أيها الأخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فلما كان لابد للمسلم أن يجتمع بإخوانه ليذكر الله وإياهم؛ خصوصاً في أوقات الشدة التي يحتاج فيها الناس كثيراً للتبصرة والتذكرة؛ التبصير بما يجب عليهم أن يعملوه، والتذكير بما ينبغي عليهم أن يتذكروه.
إن تصرفاتنا وحركاتنا وسكناتنا ينبغي أن تكون لله رب العالمين؛ إن تحركات المسلم ليست تحركاتٍ طائشة، وإن تصرفات المسلم ليست تصرفاتٍ هوجاء؛ لأنها يجب أن تكون منضبطةً بنور هذه الشريعة، وينبغي أن يكون نور الوحيين هو الذي يعمل عمله وفعله في قلوب الناس في أوقات الشدائد، وإذا كان للجوارح أعمالٌ كالصلاة والحج والجهاد، فإن للقلوب أعمالاً أعظم من ذلك بكثير؛ لأن عمل القلب ينبني عليه صلاح عمل الجوارح أو فسادها.
ولذلك فينبغي للمسلم أن يهتم بقلبه جداً في أوقات المحن -ونحن نمرُ ولا شك بمحنة- وإن الحوادث من حولنا تُوجب علينا أن نكون أكثر بصيرةً من ذي قبل، وينبغي أن تكون قلوب المسلمين حية؛ لأن القلب الميت لا خير في صاحبه.
أيها الأخوة: إن الله سبحانه وتعالى نزّل هذا الكتاب ليحيي به القلوب كما تحيا الأرض بماء المطر، وإنه عز وجل أنزله غيثاً وهدىً وشفاءً ورحمةً للمؤمنين، وقد قال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] ولذلك فإن الخراب إذا حصل والفِرار إذا نزل، يكون مرْجع ذلك كله إلى هذه القلوب إذا كانت خاوية، فما هي الأعمال التي ينبغي أن يعملها القلب في أوقات الشدة؟ وماذا ينبغي أن تكون حالنا عندما يبتلينا الله عز وجل بمحنة؟
يقول الله عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35] فينظر كيف تعملون! وهذه التحركات والتصرفات محسوبةٌ علينا، وسنبعث ونرجع جميعاً إلى الله عز وجل: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزمر:7].
ما مدة لبثنا في هذه الدنيا؛ وما طول مقامنا فيها؟
لا شيء بالنسبة لما سيأتي بعد الموت من الحياة الدائمة الخالدة المستقرة في الدار الآخرة، ولذلك لابد أن نُري الله من أنفسنا خيراً، ولابد أن نأخذ للأمر أهبته، وللميدان عدته حتى تتحد هذه القلوب في مواجهة الشر والكفر، وليكون المسلمون يداً واحدة أمام عدوهم.
ولما مدح الله تعالى داود قال: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ [ص:24] وقوله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:31-33].
فإذا أنابت القلوب إلى الله في وقت الشدة حصل الخير وثبت الناس، الإنابة إلى الله هي الرجوع إليه والأوبة، والتوبة إليه سبحانه وتعالى.
قال تعالى: وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غافر:13] ولذلك فإن مما يمتد من أثر الإنابة التذكر؛ والتذكر عملٌ آخر من أعمال القلب، كما قال عز وجل: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة:269].. وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الحاقة:48].. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
فمن كان له قلب يتذكر، ومن ليس له قلب لا يتذكر، ولذلك فإن القلوب على ثلاثة أنواع:
القلب الأول : ميت لا خير فيه، ولا يُرجى منه شيءٌ أبداً.
القلب الثاني: حيٌ لكنه لم يستمع للآيات، إما لأنها لم تصل إليه، وإما لأنه انشغل عنها.
القلب الثالث: حيٌ مستعدٌ تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه، وأحضر قلبه فهو شاهد القلب ملقٍ للسمع، فهذا هو الذي ينتفع، فصاحب القلب الأول مثله كمثل الأعمى لا يرى شيئاً.
صاحب القلب الثاني بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير الجهة التي تنفعه.
وصاحب القلب الثالث هو البصير المحدق إلى جهة المنظور، فهو يرى وينتفع.
ولذلك فإن قراءة القرآن وتطبيقه على الواقع هو أن ننظر: ما المقصود من الآية بهذا الواقع؟ كيف نربط القرآن بالواقع؟ كيف نقرأ ونفكر في الواقع؟
ونحن نقرأ نتدبر ونربط بالواقع ونقول: نعم. هذا ما أخبرنا به ربنا، ونقول في آيةٍ أخرى: نعم. هذا ما حذرنا منه الله عز وجل، ونقول عند آية ثالثة: نعم. هذه سنة الله في الكون تعمل لحظةً بلحظة، وساعةً بساعة، ويوماً بيوم، ونقول في آيةٍ رابعة: نعم. هذه شروط النصر، لو تكاملت لتحقق النصر، ونقول في آيةٍ خامسة: نعم. هذا هو الجزاء الذي وعد الله به الفسقة المجرمين وهكذا، هذا جزاء ما توعدهم به ربنا يحصل الآن في الواقع، نعم. هذا الظلم بعينه، نعم. هذه عاقبة الظالم: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178].
ونحن يمكن أن نعرف النتائج من القرآن سلفاً، صحيح أننا قد لا نعلمها بالتفصيل؛ لأن علم الغيب بالتفصيل مما اختص به رب العالمين، لكن الله أخبرنا عن أشياء، وقال: إذا حصل كذا، فسيحدث كذا.
ولذلك عندما ننظر في الواقع سنرى الآيات تتطبق فعلاً وتتحقق، فإذا كنا نعلم أن الله سبحانه وتعالى لابد أن يجعل لكل ظالمٍ نهاية، فإذا حدث ظلمٌ في الأرض فنحن نعلم حقيقةً ماذا ستكون النتيجة.
وإذا أخبر الله بسقوط مجتمعاتٍ بأكملها إذا فشت فيها أدواءٌ معينة، فإننا سنعلم أن هذه المجتمعات ستسقط ولا شك، نعلم هذا سلفاً.
ما من قريةٍ فشى فيها الربا والزنا إلا استحقت عذاب الله، نعلم أنه لابد أن يقع.
فإذاً يمكن للآيات أن تنبئنا بما سيحدث، وإذا أخبر الله بأن من يعتصم به ينجو، ومن يعتصم بغيره يهلك، فإننا سنعلم النتيجة سلفاً من خلال هذه الآيات.
وليس كل الناس ينظرون إلى الواقع من خلال القرآن، وإنما ينظرون بعينٍ مجردة عن أثر القرآن، فلذلك تخيب الأشياء وتصبح مجرد احتمالات بشرية، ولكن المؤمن لا يخيب نظره، ولذلك كان من أعمال القلب الاعتصام بالله سبحانه وتعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78].
والاعتصام به عز وجل: أي: التمسك بدينه، والتمسك بعهده وكتابه وحبله سبحانه وتعالى، وهذا القرآن حبلُ الله، طرفه الأول عند الله، وطرفه الثاني بأيدينا، فإذا تمسكنا به لن نضل أبداً، والاعتصام بكتاب بالله وعهد الله يعصم الإنسان من الضلالة ويُوجب له الهداية، ويُكسبه القوة، ويبعد عنه الهزيمة.
ولذلك كان لابد أن ندور مع القرآن حيثما دار، لابد أن نتمسك في وقت الشدة -أيها الأخوة- بهذا النور ولا نحيد عنه، وإن تصرفات العامة في الأزمات غير منضبطة بالقرآن في كثيرٍ من الأحيان، لكن يمكن أن تجد من بين الناس رجلاً حضرت لديه أنوار هذا التنزيل، فصار يتصرف من خلالها، فهو لا يخطو خطوة ولا يتقدم ولا يتأخر إلا على نورٍ من ربه.
ولذلك فإن الناس في مواقفهم وآرائهم قد يخيبون كثيراً، إلا الذين اعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله، فإنك تجد آراءهم سديدة، ومواقفهم لا تتغير مع الزمن، وتجد الموقف في أول الحدث هو الموقف عند نهاية الحدث لم يتغير؛ لأنه كان منطلقاً من الكتاب والسنة، ليس منطلقاً من الآراء ولا من كلام البشر، ولا من الحسابات الدنيوية.
ولكن القلوب تختلف، فمن الناس مَنْ قلوبهم موصولةٌ بالله، فإذا نزلت المصيبة وجاءت الأحداث لا تتزلزل كياناتهم، ولم تضطرب مواقفهم وتتزعزع، ولا يجرون في جميع الاتجاهات لا يدرون إلى أين يذهبون! ولا ترى الواحد منهم إذا نزل الخوف يفر فراراً لا يلوي على شيء، حتى إذا ابتعد بمسافةٍ طويلة توقف وقال: إلى أين أذهب الآن، وماذا أفعل؟!
خطوات غير محسوبة، لأن الخوف كان مهيمناً على قلبه فنتج هذا الاضطراب، ولكن المسلم الذي يُسلم أمره لله ويعلم قول الله عز وجل: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] الذي يخشى الله فقط ولا يخشى أحداً إلا الله، فإن الله يثبته؛ لأن الشرور -أيها الأخوة- لا تنتهي، قد يحصل بك شر وتعتصم بأحد البشر فينقذك، لكن غداً يحصل لك شرٌ آخر فلا ينجيك أحد.
فإن النفس التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها وبارئها وخالقها سبحانه وتعالى، وعلم أنه لا يصيبها إلا ما قدر الله لها، وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها، وأن ما لم يكتب فلا يمكن أن يصيبها، هذا الذي يحسم مادة الخوف نهائياً وهذا هو الذي يجعل الإنسان مطمئناً.
والذي يُعرض عن القرآن يتزلزل قلبه، ويضطرب عيشه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي كلامي ، القرآن : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا [طه:124-126] هذه التي من المفروض أن تتذكرها لتنجو وتثبت، وتكون لك حياةٌ سعيدة، وعيشة رغيدة، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127].
وكان من دعاء بعض السلف: اللهم هب لي نفساً مطمئنةً إليك، وإذا طال الخوف على الإنسان واشتد به وأراد الله أن يريحه ويحمل عنه، أنزل عليه السكينة فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمئن به، وسكن لهيب خوفه.
ولذلك كان للعلماء المذكرين بالله أدوارٌ مهمة في تثبيت الناس، فلما كان ابن القيم رحمه الله يتكلم عن نفسه وعن صحبه عندما تنزل بهم الخطوب، وكان لهم أعداء كُثر بسبب تمسكهم بالسنة، فإنهم عند تزلزل الأمور كانوا يذهبون إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيجلسون إليه، يقول: فما هو إلا أن نسمع كلامه حتى ترتاح القلوب وتهدأ النفوس وتطمئن، والطمأنينة بذكر الله وبمجالسة أولياء الله من الأسباب التي تُحدث الثبات في القلب.
ومن أنواع الطمأنينة: الطمأنينة إلى حكم الله وما يقع من المصائب والأحداث، وإذا علمت أن ما شاء الله كان وأن ما لم يشأ لم يكن، فلا معنى للجزع والقلق، فإن الشيء المحذور إذا قُدِّر فلا سبيل إلى صرفه.
لقد هرب أناسٌ كثيرون خوفاً من هذه المنطقة، فلما ركبوا الطريق ساروا في سياراتهم وحصل على بعضهم من الحوادث ما قضى به نحبه، وقد كان خائفاً من شيء، فإذا منيته تكون في أمرٍ آخر، وإذا بالشيء الذي هرب منه قد ساقه إلى أمرٍ آخر كان فيه هلاكه وحتفه:
ما قد قضى يا نفس فاصطبري له ولكِ الأمان من الذي لم يقدرِ |
وتحققي أن المقدر كائنٌ يجري عليك حذرتِ أم لم تحذري |
هذه الآيات عين الواقع بالضبط، هؤلاء الذين مكروا السيئات فعملوها، ودعوا الناس إليها، وحرضوهم عليها، وشجعوهم على فعلها، هؤلاء الذين يمكرون بالناس في دعائهم إياهم للمعاصي، هؤلاء: أأمنوا أن يخسف الله بهم الأرض؟ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [النحل:45-46].
وتقلبهم هو تنقلهم في الأسفار وغيرها، وتغيرهم في أحوالهم، ولذلك قال الله في آيةٍ أخرى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
فإذاً الناس عندما يؤخذون بالعذاب على أنواع:
فمنهم من يأخذه الله وهو مطمئن نائم, ومنهم من يأخذه الله وهو يلعب ويلهو، أو مشغول بالدنيا، فيأتيه العذاب فجأة، ومنهم من يأخذه الله وهو يخاف من وقوع العذاب عليه.
ولذلك إذا أخذ الله غيرنا بعذابٍ وهم نائمون مطمئنون، فنحن الآن في مرحلة نخشى أن يأخذنا الله بعذابٍ ونحن على تخوف.
لابد -أيها الأخوة- أن نفقه الآيات، ولذلك سنعيد قراءتها: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [النحل:45] أي: لا يتوقعون، لم يدر في بالهم أن الله سيفعل بهم ما فعل، أو يأخذهم في تقلبهم وهم في أسفارهم وذهابهم ومجيئهم، أخذهم الله فأصيبوا فما هم بمعجزين، يصل إليهم الأثر وهم في أقصى الدنيا.
ولذلك لما أنزل الله بعاد عذاباً كان منهم قومٌ مسافرون إلى مكان بعيد عن مكان الحدث، فذهب إليهم العذاب فأخذهم في سفرهم!
الحالة الثالثة: أو يأخذهم على تخوف، أي: هم يترقبون أن يحدث شيء، فيأخذهم الله في حال الخشية وفي حال الخوف: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ [النحل:47] وهم خائفون وجلون مضطربون يخشون حدوث شيء، فيأخذهم الله عز وجل، أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوفٌ رحيم.
كيف يكون رءوفاً رحيماً؟
إذا لم يعاجلهم بالعقوبة عز وجل، قد يأخذهم مباشرة، وقد يأخذهم بعد إمهال، وقد يأخذهم على تخوف ويكون من أشد أنواع الأخذ، لأنه قد اجتمع عليهم الخوف والعذاب، ولذلك لابد من العودة إلى الله، فنحن الآن في مرحلة مصيرية وفي لحظات عصيبة.
وبعض الناس الذين ناموا انتبهوا لحظات، ثم ناموا ورجعوا للغفلة، فعليهم أن ينتبهوا، أفأمنوا أن يأخذهم الله على تخوف، فإن ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليمٌ شديد؛ إذا جاءت غاشية من عذاب الله، فإنها لا تبقي ولا تذر.
وتأمل قوله سبحانه وتعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ [الأعراف:97] والنوم يأتي من الطمأنينة، أناس مطمئنون لا يحسبون في حسابهم أي شيء ، فينام الإنسان فيأتيه العذاب وهو نائم، كما فعل الله بأقوامٍ كُثر، أتاهم العذاب وهم نائمون.
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:98] وإنما يلعب الناس إذا توفر لهم الرزق، وتوفر لهم رغد المعيشة، وكان عندهم سعة، فإنهم لا يحتاجون لطلب الرزق، فلذلك يلهون ويلعبون، وينشغلون بكل الملهيات، ولو كانوا في ضنك لذهبوا يطلبون الرزق، ولكن أمنوا مكر الله واغتروا بالنعمة ولم يشكروها، فيلعبوا في سائر الأوقات بالمعاصي وبالمنكرات، فيأتيهم العذاب ضحى وهم يلعبون؛ فيكون مفاجئاً لهم، وهذا دليل أمنهم من مكر الله، ولو كانوا يخشون الله ما ناموا ولعبوا، ولصلوا وقاموا وعبدوا الله، وفعلوا كما كان يفعل رسول صلى الله عليه وسلم.
فلم يكن نومه عليه الصلاة والسلام غفلة، وإنما كان عبادة، ولذلك فإنه لابد للعباد أن يفيئوا إلى الله في وقت الشدة، وأن يتوكلوا على الله.
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:173-174] هذا كان عاقبة الذين يتوكلون على الله، كفاهم الله الشر والعذاب وكفاهم بأس عدوهم غانمين سالمين، وأرجعهم يعبدون الله ويتبعون رضوانه.
والتوكل يمكن أن نعرفه بأن نقول: هو تفويض الأمر إلى الله، والتعلق بالله في كل حال، وقطع علائق القلب عن غير الله، كل علاقة بغير الله نقطعها، والاعتماد على الله في حصول المطلوب وزوال المكروب مع الأخذ بالأسباب، هذا تعريف التوكل.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] أي: يكفيك ويكفي المؤمنين الذين اتبعوك، فهو حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، ولذلك -أيها الأخوة- ثبت من خلال الأحداث بالدليل القاطع أن جمع الأموال وتخزين الأطعمة لا يفيد شيئاً أبداً إذا نزل عذاب الله، فالأموال تذهب كلها، والعدو يستولي عليك وعلى طعامك.
والله الذي لا إله إلا هو -أيها الأخوة- إذا لم تهزنا الأحداث وتجعلنا نفيء إلى الله عز وجل، فإن الله إذا أخذنا فإنه سيأخذنا أخذ عزيزٍ مقتدر، ولذلك فالحق نفسك أيها المسلم.
أكثر من العبادات.. الصدقات.. توكل على الله.. اجمع قلبك على الله! لا تشتت نفسك بالتوكل على غير الله، فإن من توكل على غير الله ذل.
والعوام كثيرٌ منهم هوام، لا يعتقدون بالعقيدة الصحيحة في التوكل، ولذلك تجدهم مساكين في ألفاظهم ومعتقداتهم، نسوا قضية التوكل على الله، الناس الآن يتعلقون بأي قشة ونسوا التوكل على الله عز وجل.
