الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ونشرع في تلخيص المناسك -مناسك الحج والعمرة- ونحيل التفاصيل في الفروع الفقهية إلى درس السبت والخميس إن شاء الله.
فالمقصود اليوم تبسيط المناسك بصورة عملية بحيث تسعف من يتعجل للسفر في هذه الأيام.
وأول ما ينبغي الكلام فيه: آداب السفر إلى هذه الفريضة.
فأول آداب السفر: أن يشاور الإنسان من يثق بدينه وعلمه وتقواه في أمر سفره، وأيضاً: أن يستخير الله تبارك وتعالى في هذا السفر، وذلك إذا لم يكن السفر فريضة.
من آدابه أيضاً: أن يعزم على التوبة والرجوع عن جميع المعاصي والمخالفات وأن يرد المظالم إلى أصحابها، فإن كان غصب مالاً أو اغتاب رجلاً، أو أخذ أي نوع من المظالم من صاحبها فعليه أن يرد هذه المظالم.
ثم أيضاً: يقضي من ديونه ما أمكنه أو يستأذن صاحب الدين عليه.
أيضاً من هذه الآداب: أن يرد الودائع إن كان عنده ودائع يحفظها للناس فيردها إلى أصحابها، حتى إذا قبض أو مات في سفره لم يطالب بها أمام الله.
أيضاً: يطلب المسامحة خصوصاً ممن كان يكثر مصاحبته ومعاملته من زوجة ووالدين وكذا.
أيضاً: يكتب وصيته إن كان له مال يوصي به ويشهد عليها، بشرط أن لا تزيد على الثلث، وأن يؤديها إلى أقاربه الذين لا يرثون، أو إلى جهة من جهات الخير.
يوكل من يقضي عنه من ديونه ما لم يتمكن من وفائه.
أيضاً: يترك لأهله نفقتهم إلى حين عودته، وأن يجتهد في إرضاء والديه، وتجتهد المرأة إذا سافرت في إرضاء زوجها والتوثق من مسامحته.
من ذلك أيضاً: الاستكثار من الزاد والنفقة بنية مواساة المحتاجين ممن يصحبونه أو يلقاهم في سفره.
منها: ترك المماحكة والمشاجرة والخلاف، وعدم المسامحة في البيع والشراء.
أيضاً من هذه الآداب: أن يختار الصحبة الصالحة كما قال بعض الناس: الرفيق قبل الطريق، فينبغي أن يختار ويتحرى في الصحبة التي تصحبه في الحج، فيختار الرفيق الموافق الذي يؤثر على نفسه ويحرص على راحة من يرافقه، ويا حبذا لو كان من أهل العلم أو ممن عنده علم بحيث يذكره إذا نسي ويعينه إذا ذكر.
من ذلك أيضاً: أن يؤمر القوم عليهم أميراً للسفر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانوا ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم).
ومنها: أن يحصل وسيلة مواصلات قوية ومريحة.
ومن هذه الآداب: أن يتعلم فقه الحج، وعلى الأقل يتعلم ما يصح به حجه، وما يفسد الحج وكيف يتجنبه وهكذا، فيجب أن يتعلم من الفقه ما يصحح به عبادته ومناسكه، وأيضاً يتعلم من الفقه ما يحصل به النوافل، وما يزيد الحسنات ويضاعف الثواب في مثل هذه التجارة العظيمة وفي مثل هذه المواضع المشرفة، فإن عجز عن ذلك فإنه يستصحب كتاباً شاملاً لمناسك الحج بحيث يدمن ويداوم على مطالعته أثناء سفره ما بين الوقت والآخر حتى يستوثق من أداء المناسك على وجهها، أو يصطحب عالماً يرجع إليه كلما احتاج.
من ذلك أيضاً: أن يجتهد في العبادة والذكر وأن يتفرغ لهما في هذه الرحلة.
من آداب السفر عموماً: أن يسافر يوم الخميس مبكراً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يسافر يوم الخميس، أما مبكراً فلقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها).
ويستحب المشي في السفر ليلاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بليل).
من آداب هذا السفر: التقشف والرق، فيتجنب الإنسان تحصيل الشهوات ولو كانت مباحة كالطعام الزائد والملابس الفخمة والاهتمام بالمظهر، بل ينبغي أن يكون متقشفاً ويتجنب الزينة والتبسط في الطعام والشراب وغير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم: (أتدرون من الحاج؟ الحاج الشعث التفل) الشعث الذي تفرق شعر رأسه، لأنه لا يهتم بمظهره ولا بهذه الأشياء، والتفل الذي لا يضع طيباً ولا بخوراً ولا مثل هذه الأمور.
أيضاً من آداب السفر: حسن الخلق مع الناس، لقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]
ومنها: تجنب المخاصمة والمخاشنة ومزاحمة الناس، بل ينبغي أن يكون الإنسان منضبطاً، ولا يكون سلوكه في حال إحرامه وفي حال انطلاقه في هذا السفر المبارك مثل سلوكه في دار الإقامة، لأنه صار في حالة تلبس بعبادة من أعظم العبادات ينبغي أن ينزهها عن جميع المخالفات؛ لقوله تبارك وتعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] كما سنبين إن شاء الله، فنهى الله تبارك وتعالى عن الرفث والفسوق والجدال.
والرفث هو النطق بالكلام الذي يتعلق بالجماع، وقيل: هو ذكر أحوال هذا الأمر ما بين الرجل وبين أهله ومواجهة النساء بذلك.
والفسوق هو جميع المعاصي من الخروج عن طاعة الله.
(( وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ )) أي: لا مماراة ولا مخاصمات ومجادلات تفضي إلى قسوة القلوب وإلى التفرق والشتات، فينبغي على الإنسان أن يكون.
والتلبس بالمعاصي ينقص ثواب الحج جداً، ويكفي أن التلبس بالمعاصي يحرم الإنسان من الثواب العظيم على الأقل وهو الثواب الذي ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فإذا وقع في الرفث أو الفسوق أو أي شيء من المعاصي فإنه يقدح في استحقاقه لهذا الثواب العظيم، فينبغي لهذا الإنسان أن يكون متيقظاً حذراً من وقوع المخالفات.
بل من العلماء -وهو الإمام ابن حزم رحمه الله- من أبطل حج من رفث أو فسق في حجه، فينبغي الاحتياط الشديد في ذلك.
من ذلك أيضاً: أن يحافظ على الأذكار؛ سواء الأذكار الموظفة أو الأذكار المطلقة، فإن هناك أذكاراً قيدت بوظيفة معينة ينبغي على الإنسان أن يحافظ عليها، فيستحب للمسافر عموماً أن يواظب على نفس الأذكار التي تستحب للمقيم في الليل والنهار واختلاف الأحوال كالأكل والشرب وعند النوم وعند الاستيقاظ، وعقب الصلاة، وغيرها من الأذكار الموظفة.
أما المسافر فيزيد أذكاراً أخرى منها: أنه يودع حينما يودع من يكونون في وداعه يقول لهم: (أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه) ، وفي بعض روايات الحديث: (أستودعكم الله الذي لا تخيب عنده الودائع) ففي الحديث: (إن الله عز وجل إذا استودع شيئاً حفظه) فلا ينسى الإنسان أن يستودع الله أهله وبنيه وكل من يكونون في وداعه بهذا الدعاء كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول المقيم للمسافر: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك).
أستودع الله: أي أتركها وديعة عند الله، وهي ثلاثة أشياء: دينك وأمانتك وخواتيم عملك.
المقصود بالأمانة هنا أهله ومن يخلفه، وماله الذي يتركه عند أمينه، وذكر الدين هنا، فقال: (أستودع الله دينك) أي: أن يحفظ عليك دينك ويبقى عنده وديعة لا تضيع في السفر؛ لأن السفر مظنة المشقة، فربما كانت هذه المشقة سبباً لإهمال بعض أمور الدين والتفريط فيها، فلذلك خص هذا الأمر قبل كل شيء.
قوله: (وخواتيم) جمع خاتمة، وهي ما يختم به العمل، أي يكون آخره، ودعا له بذلك لأن الأعمال بخواتيمها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم) فلذلك اهتم بهذه الثلاث: دينك وأمانتك وخواتيم عملك.
وحينما يبعد الإنسان ولا يكون تحت رقابة القوم الذين يعرفونه ويعرفهم، ربما كان الشيطان عليه أقوى، فلذلك سمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن حقيقة أخلاق الشخص وطباعه، فيحتاج إلى توفيق من الله وعصمة حتى لا يتردى مهاوي المخالفات.
أيضاً يقول المودع للمسافر بعد أن يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك؛ يقول له أيضاً: زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيثما كنت، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مسافر: (زودني، فقال: زودك الله التقوى. قال: زدني. قال: وغفر ذنبك. قال: زدني. قال: ويسر لك الخير حيثما كنت) ثم يقول المودع للمسافر: (عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف). الشرف: هو ما علا من الأرض، فهذه أيضاً كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم للمسافر.
وإذا كان سفر حج أو عمرة يقول له المقيم: (ادع الله لنا بخير) (ادع الله لنا بخير) فإذا ولى المسافر وانطلق دعا له المقيم قائلاً: اللهم اطو له البعد وهون عليه السفر؛ لأن السفر قطعة من العذاب كما قال صلى الله عليه وسلم.
فإذا أراد ركوب دابته، أي إذا المسافر أراد أن يركب المواصلات فوضع رجله في الركاب يقول: باسم الله. وإذا كانت سفينة قال: كما قال نوح عليه السلام: بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود:41] أي أن مجراها باسم الله ومرساها وهو منتهى سيرها كذلك.
وأيضاً يدعو كما دعا نوح عليه السلام لما ركب الفلك: رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [المؤمنون:29].
فإذا استوى واستقر على ظهر ما يركبه يقول: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف:13] * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:14] (مقرنين) أي مطيقين أو مقتدرين عليه، فنحن ما كنا نطيق قهر هذه الدابة واستعمالها لولا تسخير الله تعالى إياها لنا.
الإنسان إذا ركب جملاً فقوة الجمل لا تخفى، وإذا غضب الجمل وطاش كانت شدته وصعوبته عظيمة، فمن الذي ذلل الجمل بحيث يقوده طفل صغير؟ إن الذي ذللـه هو الله تبارك وتعالى، فنحمد الله على هذه النعمة، خاصة إذا كانت هناك نعم أعظم وأعظم، كركوب الطائرات أو السيارات أو ما إلى ذلك من الوسائل الحديثة التي وفرت الراحة وهي من نعم الله تبارك وتعالى علينا، فنشكر الله على هذه النعمة وهذا التيسير!
فيقول: الحمد لله، سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف:13] * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:14]، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
النبي صلى الله عليه وسلم لما علمهم هذا الدعاء ضحك بعدما قال: (سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فقال له أمير المؤمنين
ويقول أيضاً: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا بنصحك واقلبنا بذمة، اللهم اذو لنا الأرض وهون علنيا السفر) الذمة: العهد، والذمام العهد والأمان، اللهم اقلبنا: أي: أرجعنا إلى أهلنا (بذمة) أي: بعهد وأمان وضمان منك أن نعود آمنين سالمين.
ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل)، وعثاء السفر شدته ومشقته وتعبه.
(وكآبة المنظر) الكآبة هي الحزن والتغير والانكسار من مشقة السفر، وما يحصل على المسافر من الاهتمام بأموره.
(وسوء المنقلب) سوء الانقلاب إلى أهله بعد السفر، وذلك بأن يرجع مهموماً أو منقوصاً ومهموماً بما يسوءه، فيتعوذ الإنسان من سوء المنقلب.
ويقول أيضاً: (اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال) الحور هو النقصان والرجوع، والكور أو الكون المقصود به الرجوع من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية، أي: الرجوع من شيء إلى شيء من الشر، أو الرجوع من الاستقامة والزيادة إلى الاعوجاج والنقص، فهذا معنى الكون في قوله: (أعوذ بك من الحور بعد الكون)، ومن رواه بالراء (أعوذ بك من الحور بعد الكور) فالمقصود به هنا الزيادة، مأخوذ من تكوير العمامة، فكلما كورها زادت، والمقصود التعوذ من الانتقاص بعد الزيادة والاستكمال، ورواية الكون معناها مأخوذ من الاستقرار والثبات، فالمراد التعوذ من النقصان والتغيير بعد الثبات والاستقرار حتى لا يتحول قلبه وينقص في دينه.
وإذا علا الثنايا كبر وإذا هبط سبح: أي: إذا ارتفع فوق جبل يكبر وإذا هبط في الوديان يسبح، فأولى إذا ركب الطيارة أن يكثر من التسبيح، وإذا عثرت دابته، أو تعطلت السيارة أو شيء من هذا يقول: باسم الله.
وإذا نزل منزلاً قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه إذا قال ذلك لن يضره شيء، ولما كان لا يجوز وصف أي شيء من كلام الله بالنقصان تعوذ صلى الله عليه وسلم بكلمات الله التامة؛ لأنها ليس فيها نقصان ولا عيب كما يكون في كلام الآدميين، وقيل: معنى التامات أن ينتفع بها المتعوذ وتحفظه من الآفات.
وإذا أتى عليه السحر وهو الجزء الأخير من الليل قال: (سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا؛ عائذاً بالله من النار) كما كان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
(سمع سامع): المقصود فليشهد الشاهد، أو ليسمع السامع وليشهد على حمد الله سبحانه وتعالى على نعمه وحسن بلائه.
وقيل معناه: انتشر ذلك وظهر وسمعه السامعون أن نعم الله علينا قد ذاعت وكثرت وترادفت بحيث علم بها الجميع، فسمعها السامعون وشهد الشاهدون.
(وحسن بلائه علينا): المقصود بالبلاء حسن بلاء النعمة، والبلاء الاختبار والامتحان، فالبلاء بالقول ليتبين به الشكر، والابتلاء بالشر ليظهر الصبر.
(ربنا صاحبنا): أي احفظنا؛ لأن من صحبه الله لم يضره شيء.
(عائذاً بالله من النار): تحتمل وجهين: أحدهما أن يريد أنا عائذ بالله من النار. أو يقول: أنا متعوذ بالله من النار.
فعلى المسافر أن يكثر من الدعاء، وهذا من أهم آداب السفر التي يقصر فيها كثير من الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده) جعل منهن صلى الله عليه وسلم دعوة المسافر، فالمسافر ينبغي أن يكثر من الدعاء؛ لأن دعوة المسافر مستجابة.
وعلى المسافر أيضاً أن يكون على دراية بأحكام الطهارة والصلاة وما يحتاج إليه من الرخص أو الفقه الخاص بجمع الصلاة، والمسح على الجورب، وهكذا ما قد يحتاج إليه من الأحكام في سفره.
فهذا فيما يتعلق بآداب السفر.
هناك بعض التنبيهات تتعلق بالمناسك، وهي بعض المخالفات التي يقع فيها كثير من الناس، أعظمها بلا شك الوقوع في بعض الشركيات التي لا تليق بالمسلم الموحد، فيستغيث بعض الناس بغير الله، ويستعينون بالأموات من الأنبياء أو الصالحين ويدعونهم من دون الله، أو يحلفون بهم تعظيماً لهم فيبطلون بذلك حجهم؛ لقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
ينبغي أن يعبد الله وحده لا شريك له، لا يشرك الإنسان مع الله أي شيء من الملائكة أو النبيين أو الصالحين؛ لقوله تعالى، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]، ويقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فإذا كنا بصدد التحذير من المعاصي في الحج، فأولى ثم أولى أن يحذر المسلمون الوقوع في الشرك، للأسف كثير من المسلمين يقعون في أشياء وهذا مشتهر ومعروف، وهو من الشرك، وقد يكون شركاً أكبر كهذه النماذج التي ذكرناها.
أيضاً بعض الناس يتزينون بحلق اللحية، وهذه معصية، والإصرار عليها يجعلها من الكبائر؛ لأنها ضمن الفسق: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197] الفسوق ذكرنا أنه يدخل فيه جميع المعاصي، فمن المعاصي المحرمة في الحج وفي غير الحج، في حالة الإحرام وفي غير الإحرام أن يحلق الإنسان لحيته مضادة لأمر الله تبارك وتعالى، فهذا مما يشيع أيضاً في المسلمين في هذا الزمان، معاندة لأمر الله تبارك وتعالى.
والأدلة باختصار شديد جداً على تحريم هذه المعصية:
أولاً: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها حيث قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ويقول تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36]، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام ظاهره الوجوب، فينبغي امتثاله وعدم التحذلق والتنطع والتفلسف لإبطال أمر النبي وتعطيله.
الأمر الثاني: أن في حلق اللحية تغييراً لخلق الله بدون إذن من الشرع، فالهيئة التي خلقك الله عليها ينبغي أن تحافظ عليها فلا تغيرها، إلا ما ورد الدليل باستثنائه، فهذا يجوز تغيير خلق الله فيه، بل قد يجب.
من ذلك مثلاً نتف الإبط وحلق العانة، والختان، وتقليم الأظفار، كل هذا تغيير لخلق الله، لكنه تغيير بأمر من الشارع؛ لأنه من خصال الفطرة.
والذي يأمر بتغيير خلق الله هو الشيطان قال تعالى عنه: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119]، فحلق اللحية فيه تغيير لخلق الله.
وأيضاً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن النساء، قال: (لعن الله النامصات والمتنمصات والواشمات والمستوشمات والمتفلجات بالحسن المغيرات خلق الله)
فإذا كان قد حرم على النساء أن يتزين بهذه الأنواع من الزينة المحرمة التي فيها تغيير لخلق الله، فأولى أن يحرم ذلك على الرجال.
الأمر الثالث: أنها من سنن الفطرة، سنن الفطرة بعضها واجب، وبعضها قد يكون في وجوبه خلاف، ولكن على الأقل ينبغي الاستمساك بفطرة بالفطرة وسنن الأنبياء وما كانوا عليه أجمعون.
ومن ذلك أن في حلق اللحية تشبهاً بالنساء، فالله عز وجل خص الرجال على النساء بوجود اللحية في وجوههم، بل اللحية من نعم الله تبارك وتعالى على الرجال، فحلقها كفر بهذه النعمة؛ لأنها من خصال الذكورة والفحولة والرجولة، وقد (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من النساء بالرجال، والمتشبهات بالرجال من النساء).
أيضاً: في حلق اللحية تشبه بالكفار، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (خالفوا المجوس -أو خالفوا المشركين أعفوا اللحى وأحفوا الشوارب).
ورد الأمر بإعفاء اللحية بخمس صيغ: (أعفوا اللحى، أوفوا اللحى، أرجوا اللحى، أرخوا اللحى، وفروا اللحى)، ومعناها كلها تركها على حالها لا يقربها. والأدلة في هذا الأمر كثيرة، والكلام في هذا يطول، لكن مما يؤسف له أن المسلم قد يموت قريبه فإذا أراد أن يظهر الجزع والحزن ترك لحيته، إظهاراً للجزع لا طاعة لله ورسوله أو انصياعاً وراء الآراء الفاسدة والتقاليد الفاسدة.
أيضاً من ذلك شيوع لباس خاتم الذهب:
كثير من الرجال يلبسون خاتماً من ذهب أو ساعة أو نظارة ذهب، فهذا الأمر شائع جداً، وبالذات ما يعرف بدبلة الخطوبة أو خاتم الزواج، هذا بجانب أنه محرم على الرجل أن يلبس خاتماً من الذهب ففيه تشبه بالنصارى من الكفار، فيحرم على الرجل لبس خاتم الذهب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الذهب والحرير: (هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها).
أيضاً لما رأى في إصبع رجل خاتماً من ذهب نزعه من إصبعه صلى الله عليه وسلم وألقاه في الأرض، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في إصبعه، فألقاها، فبعدما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قال الناس للرجل: خذه فانتفع به، قال: لا آخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسل).
منها: الاغتسال للإحرام ودلك الرأس، ففي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن حنين عن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة : (أنهما اختلفا بالأبواء، فقال
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ربما قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعال أباقيك في الماء أينا أطول نفساً! ونحن محرمون.
وكأنهما كانا في البحر أو نحوه، فينظر أيهما أطول بقاء في الماء إذا غطس، كنوع من الترفيه أو المزاح.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عاصم بن عمر وعبد الرحمن بن زيد وقعا في البحر يتناقلان -يعني: يتغاطسان يغوص أحدهما رأس صاحبه- وعمر ينظر إليهما فلم ينكر ذلك عليهما.
ومن الأمور التي لا حرج فيها حك الرأس ولو سقط منه بعض الشعر، ويدل عليه حديث أبي أيوب الذي ذكرناه في اغتساله أنه جعل الرجل يصب على رأسه وهو يحرك رأسه بيديه
فأقبل بهما وأدبر، مع احتمال أن تسقط شعرة أو عدة شعرات.
وروى مالك عن أم علقمة ابن أبي علقمة أنها قالت: سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسأل عن المحرم: أيحك جسده؟ فقالت: نعم، فليحككه وليشدد، ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجلي لحككت، يعني برجلها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وله أن يحك بدنه إذا حكه، وكذلك إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره.
أيضاً من الأمور الجائزة للمحرم: الاستظلال بالخيمة أو المظلة، وأيضاً يستظل بالسيارة، وبعض المتنطعين وهم الرافضة الشيعة يتنطعون في هذا الأمر فتجد الأتوبيسات التي يسافرون فيها قد أزالوا منها السقف، وهذا من ضلالهم ومن تنطعهم وابتداعهم في الدين، فهذا لم يأذن به الله عز وجل؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنصب القبة له بنمرة ثم نزل بها وهو محرم.
وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: (حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت
وله أن يشد المنطقة والحزام على إزاره، لا بأس أن يضع حزام حول وسطه، وله أن يعقده عند الحاجة، وأن يتختم، وأن يلبس ساعة اليد، ويضع النظارة لعدم النهي عن ذلك: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64]، وعن عائشة رضي الله عنها: (أنها سئلت عن الهميان للمحرم -وهو شيء مثل الحزام توضع فيه النقود- فقالت: لا بأس به ليستوثق من نفقته) أي: حتى يستوثق ويضمن أنه حافظ على نفقته وماله، فيحتاج المحرم لمثل هذا حتى يحافظ على المال.
وعن عطاء قال: (يتختم المحرم ويلبس الهميان). رواه البخاري تعليقاً، فلا شك أن الساعة والنظارة في معنى الخاتم والمنطقة، مع عدم ورود ما ينهى عنه، قال الله عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
فهذه بعض التنبيهات على أشياء يتحرج منها بعض الناس.
أيضاً: يجوز الاحتجام ولو بحلق الشعر التي في مكان الحجم؛ لحديث ابن بحينة رضي الله عنه قال: {احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم في موضع بطريق مكة في وسط رأسه}.
أيضاً من ذلك: شم الريحان، وطرح الظفر إذا كان طويلاً فانكسر؛ لكن لا يستأنف هو قص أظافره.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: المحرم يدخل الحمام، وينزع ضرسه، ويشم الريحان، وإذا انكسر ظفره طرحه، ويقول: أميطوا عنكم الأذى فإن الله عز وجل لا يصنع بأذاكم شيئا.
وعن محمد بن عبد الله بن أبي مريم أنه سأل سعيد بن المسيب عن ظفر له انكسر وهو محرم، فقال سعيد : اقطعه.
قبل الإحرام ينبغي للإنسان أيضاً أن يلاحظ هذه الأمور.
أولاً: يستحب لمن عزم على الحج أو العمرة المفردة أن يغتسل للإحرام ولو كانت حائضاً أو نفساء، فهذه أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وأن تستثفر، وهذا مجرد تنظف وليست طهارة، لأنها إذا حاضت أو نفست واغتسلت هل هذا يطهرها ويجيز لها الصلاة؟ كلا، لكن مع ذلك أمرها عند الإحرام بأن تغتسل، فغير الحائض والنفساء أولى.
فيستحب للإنسان أن يغتسل غسل الإحرام قبل أن يحرم، ثم يلبس الرجل ما شاء من الألبسة التي لم تفصل على قدر الأعضاء وهي التي يسميها الفقهاء الثوب المحيط، وهو الشيء الذي يفصل على قدر العضو، كأن تقول هذا كم، وهذا سروال، وهذا كذا.
فعلى المحرم أن يلبس أشياء غير مفصلة على قدر العضو، وذلك كالإزار والرداء في هيئته، ويلبس النعلين، وهنا كل ما يلبس على الرجلين لوقايتهما مما لا يستر الكعبين فهو جائز، والكعبان هما العظمان الناتئان في جانبي القدم، فهذا هو الأولى؛ لكن إذا لم يجد نعلين فإنه يلبس خفين.
ولا يغطي الرجل رأسه بشيء مما يستر الرأس بطريقة مباشرة لا قلنسوة ولا عمامة، أما المرأة فلا تنزع شيئاً من لباسها، إلا أنها تمنع من أمرين: من النقاب، ومن القفاز: كما قال صلى الله عليه وسلم، في الحديث: (لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوب مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليلبس الخفين)، وقال: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين)، لكن ليس معنى هذا أن المرأة تكشف وجهها، فهذا النهي ليس عن تغطية الوجه والكفين مطلقاً، وإنما هو عن تغطيتهما بلباس معين وهو النقاب أو القفاز، لكن إذا مر بها الرجال فلتستتر بأن تسدل جلبابها على وجهها وأن تسدل كمها حتى يستر كفها.
فلا يفهم من الحديث أن المرأة تكشف الوجه والكفين أمام الأجانب وهي محرمة، وإنما المقصود أن إحرام المرأة في الوجه والكفين وأن وجه المرأة مثل بدن الرجل لا مثل رأسه، لو قلنا إن وجه المرأة وكفيها مثل رأس الرجل لوجب عليها أن تكشفه في كل وقت في الإحرام، لكن الصحيح أن وجه المرأة وكفيها مثل بدن الرجل يغطى لكن لا بمخيط، كذلك وجه المرأة وكفيها يغطيان لكن لا بمخيط وهو القفاز؛ لأن القفاز مخيط، وكذلك النقاب يقطع على قدر الوجه، فهذا أيضاً لا يلبس، لكن ستر وجهها كما كانت النساء يفعلن في صحبة عائشة رضي الله عنها في الإحرام. تقول أسماء : (كنا إذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا) فيفهم من هذا أنها تسدل سدلاً، لكن لا تستعمل النقاب، والنقاب هو قطعة تغطي الجبهة، وقطعة تأتي على عظمة الأنف وما تحته، فبالتالي تظهر العينان، فالنقاب من النقب وهو الثقب ويسمى أيضاً البرقع، أما إذا جعلت النقاب على طرف الأنف فيسمى اللثام، فالمقصود أنها تستر وجهها وكفيها، لكن لا بالنقاب، وتغطي يديها لكن ليس بالقفاز، هذا بالنسبة لإحرام المرأة، والله أعلم.
وللمرأ أن يلبس الإحرام قبل الميقات ولو في بيته، لكن ليس معنى ذلك أنه يصير محرماً، لأنه لا يكون محرماً إلا بالنية، فالإزار والرداء يلبسه الإنسان في أي حالة عادية، كذلك امتناعه عن محظورات الإحرام ليس إحراماً، فلابد من النية، فله أن يلبس الإحرام قبل الميقات ولو في بيته كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فهذا فيه تيسير على الذين يحجون بالطائرة، فلا يحتاجون إلى تغيير الملابس ولبس الإزار والرداء فيها، فلا بأس أن يلبس في المطار الإزار والرداء، لكن لا يحرم إلا قبل أن يصل الميقات بيسير حتى لا يفوت الميقات وهم غير محرمين.
أيضاً المحرم بعدما يغتسل غسل الإحرام يدّهن ويتطيب في بدنه لا في ثوبه، وطيب الرجل في بدنه يكون في اللحية والرأس، لكن الرجل لا يضع الطيب في جبهته ووجنتيه هذا للنساء، أما الرجل فيضع الطيب في شعره وفي لحيته أو في بدنه عامة بأي طيب شاء له رائحة ولا لون له، أما النساء فطيبهن ما له لون ولا رائحة له، هذا كله قبل أن ينوي الإحرام.
فهو في الحقيقة سوف يستديم الطيب ولم يستأنف الطيب، لأنه بعد اغتسال غسل الإحرام يضع الطيب، ثم يحرم بعد قليل، فيبقى أثر الطيب بعد إحرامه؛ وهذا لا يعد محذوراً، لكن لو أنه مسح الطيب من رأسه ووضعه في أي موضع آخر، فإنه يعتبر قد ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام وعليه دم؛ لأنه بهذا النقل كأنه استأنف تطييب هذه المنطقة، لكنه لو سال بفعل العرق أو نحوه فلا بأس.
فاستبقاء أثر الطيب الذي وضعه وهو حلال قبل أن يحرم لا حرج فيه، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كأني أرى وبيص الطيب في مفرقه صلى الله عليه وسلم وهو محرم) أي: كان يلمع طيب المسك في مفرقه وهو محرم، فدل على أن أثر الطيب يبقى، وكان هذا استدامة وليس استئنافاً للطيب، لكن متى ما أحرم يحرم عليه أن ينقل الطيب من موضع إلى موضع.
فإذا وصل الميقات المكاني وجب عليه أن يحرم، ولا يكون ذلك بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته؛ لأن نية الحج موجودة وهو خارج من بيته، فالمقصود أن توجد نية الإحرام بجانب التلبس بالأمور المختصة بالإحرام وبالذات التلبية، فالقصد مازال في القلب منذ خرج من بلده، فلابد مع القصد من قول أو عمل يصير به محرماً، فإذا لبى قاصداً للإحرام انعقد إحرامه اتفاقاً، وذلك أنه بمجرد أن يصل الميقات يقول: لبيك اللهم لبيك ويستمر في التلبية ناوياً الإحرام.
ولا يقول بلسانه شيئاً بين يدي التلبية من البدع والعبادات المخترعة التي يقولها الناس في ذلك الموطن، مثل قولهم: اللهم إني أريد الحج أو العمرة فيسره لي وتقبله مني.. إلى آخره؛ لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقول: إني نويت الحج والعمرة، وبعض العلماء يستحبها حتى لا ينسى، ولكن الأقرب أن هذا التلفظ بالنية لم يثبت من فعله صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة والطهارة والصيام وغيرها.
أما المواقيت المكانية فهي خمسة مواقيت: ذو الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل، ويلملم، وذات عرق، (هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة، ومن كان منزله دونه فمهله من منزله، حتى أهل مكة يهلون من مكة).
هذه المواقيت حددها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لمن قصد مكة للنسك أن يتجاوزها بدون إحرام.
أما ذو الحليفة فهو مكان معروف يبعد عن المدينة المنورة حوالي أحد عشر كيلو متر، ويبعد عن مكة أربعمائة وخمسين كيلو متر، وهو أبعد ميقات.
الجحفة كانت تسمى من قبل المهيعة أو المهيعة، وهي تبعد عن مكة مائتي كيلو متر، والجحفة الآن قد انقرضت، وأصبح الناس يحرمون من مكان قبلها بقليل يسمى (رابغ)، وهو ميقات أهل المغرب والقادمين من مصر.
وقرن المنازل يبعد عن مكة أربعة وتسعين كيلو متر، ويلملم يبعد أربعة وخمسين، وذات عرق تبعد أربعة وتسعين كيلو متر.
فهذه المواقيت لأهلهن، أي: لمن يدخل هذه الأماكن، ولمن مر عليهن من غير أهلهن، أي: بغض النظر عن جنسيته، مثلما لو أن مصرياً يعيش في اليمن فذهب للعمرة من اليمن فإنه يحرم من يلملم.
والذي يكون في مكان أقرب لمكة من الميقات فميقاته من مكانه، وهو معنى قوله: (وأهل مكة يهلون من مكة) أما ذو الحليفة فهو مكان قريب من المدينة المنورة بينه وبينها أحد عشر كيلو متر، ويسمى وادي العقيق، والمسجد هناك يسمى مسجد الشجرة، وفيها بئر، ويسميها جهال العامة أبيار علي يزعمون أن علي بن أبي طالب قاتل الجن في هذا المكان، وهذا من خرافاتهم وأكاذيبهم.
فإذا أتى الميقات وأراد الإحرام نوى بقلبه العمرة أو الحج، فإذا استوى على الدابة وابتدأ السير استقبل القبلة وحمد الله وسبح وكبر ثم قال: لبيك اللهم بعمرة إن كان معتمراً أو متمتعاً، أو: لبيك اللهم بحجة وعمرة إذا كان قارناً قد ساق الهدي، أو: لبيك اللهم بحجة إذا كان مفرداً.
وللمرأ أن يشترط إذا كان مريضاً يخشى الوجع، ويخاف أن صحته لا تساعده فيضطر للرجوع، فيقول: لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني، ويقول: اللهم هذه عمرة، أو اللهم هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة، ثم يرفع صوته ملبياً بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينوي النسك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك، فيكررها، ويستحب ألا يزيد عليها، لكن يجوز أن يزيد زيادات أخرى كما كان بعض الصحابة يقولون: لبيك إله الحق لبيك. أو يزيد مثلاً: لبيك ذا المعارج، ولبيك ذا الفواضل، أو: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك والرغباء إليك والعمل، فهذا جائز فقط لا مستحب فلا تنكر على من فعل هذا، لكن الأفضل أن تلزم تلبية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الصيغة المشهورة المعروفة، فيلزم التلبية ويحافظ عليها؛ لأنها من شعائر الحج.
والتلبية مأخوذة من لبى، بمعنى أجاب، فكلمة لبيك معناها تلبية بعد تلبية، فمعناها هنا المسمى، وتسميتها للتكثير أي إجابة لك بعد إجابة ولزوماً بطاعتك، يقول الإمام النووي رحمه الله: اتفق العلماء على استحباب التلبية، ويستحب الإكثار منها في دوام الإحرام، وتستحب قائماً وقاعداً وراكباً وماشياً وجنباً وحائضاً، ويتأكد استحبابها في كل صعود وهبوط، وحدوث أمر من ركوب أو نزول أو اجتماع رفقة أو فراغ من صلاة، وعند إقبال الليل والنهار ووقت السحر، وغير ذلك من تغاير الأحوال.
وليس للإحرام صلاة تخصه كما يتوهم كثير من الناس، لكن السنة أن تحرم بالحج أو العمرة عقب صلاة فرض أو نافلة؛ لكن ليس هناك سنة مستقلة للإحرام، فإذا كان الإحرام في وقت من أوقات النهي عن الصلاة فلا تصلى ركعتين تنفلاً بنية الإحرام؛ لأنهما ليستا من ذوات الأسباب، لكن السنة أن يكون الإحرام عقب صلاة فرض أو نافلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم عقب صلاة الظهر، لكن إذا كان ميقات الشخص من ذي الحليفة استحب له أن يصلي في هذا المكان عند ذي الحليفة لا لخصوص الإحرام وإنما لخصوص المكان وبركته.
فقد روى البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة، أو عمرة وحجة).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأي -وفي رواية: أري- وهو معرس بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له: إنك ببطحاء مباركة) فلذلك أمر بالصلاة في هذا المكان.
فمن كان ميقاته من ذي الحليفة فلا بأس أن يصلي في هذا الوادي لخصوص الوادي المبارك وليس لسنة الإحرام.
من ذلك أيضاً تغطية المحرم الذكر رأسه، فهذا أيضاً لا يحل له في الإحرام.
ومن ذلك أن يلبس أي شيء يحيط بالبدن أو بعضه وأي شيء يغطي الرأس، فلا يجوز للمحرم لبس القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا الخف أيضاً، إلا إذا لم يجد نعلاً فإنه يجوز له لبس الخفين.
كذلك إذا لم يجد إزاراً فيجوز له لبس السراويل.
كذلك لا يجوز له أن يلبس ثوباً مسه ورس أو زعفران، والزعفران هو صبغة صفراء، وهذا في حق الرجال، وكما ذكرنا أن النساء يلبسن ما شئن من أنواع الثياب إلا أنه لا يجوز لهن أن ينتقبن ولا أن يلبسن القفازين، وهذا هو معنى قولنا: إحرام المرأة في وجهها وكفيها.
من ذلك أيضاً عقد النكاح، فلا يجوز للمحرم أن يتزوج ولا أن يزوج غيره في حالة الإحرام، سواء كان بوكالة أو بولاية، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم.
ما هي الأشياء التي تحرم على الإنسان بالإحرام حتى يحل من إحرامه؟
أول ذلك ما جاء في قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، والرفث كامن في أمرين: مباشرة النساء بالجماع ومقدماته والكلام بذلك.
والفسوق في الآية كامن بجميع أنواع الخروج عن طاعة الله تبارك وتعالى، فأي معصية فسق.
والجدال: المخاصمة والمراء حتى يغضب صاحبه.
من ذلك أيضاً ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه من حلق شعر الرأس: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] فحلق شعر الرأس أو شعر البدن عموماً من المحظورات.
بعد ذلك يستقبل القبلة ثم يلبي بالعمرة أو بالحج كما ذكرنا، فيقول: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة، ويلبي بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمر المحرم برفع صوته بالتلبية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الحج العج والثج) وهو رفع الصوت بالتلبية. والثج هو: ثوران دماء الهدي والأضاحي، فهذا من أفضل مناسك الحج، ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته يصرخون بالتلبية صراخاً يرفعون أصواتهم.
قال أبو حازم : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحرموا لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم.
لكن لا تكون التلبية بصوت جماعي كما يفعل الناس، القاعدة أنه حيثما شرع الجهر بالذكر فلا يكون بصورة جماعية، سواء في ختام الصلاة أو غيرها كما هو أقرب للأدلة.
كذلك في تكبيرات العيد كل إنسان يكبر وحده، وليس بالصورة الجماعية الموجودة الآن، فهذه من البدع.
كذلك أيضاً التلبية شرع فيها الجهر بالذكر، فمن البدعة، أو من ليس من السنة أن يلبي الناس بصوت واحد في جماعة، لكن كل شخص يلبي وحده.
والنساء يلبين كما يلبي الرجال، لكن لا يشرع للمرأة أن ترفع صوتها خشية الفتنة، وإن كان قد وردت آثار أن عائشة رضي الله عنها سمعت وهي تلبي.
ويواظب على التلبية ولا يقصر فيها؛ لأن ثواب التلبية عظيم جداً، والتلبية من شعائر الحج، ومن تعظيم شعائر الله أن تواظب على التلبية طوال فترة الإحرام، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من شجر وحجر حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا)، يعني عن يمينه وشماله؛ وبخاصة كلما علا شرفاً أو هبط وادياً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطاً من الثنية له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية) وفي حديث آخر: (كأني أنظر إليه إذ انحدر في الوادي يلبي).
ويجوز أن تخلط التلبية بالتهليل، أي: بلا إله إلا الله وحده لا شريك له.. إلى آخره، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتلبية أو تهليل، فإذا بلغ الحرم المكي ورأى بيوت مكة أمسك عن التلبية).
وبعض العلماء يقول: إن من كان محرماً بالعمرة قطع التلبية عند وصوله إلى الحجر الأسود، أما الحج فيلبي باستمرار ولا تنقطع التلبية إلا عند رمي جمرة العقبة.
من السنة أن يغتسل لدخول مكة قبل الدخول، ويدخل نهاراً أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل من الناحية العليا التي فيها اليوم باب المعلا، فإنه صلى الله عليه وسلم دخلها من الثنية العليا، ثنية كداء المشرفة على المقبرة عند الحجون، ودخل المسجد من باب بني شيبة فإن هذا أقرب الطرق إلى الحجر الأسود، فيتحرى أن يدخل من باب يوصله مباشرة إلى الحجر الأسود، وله أن يدخل مكة من أي طريق شاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل فجاج مكة طريق ومنحر) وفي حديث آخر: (مكة كلها طريق يدخل من هاهنا ويخرج من هاهنا).
فإذا دخل المسجد فيراعي آداب دخول المسجد الحرام، فيقدم رجله اليمنى ويقول: (اللهم صل على محمد وسلم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم)، فإذا رأى الكعبة يجوز أن يرفع يديه؛ لأن ذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع والمهابة والإجلال، ويدعو بما تيسر له أو يدعو بدعاء عمر رضي الله عنه حينما رأى الكعبة قال: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام).
قوله: (اللهم أنت السلام) أي: أنت الذي اسمك السلام، وهو من أسماء الله الحسنى. (ومنك السلام) أي: منك تأتي السلامة من الآفات والبلايا. (فحينا ربنا بالسلام) أي: اجعل تحيتنا في وفودنا عليك السلامة من الآفات.
فإذا أتى الحجر الأسود أمسك عن التلبية، بعض العلماء كما ذكرنا يقول إذا أتى بيوت مكة قطع التلبية؛ لأنه حينئذ ينشغل بأمور أخرى حيث يعتني بمتاعه وإيداعه في مكان أمين إلى غير ذلك.
أيضاً بعد ذلك يبدأ في طواف القدوم، وإذا كان معتمراً فإنه ينوي طواف العمرة، والقارن أيضاً ينوي طواف العمرة.
وصفة الطواف: أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود، وهناك شيء يسهل الطواف وهو أنه يوجد خط بني من الرخام مقابل الجهة التي عندها الحجر الأسود فيبدأ الشوط منها، فيستقبل الحجر الأسود، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر، فإذا واجهه استلمه بيديه، يقول: باسم الله والله أكبر ثم يقبله، ثم إن شاء سجد عليه، هذه هي الصورة المثلى لاستلام الحجر الأسود، فيستقبله ويستلمه بيديه ثم يقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر، وذلك بحيث يكون جميع الحجر عن يمينه ويكون منكبه الأيمن عند طرف الحجر، ويتحقق أنه لم يبق وراءه جزء من الحجر، ثم يبتدئ طوافه ماراً بجميع بدنه على جميع الحجر جاعلاً يساره إلى جهة البيت، ثم يمشي طائفاً بالبيت، ثم يمر وراء الحِجْر، ويدور بالبيت فيمر على الركن اليماني، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود وهو المحل الذي بدأ منه طوافه، فتتم له بهذا طوفة واحدة، ثم يفعل ذلك حتى يتمم سبعة أشواط، وكلما مر بالحجر الأسود يستلمه ويقبله ويسجد عليه إن استطاع، وإن لم يستطع فيستلمه ويقبله، فإن لم يستطع يستلم بيديه ويقبل يديه، فإن لم يستطع فيشير إليه من بعيد ويقول: باسم الله والله أكبر.
أما في الركن اليماني فليس عنده ذكر معين، لكن يستلمه فقط بدون ذكر، وإذا لم يستطع فلا يشير إليه، هذا بالنسبة للركن اليماني الذي من الجهة اليمانية.
ويقول الشنقيطي رحمه الله: أصح أقوال أهل العلم أنه لابد أن يكون جميع بدنه حال طوافه خارجاً عن شاذوران الكعبة؛ لأنه منها، وكذلك لابد أن يكون جميع بدنه حال طوافه خارجاً عن جدار الحجر؛ لأن أصله من البيت، ولكن لم تبنه قريش على قواعد إبراهيم؛ لأجل ذلك لم يشرع استلام الركنين الشاميين، وإذا صليت داخل الحجر فأنت تصلي داخل الكعبة.
وهناك سنن في طواف القدوم أو طواف العمرة الذي تفعله أول ما تقدم إلى مكة: فيسن حينما تقترب من الكعبة وقبل ما تبدأ الطواف الاضطباع، والاضطباع هو كشف الضبع وهو أعلى الذراع أو أعلى الكتف، بأن يرد الرداء على كتفه الأيسر ويكشف الأيمن.
بعض الناس حينما يحرمون من الميقات يضطبعون، وهذه بدعة مخالفة للسنة، فلا يتصورون إحراماً إلا بكشف الكتف، والاضطباع إنما يكون عند طواف القدوم فقط، وفيما عدا ذلك لا اضطباع، فإذا فرغ من الطواف فلابد أن يغطي كتفه؛ لأنه سيصلي.
ويسن أيضاً في الثلاثة أشواط الأولى من طواف القدوم الرمل، والرمل: هو عبارة عن تقارب الخطى مع الإسراع في المشي.
وحكمة تشريع الرمل أن الصحابة لما أتوا للعمرة منعوا في الحديبية، وفي العام المقبل أتوا ليعتمروا، فكان المشركون يتهمونهم بالضعف حتى قالوا: أتاكم قوم قد أنهكتهم حمى يثرب، فكانوا يظهرون الشماتة في الصحابة أن حمى المدينة قد أنهكتهم وأمرضتهم، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يظهر الجلد والقوة حتى لا يشمت المشركون، فأمرهم أن يسرعوا في الخطى حتى يظهروا الجلد والقوة وأنهم في عافية، ثم بقي هذا الحكم مع أن علته قد زالت بتمكين المسلمين من الفتح، فهذا لا ينافي أن هناك علة أخرى لهذا الحكم، وهذه العلة هي أن يتذكر المسلمون نعمة الله عليهم بالقوة بعد الضعف وبالكثرة بعد القلة.
ويشترط للطواف الطهارة من الحدث والخبث وستر العورة.
فمجمل ما يفعله في طواف القدوم أن يبادر إلى الحجر الأسود فيستقبله استقبالاً فيكبر، والسنة أن يقول: الله أكبر، وهذا قد ثبت في الحديث المرفوع، أما التسمية فهي ليست في حديث مرفوع ولكنه موقوف على ابن عمر ، فلا بأس أن يقول: باسم الله والله أكبر، ثم يستلمه بيده يمسحه، ويقبله بفمه ويسجد عليه أيضاً، فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر وابن عباس ، فإن لم يمكنه تقبيله مسحه ثم قبل يده، فإن لم يمكنه الاستلام أشار إليه من بعيد بيده، ويفعل ذلك في كل طوفة ولا يزاحم عليه؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: (يا
وفي استلام الحجر فضل كبير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبعثن الله الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، ويشهد على من استلمه بحق) وهذا حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (مس الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطّاً).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود من الجنة) أي: ليس على وجه الأرض شيء من الجنة غير الحجر الأسود، (الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضاً من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك).
ثم يبدأ الطواف حول الكعبة يجعلها عن يساره، فيطوف من وراء الحجر سبعة أشواط يضطبع فيها كلها، ويرمل في الثلاثة الأول منها، ويمشي في سائرها، ويستلم الركن اليماني بيده في كل طوفة دون أن يقول باسم الله والله أكبر، وإذا عجز عن استلامه من بعيد لا يشير إليه ولا يقول شيئاً؛ لكن السنة بين الركنين أن يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، هذا هو الدعاء المأثور مع التسمية في الطواف، وما عدا ذلك فلا يوجد دعاء مأثور.
لكن الركنين الشاميين لا يستلمهما، وبعض العلماء يقولون: لو تم بناء الكعبة لاستلمنا الركنين الشاميين أيضاً.
بعد ذلك له يجوز له أن يلتزم ما بين الركن والباب، وهي مسافة قدر أربعة أذرع بين الركن اليماني الذي هو الحجر الأسود وبين الباب، ومعنى الالتزام أن يقترب من الكعبة فيضع صدره ووجهه وذراعيه عليه ويدعو عنده.
وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين يرتقي بهما الحديث إلى مرتبة الحسن، ويزداد قوة بثبوت العمل به عن جمع من الصحابة منهم ابن عباس رضي الله عنهما قال: هذا الملتزم بين الركن والباب، وقال شيخ الإسلام: وإن أحب أن يأتي الملتزم بين الحجر الأسود والباب فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفيه ويدعو ويسأل الله تعالى حياته فعل ذلك، وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع، فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع وغيره، وقد كان الصحابة يفعلون ذلك حين يدخلون مكة.
ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسناً، فإذا ولى فلا يقف ولا يلتفت ولا يمشي القهقرى.
ليس للطواف ذكر خاص، فله أن يقرأ من القرآن أو من الذكر ما شاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة ولكن الله أحل فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير) وفي رواية: (فأقلوا فيه الكلام).
قال شيخ الإسلام: وليس فيه ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك فلا أصل له.
ومن آداب الطواف أن يكون في طوافه خاشعاً حاضر القلب ملازماً للأدب بظاهره وباطنه، في هيئته وحركته ونظره، فإن الطواف صلاة فيتأدب بآدابها، ويستشعر بقلبه عظمة من يطوف ببيته، ويخفض صوته ويقل الكلام، فإن نطق فلا ينطق إلا بخير، ويصون نظره عما لا يحل النظر إليه.
ولا يجوز أن يطوف بالبيت عريان ولا حائض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يطوف بالبيت عريان) وقال لـعائشة رضي الله عنها لما حاضت: (افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي حتى تطهري) فلا يجوز للحائض أن تطوف بالبيت.
فإذا انتهى من الشوط السابع غطى كتفه الأيمن وانطلق إلى مقام إبراهيم وقرأ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فجعل المقام بينه وبين البيت وصلى عنده ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة الكافرون وفي الثانية بعد الفاتحة سورة الإخلاص، ثم إذا فرغ من الصلاة ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) وقال أيضاً: (إنها مباركة، وهي طعام طعم وشفاء سقم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم وشفاء من السق).
وبعدما يصلي الركعتين ويشرب زمزم يعود إلى الحجر الأسود فيكبر ويستمله على التفصيل الذي ذكرناه، وهذه نقطة ينساها كثير من الناس.
نختم الكلام بأبيات قليلة من نظم العلامة الصنعاني رحمه الله ذكر فيها الحج وبركته وتكلم على المناسك، يقول:
فشدوا مطايانا إلى الربع فانياً فإن الهوى عن ربعهم ما تلوناه
ثم يتكلم حينما رأى البيت والطواف، يقول:
ففي ربعهم لله بيت مبارك إليه قلوب الخلق تهوي وتهواه
يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ويسقط عنه جرمه وخطاياه
فكم لذة كم فرحة لطوافه فلله ما أحلى الطواف وأهناه
نطوف كأنا في الجنان نطوفها ولا هم ولا غم فذاك نسيناه
فياشوقنا نحو الطواف وطيبه فذاك شوق لا يعبر معناه
فمن لم يذقه لم يذق قط لذة فذقه تذق يا صاح ما قد أذقناه
فوالله ما ننسى الحمى فقلوبنا هناك تركناها فيا كيف ننساه
ترى رجعة هل عودة لطوافنا وذاك الحمى قبل المنية نغشاه
ووالله لا ننسى جمال مسيرنا إليه وكل الركب قد لذ مسراه
وقد نسيت أولادنا ونساؤنا وأموالنا فالقلب عنهم شغلناه
تراءت لنا أعلام وصل على النوى فمن أجلها فالقلب عنهم نويناه
جعلنا إله العرش نصب عيوننا ومن دونه خلف الظهور نبذناه
وصرنا نشق البيد للبلد الذي بجهد وصدق للنفوس بلغناه
رجالاً وركباناً على كل ضامر ومن كل ذي فج عميق أتيناه
نخوض إليه البر والبحر والدجى ولا قاطع إلا وعنه قطعناه
ونطوى الفلا من شدة الشوق للقا فتلك الفلا تحكي سجلاً قطعناه
ولا صدنا عن قصدنا نقد أهلنا ولا هجر جار أو حبيب ألفناه
عرفنا الذي نبغي ونطلب فضله فهان علينا كل شيء بذلناه
فمن عرف المطلوب هانت شدائد عليه ويهوى كل ما فيه يلقاه
فيا لو ترانا كنت تنظر عصبة حيارى كسارى نحو مكة يمناه
فلله كم ليل قطعناه بالسرى وبر وسور اليعملات مررناه
وكم من طريق مفزع في مسيرنا سلكناه ووادٍ بالمخاوف جزناه
ولو قيل إن النار دون مزاركم دفعنا إليها والعذول دفعناه
فلولا الموالي للزيارة قد دعا أتقعد عنها والمزور هو الله
ترادفت الأشواق واضطرم الحشا فمن ذا له صبر وتضرب أحشاه
وأسرى به الحادي فأمعن في السرى فولى الكرى نوم الجفون نفيناه
ولما بدا ميقات إحرام حجنا نزلنا به والعيس فيه أنخناه
ليغتسل الحجاج فيه ويحرموا فمنهم ملب ربنا لا حرمناه
ونادى مناد بالحجيج ليحرموا فلم يبق إلا من أجاب ولباه
وجردت القمصان والكل أحرموا ولا لبس لا طيب جميعاً هجرناه
ولا لهو لا صيد ولا نقرب النساء ولا رفث لا فسق كلاً رفضناه
وصرنا كأموات لففنا جسومنا بأكفاننا كل ذليل لمولاه
لعل يرى ذل العباد وكسرهم فيرحمهم رب يرجون رحماه
ينادونه لبيك لبيك ذا العلا وسعديك كل الشرك عنك نفيناه
فلو كنت يا هذا تشاهد حالهم لأبكاك ذاك الحال في حال مرآه
وجوههم غبر وشعث رءوسهم فلا رأس إلا للإله كشفناه
لبسنا دروعاً من خضوع لربنا وما كان من درع المعاصي خلعناه
وذاك قليل في كثير ذنوبنا فيا طالما رب العباد عصيناه
إلى زمزم زمت ركاب مطينا ونحو الصفا عيس الوصول صففناه
نؤم مقاماً للخليل معظماً إليه استبقنا والركاب حثثناه
وكم نجد عال علته وفودنا وتعلو به الأصوات حين علوناه
نحج لبيت حجه الرسل قبلنا لنشهد نفعاً في الكتاب وجدناه
دعانا إليه الله قبل بنائه فقلنا له لبيك داع أجبناه
أتيناك لبيناك جئناك ربنا إليك هربنا والأنام تركناه
ووجهك نبغي أنت للقلب قبلة إذا ما حججنا أنت للحج رمناه
فما البيت ما الأركان ما الحجر ما الصفا وما زمزم أنت الذي قصدناه
وأنت منانا أنت غاية سؤلنا وأنت الذي دنيا وأخرى أردناه
إليك شددنا الرحل نخترق الفلا فكم سد سد في سواد خرقناه
كذلك ما زلنا نحاول سيرنا نهاراً وليلاً عيسنا ما أرحناه
إلى أن بدا إحدى المعالم من منى وهب نسيم بالوصال نشقناه
ولا ذنب إلا قد غفرناه عنكم ومن كان من عيب عليكم سترناه
فهذا الذي نلنا بيوم قدومنا وأول ضيق للصدور شرحناه
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر