عز وجل أن يكون هذا الرجل ممن أخذها بحقها.
يقول ابن الجوزي: قال ابن هبيرة: كان عندنا في القرية مسجدٌ فيه نخلة تحمل ألف رطل، فحدَّثتُ نفسي أن أقيم في ذلك المسجد، وقلت لأخي مجد الدين : اقعد أنا وأنت وحاصلها يكفينا، ثم انظر إلى ما صرتُ إليه من أمر الوزارة، ثم صار يسأل الله الشهادة، ويتعرض لأسبابها -أي: من الخروج للجهاد ونحو ذلك- وفي ليلة ثالث عشر جمادى الأولى سنة: (560هـ) استيقظ وقت السحر، فقاء، -أخذه القيء في وقت السحر- فحضر طبيبه ابن رشادة، فسقاه شيئاً -يعني: كعلاج- فقيل: إنه سَمَّه!!
وهكذا المخلصون في هذه الأماكن لا يطول بهم المقام؛ لأن أصحاب الأهواء يُعادونهم ويعملون على رحيلهم حتى يفرغ لهم المكان.
خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري |
فقيل: إنه سقاه سماً، فمات - ابن هبيرة رحمه الله تعالى- فيكون قد مات مظلوماً شهيداً.
ومن قدر الله تعالى أن هذا الطبيب سُقي بعده بنصف سنة سُمَّاً، فكان يقول: سَقَيْتُ فسُقِيْتُ -الجزاء من جنس العمل- ومات الطبيب الذي سمه.
فالرجل نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون ممن قد ذهب إلى ربه شهيداً.
وكان من أصحاب التألُّه، واكتسب ذلك من أشياخه كما قلنا، وكانت فائدة في أن طالب العلم يتعلم العلوم المختلفة، لا يقتصر على علمٍ معين، يتعلم القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه، وغير ذلك، ويضيف إليه أمراً مهماً جداً وهو جانب التألُّه والتعبُّد، كما تأثر ابن هبيرة رحمه الله بشيخه في التألُّه والتعبُّد، وتعلم منه قضية إنكار المنكر ووعظ الناس ونصح الناس.
قال الوزير رحمه الله: ثم لازمت الدعاء في كل ليلة وقت السحر، أجلس فأدعو الله سبحانه، فمات مسعود بتمام الشهر، وأجاب الله الدعاء وأزال يد مسعود وأتباعه عن العراق ، وأورثنا أرضهم وديارهم. وهذه القصة تذكر في كرامات الوزير ابن هبيرة رحمه الله تعالى.
وكُتِبَ إلى ابن هبيرة بقصيدة يُهَنَّأ بها، وأن ذلك كان بسبب سعيه ورأيه، وعظُمَت حرمة الدولة العباسية في ذلك الوقت، وكان ذلك برأي الوزير، وبتنفيذ وسعي نور الدين رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.
وفي بعض مجالسه قال له بعض الفقهاء الحنابلة: يا مولانا! إذا استويا، جاز لبسه في أحد الوجهين عن أصحابنا، فقال: أنا لا آخذ إلا بالأحوط، أتبحث لي على قول عند أصحابكم، أو عند أصحابنا؟!
وكذلك فإنه كان رحمه الله تعالى عاملاً على تقرير قواعد الدين والنظر في مصالح الإسلام والمسلمين.
كان فاضلاً ذا رأي صائب وسريرة صالحة حتى شكره الخاص والعام.
- كان عفيفاً عن أموال المسلمين وأموال الدولة وبيت المال.
- كان كثير البر والمعروف، وقراءة القرآن، والصلاة، والصيام.
- كان جميل المظهر، شديد التظاهر بالسنة، ومن كثرة ميله إلى السنة أنه اجتاز في سوق بغداد وهو الوزير، فقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير). فكان يجهر بالسنة، ويجهر بالأذكار في الأماكن المختلفة.
وكذلك يضاف إلى تحريه في الأمور وشدة الورع: أنه في ذات مرة أُحْضِر له كتاب من وقف المدرسة النظامية التي أسسها النظام، وهي مدرسة خيرية كان يُجْعَل لها أوقاف من الأوقاف يُنْفق على الطلبة والمدرسين في هذه المدرسة، وتدرس فيها العلوم المختلفة، وكان هذا النظام المعمول به في أنحاء العالم الإسلامي، تُخَرِّج طلاباً أقوى من طلاب الجامعات، أحضر للوزير ابن هبيرة كتاب أوقف على المدرسة النظامية ليُقرأ فيه، فقال: قد بلغني أن الواقف شَرَط في الكتاب الوقف بأن لا يُخْرَج شيء من كتب الوقف عن المدرسة، ثم أمر برده.
فقيل له: إن هذا شيء ما تحققناه، أي: لم نتأكد منه.
قال: أليس قد قيل؟ بَلَغَنا ذلك يكفي، مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل عندما سأله في موضوع الرضاعة: (أليس قد قيل؟) وهذا يبين أهمية التحري، والأخذ بالأحوط، والابتعاد عن الشبهات، فقال: أليس قد قيل؟ ولم يمكنهم من قراءته، وحثهم على إعادته.
وحصل كذلك من تواضعه وإيثاره للفقراء أشياء كثيرة: حتى أنه كان كثيراً ما يقول لبعض الفقراء وهو يخاطبهم في المجلس أمام الناس، يقول: أنت أخي.
