أما الكتاب فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، وهذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب.
وجاءت الأدلة والآثار قولاً وفعلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الأعرابي، قال: (إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله)، وفي رواية أخرى تفسيرية قال: (توضأ كما أمرك الله فاغسل وجهك)، فهذا من القول.
ومن الفعل: حديث عبد الله بن زيد وحديث عبد الله بن عباس وحديث علي بن أبي طالب وحديث أبي هريرة فكلها أثبتت أن النبي صلى الله عليه وسلم غرف غرفة وأخذ الماء وغسل به وجهه بأبي هو وأمي.
وأجمعت الأمة على أن غسل الوجه من أركان الوضوء، فمن توضأ ولم يستوعب غسل الوجه فوضوءه غير صحيح لا يجزئه، وصلاته باطلة؛ لأن الوضوء لم يكتمل.
قيل: من الوجه، وقيل: ليس من الوجه، وقبل أن نرجح بين القولين لا بد أن نعلم ما هي الفائدة التي تترتب على هذين القولين؟
فإن كانت من الوجه يجب أن يغسلها، وإن لم يغسلها لم يصح وضوءه.
والمذهب: أن الأذن ليست من الوجه للأثر واللغة، أما الأثر فالحديث الذي تكلم فيه بعض العلماء وصححه الشيخ الألباني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأذنان من الرأس)، وما قال: من الوجه، فحكمها حكم الرأس.
أيضاً: من جهة اللغة: فالوجه ما واجه، والأذن لا تواجه.
وجاء عن الزهري أنه قال: الأذن من الوجه، وما الدليل على أنها من الوجه؟
قال: حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد ويقول: (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره)، فجعل السمع والبصر مفردات للوجه. لكن عند تدقيق النظر نرجح أنهما ليستا من الوجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأذنان من الرأس)، ولو كانت من الوجه لقال: الأذنان من الوجه.
والدليل المذكور لا يدل على هذه الجزئية، بل يدل على ربوبية الله جل في علاه، وعلى قدرة الله جل في علاه، وأن الله لما خلق الوجه شق له السمع وشق له البصر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويبين مظاهر ربوبية الله جل في علاه، وقدرة الله أنه لما خلق الوجه شق له السمع والبصر.
وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته)، فلا بد من إمساس الماء البشرة.
أما اللحية، فالناس فيها على ثلاثة أقسام:
حليق، والعلماء يقولون: أمرد، ولا يقولون: حليق حتى لا يقروا بذلك، فيقولون: الناس بالنسبة لشعر اللحية ثلاثة:
الأول: أمرد، والأمرد: هو الذي لا ينبت شعر وجهه.
الثاني: صاحب لحية خفيفة.
الثالث: صاحب لحية كثيفة.
أما الأمرد: فباتفاق أنه لا بد أن يروي البشرة لما سبق من الأدلة.
وأما صاحب اللحية الخفيفة فقالوا: يجب عليه غسل هذه اللحية ظاهراً وباطناً، وتخليلها في حقه واجب، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ غرفة بيده ويخلل اللحية ويقول: (هكذا أمرني ربي) كما في سنن أبي داود .
إذاً: تخليل اللحية له حالتان:
إذا كانت لحية خفيفة فيجب تخليلها؛ لأنه من تمام الغسل إرواء البشرة.
وإذا كانت اللحية كثيفة فلا يجب تخليلها بل يستحب.
فإن قيل في اللحية الكثيفة: لم لا أستوعب الغسل وأروي البشرة، والله قال: (فاغسلوا) والغسل يكون ظاهراً وباطناً؟
وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أنهم صلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة سرية قال: فكنا نعلم قراءة النبي صلى الله عليه وسلم باهتزاز لحيته، فبهذا علم أنها كانت كثيفة.
وورد في البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً)، فقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، والمرة الواحدة لا يمكن أن تستوعب غسل البشرة في اللحية الكثيفة، ففيه دلالة: على استحباب تخليل اللحية الكثيفة ولا يجب تخليلها، والمشقة تجلب التيسير، فكلما عظمت المشقة جاء التيسير، وكلما جاء العسر جاء اليسر.
الأولى: ما يجزئ في غسل الوجه.
الثانية: ما يستحب.
الثالثة: ما كان كمالاً، وفوق الكمال نقصان.
والدليل على المرتبة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (توضأ مرة واحدة)، وهذا فيه دلالة على أن هذا هو أقل الواجب، وهناك حديث ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به).
المرتبة الثانية: الاستحباب، فيستحب أن يغسل وجهه مرتين مرتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين.
أما المرتبة الثالثة وهي مرتبة الكمال: فهي أن يغسل وجهه ثلاثاً ثلاثاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفوق الكمال نقصان كما قال عمر : ما اكتمل شيء إلا وعاد إلى النقصان؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن زاد فقد أساء وظلم) يعني: من زاد على الثلاث، وهل الزيادة تبطل الوضوء أم لا تبطل؟ لا تبطله، لكنه أثم بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فترد الزيادة ولا يرد أصل الوضوء.
القول الأول: أنه يستحب أن يغسلها ولا يجب، ووجهة نظر هذا القول في المذهب: أن اللحية كلما واجه الوجه، وهذه ليست من الوجه، بل هي نازلة تحت الوجه، فقالوا: يستحب أن يغسلها المتوضئ.
القول الثاني عند المحققين كـالرافعي والنووي قالوا: يجب غسلها.
والفرق بين القولين: أنه لو لم يغسل المسترسل من اللحية فوضوءه ليس بصحيح على القول الثاني، وعلى القول الأول الوضوء صحيح لكن إن غسل فقد أخذ بالأحوط.
ووجهة نظر القول الثاني: قاعدة علمية عظيمة جداً وهي: أن المجاور يأخذ حكم ما جاوره، والمسترسل تحت الوجه متصل به، فيأخذ حكم ما اتصل به.
وقد ثبت وجوب غسل اليدين إلى المرفقين بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6].
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم الأعرابي كيف يتوضأ قال: (توضأ كما أمرك الله -ثم فسرها، وقال:- اغسل وجهك ويديك إلى المرفقين) .
ومن السنة الفعلية: حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ غرفة وغسل يديه إلى المرفقين، وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه (أنه صلى الله عليه وسلم غسل يديه حتى أشرع في العضد)، وأجمعت الأمة على أن الوضوء لا يجزئ حتى يغسل المتوضئ يديه إلى المرفقين.
وإن كانت اليد مقطوعة من الكوع وجب أن تغسل اليد من الكوع إلى المرفق، وإن كانت مقطوعة من المرفق والمرفق ظاهر وجب غسل المرفق الظاهر، وخذ هذه القاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور.
الأولى: أن يكون ضيقاً.
الثانية: أن يكون واسعاً.
الثالثة: أن يكون وسطاً.
فإن كان الخاتم ضيقاً وجب تحريكه عند غسل اليد أو الكف، وهذا الحكم يعم النساء والرجال، فيجب تحريكه للتأكد من وصول الماء إلى العضو، وإن لم يحرك الخاتم لم يصح الوضوء؛ لأن الماء لم يصل إلى جزء من هذا العضو.
وإذا كان الخاتم وسطاً فلا يجب التحريك لكن يستحب؛ لأنه يغلب على الظن أن الماء يصل إلى العضو إن كان الخاتم وسطاً، أما الخاتم الواسع فلا يجب التحريك كما هو ظاهر.
وعن عبد الله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه مسح بيده رأسه فأقبل بهما وأدبر).
ومن حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه (أنه مسح رأسه)، هذا الفعل، أما القول: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ كما أمرك الله ثم قال: وامسح رأسك) وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم.
وأجمعت الأمة على أن مسح الرأس من فرائض الوضوء.
أما بالكتاب فقد قال الله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6] وقالوا: الباء هنا للتبعيض، والدلالة على أنها للتبعيض أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث المغيرة في الصحيح- مسح على الناصية ثم أكمل المسح على العمامة، ولذلك في المذهب: لا يجوز المسح على العمامة إلا بمسح جزء من الرأس مثل مقدم الرأس، قالوا: فاكتفى بهذا المسح، وهذا فيه دلالة على أن الباء للتبعيض، والصحيح: خلاف المذهب، فلا يجزئ الماسح في الوضوء إلا أن يمسح كل الرأس، حتى لو قلنا: الباء للتبعيض، فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيه بيان الواجب، والقاعدة عند العلماء: بيان الواجب واجب.
إذاً: الراجح الصحيح خلاف المذهب الشافعي، وأنا قلت: لن أخرج عن المذهب إلا إذا خالف الدليل، فالأدلة الصحيحة الصريحة تدل على أنه لا يجزئ في مسح الرأس إلا كل الرأس، فمن مسح على ثلاث شعرات أو مسح على بعض الرأس فلا يجزئه هذا الوضوء خلافاً للشافعية.
وأيضاً: ورد حديث عن علي بن أبي طالب أنه توضأ ورفع الوضوء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومسح رأسه ثلاثاً. ونحن ندور مع الآثار حيث دارت، وقد صح الحديث عن عثمان وعن علي ، وزيادة الثقة مقبولة.
هذا الحكم في المذهب ولم نذكر خلاف العلماء.
القول الأول: إن الخمار ينزل منزلة العمامة، فللمرأة أن تمسح على مقدمة الرأس ثم تمسح بعد ذلك على الخمار.
القول الثاني في المذهب: أن الخمار لا ينزل منزلة العمامة.
والراجح الصحيح: أن الخمار لا ينزل منزلة العمامة، وهذا الذي أدين الله به، لأنه لا يشق على المرأة أن تنزع خمارها، أما العمامة فيشق على الرجل أن ينزعها ثم يلبسها في كل وضوء، والأصل في المرأة: أن تكون في بيتها، فالصحيح: أن الخمار لا ينزل منزلة العمامة، والقاعدة عند العلماء: أن ما خرج عن القياس فغيره لا يقاس عليه.
أما غسل الرأس بدل مسحه فلا يصح؛ لأنه يعتبر زيادة وإساءة، والمسح بدل الغسل هو المشروع.
قال الله: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، (وأرجلكم) معطوفة على المغسول لا على الممسوح، هذا هو الدليل من الكتاب.
والدليل من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (توضأ كما أمرك الله) ثم قال: (اغسل رجليك إلى الكعبين).
وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا توضأ غسل رجليه إلى الكعبين، وقال عثمان : (توضأ النبي صلى الله عليه وسلم نحو وضوئي هذا)، وكذلك ثبت في حديث عبد الله بن زيد وحديث علي بن أبي طالب كما بينا.
وأجمعت الأمة على أن غسل الرجلين إلى الكعبين من فروض الوضوء، ولا يعتد بخلاف الشيعة في هذه المسألة كما ذكر ذلك النووي.
إذاً: الواجب غسلها مرة، والمستحب أن يغسلها مرتين، والكمال: أن يغسلها ثلاثاً، وزيادة في الكمال يشرع في غسل الساق كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.
الفرض الأخير في الوضوء: الترتيب، ومعنى الترتيب: أن تتوضأ وتبدأ بما بدأ الله به، وتنتهي بما انتهى به، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] وهذا ترتيب رتبه الله جل في علاه، وهذا الترتيب رتبه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله.
والدلالة على أن الترتيب فرض أدلة ثلاثة:
الدليل الأول: ديمومة فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فلا أحد وصف لنا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم إلا وذكر في وصفه أنه غسل يديه ثم مضمض واستنشق ثم غسل الوجه ثم غسل اليدين، ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين، فديمومة فعل النبي صلى الله عليه وسلم تدل على الوجوب.
فإن قال قائل: الأصل في الفعل الاستحباب، فالجواب: أن القاعدة أن بيان الواجب واجب، فالنبي يبين لنا أمر الله جل في علاه، في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، والنبي صلى الله عليه وسلم يترجم لنا هذه الأوامر فعلاً، والاستدلال بالفعل هنا بقرينة أنه بيان للواجب، ولم نستدل بأصل الفعل، بل استدللنا بأن هذا الفعل بيان لأمر من أوامر الله، والأمر واجب وبيان الواجب واجب.
الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم في النسك عندما صعد على الصفا وقرأ قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] قال: (أبدأ بما بدأ الله به)، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والله بدأ بغسل اليد وانتهى بالرجل، فنبدأ بما بدأ الله به.
الدليل الثالث: أن الله جل في علاه أدخل ممسوحاً بين مغسولين، وفي لغة العرب أن هذا لا يمكن أن يأتي إلا لأمر مهم، والأمر المهم هنا هو الترتيب، فالرأس ممسوح ذكر بين مغسولين وهما اليد والرجل، وهذه دلالة واضحة جداً على أن الترتيب فرض من فروض الوضوء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر