قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل:
ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وسيد المرسلين].
وهذا في بيان بعض حقوقه صلى الله عليه وسلم، وما يجب له، ولهذا فإن الأمر يتعلق بقضيتين اثنتين بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم:
إحداهما: ما هو الواجب على كل مسلم بالنسبة لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
والأخرى: ما هي خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم التي تميز بها عن غيره من الأنبياء.
حقوق النبي صلى الله عليه وسلم
أما الأولى: فهي القضية الإيمانية المرتبطة بشهادة أن محمداً رسول الله، ولهذا فإن هذه الشهادة مقتضاها عدة أمور، سأشير إليها فقرة فقرة باختصار شديد:
أولها: تصديقه في كل ما أخبر به.
ثانيها: طاعته في كل ما أمر به.
ثالثها: اجتناب ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
رابعها: ألا يعبد الله إلا بما شرعه صلى الله عليه وسلم.
خامسها: الإيمان بأنه بلغ البلاغ المبين، فما انتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد بلغ جميع ما أنزل إليه من ربه.
سادسها: الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولا نبي بعده، فمن اعتقد أن هناك نبياً بعده، وأن نبوته صحيحة، فإنه قد انتقضت عليه شهادة أن محمداً رسول الله.
وقد سبق بيان أن نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان لا يتعارض مع ما هو مقرر من أن محمداً خاتم النبيين.
سابعها: محبته صلى الله عليه وسلم، وهي محبة واجبة، وتقديم هذه المحبة على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده وماله ونفسه والناس أجمعين).
هذه أهم القضايا التي هي قضايا واجبة، وهي من مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله.
االنبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، فلا نبي بعده.
ومن خصائصه أنه سيد المرسلين، وسيد الأولين والآخرين، ولهذا فإن أفضل الأنبياء والرسل هم الرسل، وأفضل الرسل هم أولو العزم، والقول الصحيح أنهم الخمسة المذكورون في قول الله سبحانه وتعالى:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7].
وأفضل هؤلاء الخمسة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أفضل الأنبياء والرسل، ولما كان الأنبياء والرسل هم أفضل الأمم، والرسول هو أفضل الرسل، فهو سيد ولد آدم، وهو أفضل خلق الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول المصنف: [ ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته ].
أي: أن يؤمن أنه رسول، وأن يشهد أنه نبي من أنبياء الله سبحانه وتعالى.
اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى
ثم يقول: [ ولا يقضى بين الناس في القيامة إلا بشفاعته ].
أي: لابد من الإيمان بهذه الخصيصة له صلى الله عليه وسلم، وهي أنه صاحب الشفاعة العظمى، وقد سبق بيانها.
وأحب أن أشير هنا إلى أن قول الله سبحانه وتعالى:
عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، قال كثير من المفسرين: المقام المحمود هو شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، حينما يطلب الخلائق جميعاً من ربهم سبحانه وتعالى فصل القضاء بينهم في العرصات، فيبحثون عن شفيع لهم عند الله سبحانه وتعالى، فيأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، إلى أن ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وورد أيضاً أن المقام المحمود هو استفتاح الجنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يستفتح باب الجنة فيفتح له، وأن خازن الجنة حينما يقرع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بابها يقول: من؟ فيقول: محمد، فيقول: لقد أمرت بألا أفتح إلا لك؛ ولهذا يفتح للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل وتدخل أمته، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (
نحن الآخرون السابقون)، أي: نحن جئنا في آخر الزمان لكننا السابقون يوم القيامة، أي: أننا نسبق الأمم جميعاً، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي أكثر الأمم داخلاً الجنة يوم القيامة، وكذلك أيضاً هي أول الأمم دخولاً إلى الجنة، نسأل الله الكريم من فضله.
ولهذا قال المصنف رحمه الله: [ ولا يدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته ].
إثبات لواء الحمد للنبي صلى الله عليه وسلم
إثبات المقام المحمود والحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف: [ والمقام المحمود ] الذي هو الشفاعة العظمى وسبق بيانه، [ والحوض المورود ] وهو أكبرها، وورد أن لكل نبي حوضاً، وقد سبق بيان ذلك.
قال المصنف: [ وهو إمام النبيين وخطيبهم ].
فهو إمامهم وسيدهم عليه الصلاة والسلام، وهو أيضاً خطيبهم، ولهذا ورد هذا في حديث حسن رواه
أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (
إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، من غير فخر)، فهو صلى الله عليه وسلم الإمام، وهو الخطيب، وهو صاحب الشفاعة، ولهذا فإنه صلى الله عليه وسلم يقوم يوم القيامة مقاماً يحمده عليه جميع الخلائق.
فضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم
قال المصنف: [ وصاحب شفاعتهم، أمته خير الأمم ].
أمة النبي صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم، وعدد من يدخل الجنة منها أكثر ممن يدخل من الأمم، ومن ثمَّ تميزت هذه الأمة بعدد من الفضل والخير العميم، فكانت خير الأمم جميعاً، ولو لم يكن إلا أن عدد الداخلين إلى الجنة من أهلها أكبر، لكان كافياً في بيان أفضليتها.
فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال المصنف: [ وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام ].
وهذا أيضاً من خيرية هذه الأمة، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم أفضل صحابة نبي، فهم خير من صحابة إبراهيم، ومن صحابة نوح، ومن حواريي عيسى، ومن أتباع موسى؛ ولهذا فإن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لهم من الفضل العظيم ما يجب أن يحفظه كل مسلم لهم؛ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (
خير القرون قرني، ثم الذي يلونهم، ثم الذي يلونهم، ثم يلونهم)، ومثل هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (
لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، والمد ربع الصاع والنصيف نصف الصاع، وهذا لبيان فضلهم.
وينبغي أن تعلموا أن فضل هؤلاء الصحابة إنما هو لصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن الصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع به مؤمناً به عليه الصلاة والسلام، ومات على ذلك.
فيخرج بذلك من لقيه وهو كافر، ثم لم يجتمع به بعد ذلك ولو آمن، ويخرج أيضاً من لقيه وهو مؤمن ثم ارتد ومات كافراً.
وهؤلاء الصحابة لهم أفضلية الصحبة التي لا يشاركهم فيها أحد ممن جاء بعدهم مهما بلغ عمله، وقد يقول قائل: فما معنى حديث: (
يأتي في آخر الزمان أناس يكون أجر العامل منهم كأجر خمسين منكم)؟ فنقول: نعم، قد يأتي بعد الصحابة من هو أكثر عملاً، أي: أن أعماله الصالحات كثيرة أكثر من بعض آحاد الصحابة، فيكون أكثر منه عملاً بهذا الخصوص، ولكن هذا العمل كله لا يبلغ درجة الصحبة، أي أن ذلك الصحابي نال أفضلية خاصة اسمها درجة الصحبة، لا يبلغها ولا ينالها أحد إلا من كان صحابياً، أما من جاء بعده ولو عمل ما عمل فإنه لا ينال هذه الدرجة، فهي درجة تشريف وفضل أجره عظيم عند الله، ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ومن ثمَّ فإنه لا يناله إلا من كان صحابياً، أما من جاء بعده فقد يكون له من العمل ما ينال به أجراً كثيراً عند الله سبحانه وتعالى، فوضح الفرق بين الأمرين.
عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة
إمامة أبي بكر رضي الله عنه
وربما يأتي بعد قليل ما يتعلق بهدي الصحابة رضي الله عنهم، لكن المصنف ابتدأ بقضية من القضايا الكبرى في منهج أهل السنة والجماعة، إلا وهي قضية الإمامة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فأهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى يقولون ما قاله المصنف هنا حين قال: [ وأفضل أمته
أبو بكر الصديق ].
وهو
عبد الله بن عثمان رضي الله عنه وأرضاه، شهرته تغني عن التعريف به، فـ
أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو أفضل الأمة على الإطلاق عند أهل السنة والجماعة، وعندهم أيضاً أنه هو الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما كيف ثبتت له الإمامة؟
فاختلف العلماء في ذلك: فبعضهم قال: ثبتت له بالنص، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (
اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر و
عمر)، ومثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته وواعدها من العام القادم قالت: (
فإن لم أجدك يا رسول الله؟! قال: تجدين أبا بكر)، ومثل قوله: (
مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ومثل قوله: (
يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، ومثل حديث القليب حين دلى صلى الله عليه وسلم رجليه في القليب، فجاء
أبو بكر وجلس عن يمينه، ثم جاء
عمر وجلس عن شماله، فأول ذلك بخلافتهم.. إلى آخره.
وبعض العلماء قالوا: إن خلافة
أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه إنما ثبتت بمبايعة الصحابة له بعد توجيه النبي صلى الله عليه وسلم وإشارته عليهم بأن يختاروه.
وهذا القول الثاني هو الصحيح، والدليل عليه حديث
عمر رضي الله عنه وأرضاه، لما قيل له حين طعن: استخلف، فقال: (إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني:
أبا بكر- وإن لا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني) يعني رسول الله، فهذا دليل على أن الرسول لم يستخلف
أبا بكر. هذا الدليل الأول.
والدليل الثاني: أنه لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نص على
أبي بكر لما تخلف الصحابة عن مبايعته لحظة، ولما كان هناك حاجة إلى اجتماع السقيفة، ولما جرى فيها كلام، ولا بايعوا
أبا بكر ، أي: أنه لو جاءهم واحد من الصحابة وقال: سمعت الرسول يقول: بايعوا
أبا بكر ، لبايعوه ولما ترددوا، لكن الصحابة فهموا ذلك من إنابته في الصلاة، ومن بعض أحاديثه، ولأنه كان يحب أن يكون هو من بعده، ثم إن الرسول عزم على أن يكتب كتاباً، ولكن لما اختلف الصحابة واشتد اللغط قال لهم: (قوموا)، فهذه الكتابة يحتمل أن تتعلق ببعض الأحكام مثل أحكام الجدة والعول والجد والإخوة والعقل، وغير ذلك من الأحكام التي تمنى الصحابة أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغهم علم عنها، ويحتمل أنه قد كان أراد أن يكتب لـ
أبي بكر كتاباً يوصي فيه بأن يكون هو الخليفة من بعده.
طعن الرافضة في رسول الله لعدم وصيته لعلي
وهنا ملحوظة صغيرة هي أن بعض الرافضة يقولون: إنه لما حدث اللغط، وقد كان الرسول أراد أن يكتب بالخلافة لـ
علي، قال
عمر : حسبنا كتاب الله، فاختلف الصحابة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (
قوموا عني، ما كان لصحابة نبي أن يختلفوا عنده)، فهؤلاء يقولون: إن هذه مؤامرة، وإن الرسول أراد أن يكتب الوصية لـ
علي، لكن لما علموا أنه سيكتب لـ
علي قاموا وفعلوا هذا الفعل لأجل ألا يكتب الرسول صلى الله عليه وسلم!
وهذه فرية سخيفة، ويدل على سخفها أن الرسول بدأ معه المرض أياماً، واشتد عليه يوم الخميس، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ما توفي إلا يوم الإثنين، فلو كان عازماً على أن يولي
علياً أو غيره فهل يرده راد؟ الجواب: لا يمكن أن يرده راد أبداً، ولا يمكن أن يكتم الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً.
ومن تأمل قضية الإمامة يرى أن الأحق بها هو
أبو بكر، لكن يقول الرافضي عليه لعنة الله: صاحب المشكلة هو صاحب القبر! يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي قال: (
مروا أبا بكر فليصل بالناس)، وقال: (
اقتدوا بـأبي بكر و
عمر)، وقال للمرأة: (
تجدين أبا بكر)، فالرسول صلى الله عليه وسلم في زعم هذا الرافضي الخبيث هو صاحب المشكلة.
إذاً: هذا إقرار منهم بأن اختيار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لـ
أبي بكر بأن يكون خليفة من بعده كان اختياراً موافقاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كيف تمت مبايعة أبي بكر
قال بعض العلماء: وإنما لم يكتب الرسول لـ
أبي بكر كتاباً لما علم أن الصحابة لن يعدلوا به غيره، وهذا هو ما حصل، فإنه باجتماع السقيفة جرى ما جرى بين الأنصار والمهاجرين، ثم بويع
أبو بكر ، و
أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يكن مترتباً للخلافة، ولهذا جاء في حديث السقيفة أنه لما أراد
عمر أن يتكلم أجلسه
أبو بكر ، ثم تكلم
أبو بكر وأحسن الكلام، وتكلم مع الأنصار بكلام عظيم، وقال: (إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، وإني قد رضيت لكم أحد هذين فبايعوهم يعني
عمر بن الخطاب أو
أبا عبيدة )، فقام
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقال: (لقد رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا -يقصد: الصلاة- أفلا نرضاك لدنيانا، مد يدك)، فبايعه
عمر ، وبايعه المسلمون، وأجمعوا على مبايعته حتى
علي رضي الله عنه وأرضاه كان من المبايعين له، وإن ورد في بعض الروايات أنه تأخر قليلاً جبراً لخاطر
فاطمة رضي الله عنها وأرضاها؛ لأنها رضي الله عنها وأرضاها ظنت أن لها ميراثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبته من
أبي بكر، فأبى
أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أن يعطيها هذا الميراث الموجود؛ لنص عنده، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (
إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة).