قال في الآية الأولى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151] أي: في آخرها.
وفي الثانية: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152] في آخرها.
وفي الثالثة: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] لأن كل آية يليق بها ذلك، لأن هذه الآيات التي هي آيات الوصايا العشر في سورة الأنعام: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الأنعام:151] ختم الآية التي فيها النهي عن الشرك بقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151] قال: لأن العقل يشهد بأن الخالق لا شريك له، والعقل يدعو إلى بر الوالدين، وينهى عن قتل الولد، وإتيان الفحشاء، لأن الإنسان يغار من الفاحشة على ابنته وأخته، فينبغي عليه أن يجتنبها، فلما لاقت هذه الأمور بالعقل، قال: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151] يعني: الفطرة السليمة والعقل السليم يهتدي إليها، وهي:
- تحريم الشرك.
- الأمر ببر الوالدين.
- النهي عن قتل الولد.
- النهي عن إتيان الفاحشة.
- النهي عن قتل النفس.
في الآية الثانية قال: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ [الأنعام:152] بماذا ختمها؟ ختمها بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152] فقال:
أي: اذكر لو هلكتَ، فصار ولدك يتيماً.
واذكر عند وزنك لو كنتَ الموزون له.
واذكر كيف تحب العدل لك في القول، فاعدل في حق غيرك.
وكما لا تؤثر أن يخان عهدك، فلا تخن.
فلاقى بهذه الأشياء التذكُّر.
فقال: افرض أن أولادك أنت هم اليتامى، تذكر أنك أنت الموزون له، فماذا تفعل؟ تعدل في اليتامى، وفي الوزن، ولذلك ختمها بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152].
وقال في الثالثة: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] فلاقى بذلك اتقاء الزلل، فلذلك قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] اتـقاء الـزلل، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] فاتـقاء الـزلل ختمها بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
الأصل أن يقال: ما شاء الله كان، أو ما شاء الله يكون، أو ما شاء الله سيكون، لكن قال: مَا شَاءَ اللَّهُ [الكهف:39] فقط، لم يقل: ما شاء الله كان، أو ما شاء الله يكون، أو ما شاء الله سيكون، قال: أطلق اللفظ ليعم الماضي والحاضر والمستقبل.
فهذا من فقهه رحمه الله في هذه الآية، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ [الكهف:39] ماذا يعني ما شاء الله؟
أي: ما شاء الله كان، أو ما شاء الله يكون، أو ما شاء الله سيكون.
قال: وتدبرتُ قوله تعالى: لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39] تكملة لقوله تعالى: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39] فرأيت لها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن قائلها يتبرأ من حوله وقوته ويسلِّم الأمر إلى مالكه.
والثاني: أنه يعلم أنه لا قوة للمخلوقين إلا بالله، فلا يخاف منهم إذ قواهم لا تكون إلا بالله، وذلك يوجب الخوف من الله وحده. فإذا علمتَ أنتَ أن هذا المخلوق مهما بلغ من السلطان والقوة والهيمنة والبطش لا قوة له إلا من الله، فإذا خفت من الله، كفاك هذا المخلوق، ولا تحتاج أن تخاف من المخلوق.
والثالث: أنه ردٌ على الفلاسفة والطبائعيين الذين يدَّعون القوى في الأشياء بطبعها، فإن هذه الكلمة بيَّنت أن القوة لا تكون إلا بالله، وأن القوة ليست شيئاً موجوداً في هذا الشخص القوي، أو الحيوان القوي، أو الحديد القوي بذاته، وأنه أوجدها فيه بنفسه، إنما هو شيء موجود من الله، هو الذي خلق القوة في هذا الشيء، فهذا الشخص ليس قوياً بذاته، ولا هو الذي اكتسب القوة وأودعها عنده، وإنما لولا الله ما كان هذا الشيء قوياً، فمصدر قوة الحديد وقوة الأسد وقوة الرجل صاحب البطش وصاحب البسطة في الجسد من الله، لولا الله ما كان هذا.
أما الفلاسفة والطبائعيون، فإنهم يقولون: إن هذه الأشياء قوية بطبعها.. بأصلها.. بوجودها.. هكذا قوية، ولا ينسبون القوة التي فيها إلى الله.
فـ(الهاء) في قول (هؤلاء): هاء التنبيه، وموسى يخاطِب ربَّه، فلا يليق أن يستخدم هاء التنبيه في الخطاب.
ولما خاطب اللهُ عز وجل المنافقين قال: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:109].
ولما خاطب المؤمنين، كرمهم بإسقاط الهاء، فقال: هَاأَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ [آل عمران:119].
فالتنبيه للمؤمنين أخف.
فيمكن في بعض الأحيان أن ترتفع الأصوات ويكون الكلام جهرياً، ومع ذلك الإنسان لا يفقه ولا يفهم من كثرة الاختلاط واشتباك الأصوات، والله سبحانه وتعالى يعلم ضجيج هؤلاء الملبِّين والداعين في الحج وفي غيره، ولو قاموا جماعةً كثيرةً جداً، فهم ربما يجهرون كلهم، ولكن لا يمكن أن يَعلم ماذا يقولون إلا الله سبحانه وتعالى.
هذا وصف جميل للداعية، وهو أن الداعية مثل: الطبيب، والطبيب يكون موقعه عند المرضى، فلو أن الطبيب اعتزل المرضى ولَمْ يُخالطهم هلكوا، ولذلك قال: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان:20] أي: يخالطون الناس، قال: ويبين شرف العالم على الزاهد المنقطع؛ لأن بعض الناس قد يكون عندهم زهد؛ لكنهم ينقطعون عن الناس، ويشتغلون في الخلوات بذكر الله ونحوه، لكن لا يخالطون الناس، فهؤلاء لا ينفعون الناس.
فتأمل كلام ابن هبيرة -رحمه الله- الدقيق في هذه المسألة عندما شبه المعلم والداعية بالطبيب، وأن الداعية يجب أن يخالط الناس، لأنه إذا لم يخاطبهم ما استفادوا منه ولا تعلموا ولا انتفعوا ولا عدَّلوا من أخطائهم.. وهكذا كانت وظيفة الرسل؛ الدعوة والتعليم.
ولو أن كل إنسان قال: أنا ملتزم بديني في نفسي وأعتزل الناس ولا أخالطهم، فإن هذا سيؤدي إلى استشراء الشر وعدم وجود من يعلِّم الخلق.
قال رحمه الله تعالى: هذا من تمام بر الوالدين، كأن هذا الولد خاف أن يكون والداه قصَّرا في شكر الرب عز وجل، فسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم به عليه وعليهما، ليقوم بما وجب عليهما من الشكر إن كانا قصَّرا.
فالابن إذاً يمكن أن يستدرك شيئاً مما فات والديه، ويكون عملُه مما ينفع والديه، وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: منها: وولد صالح يدعو له).
فهذا قارون عندما خرج على قومه في زينته، قال كثير من الناس: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79].. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ [القصص:80] يعني: في الآخرة، لِمَنْ آمَنَ [القصص:80] فلا تلهينكم أموال قارون، ولا تعجبنكم هذه الأموال الطائلة، فإن ما عند الله في الآجل خيرٌ وأبقى من هذه الدنيا الفانية.
فمن كان نظره إلى الثواب الآجل فهو عالم، ومن كان نظره مقتصراً على الثواب العاجل دون الآجل فليس بعالم.
قال: إنما ذكر السماع عند ذكر الليل، والإبصار عند ذكر النهار؛ لأن الإنسان يدرك بسمعه في الليل أكثر من إدراكه في النهار، ويرى في النهار أكثر مما يرى في الليل، ولذلك سلطان السمع في الليل، وسلطان البصر في النهار.
فـالوزير يحيى رحمه الله صاحب تدبر في كتاب الله، وهذا من تأملاته وتدبره في كتاب الله؛ لأن الله قال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82].. أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68].
فرأيت أن كل نعمة ينالها العبد فالله خالقها، فقد أنعم بخلقه لتلك النعمة وبسَوْقها إلى المنعَم عليه.
فإذا قال قائل: ما هو الرابط بين ذكر النعمة وذكر الخالق في هذه الآية اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3]؟
الجواب: أن الله هو الذي خلق النعمة، وهو الذي ساقها إلى المنعَم عليه، وهذا وجه الارتباط بين ذكر الخالق وبين ذكر النعمة في هذه الآية.
وفي الآية الأخرى قال: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20] وهذه في قصة موسى.
فنلاحظ هنا أن في آية تقديم الرجل، وفي الآية الأخرى تأخير ذكر الرجل.
الرجـل صفة مدح: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً [يوسف:109].. إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [الزخرف:59].. وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20] الرجل في القرآن ورد في سياق المدح، ولذلك لما تمنى أصحاب عمر كل واحد أمنية، قال عمر : [ولكني أتمنى ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال
إذاً: قوله تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20]، وفي آية أخرى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20] فما هي الفائدة في التقديم والتأخير؟
يقول رحمه الله: فرأيت الفائدة في تقديم ذكر الرجل وتأخيره أن ذكر الأوصاف قبل ذكر الموصوف أبلغ في المدح من تقديم ذكره على وصفه، فإن الناس يقولون: الرئيس الأجل فلان، فيأتي اسمه بعد وصفه، فمثلاً نقول: العالم العلامة الحبر الفهامة فلان، ثم نأتي باسمه، فتتقدم الصفة على الموصوف، هذه رتبة أعلى من تقدم الاسم على الصفة.
فنظرتُ -الآن هذه من ناحية المعنى واللغة والبيان- فإذا الذي زِيْدَ في مدحه هو صاحب سورة يس؛ أَمَرَ بالمعروف، وأعان الرسل، وصبر على القتل، والآخر إنما حذّر موسى من القتل، والرجل الآخر كان فقط ناصحاً جاء وحذَّر موسى من القتل، نعم. لقد عمل شيئاً عظيماً، وجاء من أقصى المدينة ليقدم لموسى النصيحة ويخبره بالخبر المهم الذي سينبني عليه نجاة موسى وسلامته، ولكن أي الرجلين أعظم؟ الذي في قصة سورة يس أم الذي في قصة موسى؟
الذي في سورة يس أعظم؛ لأنه جـاء من أقصى المدينة يسعى، ويقول: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:20-22] وناقش قومه، ونصر الرسل، وأمر بالمعروف، ونهى عن الشرك، وصبر على القتل، هذا أعظم ممن جاء فقط ليبلغ موسى بأن فرعون وجنوده يقتفون أثر موسى ويبحثون عنه.
قال رحمه الله: والآخر إنما حذَّر موسى من القتل، فسلم موسى بقبول مشورته، موسى عليه الصلاة والسلام كان حكيماً، هذا قبل أن يؤتى النبوة، كان عاقلاً لبيباً، لما جاءه يقول: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً [القصص:20-21] لم يقل: أذهب أودع أهلي، وأسلم عليهم، ثم أذهب! لا. المسألة الآن مسألة هرب بالنفس، الهرب بالنفس يحتاج إلى سرعة، ولذلك قال الله عنه: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص:21].
فالأول: هو الآمر بالمعروف -الذي في سورة يس- والناهي عن المنكر.
والثاني: هو ناصح الآمرِ بالمعروف، هو ناصح لموسى، فاستحق الأول الزيادة، الذي في سورة يس، الذي فيه ذكر الوصف قبل ذكر الموصوف.
قال: ثم تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بُعد في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبعد الطريق، وهذه فائدة أيضاً.
فإن بعد المسافة قد يكون مثبطاً للشخص عن الإتيان للدعوة والنصح والتعليم، ونحو ذلك، فكونه يأتي من بعيد ويقطع الطريق فهذا يدل على قوة همته في الحق، وعلى عزيمته في البلاغ، وعلى شفقته وحرصه، ولذلك جاء من أقصى المدينة، ما رآه مصادفةً في الطريق، أو أنه جارٌ له، بل جاء من أقصى المدينة، وقوله: (يسعى) يدل على الاشتداد في الإتيان، أنه ما جاء يتباطأ، جاء مسرعاً للبلاغ، ليلحق بالأمر قبل انفراطه وقبل فوات الأوان.
كذلك من استنبـاطاته رحمه الله في كتاب الله وتدبره له، في قوله تعالى: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً [الواقعة:65]، ولَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً [الواقعة:70].
فهذه في سورة الواقعة.
فقوله تعالى: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً [الواقعة:65] أي: الزرع.
وقوله تعالى: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً [الواقعة:70] ؟ أي: الماء.
وما معنى أجاجاً؟
مالحاً لا يستفاد منه.
ما هو الفرق بينهما في الحروف؟ اللام.
في الزرع قال: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً [الواقعة:65].
وفي الماء قال: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً [الواقعة:70] بدون لام.
فلماذا اللام ذكرت في الزرع ولم تذكر في الماء؟
قال: تأملتُ دخول اللام وخروجها، فرأيت المعنى أن اللام تقع للاستقبال، يعني: اللام تدل على المستقبل، تقول: لأضربنك، أي: فيما بعد، لا في الحال، إذا أردت أن تضربه الآن، فلا تقل: لأضربنك، وإنما اللام هذه تدل على المستقبل.
والمعنى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً [الواقعة:63-65] أي: في مستقبل الزمان، فيقول: انظروا إلى هذا الشيء الذي أنتم الآن تبذرونه وتزرعونه لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ [الواقعة:65] بعد أن ينمو ويكبر ويثمر وتتعبون عليه، نجعله حطاماً، فيكون العذاب بذلك والأسى والحسرة والتأسف عليه أكبر مما لو جعله حطاماً في أول أمره، ولذلك قال: لَجَعَلْنَاهُ [الواقعة:65] بعدما يكبر وينضج ويثمر أمامكم تتعلق نفوسكم به، لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ، لأنه قال: أي: في مستقبل الزمان إذا تم فاستُحْصِد، وذلك أشد العذاب؛ لأنها حالة انتهاء تعب الزرَّاع، واجتماع الدين عليهم، لأن الزرَّاع والمزارعون يقترضون لأجل نفقات الزرع، وثمن البذور، والسقي، وما يتبع ذلك من السماد وغيره، حتى إذا أثمر وحصدوا، باعوا وسددوا الدين وأخذوا الربح، قال: لأنها حالة انتهاء تعب الزراع واجتماع الدين عليهم لرجاء القضاء بعد الحصاد مع فراغ البيوت من الأقوات؛ لأن قبيل الحصاد يكون المزارع مفلساً إلى آخر درجة، حتى البيت ليس فيه قوت، لأنه سيدخر الآن من هذا الثمر، فإذا قضي عليه في ليلة، قضي على الزرع هذا، والحصاد كله صار حطاماً، فكيف يكون وقع المصيبة؟ عظيماً.
وأما في الماء، فقال: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً [الواقعة:70] أي: الآن، هذا الماء الذي عندكم، أما أن نجعله في المستقبل بعد أن تشربون وتخزنون وتدخرون، ويذهب عطشكم، فلا يكون هناك نقمة قوية مثلما يُجعل الآن وأنتم محتاجون إليه قبل أن تشربوا وقبل أن تدخروا، ولذلك قال في الزرع: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ [الواقعة:65] وقال في الماء: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ [الواقعة:70].
من تأملاته -رحمه الله- في قوله تعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ [طه:17-18] قال: في حمل العصا عظة؛ لأنها من شيء قد كان نامياً، فقُطِع، فكلما رآها حاملُها، ذكر الموت، العصا مأخوذة من شجر قد قطع منه، فيكون في حملها، والتوكؤ عليها، والمشي بها عظة، لأنها من شيء كان نامياً فقطع، ولذلك رؤيتها تذكر بالموت.
قال: ومن هذا قيل لـابن سيرين رحمه الله: رجل رأى في المنام أنه يضرِب بطبل، فقال: هذه موعظة، لأن الطبل من خشب قد كان نامياً فقطع، ومن أغشية جلود حيوان فذبح.
وقال ابن الجوزي أيضاً عن شيخه ابن هبيرة رحمه الله، ويا ليته اقتفى أثره في الأسماء والصفات؛ لأن ابن هبيرة كان سلفياً.
وسمعته يقول في قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... [البقرة:10] الآية، قال: المريض كما يحصل له اختلاط في الطعوم -لأن من صفات المريض أن يجد الطعوم على خلاف ما هي عليه، فيذوق الحامض حلواً، والحلو مراً، المرض يؤثر على الحواس.. حاسة التذوق، وحاسة الشم، فيصبح عنده نوع من الاختلاط فيها- وكذلك هؤلاء المنافقون في قلوبهم مرض، يرون الحق باطلاً، والباطل حقاً، فهذا يعني من بديع وصف المنافقين بأن في قلوبهم مرضاً، أن المريض كما يحصل له اختلاط في الطعوم، فهؤلاء كذلك يحصل عندهم اختلاط وخلط، يرون الحق باطلاً، والباطل حقاً.
هذه من فوائد أن يكون الصيام في شعبان كثيراً تدريباً وتمريناً، استعداداً لرمضان.
قال ابن هبيرة رحمه الله: فطفقت والجماعة عندي أفكر في معنى تخصيص هذا العدد من الملائكة.
فنظرتُ فإذا حروف هذه الكلمات بضعٌ وثلاثون حرفاً، إذا فُكَّ المشدد، وعدَّينا الحروف في هذه العبارة، وجدناها بضعةً وثلاثين حرفاً.
ورأيت أنه من عظم ما قد ازدحمت الملائكة عليها لم يحصل لكل ملك سوى حرف واحد، فصعد به يتقرب بحَمْله.
فـابن هبيرة رحمه الله حنبلي المذهب، متبع لـأحمد رحمه الله، لكن ننبه على مسألة مهمة جداً تتعلق بقضية اتباع الأئمة في الفقه، يقول: إن مذهب أحمد ليس إلا الاتباع فقط، أي أن أحمد ما جاء بشيء من عنده، أحمد نظر في كلام السلف -في الآيات والأحاديث أولاً وكلام الصحابة والتابعين- فما قال السلف قاله أحمد، أي: أن مذهب أحمد هو كلام السلف ، ولذلك أحياناً يأتي عن أحمد ثلاث روايات في مسألة، مرة يجوز، ومرة يكره، ومرة كذا؛ لأن أحمد رحمه الله كل رواية تأتي عنه إنما يكون قد بناها على نقلٍ عن أحد من السلف ، عندما اختلفت النقول عن السلف اختلفت روايات أحمد رحمه الله، وأيضاً هذه طريقة الشيخ/ عبد العزيز بن باز -نفع الله به- المسألة إذا كان هناك أكثر من رأي قوي لأهل العلم، فأحياناً يفتي بهذا وأحياناً يفتي بهذا.
فـأحمد رحمه الله نظر في كلام أهل العلم، فما أثر عن السلف أفتى به ونقله.
ففهم هذا الشيء في قضية التمذهب شيء في غاية الأهمية؛ لأن بعض الناس يظنون أن منتهى العلم إلى الإمام، والإمام أتى به من عنده، وبالتالي تنقطع الصلة فيما بين هذا المتمذهب وبين النبي عليه الصلاة والسلام وبين الصحابة، لأن منتهى علم الرجل هذا وتقليده واتباعه إنما هو للإمام، لكن إذا عرف أن الإمام مجرد ناقل، وأن الإمام متبع للسلف ، معنى ذلك أنني عندما أتبع أحمد أنا في الحقيقة متبع للسلف ، وأنا منتمٍ إلى السلف قبل أن أنتمي إلى أحمد ، وهذه مسألة في غاية الأهمية، لأن القضية: أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:20] وليست أطيعوا فلاناً وفلاناً.
فينبغي أن تُشرح المسألة للمتمذهبين، وأن يكون الارتباط بالمنهج.. أن يكون الارتباط برجال العلم وبأهل العلم، وليس بفلان معين.
فما معنى: تُمَرُّ كما جاءت؟
يعني: لا نتعرض لها بتحريف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، نثبت المعنى، ولا نتعرض له بتحريف، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، لو سألت أحدهم -مثلاً- عن معنى قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ [المائدة:64] قال: لا أدري، تثبت اليد؟ يقول: أتوقف، لا أثبت ولا أنفي، ولا أقول شيئاً.
ليس معنى (تُمَرُّ كما جاءت) أنه مذهب أهل التفويض ، لا. تُمَرُّ كما جاءت النقول عن السلف، نثبت المعنى.. نثبت الآية.. نثبت الحديث بما تضمنه من المعنى الذي جرى على لسان العرب، ولا نتعرض لهذا المعنى، ولا نتعرض لهذه الآية، ولا نتعرض لهذا النص بأي وجه من وجوه التحريف والتعطيل والتمثيل إلى آخره.
فـابن هبيرة سلفي، يقول في آيات الصفات: تُمَرُّ كما جاءت.
قال: تفكرت في أخبار الصفات، فرأيت الصحابة والتابعين سكتوا عن تفسيرها مع قوة علمهم. وهذا -فعلاً- شيء ملاحَظ.
كثير من آيات الصفات لا تجد للصحابة فيها ذكراً لمعنى الصفة، ولم يتعرضوا لذلك إلا نادراً، فلماذا؟
لأن أهل البدعة لما تكلموا صار العلماء الذين يتبعون طريقة السلف يفسرون آيات الصفات تفسيراً يثبت معـناها، ويقولون: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] استوى أي: علا وارتفع وصعد، فيأتون بالكلمات المرادفة التي تدل على المعنى، ويقولون: يَدٌ حقيقية تليق بجلاله وعظمته، بينما لا تجد في كلام الصحابة مثلاً: يَدٌ حقيقة تليق بجلاله وعظمته، ما تعرضوا لتفسير آيات الصفات إلا قليلاً، فلماذا؟
قال: فنظرتُ السبب في سكوتهم، فإذا هو قوة الهيبة للموصوف -يهابون الله تعالى- ولأن تفسيرها لا يتأتى إلا بضرب الأمثال لله، وقد قال عز وجل: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74].
ولا شك أن القوم عرب، وإذا كان الواحد عربياً ولغته سليمة فإنه لا يحتاج إلى تفسير، لأن النص أمامه ظاهر ومعروف.
بعض الناس من الخطباء والدعاة وطلبة العلم ربما يقعون في شيء من التقصير في ذكر الحسن والحسين وآل البيت مثلاً، ولا يكادون يتعرضون لهذا الموضوع، وصار عندهم شيء من الحذر بسبب ما وقع فيه أهل البدع من الغلو في آل البيت وفي الحسين رضي الله عنه، فترانا نادراً ما نتكلم في مناقب الحسين ؛ لأننا كأننا لو تكلمنا في مناقب الحسين صرنا مثل القوم هؤلاء في الكلام في مدحه والغلو به، لكن هذا يؤدي إلى شيء كبير وهو ترك هذه الشخصيات حِكراً على أهل البدعة، بينما نحن أولى وأحق بهؤلاء منهم؛ لأن هؤلاء من أهل السنة، مثل: جعفر الصادق رحمه الله فإنه من أئمة أهل السنة ، لكن نادراً ما تجد أحداً يستشهد بأقواله؛ كأنه لو استشهد بأقوال جعفر الصادق يظن نفسه أنه صار مشتركاً مع أهل الرفض وغيرهم، مع أنه من أهل البيت ومن أئمة أهل السنة.
فإذاً لا نترك هؤلاء الشخصيات لأهل البدعة، دائماً هم يذكرونهم ويمدحونهم ويستشهدون بأقوالهم حتى يكون كأنه محسوبٌ عليهم، ونحن لا نذكرهم ولا نتعرض لهم كأننا لا علاقة لنا بهم وليسوا منا، بينما نحن أحق بهم منهم، ولذلك لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ورأى اليهود يصومون عاشوراء، سألهم عن سبب صيامهم، فقالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى، فقال عليه الصلاة والسلام: (نحن أحق بموسى منكم)، فصامه، وأمر بصيامه، وأمر بمخالفتهم بصيام يومٍ قبله.
فإذاً: لا نترك فضيلة لأهل الشر والرذيلة، لا نترك لهم شيئاً يتعلقون به، ولذلك يقول: (والله لا نترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الرافضة ، نحن أحق به منهم؛ لأنه منا ونحن منه، ولا نترك الشافعي مع الأشعرية ، فنحن أحق به منهم) فهذا شيء من أقواله رحمه الله في العقيدة.
كيف يصدهم؟
يقول: هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان: أنا لا أتكلم في القرآن تورُّعاً.
يقول: من طرق صد إبليس الناس عن القرآن: أن يقول القائل إذا أراد أن يتدبر: ربما تفهم خطأً، هذه مخاطرة، فالشيطان يأتي من باب الورع حتى يتوقف الشخص عن التفكير والتدبر؛ خشية أن يقع في هذا، فما هو المسلك الصحيح في هذا؟
أن الإنسان يقرأ التفسير ويتدبر، أما من غير قراءة التفسير، كيف يتدبر الجاهل؟ لا يمكن أن يتدبر. كما نظر أحدهم إلى عبارة مكتوبة: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود:88] فخشع، وكاد يبكي، قال له آخر: ما لك؟! ما لك؟! قال: فيها موعظة بالغة، قال: وما هي؟ قال: انظر مكتوب: وماتوا الآباء بالله فيقي! استيقظي قد لا يفهم العبارة، فيظن نفسه الآن يتدبر، وهو يتخبط.
قال: ومنها -ومن وسائل ومكائد الشيطان في تنفير عباد الله-: أن يقيم أوثاناً في المعنى تعبد من دون الله، مثل: أن يلين الحق، فيقول: ليس هذا مذهبنا، تقليد الشيخ المعظم عنده قد قدمه على الحق.
هنا يشير ابن هبيرة إلى لفتة مهمة جداً وهي أن الأوثان والأصنام ليست فقط أشجاراً وأحجاراً وتماثيل على هيئة شخص، لا. ليست دائماً الأشياء محسوسة، يمكن أن تكون الأوثان التي تُجعل طواغيت تصد الناس عن الحق وتعبد من دون الله يمكن أن تكون أشياء معنوية، مثل: صد الشخص عن الحق بأن هذا القول الذي هو الحق ليس قول الإمام، هذا ليس هو المذهب، فلا نأخذ به، مع أن الإنسان ينبغي عليه أن يقدم الحق ولو لم يقل به فلان أو علان من الأئمة المتبوعين، أو المعظَّمين.
فإذاً: هناك أشخاص لا يقبلون الحق مع أنه حق، لأنه لم يقل به الشيخ المعظم، أو الإمام المقدم عندهم، فهم لا يقولونه، فهؤلاء قد جعلوا هذا المبدأ وثناً.
أحدها: العمل به:
فإن من كلف نفسه التكلم بالعربية، دعاه ذلك إلى حفظ النحو، ومن سأل عن المشكلات ليعمل فيها بمقتضى الشرع، تعلم.
فيقول: إن العلم لا يحصل إلا بالعمل به، فإن الإنسان -مثلاً- إذا أراد أن يتعلم اللغة العربية.. ما هي أحسن طريقة لتعلم اللغة العربية؟ بعض الناس يظن حفظ القواعد، فيحفظ القواعد، ويقرأ في بعض كتب اللغة، مثلاً: الأمثلة، الشرح، القاعدة ليحفظ، ولكنه لا يجيدها، لكنه لو طبَّق، فتكلم بالعربية الفصحى، وينتبه للفاعل فيرفعه، وللمفعول فينصبه، وللمجرور فيجره، فيحصل إتقاناً للعربية.
فإذاً: الطريقة المثلى لإتقان العلم هي: العمل به.
ثانياً: التعليم:
فإنه إذا علم الناس، كان أدعى إلى تعلمه؛ لأن الذي يعلم الناس يحتاج إلى مراجعة، ويحتاج إلى انتباه لما سيسأله عنه الناس، ويحتاج إلى وعي وفهم حتى يفهِّم غيره، فكيف يوضح ويفهم من لا يفهم؟
ولذلك التعليم يقود إلى جودة التعلم.
ثالثاً: التصنيف:
فإنه يخرج إلى البحث، والتصنيف لا يكون إلا لشخص عنده حد أدنى على الأقل من العلم، قطع مشواراً حتى يبدأ بالتصنيف، وإلا صار هراءً، لماذا التصنيف يجر إلى التمكن في العلم؟
لأنه يخرج إلى البحث، يحوج صاحبه إلى بحث المسائل، فإنه إذا أراد أن يكتب وعَرَضَت مسألة وما علم بها كيف تكتب؟ أو كيف تصاغ؟ أو ما هي أحوال هذه المسألة؟ أراد أن يصنف -مثلاً- في قضية لها فروع، يحتاج إلى بحث حتى يعرف الفروع، فإنه يُخْرِج إلى البحث، ولا يتمكن من التصنيف من لم يُدْرِك غور ذلك العلم الذي صنف فيه.
ما هي الفضلة؟ وهو دم الحيض، شيء زائد عن حاجة المرأة، فضلة من فضلاتها.
إن حملت الجنين، والجنين لا يأخذ من غذائها إنما هي التي تحتاج إليه وإلا ربما تضعف وتموت، لكن يأخذ من هذه الفضلة الزائدة التي هي دم الحيض.
فإن ولدت، ماذا يحصل للفضلة الزائدة؟
تتحول إلى لبن يرتضع منه المولود، ولذلك العادة أن المرضع لا تحيض، لأن الدم -الفضلة- الذي كان يخرج في الحالة العادية يتحول إلى لبن، يخرج مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً [النحل:66].
لو أن أحداً وثق بعمله واعتمد واتكل عليه، فإن هذا أضر مما لو قصر وفرط؛ لأن التفريط والتقصير يوجب ندماً وتوبة، لكن لو أن أحداً أُعْجِب بعمله الصالح الذي فعله مما فعل من الأعمال الصالحة -مثلاً- اتكل عليه، واطمأن إليه، وركن إليه، ماذا يحصل لديه؟
عُجْب، والعُجْب يخرِّب العمل، ولا يشعر الشخص أنه مقصر؛ لأنه عنده عمل، ولذلك يقول: الثقة بالعمل أضر على الشخص من التفريط.
فلو قال أحد: الله سبحانه وتعالى يمكِّن لليهود والنصارى والكفار ويجعلهم أقوياء، وعندهم أسلحة، وعندهم.. وعندهم.. لماذا؟
نقول: لو لم يكن هذا، لما كان هناك شهداء؛ ولا كان هناك زيادة أجر ورفع درجة للمبتلين من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ لأنه مَن الذي سيمتحنهم ويبتليهم؟ مَن الذي سيؤذيهم؟ من الذي سيحبسهم ويعذبهم؟ الفجار والكفار.
فإذاً لو كان الكفار دائماً ضعفاء، فاتت هذه المزايا، فلله في خلقه شئون وحكم!
وكان يقول في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا [الأنعام:123] إنه على التقديم والتأخير، أي: جعلنا مجرميها أكابر.
ومن وصاياه لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب.
فالظاهر من ذلك: تنقلها في ليالي الأفراد في العشر، فإذا اتفقت ليالي الجمع في الأفراد، فأجدر وأخلق بكونها فيها.
و عائشة ماذا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما علمها الدعاء في ليلة القدر: (اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو، فاعفُ عني) ماذا قالت؟ (أرأيتَ إن أُرِيْتُها؟ -أُرِيْتُ ليلة القدر، فماذا أقول؟- قال: قولي: اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو، فاعفُ عني).
فقد يرى بعض الناس أشياء من آياتِها وعلاماتِها كنورٍ مثلاً، أو مثل ما ذكر رحِمه الله.
فقال: القسمان:
الأول: وَالضُّحَى [الضحى:1].
والثاني: وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:2].
والجوابان النافيان:
الأول: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ [الضحى:3].
الثاني: وَمَا قَلَى [الضحى:3].
والجوابان المثبَتان:
الأول: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [الضحى:4].
والثاني: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5].
والنعم الثلاث المتبوعة بوصايا ثلاث؟
الأولى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى [الضحى:6].
وجوابها الوصية: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى:9].
والنعمة الثانية: وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى [الضحى:7].
قابَلَها بوصية: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:10] لأن السائل ضال يبتغي الهدى، إذا كان سائلاً عن علم.
والنعمة الثالثة: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:8].
قابلها بقوله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11].
لاحظ! هذه لا تأتي لأي أحد، التأملات لا تأتي تكون إلا لمن تدبر وكان عنده فَهم، وعلم.
وقلنا: إن الوزير رحمه الله قد صنف كتابه الإفصاح عن معاني الصحاح في شرح أحاديث الصحيحين في عشرة مجلدات، ولما وصل إلى حديث: (من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين) ذكر فيه أقوال العلماء، واختلافهم، والمسائل التي اختلفوا فيها وأقوالهم، وأقوال كل مذهب في كل مسألة، شَمِل كل أبواب الفقه في هذا الحديث، ثم رجع إلى إكمال الأحاديث، وأفردوا هذا في كتاب لمفرده.
يا أيها الناس إني ناصحٌ لكـمو فعُوا كلامي فإني ذو تجاريبِ |
لا تلهينكم الدنيا بزهرتها فما تدوم على حُسْنٍ ولا طيبِ |
وكان يقول أيضاً:
يلذُّ بهذا العيش من ليس يعقلُ ويزهد فيه الألمعي المحصِّلُ |
وما عجبُ نفسٍ أن ترى الرأيَ إنما الـ ـعجيبة نفسٌ مقتضى الرأي تفعلُ |
إلى الله أشكو همةً دنيويةً ترى النصَّ إلا أنها تتأولُ |
ينهنهها موت النبي فترعـوِي وتخدعها روح الحياة فتغفُل |
وفي كل جزء ينقضي من زمانها من الجسم جزءٌ مثله يتحللُ |
كل جزء ينقضي من زمان هذه النفس معه جزء من الجسم يتحلل وتضعف القوى.
فنفسُ الفتى في سهوها وهي تنقضي وجسمُ الفتى في شغله وهو يعملُ |
وهو صاحب البيت المشهور:
والوقتُ أنفسُ ما عُنيت بحفظه وأُراه أسهل ما عليك يضيعُ |
وأنشد أيضاً:
الحمد لله هذا العين لا الأثـرُ فما الذي باتباع الحق تنتظرُ |
قتٌ يفوت وأشغالٌ معوقةٌ وضعف عزمٍ ودارٌ شأنها الغِيَرُ |
والناس رَكَضاً إلى مهوى مصارعهـم وليس عندهمُ مِن ركضهم خبرُ |
إلى آخره.
فـابن هبيرة يحث على العلم واغتنام الأوقات.
وكانت له أيضاً حكم وأقوال مأثورة عنه رحمه الله تعالى.
ويبدو أن الوزير رحمه الله كان له من يترصد له، وكان يتأسف على دخوله الوزارة، ويرجو السلامة، والنجاة مما دخل فيه، وأنها ندامة يوم القيامة، وكان يخشى الله تعالى، فكان يكثر التأسف على دخوله فيها، ثم صار يسأل الله الشهادة ويتعرض لأسبابها، فحصل له في الثاني عشر من جمادى الأولى سنة: (560هـ) نام ليلة الأحد في عافية، فلما كان وقت السحر قاء -حصل له قيء- فحضر طبيب، فسقاه شيئاً، فقيل: إنه سَمَّه، سقاه سُمَّاً على أنه دواء، وسُقِي الطبيب بعده بنحو ستة أشهر سُمَّاً أيضاً، فكان يقول: سُقِيْتُ كما سَقَيْتُ، فمات الطبيب أيضاً.
وحُمِلت جنازة ابن هبيرة يوم الأحد إلى جامع القصر، وصُلِّيَ عليه، ثم حُمِل إلى مدرسته التي أنشأها بباب البصرة ، فدُفِن بها، وغلِّقَت يومئذٍ أسواق بغداد ، وخَرَجَ جمعٌ لم ير لمخلوق قط، في الأسواق وعلى السطوح، وشاطئ دجلة ، وكثر البكاء عليه لِمَا كان يفعله من البر ويظهره من العدل.
ورُثي رحمه الله بأبياتٍ كثيرة ومنها:
مات يحيى ولَمْ نَجِد بعـد يحيى ملكاً ماجداً به يُستعانُ |
وإذا مات من زمانٍ كريمٌ مثل يحيى به يموت الزمانُ |
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر