إسلام ويب

كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [3]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما زال هذا الشرع تبدو جوانب كماله وصلاحيته في كل زمان ومكان، ومن تلك الجوانب ما جاء في الحجامة، فهي وإن كانت مسألة طبية محضة إلا أن لها فوائد أقرها الطب الحديث، وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأكرم الحجام وأعطاه أجرته وزيادة، فهو وإن كان حجاماً إلا أن حقه يجب أن يؤدى إليه كاملاً غير منقوص، فقد حذر الشرع من مغبة أكل حقوق الأجراء، حيث جعلهم المولى جل وعلا خصوماً له يوم القيامة، وجعلهم هم ومن أعطى بالله ثم غدر، ومن باع حراً وأكل ثمنه في مرتبة واحدة؛ لاستوائهم في جرم الاعتداء على حقوق الآخرين.

    1.   

    أحكام الحجامة

    [ وعن ابن عباس قال: (احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطى الذي حجمه أجره، ولو كان حراماً لم يعطه)، رواه البخاري .

    وعن رافع بن خديج رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كسب الحجام خبيث)، رواه مسلم ].

    مشروعية الحجامة وخبث كسبها

    يلاحظ في هذا الترتيب بين الحديث الأول: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الذي حجمه أجره) إلى هنا الكلام سليم جداً، أما التعقيب عليه: (فلو كان شيئاً حراماً لم يعطه) ما الذي أتى بشبهة الحرام هنا؟ قوله: (كسب الحجام خبيث) أيهما كان أولى بالتقديم: (كسب الحجام خبيث) ثم يأتي ويرد عليه (بأن الرسول احتجم وأعطى الحجام أجرة، ولو كان حراماً لم يعطه)؟

    الأولى: (كسب الحجام...)؛ لأنه يعطي الحكم على كسبه بأنه خبيث، ثم يرد هذا الفهم عندنا بأن الخبث ليس معناه الحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى الحجام أجره، ولكن المؤلف غاير في الإيراد.

    سبب كون كسب الحجام خبيثاً

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كسب الحجام خبيث)، وهل خبث المال يدل على حرمته، أو يدل على استقذاره؟ ليس حراماً لأن المنافقين كانوا يتصدقون، وكانوا يتيممون الخبيث من أموالهم ينفقونه، فما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم المال الخبيث الذي يعطى لأهل الصفة حراماً، بل كان حلالاً يأكلونه، لكن عاب على المنافقين أن أحدهم يتيمم النوع الخبيث من التمر ويأتي به ويعلقه لأهل الصفة، بينما كان كرام الناس والمؤمن بالأجر وبالعوض عند الله يأتي بأحسن أنواع التمور أو الرطب أو غير ذلك ينفقه عليهم، والمنافقون يعتبرون هذه غرامة، فلا يأتي بالجيد.

    إذاً: معنى قوله: (كسب الحجام خبيث) أي: غير مستطاب، يقول العلماء: لا ينبغي لحر كريم أن يعمل بهذه المهنة، وبعضهم قال: خبثه بسبب ما يتعاطى من الدم، والدم نجس، حيث كان الحجام يعمل بالقرن، فحين ينخلع القرن بطابق منه، يخرمه ويجعله على محل التشريط ويشفط بفمه ليبتز الدم، فلربما زاد في الشفط فغلبه الدم ووصل إلى حلقه دون قصد، فمن هنا كان الخبث، فلما كان الأمر كذلك، وجاء حجام وسأل، قال: (ماذا أفعل فيما أعطى؟ قال: أطعمه الدواب أو أطعمه العبيد)، فهنا قالوا: سيطعم الدواب حراماً، أو يطعم العبيد الحرام، وهو مكلف بأن يطعمهم من الحلال!

    إذاً: كسب الحجام خبيث لما فيه من دناءة بالنسبة لبعض الناس.

    ثم يأتي الحديث الثاني بأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم. وهذا أولاً يثبت مشروعية الحجامة، ثم أعطى الحجام أجره، بل هناك زيادة في حديث بني بياضة: (أنه استوصاهم به خيراً، ثم أرسل إليهم أن زوجوه)، فقد أكرم الحجام بأجره وبالوصاية به، فليس هناك أي إهانة له أو ابتذال.

    الحجامة من الناحية الطبية

    هنا بحث العلماء من جانب الطب في الحجامة، وجميع العلماء في السابق كان الطب النبوي معلوماً عندهم، وأعرف شيخاً جاء من باكستان لتدريس صحيح البخاري، وكان يحفظه عن ظهر قلب، وسأله البعض عن حديث في البخاري، قال: بهذا اللفظ الذي تذكره لا أعرفه، ولكنه فيه بلفظ كذا، فصحح له اللفظ، وكان طبيباً، وكان له مطب عربي في باكستان، فكان العلماء سابقاً أطباء، والحجامة من الطب النبوي، وكانت معروفة عند العرب، لكن يذكر ابن القيم رحمه الله في مبحث الحجامة ما ينبغي لكل إنسان أن يقرأه قبل أن يقدم عليها.

    أولاً: هناك سن قبله لا تجوز الحجامة، وهو عين الموجود في الطب الحديث اليوم، بنك الدم لا يأخذ من شخص دون السابعة عشر من عمره، ولا يأخذ أيضاً من شخص جاوز الستين من عمره، وما بين هذين يمكن أن يأخذ بنك الدم دماً يحتفظ به عنده.

    ويشترط في من يؤخذ منه أن يكون ما بين المرة والمرة فترة لا تقل عن ستة أشهر.

    ويذكر ابن القيم تنظيماً آخر في موضوع الحجامة: فهو يمنعها في يوم من الأسبوع لعله يوم الأربعاء أو غيره، ويحث عليها في الصيف؛ لحديث: (لا يتبوغ بكم الدم)، والحجامة هي الفصد، وتعني أخذ الدم من الجلد بعد تشريطه تشريطاً خفيفاً جداً، ثم يؤتى بآلة ماصة، أو عن طريق تفريغ الهواء أو الشفط، فيبتز الدم من الجلد، أو بالفصد من العرق مباشرة كما يعمل في أخذ الدم من صحيح إلى مريض، عندما توضع الإبرة في العرق، والدم يخرج سائلاً متدفقاً إلى الوعاء، فهذا فصد: أخذ الدم من العرق مباشرة، والحجامة: أخذ الدم من الجلد بطريق الشفط أو بتفريغ الهواء وغيره.

    وهناك -كما يقال- الكاسات الجافة التي توضع لأخذ الرطوبة، كطريقة الحجامة سواء، ولكن ليس هناك تشريط، ولا خروج دم ولكن امتصاص الرطوبة من وراء الجلد من الجسم، وهذا يستعمل في علاج الرطوبة كالروماتيزم ونحوها.

    وهنا احتجم صلى الله عليه وسلم، وذكر: (لو أن دواء يصل الداء لوصلته الحجامة)، أي: أن الحجامة أهم ما تكون في الأدوية، وبحثها طبياً على حدة، والذي يهمنا هنا: أن ما قيل عن أجره: خبيث قد دفعه له، ولن يدفع صلى الله عليه وسلم شيئاً خبيثاً لإنسان.

    وبعضهم يقول: خبث أجر الحجام لأنه مؤاجرة على عمل مجهول، فلا يدري كم سيأخذ من الدم، ولا كم سيستغرق من الزمن، ولا ندري ولا ندري... إلى غير ذلك.

    وعندهم: كل داء في البدن له موضع معين للحجامة، فقد يحجم عن الضرس في القفا، وعن الصداع في الجانب، وعن كذا في الظهر، وكل هذه أمور طبية تكلم عنها ابن القيم رحمه الله باستفاضة.

    إذاً: الأعمال التي قد يتمنع عنها بعض الناس أجرها فيه ما فيه، ومن هنا كان العرب يأنفون من الأعمال التي فيها دناءة، ولا تجد إنساناً حراً -مثلاً- عربياً يعمل بكنس الشوارع، ولو جاع، بل قد يحمل نفسه فوق طاقتها ويبني في الشمس في الحجر والطين ولا يعمل المهن التي فيها نوع امتهان للعامل، وهذه من عادات الشعوب، بعض الشعوب ليس عندهم أي نوع من العمل عيب، ولكن العيب في مد اليد، أو الأكل بغير وجه مشروع: السرقة، السلب، النهب. أما العرب فيقطعون الطريق ويسرقون ولا يعملون الأعمال -في نظرهم- الممتهنة. وهذا فيه نظر.

    1.   

    شرح حديث: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة)

    [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره)، رواه مسلم ].

    يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث بمناسبة الصنف الثالث، وهو ما يتعلق بالأجير وأجره، وهذا الحديث وأمثاله من الأحاديث القدسية، وللعلماء مبحث في التفريق بين الأحاديث القدسية والأحاديث النبوية، وبين الأحاديث القدسية وبين القرآن الكريم.

    سند القرآن الكريم

    الحديث القدسي يأتينا عن رسول الله، فهو الذي ينقل لنا قول الله، والقرآن كلام الله؛ فالحديث القدسي والقرآن يشتركان في النسبة إلى الله تعالى، فما الفرق بين القرآن وهو كلام الله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وبين الحديث القدسي والرسول يقول: قال الله؟

    أما الفرق بين القرآن والحديث القدسي؛ فإنه من حيث السند، ولفظه وطريقة وصوله إلينا: فالقرآن -كما يقول العلماء- قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو مختلف في ظنيه أو قطعيه، هناك الاشتراك اللفظي وهناك الاشتراك المعنوي، وهناك الناسخ والمنسوخ... إلى غير ذلك.

    فالقرآن له طرق وحي ثابتة: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى:51] وهذا الذي كان يحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يأتيه الوحي، ويكون في إغفاءة كالإغماء.

    إذاً: القرآن قطعي الثبوت عن الله؛ لأن الله قد بين سند القرآن في قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:19-22] .. إنه لقول (إنه) ضمير الشأن راجع للقرآن، رسول الرسول معناها المرسل، والمرسول معناها يحمل رسالة، رسول حمل رسالة، من الذي أرسل الرسول الكريم؟ الله ذي قوة ، وما الذي نحن نستفيده من قوته، ونحن إنما نريد إبلاغ الرسالة؟ فهو ليس عامل بريد مسكين ضعيف يأتي على الدراجة ويقدم لك الرسالة، فعامل البريد ربما هجم عليه أناس وأخذوا منه الشنطة ويدفعون إليه شنطة مزيفة ويذهب يوزعها على الناس مزيفة، لكن هذا الرسول قوي، لا يستطيع أحد أن يدنو منه ويغير عليه شيء مما أرسل به: (إنه لقول رسول كريم) أولاً: كريم هو بنفسه كريم، ثم (ذي قوة عند ذي العرش مكين)، متمكن من أداء واجبه.

    والرسالة أرسلت لصاحبكم: (وما صاحبكم بمجنون)، عاقل وافر العقل، لا يمكن أن يغير شيئاً مما أرسل إليه.

    ثم هذا الرسول وإن كان ملكاً لكن قد انكشف أمره لرسول الله، ورآه على حالته الملائكية؟ في الأفق المبين: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:23-24]، إذاً: تعرف رسول الله على جبريل الذي يأتيه بالرسالة، وهو قوي مطاع في عالم السماء، قوي على رسالته، هذا سند القرآن الكريم.

    سند الحديث القدسي

    سند الحديث القدسي ليس كالقرآن، فقد يكون من النوع الذي يكون فيه (نفث في روعي)، كما جاء: (نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل قوتها)، والنفث في الروع إحساس، وقد يشترك فيه عامة الناس ممن اصطفاه الله وصفت روحه؛ كقضية الرجل الذي كان مع الرهط ونزلوا على حي وطلبوا القرى، قالوا: اذهبوا، فقد أتيتم من عند هذا الصابئ فليس لكم عندنا شيء، فجلسوا، فسلط الله عقرباً على سيد الحي، فذهبوا يبحثون يمنة ويسرة عمن يداويه من لدغة العقرب فما وجدوا أحداً، ثم قالوا: هلا ذهبتم إلى هؤلاء النفر. فأتوهم: هل فيكم من راق؛ فإن سيد الحي لدغ. قال: لا، طلبنا منكم القرى فامتنعتم، لا أرقيه لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً -أجراً- فآجروه على قطيع من الغنم، يقول: فأخذت أقرأ عليه وأنفث، فقام كأنه نشط من عقال، قالوا: ماذا قرأت عليه؟ قال: فاتحة الكتاب (سبع مرات)، وجاء يسوق الغنم لأصحابه، قالوا: نقسم. قال: لا، حتى نرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسأله: هل لنا حق في أخذ هذه الغنم أم لا؟ وهل نأخذ أجراً على قراءة القرآن؟

    فلما جاءوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وما يدريك أنها رقية؟ قال: شيء نفث في روعي)، الحاسة السادسة كما يقولون، أحسست في نفسي وشعوري، هذا الإحساس وهذا الشعور هو اليقين ونور الإيمان، كما في الحديث: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه يرى بنور الله)، فالله سبحانه وتعالى ألهمه ووجهه بأن يقرأ عليه الفاتحة.

    إذاً: الحديث القدسي قد يكون شيء ينفث في الروع، وجاء لرسول الله، فكيف وصل إلينا من رسول الله؟ عن فلان عن فلان عن فلان، ومن فلان وفلان وفلان؟ بخلاف القرآن: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:19-22]، وحينما يأتي إلى صاحبهم يقول: هلموا يا كتبة الوحي واكتبوا، فحينما ينزل القرآن على رسول الله بهذا السند القوي المتين حالاً يسطر، فحفظ القرآن بذلك، وأما الحديث القدسي فما كانوا يكتبونه، ونحتاج إلى أن ننظر من الذي نقله لنا؛ هذا الحديث أبو هريرة ، ومن الذي قبله؟ فهنا الحديث القدسي يتوقف على السند، فقد يكون السند قوياً صحيحاً مهماً، وقد يكون قابلاً للنظر والبحث.

    القرآن قطعي الثبوت، ومن أنكر حرفاً واحداً منه كفر، والحديث القدسي لو أنكره إنسان بكامله وقال: هذا السند لا يثبت عندي، وإن كان قدسياً. يقال له: نبحث في السند، فإن توصلنا إلى صحة السند التزم به، وإذا لم نتوصل إليه كان إنكاره وجحوده إياه صحيحاً. فهذا فرق بينهم.

    أما من حيث الموضوع: فقد أمرنا الله أن نتعبد بكتابه تلاوة وعملاً وتطبيقاً. أما الحديث القدسي فما تعبدنا الله بقراءته، ولو قرأت ألف حديث قدسي فإنه لا يساوي: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]؛ لأن القرآن نزل للتعبد، ولا تصح الصلاة بالحديث القدسي وإن كان فيه (قال الله)، وتصح الصلاة بالقرآن. هذا جوهر الفرق ما بين القرآن والحديث القدسي.

    الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي

    الحديث القدسي يأتينا عن طريق السنة النبوية وإن كان مسنداً إلى رب العالمين سبحانه، فيأخذ طريق السنة في إثباتها وتشريعها، وهذا الحديث الذي معنا ما ذكره لنا رسول الله عن الله إلا للتشريع، ويأخذ طريق السنة: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، سواء أتانا به من عنده أم مسنداً إلى ربه؟ وإذا كان عن رسول الله مسنداً إلى ربه يكون أقوى وأعظم وأضخم؛ فهنا هذا الحديث من النوع الذي يسميه العلماء: الأحاديث القدسية، ووزارة الأوقاف كانت قد جمعت معظم الأحاديث القدسية، وطبعتها في كتاب ضخم بأسانيدها وأوضاعها، وكثير من العلماء حاول أن يجمعها، ولكن هذا جمع لجنة مكتملة مجتمعة فيكون أقرب إلى الصواب إن شاء الله.

    إثبات خصومة الله لأناس على الحقيقة

    [ يقول أبو هريرة : قال رسول الله: قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ].

    هل المراد ثلاثة أشخاص بالعدد في الأمة كلها، أو ثلاثة أصناف؟ ثلاثة أصناف، إذ كل من اتصف بصفة من تلك الثلاث فهو واحد منهم.

    (أنا خصمهم يوم القيامة) الله أكبر! مَن مِن الخلق إنس أو جن أو مَلك يقدر على أن ينصب الخصومة بينه وبين الله؟ كما جاء في الربا: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، من يستطيع أن يقف في أرض المعركة حرباً مع الله ورسوله؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) وتأتي أنت في المعركة تقف أمام رسول الله ورب العالمين؟!

    وكما يقول العلماء: إن الله سبحانه وتعالى يوم القيامة خصم كل ظالم، وهو يحكم بالعدل ويحاسب الناس على أعمالهم بالعدالة، لكن تلك خصومة خاصة، واحذر ثم احذر أن تفتح مفتاح عقلك وتقول: كيف يكون خصماً؟ وهل الناس أعداء له؟ هل هم خصومه؟ الخصومة سببها كذا وكذا، وتدخل عقلك في إثبات خصومته وكيف تكون؟ قل لها: لا، صفات المولى لا تخضع إلى قوى العقول، صفات الله فوق مستوى الكيف لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، يكفينا الهيكل والتركيب العام: (أنا خصمهم يوم القيامة)؛ فليأت أصحاب الخصوم والذين يكونون خصماء ويحكم الله بينهم.

    من أعطى بالله ثم غدر

    [ (رجل أعطى بي ثم غدر) ].

    رجل كان أو امرأة، وقال: (رجل) للتغليب، وربما لأن الرجال في العادة هم أكثر الذين يغدرون، وكانت العرب تتمدح بالغدر ونقض العهد، ويقولون: إن الذي لا ينقض العهد ولا يغدر بعدوه ضعيف، ولا يستطيع أن يصنع شيئاً، ويتمدحون بالغدر، ففي قول الشاعر:

    قُبيلة لا يغفرن بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل

    لما سمع عمر هذا، وقالوا: الشاعر هجانا وقال فينا كذا. قال: والله إنه لنعم الحال! الظلم ظلمات يوم القيامة، فإذا كانت هذه القبيلة لا تظلم الناس حبة خردل فجزاهم الله خيراً، بل قال أكثر من هذا:

    تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من لحم كعب بن نهشل

    قال: كفى بالأمر ضياعاً أن تأكل الكلاب لحومهم، ما عليكم أنتم؟! قالوا: لا، بل قال آخر:

    وما سمي العجلان إلا لقوله: خذ القعب أيها العبد واحلب واعجل

    فقال: خادم القوم سيدهم. انظر إلى فطنة عمر ! وعمر كان سفير قريش عند القبائل في التهنئة والتعزية. بعض الناس يقول: عمر لا يفهم الكلام. مجنون من قال هذا! عمر يقول: (إذا جاءتك كلمة عن صديق لها خمسون محملاً في الشر، ومحمل واحد في الخير، فاحملها على محمل الخير). والشناقطة يقولون: من باع صديقه بخمسين زلة فقد باعه بيعة رخيصة. يصبر عليه حتى يكملها مائة! نحن الواحد منا إذا أخطأ صديقه أو زل بشيء مرة أو مرتين قلنا: هذا ليس فيه خير، ونقاطعه وينتهي الأمر. وهذا لا ينبغي.

    هتلر في الحرب الأخيرة لما أراد أن يقاتل الأسبان قالوا له: بيننا وبينهم معاهدة. قال: هي حبر على ورق. يعمل بها في السلم، أما الحرب فلا توجد عنده معاهدات. والذي يحمله على هذا؟ ما كان لديه من قوة.

    فهنا المولى سبحانه وتعالى خصم لثلاثة؛ أولهم: (رجل أعطى بي) أعطى ماذا؟ قالوا: أعطى العهد، أعاهدك بالله على كذا، فائتمنه لعهد الله.

    (فغدر) : هذا الغادر هل غدر بصاحبه أو بالعهد الذي أعطاه؟ غدر بصاحب العهد، رجل أعطاك عهده وقبلته منه، وعاملك على ذلك، فأنت غدرته، كأنك لا تبالي بعهدي، ولا بحقي وأنا المنتقم الجبار!

    وحينما يكون يوم القيامة، ويأتي الطرفان، من الخصم في قضية نقض العهد؟ الله، ومن هنا -أيها الإخوة- وإن كنا في أحكام الفقه، لكن لابد من بيان جانب العقائد في مثل هذه الأحاديث، نقرأ في العقائد: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، نحن نتكاثر هذه، والشرك ظلم عظيم! ابن مسعود يقول: (لأن أحلف بالله كاذباً أهون علي من أن أحلف بغير الله صادقاً). لأن الحلف بالله كذباً معصية وقد أتوب منها وأستغفر وأتوقف والله يرحمني، لكنه بغير الله شرك.

    وكيف يكون الحلف بغير الله شركاً؟ هذه مهمة لطالب العلم، فهي ليست مجرد عبارات تسطر.. لا، أين نقطة الشرك هنا؟ نحن نعلم أنه إذا رفعت القضية إلى القاضي، وأنكر المدعى عليه، طالب القاضي المدعي بالبينة. وهذه هي العدالة، فيأتي المدعي فيقول: هذا صديقي، وأنا ائتمنته، وما ظننت أنه سوف يخونني أو ينكرني، حتى أنني ما رضيت أن آخذ عليه سنداً ولا أشهد عليه شهوداً، بيني وبينه وبين الله. فحينئذ المدعي خلو اليدين، فهل تنتهي القضية على هذا؟ لا، ماذا يقول المدعي؟ يقول: حلفه يمين الله أن دعواي كاذبة، وأني ما أعطيته، فيقول له: تحلف يمين الله أنك ما أخذت منه المبلغ الذي يطالبك به فيقول: نعم، أحلف.

    فلسفة اليمين هنا: المدعي خلو اليدين من بينة يقيمها على خصمه، ورجع إلى الله، واستشهد بمن لا تخفى عليه خافية، وقال: يا شيخ! شاهدي الوحيد المطلع على ذلك هو الله، فليحلف لي بالله أنه لم يأخذ مني. فحينما يتوجه المدعى عليه ويقول: والله! لم آخذ منه شيئاً. معنى هذا: أنت يا أيها المدعي عجزت عن شهود من الخلق، وجئت بشاهد واحد هو الخالق المطلع على حقيقة الأمر، وحلف بالله أنه لم يأخذ منك شيئاً.. هنا حكم القاضي ببراءة المدعى عليه وصرف النظر عن دعوى المدعي لعجزه عن الإثبات، وحلف المدعى عليه اليمين. هذا جهد القاضي، ولكن حقيقة القضاء هل تنتهي هنا أم يعاد النظر فيها يوم القيامة؟ يعاد النظر فيها يوم القيامة.

    وهنا كيف كان الحلف بغير الله شركاً؟ لأن الحلف بالله والله وحده هو الذي يعلم الحقيقة، والله وحده هو الذي يعاقب الكاذب ويقدر على ذلك، لكن لو حلفت بجبريل وميكائيل وإسرافيل وجميع الملائكة وجميع الرسل هل يعلمون الغيب في هذه القضية؟ هل يعلمون حقيقة الدعوى؟ لا؛ فكأنك حينما تحلف بغير الله جئت بغير الله محل الله، وادعيت أنه يعلم الغيب في القضية.

    والأمر الآخر: يوم القيامة: هل هؤلاء يستطيعون أن يعاقبوا الكاذب؟ لا يملكون ذلك: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]؛ فأنت بحلفك هذا أنزلتهم منزلة الله في عقوبة الكاذب، إذاً أشركت مرتين: في إعطائك المحلوف به علم الغيب، وفي إعطائك إياه حق الانتقام وأخذ الحق لك وهو لا يملك ذلك.

    من باع حراً فأكل ثمنه

    [ (ورجل باع حراً فأكل ثمنه) ].

    قوله: (رجل) هنا إنما هي وصف طردي، وقد يكون أيضاً امرأة؛ لأن التكليف واحد.

    وكيف يبيع حراً؟ هل يستطيع إنسان أن يأتي على أحد الجالسين ويقول: أنا بعتك؟! يمكن، ويصدق هذا في أحد أمرين: إما بطريق الكتمان والغدر. وإما بطريق السلب والنهب بالقوة.

    أما طريق الغدر: فيكون بينه وبين العبد أنه أعتقه لوجه الله. فصار حراً، ثم يندم ويقول: أنا لماذا أعتقه؟ لماذا لا أبيعه وآخذ ثمنه خيراً لي؟ فبعد أن تقرر العتق وصار حراً وليس عند العبد شهود إثبات، هل تعرفون عبدي فلان؟ قالوا: نعم. قال: أريد أن أبيعه؟ العبد يقول: أنا حر، أنت أعتقتني. يقول: كذاب. فباعه وأكله ثمنه.

    أو يظهر قطاع الطريق على أناس يمشون، ثم يأخذونهم ويختطفونهم ويبيعونهم، وكان يقع هذا في بعض البلدان: يحتالون على الشخص حتى يدخلونه في بيت ويقيدونه، وفي الليل يخرجون به ويذهبون إلى جهات أخرى يبيعونه فيها.

    زيد بن حارثة من أين جاء؟ خرجت به أمه تزاور أخواله إلى الطائف، فخرج عليهم قطاع الطريق وأخذوه، وأنزلوه إلى مكة وباعوه، ووصل إلى خديجة بالثمن، فوهبته لرسول الله يخدمه، وكان أبوه يبكي طوال الليل والنهار ويسأل ويبحث، ثم قيل له: إن ابنك في مكة عند بني هاشم. فجاء وأتى بأخيه معه، وأتى بالمال، واستقصى حتى عرف أنه عند محمد بن عبد الله -قبل البعثة- فقال: يا محمد! سمعت أنك الوفي الأمين، وأنك وأنك... وأن ابني عندك، وقد جئت بفدائه، فاقبل منا الفداء. قال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال: أدعوه وأخيره بيني وبينكم، إن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فما أنا بمفادي من يختارني على أهله. قالوا: أنصفتنا. قال: إذا كان بعد العصر فقوموا في المسجد واطلبوا طلبكم، فجاء زيد وقال: والله لا أختار عليك أحداً أبداً. فقال أبوه: ويحك يا زيد ! أتختار الرق والعبودية على السيادة والحرية؟ قال: وكيف لا! والله مذ صحبته ما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله. يعني: وجدت عنده من الرحمة والرفق وحسن المعاشرة ما لم أجده عندك أنت.

    فحينما قال ذلك أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وطاف به حول الكعبة وقال: زيد ابني. وصار يقال له: زيد ابن محمد، حتى جاء القرآن وفصل القضية: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [الأحزاب:40] حتى ولا نسائكم وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] ، ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [الأحزاب:5].

    ثم جاءت القضية الثانية: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37] الزواج بالإجبار، بتكليف من الله، لم؟ هل تنقصه نساء أو زوجات؟ لا، لكنه زواج للتشريع لا لإرضاء الخاطر وإشباع الرغبة كما يقول السفهاء.

    وفي قوله تعالى: زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا [الأحزاب:37]، ويأتي هناك سياق القضية بمقدماتها وبأدلتها: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]، هذه قضية تشريعية، مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [الأحزاب:4] ، إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [المجادلة:2] وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4]، تأتي المقدمة بالواقع، لا يوجد واحد عنده قال....... وإن كان بعض الصحابة كان يقال له: (أبو قلبين)؛ لأنه كان جريئاً، لكن خلقة لا يوجد.

    وكذلك ما جعل الله الزوجة أماً، أمك واحدة التي ولدتك، فيأتي بقضيتين طبيعيتين مسلمتين ليبني عليها، وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4]؛ لأن الشخص له أب واحد، كيف تكون أنت أبوه وذاك أبوه؟ كما لم يكن للرجل قلبين لا يكون له أبوين، وكذلك لا يكون له أمين.

    البلاغة اللغوية في قوله: (وأكل ثمنه)

    من البلاغة والنوادر في الأسلوب العربي البليغ عند قوله: (باع حراً...) أنه لم يقل: وقبض ثمنه، وأخذ ثمنه، مع أن كل هذا يؤدي المعنى، ولكن قال: (فأكل)، وما خصوص الأكل؟ لماذا لم يقل: ولبس أو وركب؟ يشتري بعيراً أو ناقة أو لباساً.. لا؛ لأن الأكل من أخص خصائص الإنسان، وإذا لم يأكل يموت، ولكأن الحديث يشير إلى أن عملية بيع الحر ولو كانت لأشد ما يكون في الناس من مخمصة ليأكل حتى لا يموت، لكن أيضاً أنا خصمه، لست خصمه حينما يبيعه للترفيه، أو يبيعه للتمول وتخزين المال فقط، بل خصمه ولو باعه وهو في أشد الحاجة لأن يأكل حتى لا يموت، يعني وهو في حالة الاضطرار أنا أيضاً خصمه.

    بيع الحر عند العرب قديماً

    بيع الحر يقال: إنه كان موجوداً عند بعض القبائل: كان يباع أبناء الرجل في الدين عليه إذا عجز عن سداده، وهو موجود في القانون اليوناني والروماني: إذا بيعت المزرعة بيع معها الغلمان، وإذا استدان الرجل وعجز عن سداد الدين بيع هو أو أولاده في سداد الدين، وكان في بعض القبائل كذلك.

    وقد يحتال بعض الناس فيما بينهم على أن يبيع أحدهما الآخر، ويأخذون الثمن، ثم يهرب العبد، وجاء في بعض الأسفار عن نعيم ، وكان مضحكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صهيب مسئولاً عن الغذاء والتموين، فذهب وقال له: أعطني؛ أنا جائع. قال: اصبر حتى يأتي الجميع. قال: أعطني. فقال له: لا. قال: فتوعده، فعندما نزلوا بمنزلة ومرت قافلة من التجار ونزلوا قريباً منهم، أتاهم وقال: لدي عبد أتعبني، وكلما بعته هرب على المشتري ويقول: أنا حر.. أنا حر! ويفسد علي البيعة، وأريد أن أبيعه هذا المرة آخر بيعة، هل تريدون شراءه ولا تسمعون كلامه، وتقيدونه وتريحوني منه. قالوا: قبلنا، بكم؟ قال: بنصف القيمة. فباعه وقال لهم: أنا سأريكم إياه من بعيد، وخذوا معكم الحبل، فإذا أتيتموه سيقول لكم: أنا حر.. أنا حر. فاصنعوا به ما شئتم، ولو هرب أو رجع فلن أرد لكم الثمن. فذهبوا ومعهم الحبل، وقيدوه فصاح: أنا لست عبداً.. أنا حر. قالوا: نحن نعلم هذا!

    وأبو بكر رضي الله تعالى عنه كان غائباً، ثم جاء يسأل: أين فلان؟ قالوا: باعه فلان. قال: كيف بعته؟ قال: أطلب منه الأكل فلا يعطني.

    وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتسامح معه لأنه كان يتفكه به، فسأله: بكم بعته؟ قال: بعته بكذا. قال: أعطني المال، فأخذ منه المال وذهب إلى هؤلاء النفر فقال لهم: هذا الرجل الذي باعه لكم إنما هو عيار يمزح، وهذا هو أخونا وهو صاحب رسول الله. فتركوه ومضى به.

    (ورجل باع حراً) لماذا يكون الله خصمه؟ لماذا لا يكون الشخص بنفسه ويطالب بحقه؟ لأن العبودية حكم من الله، والحرية حق الله أعطاه للعباد، ولا تأتي العبودية إلا في أرض المعركة عقب قتال المشركين للمسلمين، فيؤخذ باسم الدين.

    من استأجر أجيراً ولم يعطه أجره

    [ (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) ].

    دائماً وأبداً الأجير في حالة ضعف مع المستأجر، فهو يأتي ويعمل مستوثقاً من المستأجر في دفع الأجرة، فعمل وانتهى وقت العمل واستوفى المستأجر العمل، أعطني الأجرة. قال: ليس الآن.. ليس الآن.. ليس الآن.. إلى أن تذهب الأجرة، استوفى حقه في العمل ولم يعطه أجره، فهذا المسكين الضعيف ماذا يصنع؟ هو أجير، والعادة فيه أنه ضعيف، فأنت استغللت ضعف قوته وشخصيته، وهو استعان عليك بالله، فتكون الخصومة بينك وبين الله سبحانه وتعالى في حق هذا الأجير.

    ونذكر هنا القصة المشهورة في النفر الثلاثة من بني إسرائيل الذين آواهم المبيت إلى الغار، ونزلت عليهم الصخرة وسدت فم الغار، قالوا: الآن لا أحد يعلم بنا -لم يكن هناك لاسلكي ولا (البيجر) ولا اتصالات، أنتم الآن في قبركم أحياء، لا يعلم بكم إلا الله، ولن ينجيكم منه إلا الله -هنا الشدة تمحص الحق- وليس لنا إلا أن نستشفع الله، ونتوسل إليه بصالح أعمالنا أن يكشف عنا... والقصة طويلة.. فواحد توسل ببر الوالدين، وواحد توسل بالتعفف عن الزنا، وقال الثالث: (اللهم إنه كان لي أجير، فأعطيته أجره صاعاً من شعير فاستقله وذهب وتركه، فأخذته وبعته، واشتريت عناقاً ونميته له حتى صار مالاً في الوادي، فجاءني بعد زمن وقال: أتعرفني؟ قلت: نعم، أنت الأجير فلان. قال: أعطني أجري. قال: قلت: اذهب إلى الوادي وانظر ما فيه من بهيمة الأنعام فخذه، فهو أجرك. قال: أتهزأ بي لأني مسكين؟! قال: لا -والله- إنه أجرك نميته لك حتى صار كذلك. فذهب فأخذ جميع ما وجد، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانكشفت عنهم الصخرة جزءاً)، وهكذا مع كل واحد توسل بصالح عمله تنكشف الصخرة جزءاً حتى انكشفت وخرجوا يمشون على وجه الأرض.

    فهذا هو حسن معاملة الأجير، والله سبحانه وتعالى جعل لذلك معلماً: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، تنزاح الصخرة بذاتها، هم الثلاثة لم يقدروا على زعزعتها، لكن انزاحت لما توجهوا إلى الله بصالح أعمالهم.

    إذاً: هؤلاء الثلاثة لهم حقهم، وواجب على الإنسان أن يعنى به، وإذا ما فرط فيه كان الله خصمه يوم القيامة.

    نسأل الله السلامة والعافية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756530942