فهي رأت أن لها ميراثاً و
أبو بكر رأى أن ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مال للمسلمين، فلما لحقت
فاطمة البتول رضي الله عنها وأرضاها بأبيها بايع
علي رضي الله عنه وأرضاه، وفي بعض الروايات أنه بايع قبل ذلك.
وعلى القول الثاني فإنه بايع وعاش مع
أبي بكر و
عمر و
عثمان وزيراً لهم، مؤيداً لهم، ناصحاً لهم، قاضياً لهم، حتى كان
عمر رضي الله عنه وأرضاه يقول: (قضية ولا
أبا حسن لها) يعني أن أي قضية ليس لها غير
أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
فقد كانوا إخوة متآخين في الله، حتى وإن جرى بينهم ما جرى، فقد جرى من الفتن بينهم ما جرى، وكلهم مجتهدون، ولذا قال
علي رضي الله عنه وأرضاه: (إني لأرجو أن أكون أنا و
طلحة و
الزبير ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم:
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47])، لكن الذي أفسد بين المؤمنين وفرق بينهم، وسب صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، هم أولئك الرافضة عليهم من الله ما يستحقون.
خلافة عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم
قال المصنف: [ ثم
عمر الفاروق ].
و
عمر بن الخطاب هو الخليفة بعد
أبي بكر باستخلاف
أبي بكر له، ثم ببيعة المسلمين جميعاً.
قال المصنف: [ ثم
عثمان ذو النورين ].
و
عثمان رضي الله عنه وأرضاه تولى الخلافة بعد ما استشهد
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وذلك بعد أن جعل الأمر شورى في الستة، وبعد أن تشاوروا اجتمعوا على
عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وبايعه جميع الصحابة، وعلى رأسهم
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ثم
علي المرتضى، رضي الله عنهم أجمعين ].
ثم الخلافة من بعده لـ
علي رضي الله عنه وأرضاه بإجماع المسلمين، ولم يخالف أحد في أنه رضي الله عنه هو الأحق بالخلافة.
الأدلة على أفضل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم
وهؤلاء الأربعة كل واحد له من الفضل العظيم ما ذكرته كتب الفضائل: فـ
أبو بكر له فضائل، و
عمر له فضائل، و
عثمان له فضائل، و
علي له فضائل، ولو سردنا فضائل كل واحد منهم لقلت: ما أعظم هذه الفضائل، فكل واحد منهم له المنزلة والمكانة الرفيعة عند أهل السنة والجماعة.
قال المصنف: [ لما روى
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (
كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر ثم
عمر ثم
عثمان ثم
علي، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) ].
هذا الحديث رواه
الطبراني ، و
مسلم وغير واحد، فهو صحيح، لكن الإشكال في عبارة المصنف في قوله: (ثم
علي )، وأقول: لعلها هي الصواب.
وقوله: (
أبو بكر ثم
عمر ثم
عثمان ) هذا دليل على أن الصحابة مجمعون على تقديم هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال المصنف: [ وصحت الرواية عن
علي رضي الله عنه أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها
أبو بكر ثم
عمر ، ولو شئت لسميت الثالث) ].
وقد ورد في بعض الروايات أنه قيل له: ثم أنت، فقال
علي رضي الله عنه وأرضاه تواضعاً: (وهل أنا إلا رجل منكم)، ولهذا أجمع العلماء على تقديم
أبي بكر ثم
عمر ، ثم قال جماهير أهل السنة: إن الأفضل بعد
عمر هو
عثمان ، ثم بعد ذلك
علي ، وقليل جداً من أهل السنة من قالوا:
علي أفضل من
عثمان .
والقول الصحيح في هذه المسألة هو أن
عثمان أفضل من
علي ، ولهذا ورد عن بعض السلف رحمهم الله تعالى أنه قال: من قدم
علياً على
عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار.
أي: لأنهم هم الذين اختاروه، كما في قصة مشاورة
عبد الرحمن بن عوف بالخلافة، وكيف أنه أخذ يداول الأمر بين الصحابة جميعاً، ثم قال عند البيعة: (يا
علي! لقد رأيت الناس لا يعدلون بـ
عثمان ، تعال يا
عثمان فامدد يدك أبايعك، فبايعه)، فدل على أن الغالبية العظمى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقدمون
عثمان على
علي رضي الله عنه وأرضاه.
وأما من قال بخلاف ذلك من أهل السنة فنقول: إن قوله مرجوح.
ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل كترتيبهم في الخلافة
قال المصنف: [ وروى
أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (
ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر) ].
هذا ذكره المصنف وهو مما رواه
أبو نعيم في الحلية وغيره، لكن في فضائل
أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أحاديث كثيرة أخرى موجودة في كتب الفضائل.
ولهذا ذكر المصنف رحمه الله تعالى قضية الخلافة بعد ذكر الأفضلية فقال: [ وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفضله، وسابقته، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة ].
وهذه أدلة قوية مختصرة ذكرها المصنف واحداً واحداً، فذكر فضله وسابقته في الإسلام، وتقديمه في الصلاة، وإجماع الصحابة عليه، وما كان الله ليجمع هذه الأمة على ضلالة، فهذا يدل على أن
أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو أحق بالخلافة.
ثم من بعد
أبي بكر قال المصنف: [ ثم من بعده
عمر رضي الله عنه؛ لفضله وعهد
أبي بكر إليه ].
ونقول أيضاً: ولمبايعة جميع الصحابة له؛ حيث لم يتخلف عن ذلك أحد.
ثم قال: [ ثم
عثمان رضي الله عنه؛ لتقديم أهل الشورى له ].
أي إن الأحق بالخلافة عند أهل السنة والجماعة هو
عثمان ؛ بتقديم أهل الشورى له.
قال المصنف: [ ثم
علي رضي الله عنه؛ لفضله وإجماع أهل عصره عليه ].
أي أن
علياً رضي الله عنه هو الإمام الرابع، وهذا أيضاً واضح.
ثم قال المصنف: [ وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، ].
والنواجذ هي الأضراس، وهؤلاء الخلفاء الأربعة هم المهديون، وهم الذين يجب أن نتبع سنتهم وطريقتهم رضي الله عنهم جميعاً.
قال المصنف: [وقال صلى الله عليه وسلم: (
الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) ].
وهذا حديث صحيح رواه
أحمد و
أبو داود وغيره من حديث
سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف: [ آخرها خلافة
علي رضي الله عنه ].
لأن نهاية خلافة
علي و
الحسن كانت عام (41هـ) والرسول صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى سنة إحدى عشرة من الهجرة، فالمدة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خلافة
معاوية رضي الله عنه وأرضاه تبلغ ثلاثين سنة، وهذا موافق لما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (
الخلافة من بعدي ثلاثون سنة).
فضل العشرة المبشرين بالجنة
نشهد بالجنة لكل من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بها
ثم قال المصنف مقرراً لقاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة: [ وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بها ].
فأهل السنة والجماعة يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، أما من لم يشهد له الرسول فإنه يشهد له شهادة عامة، فيقال: كل من مات من المؤمنين فهو من أهل الجنة، نرجو له ذلك.
لكن لا نشهد بأن فلاناً بعينه في الجنة إلا لمن شهد له الرسول مثل العشرة، ومثل ما أورده المصنف هنا في قوله: [ كقوله: (
الحسن و
الحسين سيدا شباب أهل الجنة) ].
أي: فنشهد لهما رضي الله عنهما وأرضاهما أنهما من أهل الجنة.
قال المصنف: [ وقوله لـ
ثابت بن قيس : (
إنه من أهل الجنة) ].
وهذا أيضاً ثبت في الحديث الصحيح، و
ثابت بن قيس صحابي كان جهوري الصوت، ولما نزل قول الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، خاف أن يكون هو المقصود، فقال: (أنا جهوري الصوت، وأرفع صوتي، فأخاف أن عملي قد حبط)، ولهذا ورد أنه بقي في بيته وقال: (والله لا أخرج منه حتى يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أموت)، وفي إحدى الروايات عند
ابن جرير الطبري و
ابن أبي حاتم وغيرهما: أنه رضي الله عنه وأرضاه حبس نفسه في اصطبل الفرس، وأمر زوجته بأن تضرب مسماراً على صاج الباب؛ ليكون ذلك تصبيراً نهائياً، وقال: (والله لأبقين في هذا المكان حتى يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أموت)، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما جرى لهذا الصحابي الجليل قال صلى الله عليه وسلم: (
أخبروه وبشروه أنه من أهل الجنة)، فلما بشر بذلك ما استطاع أن يخرج بسبب المسمار؛ لأنه كان قد سمره تسميراً نهائياً رضي الله عنه وأرضاه، فكسر المسمار، وفتح الباب وخرج.
ومثله أيضاً
عكاشة بن محصن ، ومثله
خديجة بنت خويلد ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهما بالجنة، ومثله
الرميصاء رضي الله عنها وأرضاها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمع لها صوتاً في الجنة فقيل: من هذه؟ قيل: هذه أرجل
الرميصاء بنت ملحان ، رضي الله عنها وأرضاها، وهي التي تزوجها
أبو طلحة ، فكان مهرها الإسلام، فإنه خطبها وهو مشرك، فقالت: لا أقبل وأنت على الشرك، لكن إن أسلمت فيكفيني مهراً، فأسلم
أبو طلحة ، وتزوجها، فكان مهرها الإسلام.
فمن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فإنا نشهد لهم.
لا نجزم بالنار إلا لمن جزم له الرسول صلى الله عليه وسلم
ثم قال المصنف في المقابل: [ ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، إلا من جزم له الرسول صلى الله عليه وسلم ].
بالنسبة لأهل الجنة نشهد لمن سبق، وبالنسبة لأهل النار نجزم بها لـ
أبي لهب عبد العزى بن عبد المطلب ، ونجزم بها لزوجته؛ لورود النص القرآني بذلك، كما نجزم أن
عمرو بن لحي من أهل النار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (
رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار)، فمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل النار فنشهد أنه من أهلها، نسأل الله السلامة والعافية.
عقيدة أهل السنة والجماعة في الحكم على المعين بجنة أو نار
ثم قال المصنف: [ لكن نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء ].
وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، فنحن نرجو للمحسن أنه من أهل الجنة، ونخاف على المسيء من عذاب الله تعالى.
أما الشهادة العامة فنطلقها، ونقول: كل من مات على الإيمان نشهد أنه من أهل الجنة، وكل من مات على الكفر نشهد أنه من أهل النار، لكن الكلام هنا في الشهادة لمعين، فأي معين لا نشهد له بجنة ولا بنار، فلا نقطع أن من مات على الكفر من أهل النار؛ لاحتمال أنه تاب وأنت لم تعلم بذلك، فأنت لا تشهد، لكن إذا رأيت كافراً أو كفاراً فبشرهم بالنار، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا تجزم بأن الشخص الفلاني من أهل النار، إلا إذا جاء الدليل؛ لأن هناك احتمالاً أن يكون قد أسلم ومات على ذلك.
ولسنا نحن الذين ذكرنا هذا؛ لأن بعض الناس يخاف من مثل هذا الكلام، بل هذا منهج، فنحن نقطع بأن كل من مات وهو على الإيمان فهو من أهل الجنة، وكل من مات وهو على الشرك والكفر فهو من أهل النار، لكن لا نشهد لفلان وفلان إلا لمن دل عليه النص.
منهج أهل السنة والجماعة في الحكم على أصحاب الذنوب والكبائر
ثم انتقل المصنف رحمه الله تعالى إلى قضية من قضايا الأحكام وهي مسألة التكفير فقال: [ ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه عن الإسلام بعمل ].
أي: بعمل كبيرة، فمنهج أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بالذنوب كما فعلت الخوارج، ولا يخرجونهم من الإيمان بعمل كبيرة كما فعلت الخوارج، ولا يحكمون بخلودهم في النار، كما فعلت الخوارج والمعتزلة.
وليس معنى ذلك أن أهل السنة لا يكفرون أحداً بأي ذنب مهما كان، وإنما المقصود بذلك الكبائر التي هي دون الشرك والكفر بالله تعالى، لهذا فإن من ارتكب مكفراً فهو مذنب، وأهل السنة والجماعة يكفرون من سب الله تعالى، أو سجد لصنم وهو يعلم، أو أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، أو كان منافقاً، أو عمل ناقضاً من نواقض الإسلام، فأهل السنة والجماعة يقطعون بأن هذه الذنوب مكفرة لصاحبها، لكن مقصودهم هنا: أنهم لا يكفرون مرتكب الكبيرة غير المستحل لها، فالذين يعملون ما دون الشرك بالله مثل: آكل الربا، والزاني، والسارق، وشارب الخمر، والعاق لوالديه.. إلى آخره، فهؤلاء إذا ماتوا وهم على التوحيد فإنهم عند أهل السنة والجماعة في الدنيا غير كفار، ولهذا تقام عليهم الحدود، ويورثون، ويدفنون في مقابر المسلمين، وكذلك أيضاً يقول أهل السنة والجماعة: إنهم يوم القيامة تحت مشيئة الله؛ إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وقد يُشفع لهم، ولا يخلدون في النار ولو دخلوها. هذا هو منهج أهل السنة والجماعة.
أما الخوارج فعندهم أن كل من ارتكب كبيرة فهو كافر في الدنيا حلال الدم والمال، ويوم القيامة يكون مخلداً في نار جهنم.
والإباضية -وهم طائفة من الخوارج- قالوا: هو في الدنيا كافر وفي الآخرة مخلد في نار جهنم.
والمعتزلة قالوا: إذا ارتكب كبيرة من هذه الكبائر خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، أي: أننا لا نستحل دمه وماله، لكن حكمه في الآخرة عندهم أنه خالد مخلد في نار جهنم، وهذا كله مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة.
تولي أصحاب رسول الله ومحبتهم والترضي عنهم
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم ].
هذه من حقوق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب توليهم، ونصرتهم، والدفاع عنهم، ومحبتهم، والترضي عنهم جميعاً، وذكر محاسنهم حين يذكرون؛ لأنهم نقلة كتاب الله ونقلة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا، ولهذا فنحن نستغفر لهم جميعاً، ونترضى عنهم جميعاً، ونترحم عليهم جميعاً.
السكوت عما وقع بين الصحابة
ومن أهم ما يتعلق بهم ما قاله المصنف: [ والكف عن ذكر مساوئهم، وما شجر بينهم ].
وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة، فإن ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يجب الكف عنه، خاصة ما جرى في الجمل وصفين؛ فإن هؤلاء الصحابة كلهم كانوا مجتهدين، وصحيح أن بعضهم كان أحق من بعض، وأقرب إلى الحق من بعض، فـ
علي رضي الله عنه وأرضاه كان أحق من غيره، وكان رضي الله عنه وأرضاه أفضل، لكن لا يجوز لنا في مقابل ذلك أن نطعن في بقية الصحابة: في
عائشة أو في
الزبير أو في
طلحة أو في
معاوية رضي الله عنهم جميعاً، بل يجب أن نكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، ونقول كما قال أحد العلماء: تلك دماء طهر الله منها أيدينا فنحن نطهر منها ألسنتنا، فنترضى عنهم جميعاً، ونعتقد أنهم مجتهدون، ومن اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم وأخطأ فله أجر واحد، وكلهم لهم الفضل ولهم القربى، فلا يجوز سبهم، ولا الطعن فيهم، فضلاً عن القول بردتهم، أو غير ذلك.
اعتقاد فضل الصحابة ومعرفة سابقتهم
الترضي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى أيضاً: [ ومن السنة: الترضي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء ].
وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قد ألفت فيهن مؤلفات، وهن إحدى عشرة زوجة، فأزواج النبي عليه الصلاة والسلام نترضى عنهن جميعاً، ونؤمن بأنهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الجنة، رضي الله عنهن جميعاً.
أفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وعائشة
قال المصنف: [ أفضلهن
خديجة بنت خويلد ، و
عائشة الصديقة بنت الصديق ، التي برأها الله سبحانه وتعالى في كتابه، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم ].
أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم
خديجة ، و
عائشة ، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (
من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة ، قيل: من الرجال؟ قال: أبوها) لكن أيضاً ورد في فضل
خديجة فضائل، ولهذا قال العلماء: إن
خديجة أيضاً متقدمة في الفضل، و
عائشة رضي الله عنها وأرضاها ما كانت تغار على أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهن موجودات ما كانت تغار على
خديجة ؛ لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها، حتى إنه عليه الصلاة والسلام كان يكرم صواحبها وقريباتها، فقد أتت امرأة عجوز فبش لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاشة لفتت انتباه
عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فسألت الرسول صلى الله عليه وسلم: من هذه العجوز؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (
إن هذه كانت تأتينا أيام خديجة)، رضي الله عنهن جميعاً.
فـ
خديجة لها فضل، و
عائشة لها فضل، لكن
عائشة تتميز بأنه يجب الترضي عنها، والإيمان بأنها زوجة النبي في الدنيا والآخرة، وتبرئتها مما برأها الله سبحانه وتعالى منه في كتابه العزيز، فمن طعن فيها بعد نزول الآيات البينات فهو مرتد بإجماع المسلمين، وأما الرافضة فإنهم إلى الآن يقذفون
عائشة ، والواحد منهم إذا أراد أن يسب ابنته إذا وقعت في خطأ أو ذنب أو أراد أن يبلغ أقصى ما يريد من عقوبة بالنسبة لها فإنه يقول لها: يا عائشة! أو يا عويش! فحينئذٍ تبكي بكاءً مراً طويلاً؛ لأنه شبهها بأم المؤمنين
عائشة ، وهذا منه -عليه من الله ما يستحقه- اتهام لـ
عائشة بما برأها الله سبحانه وتعالى من ذلك.
فمن اتهمها بعد نزول القرآن بما برأها الله سبحانه وتعالى منه -أي: من اتهمها بالزنا- فهو مرتد لا شك في ردته، ويكون خارجاً عن دائرة الإسلام.
حكم سب الصحابة رضي الله عنهم
وبالنسبة لسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهذا السب على درجات:
الأولى: إن سب الصحابة فيما يتعلق بدينهم وإيمانهم أو قال بردتهم، فهذا لا شك في كفره وردته.
الثانية: أن يسبهم باللعن والشتم والغضب ونحو ذلك، فهذا فيه قولان للعلماء: فبعضهم يقول هو مرتد، وبعضهم يقول إنه غير مرتد، لكن يعزر ويؤدب، والقول الراجح في هذا -والعلم عند الله- أنه لا يلعنهم إلا من كان خارجاً عن دائرة الإسلام.
الثالثة: أن يسب الصحابي بغير هذين النوعين، مثل أن يسبه ببخل، أو بجبن، كأن يقول: فلان الصحابي بخيل، أو جبان، أو نحو ذلك، فهذا يجب تعزيره وتأديبه؛ حتى يرتدع عن مثل هذه الكلمات.
فضل معاوية رضي الله عنه
ثم قال: [ و
معاوية خال المؤمنين ].
وإنما ذكر المصنف
معاوية رضي الله عنه لأن كثيراً من الرافضة يطعن في هذا الصحابي الجليل؛ نظراً لما جرى بينه وبين
علي رضي الله عنه وأرضاه في يوم صفين.
و
معاوية رضي الله عنه وأرضاه هو كاتب الوحي، وهو مجتهد، صحيح أن
علياً أولى منه في الحق، لكنه مجتهد، وأراد الخير للمسلمين، لهذا فنحن نترضى عنه، ولا يجوز لنا أن نطعن فيه، ولا أن نسبه، ومن طعن فيه وسبه فحكمه حكم الساب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (خال المؤمنين)؛ لأنه أخو
أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها وعن أبيها وعن أخيها، وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، والخال هو أخو الأم.
فهل يطلق على مثل
معاوية أنه خال المؤمنين؟ صنيع المصنف هنا يدل على أنه يرى جواز الإطلاق، فمن كان أخاً لزوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيصح أن يلقب بأنه خال المؤمنين؛ لأن زوجات النبي هن أمهات المؤمنين، وبعضهم لا يرى هذا الإطلاق والأمر فيه واسع.
ثم قال عنه: [وكاتب وحي الله، أحد خلفاء المسلمين، رضي الله عنهم].
ثبت أن
معاوية من كتاب الوحي، ولو كان فيه شيء ما ائتمنه الرسول صلى الله عليه وسلم على أعظم أمر، وهو أحد خلفاء المسلمين.
ثم قال المصنف أيضاً: [ ومن السنة السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين، برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله؛ فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله تعالى، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته، وحرمت مخالفته، والخروج عليه، وشق عصا المسلمين ].
أي: وحرم شق عصا المسلمين، وهذا بشرطين:
أحدهما: أن يغلب بسيفه فيحكم بينهم بالكتاب والسنة.
الثانية: ألا يقع منه كفر بواح، وهذا الذي أشار إليه هو ما ذكره أئمة أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى من أن الخلافة تثبت إما بالمبايعة العامة، أو بوصية من سبقه إليه، أو بأن يتغلب بسيفه، فإذا تغلب بسيفه وحكم بينهم بالكتاب والسنة فإنه تجب طاعته، والسمع له، ويحرم الخروج عليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين ].
هجران أهل البدع ومبيانتهم من منهج أهل السنة والجماعة؛ لأن أهل البدعة سواء كانت بدعهم عقدية مثل الخوارج والمعتزلة وغيرهم، أو عملية مثل المتصوفة الذين يبتدعون الأوراد والأذكار ونحوها، فإن من منهج أهل السنة هجران هؤلاء؛ لأن في هجرهم ومباينتهم ردعاً لهم، وهذا من الولاء والبراء.
قوله: (وترك الجدال والخصومات في الدين)، أيضاً من منهج أهل السنة ترك المجادلات التي لا يقصد منها الحق، وهكذا ترك الخصومات في دين الله سبحانه وتعالى.
أما ما كان منها من قبيل المناقشات العلمية والردود الطيبة بالأسلوب الطيب فإن هذا قد وقع بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورد بعضهم على بعض، مع حبهم لبعض، وكذلك أيضاً فيمن جاء بعدهم من التابعين والأئمة، فهذا لا شيء فيه.
أما الجدال بالباطل والخصومات الباطلة فإنها منهي عنها، وكذلك أيضاً بالنسبة لأهل البدع؛ فمن لم يرتدع منهم بهجره أو مباينته، وخيف من شره ومن شر بدعته على المسلمين، فإن الواجب الرد عليه ونقض بدعته، كما فعل أئمة أهل السنة والجماعة فيما بعد.
خطر النظر في كتب أهل البدع والإصغاء إليهم
قال المصنف: [ وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم ].
لأن المبتدعة قد يوردون شبهاً، ويميلون إلى ما تشابه من نصوص الكتاب والسنة، فإذا قرأ الإنسان كتبهم واطلع عليها وسمع كلامهم ربما تأثر بذلك، فالأصل أن تربى النفوس ويربى الطلبة على العقيدة الصحيحة، والأصل أيضاً ألا يمكَّن لأهل البدع، فلا يأتي قائل يقول: دعونا نتحاور، ودعه يا أخي يشرح بدعته، فنحن مع نبي وعقيدة سليمة لا نخاف، فنقول: كيف لا نخاف؟! فالبدعة إذا ظهرت وانتشرت في الكتب، أو سجلت البدعة في أشرطة، أو أذيعت بوسائل الإعلام، وسمعها الكثير، فربما أن عشرة أو عشرين أو ثلاثين من العلماء ومن طلاب العلم لا يتأثرون، لكن كم من صغار الطلبة، وكم من ضعفاء الناس وعامتهم من إذا سمع مثل هذه الشبه، واستقرت في نفسه وقلبه سيتأثر!
فلا شك أن هناك كثيرين سيتأثرون، لهذا فمنهج أهل السنة والجماعة عدم السماح لهم، وعدم فتح الحوار معهم؛ لأن الحوار معناه إيذان بأنه قد يكون الحق معهم، والأمر واضح جداً أنهم مبتدعون، والحوار ليس بين حق وباطل، لا نأتي إلى يهودي ونقول له: تعال نتحاور معك أمام العالمين وأمام المسلمين جميعاً، وإنما نقول: أنت مبطل من أول الطريق، ونقول للنصراني: أنت مبطل من أول الطريق، ولا نفتح الحوار معهم؛ لأن الحوار يكون في مسائل الاجتهاد بين علماء المسلمين وفقهائهم، هذا هو الحوار الذي يفيد وينفع، أما أن يؤتى بمبطل ويقال: تعال ربما يكون باطلك حقاً، فهذا خطأ، ولم يفعله السلف رحمهم الله تعالى.
ولهذا فإن السلف ما فتحوا باب الحوار، وإنما ناقشوا وردوا، فردوا في زمن محنة خلق القرآن على المعتزلة، وهكذا ردوا على القدرية، وردوا على الرافضة، وردوا على الخوارج، لكن لم يفتحوا باب الحوار معهم، وفرق بين هذا وهذا، ولهذا فإن من الواجب التربوي على الشباب وعلى المبتدئين في طلب العلم أن يغرسوا أولاً في أنفسهم العلم النقي الصافي من عقيدة السلف، ثم يأخذون مما عدا ذلك ما يحتاجون إليه، وحينما تنتشر بدعة أو حينما يظهر خطر شبهة أو نحو ذلك، يتعلمون الرد عليها بالطرق السليمة، وبمناهج سليمة، ومن علماء موثوقين.
أما أن يأتي إنسان فيقرأ في كتب الفلاسفة أو في كتب المتكلمين، وربما يمكث سنين طويلة، فإن هذا يخاف عليه أن يتشرب شبهة أو بدعة، وقد سبق أن ذكرنا مثالاً مهماً جداً وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
من سمع منكم بـالدجال فلا يذهب إليه)، وسبق أن بينا أن
الدجال يؤيده الله بخوارق فتنة للناس: يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، ويأمر الخربات فتأتي بكنوزها، ويقتل الرجل ويعيده، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: (
من سمع منكم بـالدجال فلا يذهب إليه، فإن الرجل قد يسمع بـ
الدجال فيقول: هذا هو
الدجال الذي أخبرنا عنه الرسول، فإذا ذهب إليه ورآه وسمع منه لا يزال به حتى يصدقه)، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فهنا جاء الخطر، وهذا الإنسان الذي صدق بالرسول صلى الله عليه وسلم لو بقي بتصديقه وقال: لا حاجة لي في أن أذهب إلى
الدجال لسلم، وهكذا نفس الشيء بالنسبة لكثير منا، فالبعض منا يقول: أنا عقيدتي قوية، وما عندي مانع أن أقرأ في كتب الفلسفة، أو في كتب المنطق، أو في كتب المفكرين اليساريين والشيوعيين والملاحدة، ثم لا يزال يقرأ ويقرأ حتى يتأثر، وكثير منهم قد لا يصل به ذلك إلى الإلحاد، لكن يضعف إيمانه ويضعف يقينه بالقرآن والسنة، وهذا من الآثار الخطيرة بالنسبة للفلسفة وعلمها، فإنها حتى ولو لم توصل الإنسان إلى الإلحاد والكفر بالله إلا أنها تضعف إيمانه، وتضعف ثقته بالكتاب، وتضعف ثقته بالسنة، ولهذا تجد المتشبعين بكتب الفلسفة وعلم الكلام وأهل البدع.. ونحو ذلك، تجد هؤلاء عن بكرة أبيهم إلا ما عصم ربي يستهينون بالقرآن، ويستهينون بالسنة، حتى ولو لم يصرح أحدهم بذلك، فإن القرآن عنده ما وضع إلا للعوام، والسنة ما هي إلا أمور يسيرة ليس فيها حقائق علمية، هكذا يؤمنون.
فمن أين جاء هذا التهوين لتلك المصادر الحقة التي لا يأتيها الباطل أبداً؟ جاءهم من خوضهم في علم الكلام والفلسفة والمنطق، فظنوا أن تلك العقول وذلك المنطق وأولئك الفلاسفة عندهم من العلم واليقين والوصول إلى الحقائق ما ليس في الكتاب والسنة، ولهذا قال المصنف: (والإصغاء إلى كلامهم).
ثم قال: [ وكل محدثة في الدين بدعة ].
وهذا بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفصيل البدعة ليس هذا موضع الكلام فيه.
كل فرقة تسمت بغير الإسلام والسنة فهي مبتدعة
ثم قال: [ وكل متسمٍ بغير الإسلام والسنة مبتدع ].
قوله: (بغير بالإسلام)، مثل ذلك الذي لا ينسب نفسه إلى الإسلام، أو لا ينسب نفسه إلى السنة، وإنما أتى ببدعة، فنسب نفسه إليها.
قال: [كالرافضة].
والرافضة لهم أصول معروفة، وكثير منها أصول كفرية، تخرجهم عن دائرة الإسلام، ولو لم يكن من ذلك إلا اعتقادهم العصمة في الأئمة، وأنهم يعلمون المغيبات، وعبادتهم لأئمتهم والحج إلى قبورهم؛ لكفى، فإنهم يعبدونهم ويدعونهم من دون الله تعالى.
وكذلك اعتقادهم بردة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولو لم يكن إلا ذلك لكفى دليلاً على ردتهم وخروجهم عن دائرة الإسلام، ولهذا فإننا نقول: من كان من الرافضة يقول بهذه الأصول فهو مرتد خارج عن دائرة الإسلام.
ثم قال: [ والجهمية ].
وهم أتباع
الجهم بن صفوان، الذي قتله
سلم بن أحوز بعد أن ظهرت بدعته، فهو من المبتدعة الذين أقيم فيهم حكم الله.
والجهمية لهم ضلالات كثيرة، ومن أعظم ضلالاتهم إنكار الأسماء والصفات ومنها القول بالجبر، أي أن العباد مجبورون، وأن العبد لا قدرة له ولا إرادة، وإنما يتحرك بأفعاله كما تتحرك الأوراق، فأوراق الشجر إنما تحركها الريح.
ومن ضلالاتهم أن الإيمان هو المعرفة، فعندهم أن من عرف الله فهو مؤمن، وهذا مذهب الإرجاء، وهو مذهب خطير، ففرعون كان يعرف الله، وإبليس كان يعرف الله.
إذاً: عندهم أن فرعون وإبليس وغيرهما من الملاحدة والطواغيت الذين عرفوا الله مؤمنون، وهذا خطير جداً، ولهذا صار الجهمية من غلاة المرجئة، فقد اجتمعت في الجهمية ثلاث جيمات: جيم التجهم الذي هو نفي الصفات، وجيم الإرجاء، وجيم الجبر، فهم جبرية، جهمية، مرجئة.
ثم قال: [ والخوارج ].
والخوارج هم المارقة الذين خرجوا على أمير المؤمنين
عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وأجمع المسلمون على قتالهم، وأهم ما يميزهم في عقيدتهم تكفيرهم لمرتكب الكبيرة، فكل من ارتكب كبيرة فهو عندهم كافر في الدنيا مخلد في نار جهنم، ولهذا فإنهم كفروا
عثمان في آخر خلافته، وكفروا
علياً ، وكفروا
الزبير ، و
عائشة ، و
طلحة ، و
معاوية ، و
عمرو بن العاص ، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهؤلاء هم الخوارج المارقون الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووردت فيهم أحاديث كثيرة.
ثم قال: [ والقدرية ].
والقدرية هم نفاة القدر، أي: الذين نفوا عن الله القدر، وقالوا إن الإنسان مستقل عن الله سبحانه وتعالى في الإرادة، ومستقل بفعله، فهو خالق الإرادة، وهؤلاء هم المعتزلة القدرية، وقد ورد في الحديث الذي يحسنه بعض العلماء: (
القدرية هم مجوس هذه الأمة) سموا وشبهوا بالمجوس لأنهم يقولون: إن العبد خالق لفعله.
ثم قال: [والمرجئة].
وهؤلاء المرجئة هم الذين يؤخرون الأعمال عن الإيمان، فلا يدخلونها، فكل من لم يدخل الأعمال في مسمى الإيمان فهو مرجئ.
وهؤلاء المرجئة على درجات: فغلاتهم هم الجهمية، وقد سبق بيان عقيدتهم؛ لأنهم يقولون: الإيمان هو المعرفة فقط، ومن المرجئة أيضاً الكرامية الذين يقولون إن الإيمان قول اللسان فقط، فكل من قال بلسانه فهو مؤمن، لكن يقولون: إن المنافق الذي لا يوافق قلبه لسانه يكون يوم القيامة مخلداً في النار.
ومن المرجئة أيضاً الأشعرية والماتريدية الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق فقط.
ومن المرجئة أيضاً مرجئة الفقهاء رحمهم الله تعالى الذين يقولون: إن الإيمان قول وتصديق، فهؤلاء الطوائف كلهم مرجئة؛ لأنهم لم يدخلوا العمل في مسمى الإيمان.
ثم قال: [ والمعتزلة ].
والمعتزلة هم الذين بدأت حركتهم باعتزال
واصل بن عطاء حلقة
الحسن البصري رحمه الله تعالى، وذلك لما جعلوا النقاش حول مرتكب الكبيرة، فقال
واصل بن عطاء: لا أقول هو مؤمن، ولا أقول هو كافر، بل هو في منزلة بينهما، فاعتزل حلقة
الحسن البصري ، فسموا معتزلة.
والمعتزلة اشتهروا بأصولهم الخمسة: الأول: العدل، وهو إنكار القدر، أي: إنكار المرتبة الثالثة والرابعة من مراتب القدر، وهما مرتبة المشيئة، ومرتبة الخلق، ونسبتهما إلى العبد.
الثاني: التوحيد، وهو نفيهم لجميع الصفات عن الله سبحانه وتعالى، فهم يثبتون الأسماء وينفون الصفات، لكن إثباتهم للأسماء لم ينفعهم؛ لأنهم انقسموا حيالها إلى قسمين: قسم منهم قال: إنها أعلام محضة لا تدل على معانٍ ولا صفات، والقسم الثاني منهم قال: إن الله عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، فكان مؤدى قولهم نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى.
الثالث من أصولهم: القول بمنزلة بين المنزلتين في مرتكب الكبيرة: أي أنه في الدنيا لا مؤمن ولا كافر.
الرابع: إنفاذ الوعيد: وهو أن مات من أهل الكبائر من غير توبة فلابد أن ينفذ فيه الوعيد فيكون مخلداً في نار جهنم.
الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربطوا بالأصل الخامس الخروج على أئمة الجور، وقالوا: إنه يجوز الخروج على الإمام إذا كان جائراً. هذه أصول المعتزلة الخمسة التي اشتهروا بها.
وأضافوا إلى ذلك أموراً كثيرة، منها: إنكار الشفاعة، وقد سبق بيان ذلك، ومنها: إنكار رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، وقد سبق أيضاً الإشارة إلى ذلك.
ثم قال: [ والكرامية ].
والكرامية هم أتباع
محمد بن سعيد بن كرام ، و
ابن كرام هذا أشهر أقواله: إثبات الصفات مع الغلو أحياناً في إثباتها، وأيضاً من أقواله: الإرجاء في باب الإيمان، فإنه يقول: إن الإيمان هو قول اللسان فقط، لكنه قال: إن المنافق الذي يقول بلسانه وإن قلنا عنه في الدنيا إنه مؤمن، لكنه إذا مات فهو يوم القيامة مخلد في النار، فوافق أهل السنة والجماعة في الحكم عليه على الظاهر.
ثم قال المصنف: [ والكلابية ].
والكلابية هم أتباع
عبد الله بن سعيد بن كلاب ، وأشهر ما اشتهر عن
ابن كلاب هو أنه نفى بعض الصفات وأثبت بعضها، وقبل
ابن كلاب كان الناس على طريقتين: المعتزلة ينكرون جميع الصفات، وأهل السنة يثبتون جميع الصفات، فجاء
عبد الله بن سعيد بن كلاب بشبه عقلية وردت عليه، فأثبت لله بعض الصفات، مثل: صفة العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، ومثل الوجه واليدين، والعينين وغير ذلك، ونفى عن الله ما يتعلق بمشيئته وإرادته، مثل: الاستواء، فإنه أثبت لله صفة الاستواء من باب أنها صفة علو لله سبحانه وتعالى، لكن لم يثبتها كصفة من صفات الفعل، فهو يثبت الاستواء لله سبحانه وتعالى، وينكر على من يتأوله بالاستيلاء؛ لأنه يثبت العلو لله سبحانه وتعالى.
وكذلك أيضاً يتأول بعض صفات الله سبحانه وتعالى، كصفة النزول، وصفة الضحك، والعجب، والرحمة، والمحبة وغير ذلك، أي أنه في الجملة يتأول الصفات الفعلية، ويثبت لله الصفات الذاتية، وسار على منهاجه في باب الصفات الأشاعرة والماتريدية، فهم ساروا على خطاه، وإن كان متأخرو الأشاعرة ومتأخرو الماتريدية قد زادوا عنه بعداً عن مذهب السلف الصالح في باب الصفات.
ثم قال المصنف: [ونظائرهم]، فهذه فرق الضلال، وطوائف البدع، أعاذنا الله منها؛ لكن طوائف الضلال متفاوتة، فمنها طوائف قد تصل أحياناً فيها البدع إلى الكفر، ومنها ما قد تكون بدعاً دون الكفر، لكن نحن ننكر البدع، ونتبرأ من هذه كلها، ولا نسمي أنفسنا بهذه التسميات، وإنما نربط أنفسنا بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
حكم الانتساب إلى إمام في فروع الدين
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين كالطوائف الأربع فليس بمذموم؛ فإن الاختلاف في الفروع رحمة ].
لم يرد في ذلك حديث صحيح، لكن قد رحم الله هذه الأمة بالتوسعة عليها، والصحابة كانوا يجتهدون ويختلفون.
فالانتساب إلى المذهب المالكي أو الشافعي أو الحنفي أو غير ذلك ليس فيه بدعة، إنما يكون بدعة إذا تحول إلى تعصب، ورفض للدليل الحق، أو إلى تنقص من الأئمة الآخرين، فإذا أدى إلى تعصب مذموم، أو تنقص بالأئمة الآخرين، فإنه حينئذٍ يكون انتسابه إلى هؤلاء أو أحدهم مذموماً.
فمن انتسب إلى الحنفية أو المالكية أو الحنابلة وقال: إن معهم الحق، وتعصب ولو جاءه الدليل الصحيح، أو انتقص الآخرين، وقال: المذهب الحق هو مذهب الإمام
أحمد بن حنبل أو
أبي حنيفة وما عداهم فمذهبه غير حق، فنقول: هذا تعصب مذموم.
ثم قال المصنف: [ والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة ].
وهذا واضح جداً، فما اتفق عليه المسلمون وأجمعوا عليه فهو حجة، وما اختلفوا فيه فإننا نحمدهم عليه، لكن الواجب علينا أن نتبع من كان معه الدليل، ولو أن الإنسان انتسب إلى المذهب الحنفي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي ثم رأى في مسألة من المسائل أن الدليل مع القول الآخر والمذهب الآخر، فالواجب عليه أن يتبعه.
ثم دعا المصنف رحمه الله تعالى بهذا الدعاء العظيم فقال: [ نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات برحمته وفضله آمين ].
ونحن أيضاً ندعو معه بهذا الدعاء ونقول:
اللهم إن نسألك أن تعصمنا من البدع ومن الفتنة، وأن تحيينا على الإسلام والسنة، وأن تجعلنا ممن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة، وتحشرنا في زمرته بعد الممات برحمتك يا أرحم الراحمين!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.