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير:26] وإلى أين تهربون؟!! إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور:7-8]. أين ثمود؟ أين فرعون ذو الأوتاد؛ الذين طغوا في البلاد؛ فأكثروا فيها الفساد؟ هل كان هناك أشد من فرعون ومن معه من جنده؟! أو أشد من ثمود الذين قطعوا الصخر، وعملوا هذه البيوت التي بقيت إلى الآن: : وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:137-138]. إذاً مسألة التجميع والاستكثار من الدنيا لا تنفع أبداً وقت الأزمة، وما ينفع إلا بالإيمان بالله، فإن كان عندك رصيد من الإيمان نفعك وقت الشدة، وإلا فيمكن أن تصيبك سكتة أو أي شيء من الأمور المفزعة والمضطربة، أو صدمة نفسية وعصبية، لكن المسلم المعتصم بالله، لو أصابته شدة ينقذه الله.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ [الأعراف:165].
لكن الله عز وجل يمهل فيظن الناس أنه ما أخذ ولن يؤخذ مع أن العذاب قريب: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:24-25].
من هم أعداؤنا؟ هم أعداء الله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ [النساء:45] كل عدوٍ لله فهو عدونا، وكل عابدٍ لله فهو صديقنا وأخونا وحبيبنا ومقربٌ إلينا، فلابد أن نتولى الله ورسوله والذين آمنوا، ولابد أن نتبرأ من كل كفرٍ وكافر، وكل شركٍ ومشرك، وكل بدعةٍ ومبتدع، ولابد أن نتبرأ من كل معصيةٍ وفسقٍ وظلمٍ، ونجدد الولاء لله، وهذه قضية قلبية، فمحل الولاء والبراء في القلب.
الولاء المقتضي للمحبة: يكون بواسطة القلب، والبراء المقتضي للبغض والعداوة يكون في القلب، ثم تكون أعمال الجوارح بناءً على أعمال القلوب.
فإذاً عندما تضيع الولاءات وتختلط لابد من هزيمة قريبةٍ أو بعيدة، وعندما يتحقق الولاء لله سبحانه وتعالى، فإن الله ناصرٌ أولياءه ولا شك: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51].. كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21].
البصيرة بالضبط هي معرفة الحق، تمر بالمسلمين مسائل كثيرة -خصوصاً في أوقات الشدة والمحنة- لا يدرون أين الحق فيها، يضطربون من قائلٍ يقول: هذا هو الحق، ومن قائلٍ يقول: هذا العالِم هو الذي معه الحق، وآخر يقول: هذه الفتوى هي الفتوى الصحيحة، وثالث يقول: الرأي هذا هو الرأي الصواب.
يضطرب الناس ويموجون ويختلطون، لكن أين الحق؟ من الذي يدلك على الحق؟ البصيرة.
ولذلك عندما تختلط عليك الأمور فراجع قلبك؛ لأن معناه أن البصيرة فيها خلل.
إذا غبشت عندك الصورة في محنة فلم تدر أين الحق، وتقول: أرى أناساً يقولون كذا، وأناساً يقولون كذا، وأسمع من هذا، ومن مصدرٍ آخر.. أين الحق؟ ما هو الحق؟ ما هو الصواب؟ إذا اختلفت الأمور فراجع قلبك.
ولذلك كان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، يلجأ إلى الله بالدعاء، حتى يكشف له الحق: (اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم).
ولذلك أيها الأخوة! البصيرة تقتضي كما ذكرنا عبادة، وتقتضي تفقهاً في الدين، ولذلك أنا أنصح كل أخٍ اختلط عليه حكم مسألة من المسائل وأقول له: ابحث فيها بنفسك، افترض أنك تريد معرفة حكم شرعي، في مسألة فقهية، فارجع إلى كتب العلم، انظر ماذا قال أهل العلم في هذه المسألة، وما هي الأدلة، أليس عيباً أن كثيراً من الشباب يضطربون في مسائل فقهية من الواقع الحادث ويقولون: لا ندري هل هذا الحق أو هذا، هذه الفتوى صح أم خطأ، وبين أيديهم كتب ومراجع يستطيعون الرجوع إليها وبحث المسائل فيها؟!
لكن نحن تعودنا على الكسل نقول: نريد كل شيء يأتي إلينا جاهزاً، نحن ما عندنا استعداد للبحث، ووالله لو قرأنا وتفقهنا لعرفنا، فيمكن ذلك بقراءة وتفقه، وبمناقشة أهل العلم، ودعاء لله وإخلاص له وتضرع، بهذه كلها نصل إلى الحق.
الآن -أيها الأخوة- إذا حدثت شدة، أو أزمة، المفروض أن نعتبر ومعنى نعتبر أي: أن تحملنا مصيبة غيرنا -مثلاً- على سلوك السبيل السوي، أو تحملنا المصيبة التي وقعت بنا نحن على تعديل مسلكنا ومنهجنا.
يا أخي! أنت تعيش في بلد فحصلت عليك مصيبة، ما هو المفروض عليك؟ عليك أن تعتبر فتتوب إلى الله، وتغير طريقتك، وكذلك جيرانك: واحد نزلت به مصيبة، ماذا ينبغي عليه؟ أن يعتبر فيما نزل به، يتعظ بما نزل به، ويأوي إلى الله، يرجع يتوب ينيب، وماذا ينبغي على جيرانه من حوله؟
ينبغي عليهم أن يعتبروا بمصابه هو، فيقولون: نخشى أن يصيبنا ما أصابهم، فيتوبوا إلى الله هم أيضاً.
انظر الآن إلى المناقشة: أنت يا أيها الذي نجوت الآن من البحر!! يا أيها الناجون الذين أشركوا وأعرضوا بعد نجاتهم -بدلاً من أن يقابلوا نعمة النجاة بشكرٍ لها؛ من الإقبال على الله وترك المعاصي أعرضوا- أنتم أيها المعرضون بعد النجاة: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ [الإسراء:68] هل إذا رجعت إلى البر لا يستطيع الله عز وجل أن يخسف بك البر ؟! ويزلزل بك الأرض؟ بل يستطيع سبحانه وتعالى ، فهو على كل شيء قدير: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام65].. أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ [الإسراء:68] أنتم الذين نجوتم وأشركتم ، بعد أن خرجتم إلى اليابسة ، وقلتم الآن وصلنا إلى بر الأمان، أتضمن ألا يخسف بك جانب البر: أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً [الإسراء68] مطر فيه حجارة: ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً [الإسراء68].
سبحان الله العظيم! ربنا عندما يناقش هؤلاء الناس فإن المناقشة في الصميم، لكن المشكلة عدم وجود الذي يعتبر ويفهم؟ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى [الإسراء:69] أي: هل لن تركب البحر أبداً؟ ألن تعرض لك حاجة وتركب البحر مرة ثانية؟! ممكن: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ [الإسراء:69] إي والله قد يرجعك مرة ثانية في البحر، لكن هذه المرة يرسل عليك قاصفاً من الريح، فيهدم صواري السفن ، ويغرق المراكب ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً [الاسراء:69] أي: لا تجدوا أحداً يأخذ بثأركم.
ولذلك هناك أناس اعتبروا من هذه المواقف ، وإليكم مثالاً على ذلك:
كيف؟
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هرب عكرمة فاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتهم ريحٌ عاصف هو ومن معه في البحر، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده -انظر سبحان الله! هؤلاء مشركون- هؤلاء المشركون يقول بعضهم لبعض: إنه لن يغني عنكم شيئاً إلا أن تدعوا الله وحده، مثل ما قال الله في القرآن بالضبط.
فقال عكرمة في نفسه لما سمع هذا الكلام: [والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره] فالآن حصل الاتعاظ، ونحن عندنا أناس نائمون، يغطون في نومٍ عميق، تأتي لهم بالآيات فلا فائدة، عكرمة بن أبي جهل كم مرة سمع القرآن، وكم مرة سمع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكم مرة رأى المسلمين، وكم مرة..؟ لكن كان غافلاً نائماً كافراً.
هذه المرة شاء الله أن يهديه، هذه المرة استخدم عقله وفكر، نحن نريد من الناس الآن أن يستخدموا عقولهم فيفكروا، الأحداث هذه لابد أن تهز الناس وتوقظهم من غفلتهم، قال عكرمة : [والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك علي عهدٌ لئن أخرجتني منه سالماً، لأذهبن فلأضعن يدي في يديه -صلى الله عليه وسلم- فلأجدنه رءوفاً رحيماً ].
فخرجوا من البحر سالمين، وهنا مرحلة أخرى؛ هل تُرى سيرجع إلى الكفر أم أنه سيواصل على الهداية؟ هذه التي حصلت له الآن، فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه.
الاعتبار: لا بد من التفاعل مع الأحداث، لابد أن تكون لنا مواقف قلبية مما يدور على ضوء الكتاب والسنة، ولذلك أيها الأخوة! عندما نتأمل في بعض الأقوال التي وردت، مما حصل من مقابلات كثيرة في الجرائد والمجلات والإذاعات وغيرها مع إخواننا المسلمين الذين هربوا من الكويت ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردهم، فنجد في بعض التعليقات أن أناساً عندهم جمل وكلمات تدل على أنهم اتعظوا من الواقع.
امرأةٌ تقول -باللهجة العامية- تقول: (الله ما سوى فينا إلا شوي) أي: على الأقل نجونا وإلا كان من الممكن أن يخسف بنا خسفاً فيفنينا عن بكرة أبينا، ما قتل منا إلا قلة بالنسبة للناجين.
فعندما ينظر الإنسان إلى ذنوبه الكثيرة والمتراكمة وينوب المجتمع كله، ثم أن الله سبحانه وتعالى يذكر بشيء، فهناك ما هو أصعب منه وأغلظ وأشد بكثير، فلا بد أن يعتبر.
والقلب من أعماله اليقظة: قلب المسلم لابد أن يكون متيقظاً، لا سهو ولا غفلة، فإذا سها وغفل ذكر الله قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] انظروا إلى هذه الآيات: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس:22-23].
هذه هي المشكلة الآن عندنا، مشكلة الناس الذين نجوا ومع ذلك فهم مصرون على الباطل، مصرون على المعاصي، مصرون على الفواحش، مصرون على الخمور ، مصرون على الربا، مصرون على ترك الصلوات، أي: المشكلة أن الناس لا يتعظون من أول ضربة ، وهذه شبه قاعدة، أن الناس ما يتعظون من أول ضربة ، بل لا بد أن تأتي أولى وثانية وثالثة ورابعة ، ومع كل ضربة يستيقظ أناس، ومع كل محنة يستيقظ أناس، ومع كل شدة يستيقظ آخرون... وهكذا لا تستيقظ الشعوب من أول محنة.
ولذلك تجد الناس يدخلون في المحنة وتقع عليهم شدة ومع ذلك يخرجون كأن شيئاً لم يقع، فما زالوا منغمسين في المعاصي والأوحال، نقلوا فسادهم من مكان إلى آخر.
لكن لا يخلو الأمر من أناس اتعظوا، ثم بعد ذلك تأتي محنةٌ أخرى وثالثة ورابعة حتى يستيقظ الناس، والله عز وجل جرت سنته هكذا: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس:23]. هذه قصة سمعتها عن امرأةٍ بواسطة، تقول: هي امرأة من بلدٍ أصابها الله بالدمار والحروب، ولم تزل الحروب فيها قائمة -في لبنان - تقول بصراحة: نحن كنا نخرج ونغني ونرقص، فإذا جاءت غارة جوية وقصفتنا -مثلاً- دخلنا في الملجأ تحت الأرض، فإذا انتهى القصف والغارة طلعنا وكملنا الأغنية والرقصة.
إيه والله.. هذا شيء مدهش! نرقص ونغني! وبعد أن تنتهي الغارة نطلع نكمل الرقص والأغنية! معناها: يوجد أناس مهما أصابهم لن يتعظوا.
يا أخي! واحد قلبه ميت، ماذا ترجو من ورائه، نريد أن نذكر أنفسنا ونذكر غيرنا لعل الله عز وجل أن يهدي أُناساً؛ لأنه لن يخلو الناس من منتصحين وأناسٍ يقبلون الكلام: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] فلنقم بواجب التذكير، ثم من اهتدى فلنفسه ومن أساء فعليها.
الله عز وجل رحيم، كان من الممكن أن يقبضهم ويموتوا على الكفر ويدخلوا جهنم، لكن الله عز وجل يمس المدن والقرى والبلدان بعذاب؛ لعل بعض هؤلاء الناس يهتدون من خلال العذاب والمحنة؛ فتصلح أحوالهم فإذا جاءهم الموت كانوا على هداية.
وهذه من رحمة الله..
كيف يكون العذاب من رحمة الله؟
كيف تكون المحنة من رحمة الله؟
هكذا تكون ناس في غفلة، فيسلط الله عليهم عذاباً من السماء أو من الأرض بواسطة بشر أو بغير واسطة البشر، فإذا سلط الله عليهم رجع أناس، فيهتدون ويموتون على الهداية، وكان من الممكن أن يموتوا على الغواية بدون العذاب، فكان العذاب بالنسبة لهم رحمة، وعلى الأقل يُكَفِّر سيئاتهم بالمصائب الحالة بهم.
فإذاً هذه الشدائد والمحن رحمة من الله، كم اهتدى بها أناس، وكم كفر الله بها سيئات أناس، وكم زاد الله بها أناساً -قلوبهم ميتة- زادهم إثماً على إثمهم؛ ليكون عذابهم في جهنم أشد وأبقى.
وانظر تجد ظالماً ومنتفشاً وطاغية: أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178] واحد يا أخي يقول: هؤلاء أقوياء؛ هذا قوي؛ هذا جبار، وهؤلاء عندهم أسلحة: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178].
قل لي الآن بعد خمسمائة سنة، الأحداث التي نعيشها نحن الآن، فيها ظالم ومظلوم وفيها كفار ومسلمون، هذه الأحداث بعد خمسمائة سنة ماذا ستكون؟ هذه الأشياء التي أرعبتنا وخوفتنا، والتي طغت على حياتنا، وعكرت أمزجتنا، وأقلقتنا وأقضت مضاجعنا ، بعد سنين طويلة، بعد خمسمائة سنة مثلاً ماذا تكون هذه الأحداث؟
يمكن أن تكون سطرين في كتاب تاريخ، إي والله، ويقال عنها: وفي سنة 1411هـ كانت وقعة كذا وكذا حصل فيها كذا وكذا.
ولكن كل شيء مكتوب، صحف الأعمال مكتوبة عند الله، الظالم والمظلوم.. القاهر والمقهور.. الجبار الباطش، والمسكين الضعيف.. المسلم الذي اهتدى والمسلم الذي ظل على فسقه.. هذا الذي كفر بنعمة الله، والذي زادته المصيبة إيماناً، والذي زادته المصيبة نفاقاً وكفراً، كله مكتوب عند الله عز وجل: فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52].
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:42-45].
a= 6000851>قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:63-65].
a= 6002748>وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ[المؤمنون:76].
a= 6003523>وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى[السجدة:21] -في الدنيا- دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ [السجدة:21].
أولاً: نحن الآن نعيش في أحداث ضخمة لا شك، هل مرت بالمسلمين أحداث ضخمة؛ وربما تكون أضخم مما تمر بنا الآن؟
ثانياً: ما هو موقف المسلمين تجاه هذه الاحداث؟
في فترة من تاريخ المسلمين، تقريباً من سنة 616 هـ إلى سنة 665هـ وما بعدها بقليل، هذه الفترة من التاريخ الإسلامي حفلت بأحداث رهيبة وعاصفة، كان فيها ثلاث أحداث مهمة:
اكتساح التتار لبلاد المسلمين في الجهة الشرقية والوسطى، واكتساح النصارى لـمصر ، وشمال بلاد الشام ، وفلسطين ، وحدوث النار العظيمة التي خرجت بجانب المدينة المنورة ، هذه حدثت في وقتٍ واحد، أي: في فترة متقاربة جداً، وكان الوضع الإسلامي في ذلك الوقت في محنة عصيبة جداً من عدوان خارجي، ومن مصائب داخلية، ومن أنواع الغلاء والتفرق والتمزق والطوفانات التي حصلت، والخراب الذي وقع في بلدان المسلمين، فكانت فترة عصيبة جداً، نحن نريد أن نلقي الضوء على هذه الفترة من خلال ما سنقرؤه من بعض أحداث التاريخ التي حدثت في تلك الآونة.
قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية : ثم دخلت سنة: (616هـ) وفيها عبرت التتار نهر جيحون بصحبة ملكهم جنكيز خان من بلادهم -أنا أختصر الكلام اختصاراً- فقصد التتار بخارى، وبها عشرون ألف مقاتل، فحاصرها جنكيز خان ثلاثة أيام، فطلب منها أهله الأمان فأمنهم، ودخلها فأحسن السيرة فيهم مكراً وخديعة، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها واستعمل أهل البلد في دفن خندقها، وكان التتار يأتون بالمنابر والربعات فيطرحونها في الخندق، ففتحوها قسراً في عشرة أيام، فقتل من كان بها ثم عاد إلى البلد، فأخذ أموال تجارها، وأحلها لجنده، فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهلهن، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج في البلد من النساء والأطفال والرجال، ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت، حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها، ثم كروا راجعين عنها قاصدين سمرقند ، ثم من الجهة الشرقية دخل الفرنج فاحتلوا مدينة دمياط وغدروا بأهلها وقتلوا رجالها وسبوا نساءها، فضج الناس وابتهلوا إلى الله.
في فلسطين في المسجد الأقصى حصل اكتساحٌ أيضاً، خاف الناس من الفرنج أن يهجموا عليهم ليلاً أو نهاراً، وتركوا أموالهم وأثاثهم، وتمزقوا في البلاد كل ممزق؛ حتى قيل أنه يبيع القنطار الزيت بعشرة دراهم، والرطل النحاس بنصف درهم.
سبحان الله! التاريخ أيها الأخوة فعلاً يتشابه، الآن مرت في الأحداث أن رجلاً باع سيارته من هؤلاء الهاربين من جحيم العذاب والظلم بدنانير زهيدة، وبيع الرطل من النحاس بنصف درهم- وضج الناس وابتهلوا إلى الله في المسجد الأقصى.
ثم دخلت سنة (617هـ) وفي هذه السنة عم البلاء وعظم العزاء بـجنكيز خان ، ووصل إلى بلاد العراق وما حولها حتى انتهى إلى إربل وأعمالها، فملكوها في سنةٍ واحدة، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وبالجملة فلم يدخلوا بلداً إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيراً من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل، وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين، فيقاتلون بهم، ويحاصرون بهم، وإن لم ينصاعوا في القتال، إذا المسلم ما دل على الطريق قتلوه، وذكر ابن الأثير رحمه الله عن هذه الحادثة فقال: فلو قال قائلٌ إن العالم منذُ خلق الله آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً.
فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعل بختنصر ببني إسرائيل من القتل والتخريب في بيت المقدس ، لكن هذا كان في مكان معين، أما التتار فقد اجتاحوا أماكن عديدة، في سنة واحدة ملكوا من الأملاك ما لم يملك أحد مثلهم في نفس المدة مطلقاً.
وتأمل كيف يسلط الكفار على المسلمين، بنو إسرائيل كانوا مسلمين أهل كتاب مع موسى، فلما ابتعدوا عن الدين وانحرفوا سلط الله عليهم الكفار، بختنصر كافر فقتلهم وشردهم، والمسلمين الآن في هذا القرن الذي نتكلم عنه الآن كانوا مسلمين، لكن انحرفوا وفشت فيهم من أنواع المنكرات والفواحش أشياء كثيرة -وهذه موجودة في الكتب- فسلط الله عليهم التتار مع أن التتار كفار، لكن الله عز وجل إذا ابتعد عنه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه.
قال ابن الأثير : ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج.
وهؤلاء لم يبكوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولا حول ولا قوة بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب إذا استدبرته الريح! فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين -هؤلاء التتار- فقصدوا بلاد تركستان ، ثم ما وراء بلاد النهر مثل: سمرقند وبخارى ، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره ثم تعبر طائفةٌٍ منهم -ليس كلهم- إلى خراسان فيفرغون منها ملكاً وتخريباً وقتلاً ونهباً، ثم يجاوزونها إلى الري وهمذان وبلاد الجبل وما فيها من حد العراق ، ثم يقصدون بلاد أذربيجان ، ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها ولم ينجُ منهم إلا الشريد النادر -هذا كله في أقل من سنة- ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقتلوا من أهلها نحو أربعين ألفاً.
ثم ذهبوا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف فلم يقفوا بين أيديهم طرفة عين، فانهزم الكرج، وتالله لا أشك أن من يجئ بعدنا -هذا ابن الأثير - إذا بَعُد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، وتترسوا بالأسارى من المسلمين في بلد جاءوا وعلى المسلمين امرأة فيقول ابن الأثير بين قوسين (ولن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) حديث صحيح ، ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا أهله، ثم أنهم كانوا يقتلون في المسلمين لدرجة أن أحدهم يدخل إلى دربٍ من البلد وبه مائة رجل من المسلمين فلا يستطيع واحدٌ منهم أن يتقدم إليه، وما زال يقتلهم واحداً بعد واحد حتى قتل الجميع، ولم يرفع منهم أحد يده إليه، ونهب ذلك الدرب وحده، ودخلت امرأةٌ منهم في زي رجلٍ متنكرة، فقتلت كل من في ذلك البيت وحدها، ثم استشعر أسيرٌ معها أنها امرأة فقتلها.
ثم ذهبوا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز فقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وحرقوها، وكانوا يفجرون بالنساء ثم يقتلونهنّ ويشقون بطونهنّ عن الأجنة، ثم فتحوا بلداناً كثيرة يقتلون ويسبون ويأسرون، ويجعلون الأسرى تروساً يتقون بهم الرمي، ثم يرجعون إلى ملكهم جنكيز خان .
وكذلك فإن هؤلاء قد تكامل شرهم حتى وصلوا إلى بغداد في سنة (665هـ) وفي بغداد لعب ابن العلقمي الخائن ونصير الدين الطوسي الدور الخياني في الاستيلاء على بغداد ، ودخل التتار بغداد وقتلوا جميع من قدروا عليه، هذا بعد أن قتل خليفة المسلمين، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثيرٌ من الناس في الآبار وأماكن الحشوش والوسخ وكمنوا أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فيفتحها التتار إما بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجرى الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب، ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوفٍ وجوع، وقد اختلف الناس في كمية من قتل بـبغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف أي: مليون وثمانمائة ألف شخص، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف، أي: مليونين، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
وأعمل السيف في أهل بغداد أربعين يوماً، وكان الرجل يُستدعى من دار الخلافة من بني العباس الخلفاء فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى المقبرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويأسرون من يختارون من بناته وجواريه، ولما انقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسبب ذلك الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام ، فمات خلقٌ كثير في بلاد الشام من تغير الجو وفساد الريح، واجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون.
ولما نودي بـبغداد الأمان وأنهى جيش التتار مهمته خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير كأنهم الموتى إذا نبشوا، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذ الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:8].
قال ابن السبط وهو أحد المؤرخين: ومع هذا كانت الخمور دائرة، والفسق ظاهراً، والمكوس -أي: الضرائب- بحالها، وغلت الأسعار في هذه السنة جداً، وهلك الصعاليك -أي: الفقراء- في الطرقات، وكانوا يسألون لقمة ثم صاروا يسألون لبابه، ثم تنازلوا إلى فلس يشترون به نخالة يبلونها ويأكلونها مثل الدجاج.
وذكر ابن حجر رحمه الله في حوادث سنة (777) للهجرة قال: وقع في الشام غلاءٌ عظيم، واستمرت الشدة حتى أكلوا الميتات، ووقع أيضاً في حلب حتى بيع المكوك بثلاثمائة إلى أن بلغ الألف؛ حتى أكلوا الميتة والقطط والكلاب، وباع كثيرٌ من المقلين أولادهم، وافتقر خلقٌ كثير، ويقال إن بعضهم أكل بعضاً حتى أكل بعضهم ولده.
ثم عقب بعد ذلك الوباء، ففني خلقٌ كثير حتى كان يدفن العشرة والعشرون في قبر بغير غسلٍ ولا صلاةٍ ويقال: إن ذلك دام في بلاد الشام ثلاث سنين.
فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كُتب بتيماء على ضوء النار وهي في المدينة الكتب، قال: وكنا في بيوتنا تلك الليالي كأن في دار كل واحدٍ منا سراج، ولما كانت ليلة الأربعاء ثالث جماد الآخرة في سنة (654هـ) ظهر بالمدينة دويٌ عظيم، ثم زلزلةٌ عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان، والسقوف والأخشاب والأبواب ساعةً بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور، ثم ظهرت نارٌ عظيمة في الحرة قريبٌ من قريظة، نُبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهي نارٌ عظيمة أكثر من ثلاث منارات، وقد سالت أوديةٌ بالنار إلى وادي شظى مسيل الماء، والله لقد طلعنا جماعة نُبصرها فإذا الجبال تسير نيراناً، وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي -الحجاج الذين يأتون من جهة العراق ما لهم طريق إلى المدينة - ورجعت تسيل في الشرق كأنها أنموذجٌ عما أخبر الله تعالى في كتابه: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات:32-33]. وقد أكلت الأرض، وقال: كُتِبَ هذا الكتاب يوم الخامس من رجب سنة (654) والنار في زيادة ما تغيرت، ثم قال: وأما النار فهي جبال نيران حمرٍ، والأم الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيءٍ يتم بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير، فلا أقدر على وصف النار -هذا واحد يكتب رسالة من المدينة يوجهها لـدمشق يصف فيها ما يرون أمامهم- قال: ولما ظهرت هذه النار وقع في شرقي المدينة نارٌ عظيمة انفجرت من الأرض وسال منها وادٍ من نار حتى حاذى جبل أحد ، ثم وقفت إلى الساعة ولا ندري ماذا نفعل؟ ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى المسجد النبوي مستغفرينَ تائبين إلى ربهم تعالى وهذا دلائل القيامة.
ثم قال أيضاً: والله لقد زلزلت مرةً ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه، وسمعنا صوتاً للحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف، وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دويٌ مثل دوي الرعد القاصف، ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة ، وما أبانت لنا إلا ليلة السبت، وأشفقنا منها وخفنا خوفاً عظيماً، يقول: وقمت إلى الأمير فكلمته، وقلتُ له: قد أحاط بنا العذاب.. ارجع إلى الله تعالى، فأعتق كل مماليكه، ورد على جماعةٍ أموالهم، ثم هبطنا فهبط معنا، وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنساء وأولادهم ما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا في المسجد النبوي، ثم سالت منها نهرٌ من نار -من هذه النار- إلى أن قطعت الوادي؛ والله يا أخي! إن عيشتنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها، ولا بقي يُسمع فيها ربابٌ ولا دفٌ ولا شُرب -انتهت الآلات الموسيقية، لا يوجد موسيقى في البلد مطلقاً ولا شرب خمور- وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طرق الحجاج، وخفنا أن يجيئنا -النار هذه- فاجتمع الناس ودخلوا المسجد وتابوا يوم وليلة الجمعة.
وأما هذه النار فإن لها حجارة، ولها دوي لا يدعنا ننام ولا نأكل ولا نشرب، ولا أقدر أن أصف لك عظمها ولا ما فيها من الأهوال، وأبصرها أهل ينبع، وقد حضر قاضٍ منهم، وفي نفس اللحظات انعكس على بغداد الأمر فأصاب بغداد غرقٌ عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد وغرق كثيرٌ من أهلها، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد وانهدمت دار الوزير.
وفي المدينة ضج الناس إلى الله عز وجل، وانتبهوا من مراقدهم، وأخلصوا لله، وأيقنوا بالهلاك والعذاب، وبات الناس تلك الليلة بين مصلٍّ وتالٍ للقرآن، وراكعٍ وساجد وداعٍ إلى الله عز وجل، ومتنصلٍ من ذنوبه، ومستغفرٍ وتائب، ولزمت النار مكانها حتى حدث أن رأى الناس في البصرة أعناق الإبل في ضوء هذه النار.
أيها الإخوة: هذه بعض الأحداث التي حدثت في بلاد المسلمين في هذه الحقبة من الزمن، في أحداث جسيمة جداً، نحن الآن نقول: لا ندري ماذا ينتظرنا، نسأل الله حسن العاقبة، نحنُ يجب أن نرجع إلى الله، يجب أن نتوب إلى الله، يجب أن ننخلع من الذنوب، يجب أن نتضرع إلى ربنا، لا ندري ماذا ينتظرنا أيها الأخوة، لا ندري هل نجتمع أو لا نجتمع؟ هل نتمكن من الصلاة في المساجد أو لا؟ فاغتنموا الفرصة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يدفع عنا البلاء كله، والوباء والمحن والفتن، وأن يُسلم بلادنا وبلاد المسلمين، ونحن نرجو الأمن من الله؛ لأننا بالأمن يمكن أن نعبد الله وندعو إلى الله؛ كما أن جميع المسلمين ينبغي أن يهبوا ويعملوا للإسلام في المحنة هذه، ينبغي أن يضاعف الجهد للعمل للإسلام، لأنك لا تدري هل تستطيع أن تدعو في المستقبل أم لا! هل تستطيع أن تتعلم أو لا! الآن ينبغي أن تضاعف طلب العلم والدعوة إلى الله.
نسأل الله أن يقينا وإياكم هذه الفتن، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل عاقبتنا وعاقبتكم إلى خير، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر