الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنتكلم على شيء مما تبقى من الأحاديث المعلة في أحكام الصلاة.
الحديث الأول: حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في رمضان عشرين ركعة والوتر )، هذا الحديث أخرجه البيهقي في كتابه السنن من حديث إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي عن الحكم عن مقسم عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث معلول بعدة علل:
الأولى: أنه تفرد به إبراهيم بن عثمان في روايته عن الحكم ، وإبراهيم بن عثمان كوفي لين الحديث، وقد ضعفه غير واحد من العلماء كـابن معين عليه رحمة الله، و شعبة بن الحجاج وهو من أعلم الناس بحديثه.
و إبراهيم بن عثمان هو قاضي واسط وهو فقيه، وكذلك أيضاً فإن من عرف بالرأي والفقه خاصةً من أهل العراق فإنهم لا يضبطون المتون على وجوهها فيأتون بها بحروفها، فربما خلطوا المرفوع بالموقوف، وربما رووا الحديث على غير وجهه الذي جاء عليه، حملاً على معنى قد استقر في أذهانهم.
الثانية: تفرد به البيهقي رحمه الله.
وهذا الحديث يخالف ما استفاض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه لم يزد في صلاته في قيام الليل سواءً كان ذلك في رمضان أو غيره على إحدى عشرة ركعة، كما جاء ذلك في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى.
والبخاري و مسلم إذا تنكبا إخراج حديث مع الحاجة إلى مثله فهذا أمارة على علته عندهم، ومثل هذا الحديث يعله العلماء لو لم يوجد له مخالف، كيف وقد جاء له مخالف وهو أصح منه وأقوى! ومثل هذا الأمر أيضاً فإن التفرد به في طبقة متأخرة في مثل طبقة إبراهيم بن عثمان مما لا يقبله العلماء، وإن كان التفرد في ذلك من رجل صاحب فقه، إلا أن الحفظ شيء والفقه والدراية شيء آخر، قال عبيد الله بن معاذ عن أبيه قال: كتبت إلى شعبة بن الحجاج أسأله عن إبراهيم بن عثمان فكتب إلي: لا تكتب عنه ومزق كتابي، يعني: لا تكتب عنه الحديث ومزق الورقة أخشى أن يقرأها أحد.
وهذا يؤخذ منه: أن نقد العلماء عليهم رحمة الله في بعض الرواة يريدون بذلك الحفظ لا يريدون بذلك العدالة، والديانة، والفقه، وإنما يريدون باباً ضيقاً يخشى أن يحمل الكلام على غيره، فقال: ومزق كتابي، يخشى أن يقرأه أحد فينقل كلام شعبة بن الحجاج وهو ذلك الإمام فيكون وقيعة بينه وبينه، وهذا من حكمته ومن سياسته الشرعية.
الثالثة: أنه معلول بالتفرد في هذه الطبقات فإنه يرويه عن عبد الله بن عباس مقسم ويرويه عن مقسم الحكم ويرويه عن الحكم إبراهيم بن عثمان ، وهذه غرابة لو وجدت عادةً من ثقات هي أشد منهم فلا يقبلها العلماء، فكيف ومثل هذا التفرد تفرد بعيد عن مواضع الوحي! وهذا الإسناد إسناد عراقي، ولهذا الأئمة عليهم رحمة الله تعالى يعلون مثله إذا كان ينبغي أن يشتهر مثله في المدينة ثم لم يشتهر فإن هذا من مواضع الإعلال.
ولهذا نلخص أن غاية ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل هو إحدى عشرة ركعة.
وجاء في بعض الروايات ثلاثة عشر ركعة، فمن العلماء من قال: إنها مكررة من بعض الرواة في قوله: صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ومنهم من قال: إنه يدخل فيها سنة العشاء.
وينبغي أن نفرق بين ما ثبت عن الصحابة عليهم رضوان الله من جهة عدد الركعات في صلاة الليل وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ثبت عن الصحابة عشرين وزيادة، وما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام هو إحدى عشرة ولا زيادة على الأرجح، ولكن العموم الذي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمر قال: ( صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح أوتر بواحدة )، هذا إطلاق، ولكن التزامه بعدد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام هو هذا العدد، فذكر العشرين ضعيف عن النبي، وذكر إحدى عشر ضعيف عن الصحابة.
ولهذا جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله وغيره من الصحابة أنهم كانوا يصلون جماعةً في رمضان إحدى عشرة ركعة، وهذا ضعيف قد ضعفه غير واحد من العلماء كـالبيهقي عليه رحمة الله في السنن، و ابن عبد البر كما في الاستذكار، والمحفوظ في الروايات في ذلك عن عمر بن الخطاب هو الصلاة على عشرين ثم يكون في ذلك الوتر، وقد جاء هذا عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى في جملة من الوجوه.
من هذه الوجوه: ما جاء من حديث الحسن البصري عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه خلف أبي بن كعب ليصلي بالناس فكان يصلي بهم عشرين ركعة، فإذا جاءت العشر احتجب وصلى في بيته، فيقول الناس: يبقى أبي ، يعني: أنهم يريدون أبي ، هذا الحديث جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى من وجهين: جاء من حديث الحسن عن عمر بن الخطاب ، وجاء أيضاً من حديث محمد بن سيرين عن بعض أصحابه عن عمر أخرجه أبو داود في كتابه السنن، وأصله في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله، وجاء في بعض الروايات عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى الصلاة إحدى عشرة ركعة، وهو ضعيف، رواه الإمام مالك عن يزيد بن رومان عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله، أنه أمر بالصلاة بالمسلمين في رمضان إحدى عشرة ركعة، وهذا اللفظ منكر، وذلك لأنه مخالف ما استفاض وعرف عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله سواءً كان ذلك من الأحاديث المسندة عن عمر الصحيحة، أو كان ذلك أيضاً من المراسيل، ويزيد بن رومان لم يسمع من عمر شيئاً ولم يدركه، وحديثه في ذلك مردود.
أما الروايات التي جاءت عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله، فمنها ما هي أحاديث صحيحة، ومنها ما هي مراسيل، ومن هذه المراسيل ما جاء في حديث الحسن البصري عن عمر بن الخطاب ، وجاء أيضاً في حديث محمد بن سيرين عن بعض أصحابه عن عمر بن الخطاب .
والمراسيل التي تكون بين التابعين وبين الصحابة أهون من المراسيل التي تكون بين التابعين ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لضعف الثغرة التي تكون بينهم، ثم أيضاً إن العلماء يتساهلون في الموقوفات ما لا يتساهلون في المرفوعات، ولهذا فإن العلماء عليهم رحمة الله يميلون إلى تقوية المراسيل عن الصحابة مع عدم التشديد في ذلك، ومثل هذه المراسيل وإن وجدت في اتحاد أو تقارب في الطبقة بين ابن سيرين و الحسن فإن العلماء عليهم رحمة الله في مثل هذا يغتفرون، خاصةً إذا كان له شاهد في ذلك كما جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى في الصحيح، وكذلك أيضاً جاء من حديث عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب وغيرها.
فالأئمة عليهم رحمة الله يقبلون أمثال هذه المراسيل ويتساهلون فيها ولا يتساهلون فيما يتعلق بالمراسيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا اتحد الشيوخ فإن الأئمة عليهم رحمة الله تعالى يميلون إلى رد الحديث ويشددون في قبوله بمجموع طرق، ولو جاء من طرق متعددة مرسلاً إذا اتحدت الطبقة وغلب على ظنهم اتحاد الشيوخ براوٍ ضعيف، فإن العلماء عليهم رحمة الله تعالى يردون ذلك.
الحديث الثاني: ما جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله أنه كان يقول: (من السنة إذا انتصف رمضان أن يدعى على الكفرة في الوتر)، هذا الحديث أخرجه السلفي في أحاديثه من حديث معقل بن عبيد الله الجزري عن ابن شهاب الزهري عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر بن الخطاب ، وقد تفرد به معقل بن عبيد الله الجزري ، وفي حديثه لين، ولهذا ضعفه يحيى بن معين في رواية، ووثقه جماعة من العلماء كالإمام أحمد عليه رحمة الله، وأبو حاتم ، وله شيء يسير يتفرد به من الأغلاط وهي أحاديث يسيرة، وغالب حديثه حسن، ولكنه تفرد بهذا الوجه واستنكر عليه من وجوه: أن هذا الحديث في البخاري وليس فيه هذه الزيادة، وهي لعن الكفرة في النصف الثاني من رمضان، ولو كانت فيه فلها أثر وحكم لا يدعه البخاري ، ولما كان من غير طريق عبد الرحمن بن عبد القاري أخرجه البخاري وجاء من حديث معقل بمثل الزيادة وتنكبها البخاري فهذا أمارة على علتها وهي تتضمن حكم، وإن كان هذه المسألة فيما يتعلق بمسألة الدعاء في النصف الأخير من رمضان هي محل اتفاق عند الصحابة عليهم رضوان الله، أن رمضان إذا انتصف يقنت، وقبل ذلك لا يقنت فيه، والأحاديث الواردة في عموم قنوت الوتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة لا تخلوا من علة، ولهذا يحكى اتفاق الصحابة على القنوت في الوتر في رمضان في النصف الأخير وعدم القنوت في أوله.
وأما مسألة الصلاة فهذا أمر آخر فإنهم كانوا يجتمعون، وتنكب البخاري عليه رحمة الله كان في إعلاله مع وجود سوء حفظ في بعض حديث معقل بن عبيد الله ، و كون السلفي عليه رحمة الله يتفرد بإخراجه في أحاديثه وعدم إخراج أصحاب المسانيد والمصنفات المشهورة له، وتفرده بالرواية عنه من هذا الوجه الغريب من حديث معقل ، وهذا أمارة أيضاً على علته ونكارته، وكلما كان الحديث في دواوين السنة أبعد عن أصولها فإنه أقرب إلى الضعف مع الحاجة إلى حكمه، ولهذا فأحاديث الأحكام التي يرويها المتأخرون تختلف عن أحاديث الأحكام التي يرويها المتقدمون، وذلك أن المتقدمين لا يدعون شيئاً لمن جاء بعدهم مما يتعلق بالأحكام، فإذا جاء لمن بعدهم شيء من الرواية فإنهم تركوه عمداً لعدم الاعتداد به.
فمن قرائن الإعلال عند العلماء أنهم يقولون: إن الحديث إذا رواه متأخر ومر على متقدم ولم يرويه فما عافته نفسه إلا لأنه لا قيمة له.
فينبغي لطالب العلم إذا وقف على حديث متنه ثمين فلينظر إلى طبقة هذا السند أين هي، وينظر إلى طبقة أهل بلده الذي مر بهم هذا الحديث، مجراه وآثار الناس عليه ما هي، فإذا وجدها قد مرت على أئمة علماء وفي أيضاً جميع الطبقات، أو مر في بلد من البلدان وتركه فما تركوه إلا لوجود علة فيه، وأن ظاهره زيف كزيف النحاس له لمعة ولكن لا قيمة له عند أهل الصنعة.
الحديث الثالث: حديث عمر بن الخطاب عليه رضوان الله، (أنه صلى ركعةً ثم سلم فلحقه رجل فقال: إنك سلمت عن ركعة، فقال عمر بن الخطاب عليه رضوان الله: إنما هو تطوع، يصلي الإنسان ما شاء)، هذا الحديث أخرجه البيهقي في كتابه السنن من حديث قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله، وهذا الحديث تفرد به قابوس بن أبي ظبيان وأبوه قد اختلف فيه، هل هو صحابي أم الصحابي جده؛ لأن له أحاديث يرويها قابوس عن أبيه عن النبي وله أحاديث يرويها قابوس عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم واختلف فيه، وغاية ذلك أن جد قابوس صحابي والخلاف في أبيه، هل أبوه من الصحابة، وهل إذا روى عن أبيه يريد الأب الذي هو من صلبه، أم يريد في ذلك الجد، وهذا من الإشكالات، ولكن من اليسير في هذا أن قابوس بن أبي ظبيان هو متكلم فيه، ولهذا نقول: سواءً كان في روايته عن أبيه في ذلك يروي عن صحابي أو روايته عن جده فالطريق يكون من وجهه، وتفرده بذلك مردود، وقابوس قد ضعفه غير واحد من العلماء لسوء حفظه، ضعفه يحيى بن معين ، والإمام أحمد وغيرهم من العلماء.
وأيضاً نكارة المتن، فإنه لو وقع من عمر بن الخطاب عليه رضوان الله اتفاقاً، ولو لم يقل إن هذا تطوع يصلي الإنسان ما شاء لأمكن إمراره لاحتمال ورود السهو فيه، أو لاحتمال أنه فعله اعتراضاً لا تقريراً لسنة، أما قوله قال نافلة أو تطوع يصلي الإنسان ما شاء منها، فهذا تقرير لشيء يخالف ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما جاء عن الصحابة عليهم رضوان الله قريب من التشريع أكثر من غيرهم، وذلك لما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في السنن وغيره قال: ( عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )، فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر بالتمسك بسنتهم فهم أعلم الناس وأقربهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول عمر: هذا تطوع، يصلي المرء أو الإنسان منه ما شاء أمارة على رد ذلك التشريع، وأنه يرى السنية في ذلك على الدوام في ركعة وركعتين وثلاث أن هذا يستوي، وهذا يخالف ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمر في قوله: ( صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح أوتر بواحدة )، والمعارضة في مثل ذلك يرد بها.
بخلاف من جاء متأخراً من الصحابة من صغارهم، فمخالفته للمرفوع الصريح عن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعل بها صراحةً ويشدد في ذلك، وذلك لاحتمال ورود المخالفة مع القطع بعدم العلم في المخالفة، ولكن لعدم طول الصحبة لحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلما علا الصحابي منزلةً ومرتبة وقرباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خالف الحديث المرفوع عن النبي عليه الصلاة والسلام وفيه أدنى علة، كانت العلة تلك طارحة لهذا الأثر الموقوف؛ لأن مثله يبعد أن لا يطلع عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان الصحابي من صغار الصحابة أو من متأخريهم ممن أسلم متأخراً فخالط النبي عليه الصلاة والسلام السنة والسنتين أو الثلاث بخلاف المتقدمين، فهذا لا يطرح لأدنى علة، وإنما النبي عليه الصلاة والسلام إنما قدم الخلفاء الراشدين كما تقدم في حديث العرباض وذلك لطول مخالطتهم له، وقدم صحبتهم معه، وإدراكهم لسنته ما لم يدركه غيرهم من معرفة صلاته، وخاصته في أمر، وسبر حاله، وطول معاشرته، فإن هذا نوع من الفقه، فنحن نسبر السنة المنقولة عن النبي عليه الصلاة والسلام حتى نفهم ما فهمه الواحد منهم في جلسات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يرونه ويرون حاله ويرون قيامه وشدته في بعض الأمور ولينه، وكذلك أيضاً حرصه على المداومة على أمر أو تخفيفه في المداومة عليه، فهم يدركون شيئاً لا ينص عليه.
فإعلال الموقوف بالمرفوع ينبغي النظر إلى طبقة الصحابي، الطبقة المتقدمة العالية يطرح الموقوف ويرد لأدنى علة قادحة فيه، وأما إذا كان من طبقة متأخرة، فإنه لا يرد لأدنى علة إلا العلة التي يطرح بها الحديث ولا يقبل من جهة أصله، سواءً كان وجد مخالف أو لم يوجد مخالف، وإنما قلنا هذا لأن العلماء من جهة الأصل يتساهلون بالعمل بالموقوفات وذلك لأمور؛ لأن التشديد في المرفوع تشديد في الوحي، والتساهل في غير المرفوع تساهل في غير وحي، والكذب في المرفوع كذب على الوحي وكذب على المشرع، والكذب لو ورد على الموقوف ليس كذباً على المشرع، فالإنسان لا يفعل ذلك تديناً إذا فعل بالموقوف وإنما يفعلها استئناساً، إذا تجرد من شيء مروي.
الحديث الرابع: حديث أبي ذر عليه رضوان الله، أنه قام يصلي فأخذ يخفض ويرفع ثم سلم، فتبعه رجل فقال: أتدري كم صليت؟ قال: الله يدري، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من سجد لله سجدة، رفعه الله بها درجة )، هذا الحديث قد أخرجه الدارمي في كتابه السنن عن أبي ذر عليه رضوان الله، من حديث الأحنف بن قيس عن أبي ذر ، وقد تفرد به محمد بن كثير الصنعاني ، وهو شيخ الدارمي ، و محمد بن كثير الصنعاني ضعيف الحديث بل هو منكر، ويروي هذا الحديث عن الأوزاعي ، وحديثه هذا فرد غريب، ومثله لا يقبله العلماء لو كان من غير ضعيف، وكيف وقد تفرد به محمد بن كثير من هذا الوجه! فهو معلول بعدة علل:
الأولى: أن محمد بن كثير قد ضعفه الأئمة كـيحيى بن معين ، و أبو داود ، والترمذي في كتابه السنن وقال الإمام أحمد : منكر الحديث، وقال النسائي : متروك. وضعفه سائر الأئمة، وهذا الحديث فرد من جهة إسناده وهي علة، ولو كان الرواة على استقامة فإن الحديث ضعيف.
الثانية: أن تفرد محمد بن كثير في طبقة متأخرة مما يرد به الحديث.
الثالثة: أن هذا الحديث يعارض المرفوع مما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قد جعل الصلاة مثنى مثنى، ثم مخالفة أبي ذر لذلك والاستدلال بعموم مع وجود نص صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مما لا يليق بفقه أبي ذر مع استفاضة واشتهار الصلاة من ركعتين، وذلك أنه لما سأله قال: أتدري كم صليت؟ قال: الله يدري، والاتكال على مثل هذا الأمر في الأمور التعبدية ليس من الفقه الذي يليق أن ينسب إلى صحابي، كيف وإذا كان ذلك من فقهاء الصحابة كـأبي ذر عليه رضوان الله، ومثل هذا الأمر ليس بحاجة إلى معالجة في رده، وذلك لظهور العلل فيه.
الرابعة: تنكب أصحاب الأصول لهذا الحديث فلم يخرجه البخاري ولا مسلم ، ولم يخرجه أيضاً أصحاب السنن الأربع، وإنما أخرجه الإمام أحمد عليه رحمة الله من وجه آخر في كتابه المسند من حديث علي بن زيد بن جدعان عن مطرف عن أبي ذر بنحو حديث أبي ذر السابق الذي أخرجه الدارمي ، وهذا إسناد ضعيف، وذلك أنه قد تفرد بروايته عن مطرف علي بن زيد بن جدعان ، وحديثه في ذلك مردود، والأئمة على تضعيفه.
و علي بن زيد بن جدعان مع كونه عربي والعرب يحملون على القبول لحفظهم، إلا أن ذلك ليس على إطلاقه وهو قرشي، ومع ذلك يرد الأئمة حديثه، وفي تنكب الأئمة عليهم رحمة الله على ما تقدم في مثل هذا الحديث أمارة كذلك على رده.
ولكن هل نقول: إن حديث علي بن زيد بن جدعان في روايته عن مطرف تعضده رواية الأحنف عن أبي ذر على ما تقدم التي تفرد بها محمد بن كثير ؟
نقول: إن محمد بن كثير شديد الضعف، والحديث إذا كان فيه راوٍ شديد الضعف فإن الأئمة يجعلون وجوده كعدمه، ولو تعددت الطرق وتعدد الرواة، وذلك أن شدة الضعف غير مأمونة أن يكون ذلك اتحاداً في الطرق، فمخرج الحديث واحد وشديد الضعف ركب راوي مكان راوي، فأصبح بدلاً أن يكون إسناداً واحداً كان على إسنادين، وكلما قلت ثقة الراوي وارتفع عن مرتبة شدة الضعف فإن خلطه في ذلك يقل، خلطه في ذلك يكون في المتن في قلب بعض المعاني، وكذلك أيضاً ربما في بعض الرواة من غير تغيير الطبقة، أما شديد الضعف فهو الذي يقلب الأسانيد ويبدل الرواة حتى يغتر الناقد، أو ربما الناظر في الظاهر على أن بهذه الطرق، ويظن أنها طرق يشد بعضها بعضاً وليست كذلك.
والعلماء عليهم رحمة الله في أبواب تقوية الأحاديث بمجموع الطرق معتبرة عندهم، ولكن يشددون في ذلك كثيراً، على خلاف توسع المتأخرين الذين ينظرون إلى الأحاديث، فإذا وجدوا توافر الطرق وكثرة عددها مالوا إلى تحسينها ولو كان فيها ما فيها من المطروحين، والمتروكين.
وأما ما تقدم من الإشارة إليه من إعلاله بعدم إخراج أصحاب المصنفات المشهورة له، وإخراج الدارمي عليه رحمة الله والإمام أحمد له، فهل هذا من مناهج الأئمة عليهم رحمة الله في قبول مثل هذا؟
نقول: ينبغي أن نعلم أن الإمام أحمد عليه رحمة الله لم يعمد إلى إخراج الأحاديث الصحيحة في كتابه المسند وليس ذلك من شرطه، وكذلك أيضاً فإنه يخرج من الأحاديث ما هو ضعيف لوجود من يحتج ويورد مثل هذا الحديث، فشرط الإمام أحمد عليه رحمة الله يختلف عن شروط غيره مع جلالته، ولهذا لما دفع كتابه المسند لابنه عبد الله قال: على هذا يدور حديث الناس، وفيه ما اشتهر، ونقل هذا أيضاً أبو موسى المديني ، وذكره عن عبد الله عن أبيه أبو الفرج بن الجوزي ، وغيرهم من أئمة الحنابلة.
فشرط الإمام أحمد عليه رحمة الله هو أن يورد ما يحتج به الفقهاء، ولكن هل نقول: إن ما أخرجه الإمام أحمد عليه رحمة الله في كتابه المسند لابد أن يكون له عامل عمل به من الفقهاء، وهل يلزم ذلك؟
نقول: الأصل أنه ما من حديث إلا وله عامل، سواءً كان العمل في ذلك هو عمل ضعيف مطروح مردود، أو كان ذلك عمل له حظ من النظر، ومن نظر في ذلك في الفقه وجد هذا ظاهراً، ولكن ما يذكره الحنابلة عن الإمام أحمد عليه رحمة الله في كتابه المسند أنه ربما أخرج حديثاً في كتابه المسند فكان مرجحاً لأحد قوليه، فهل الإمام أحمد في ذلك يحتج بالأحاديث التي يخرجها في كتابه المسند أم لا يحتج بذلك؟ هذا من مواضع الخلاف عند أصحاب الإمام أحمد.
واختلف الحنابلة في هذا على قولين: منهم من يقول: إن الأحاديث التي في مسند الإمام أحمد هي قول للإمام أحمد ولو لم ينص عليه، وإذا روي عن الإمام أحمد في ذلك قولان فإن الحديث الموجود في مسنده إذا عضد أحد القولين ولا يوجد للقول الثاني عاضد فإن هذا يؤيده، ولهذا يقول ابن مفلح رحمه الله: لا يكاد الإمام أحمد عليه رحمة الله يخالف حديثاً في مسنده إذا لم يكن له قول في المسألة، يعني: إذا جاء عن الإمام أحمد عليه رحمة الله في قول في المسألة فهو مقدم باعتبار صراحته، وإذا لم يكن لديه فإن ما في كتابه المسند هو رأي له باعتبار سكوته عنه، وهذا ليس خاصاً بالإمام أحمد عليه رحمة الله، فيذكره المالكيون عن الإمام مالك في كتابه الموطأ، وكذلك أيضاً ما في المدونة مما يرويه سحنون ، ولا يوجد عن الإمام مالك رواية فما يرويه من مرفوع وموقوف سواءً كان ذلك مسنداً أو كان ذلك بلاغاً، فهذا قول الإمام مالك عليه رحمة الله.
كذلك أيضاً يذكره بعض فقهاء الشافعية عن الإمام الشافعي من أحاديث في كتابه الأم أو ما ألحق في كتابه الأم من أحكام القرآن، أو كتاب العلم، أو اختلاف العلماء وغير ذلك، أو الرد في ردوده التالية للأم هل هي مذهب له أم لا؟
نقول: إذا لم يثبت في ذلك قول للشافعي لا قول قديم ولا قول جديد فإن هذا القول هو قول للإمام الشافعي عليه رحمة الله، وكذلك أيضاً ما يروى عن الإمام الشافعي من غير هذا الوجه من طريقه، إذا جاء عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله حديثاً يسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من الصحابة ولم يكن ثمة قول للإمام الشافعي لا قول قديم ولا قول جديد فإنه لا يكاد يخالف ذلك القول، وهل هذا على اطراده أم لا؟ هذا أيضاً موضع خلاف عند الشافعية، والمترجح في هذا أن الشافعي عليه رحمة الله لا يخالفه، وليس هذا مذهب للشافعي على سبيل التخصيص، بل هو يكاد يكون مذهب سائر الأئمة عليهم رحمة الله، أنهم إذا أوردوا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد إليه فإن هذا هو المذهب عنده، وهذا يجري عليه العلماء عليهم رحمة الله تعالى كثيراً، وذلك في أصحاب الكتب الستة، وكذلك الدارمي ، والإمام أحمد في كتابه المسند، وقبلهم الإمام مالك ، والإمام الشافعي وغيرهم من أئمة الإسلام، ولهذا ما زال العلماء يأخذون مذاهب الأئمة من الأحاديث التي يروونها.
وإن كان بعض العلماء يفرق في هذا بين مدرستين: بين مدرسة الحديث وبين مدرسة أهل الرأي، قالوا: إذا كان ذلك من أهل الحديث فإن الحديث الذي يروونه هو المذهب الذي يذهب إليه وهو المرجع عند ورود الاختلاف، وإذا كان ذلك من أهل الرأي والفقه فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون مذهباً له، قالوا: وذلك أن أهل الكوفة لديهم حديث يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم يقولون بخلافه لبعض القياس، وبعض الأحاديث المخالفة له من وجوه أخرى ولو لم تكن لديهم.
ولهذا جاء من الأحاديث التي يرويها أهل الكوفة ويتفرد بها حماد بن أبي سليمان أو يرويها أبو حنيفة عنه، أو يرويه بعض الفقهاء من الكوفيين كـسفيان الثوري وغيره، فإنهم يقولون بخلافها جرياً على بعض القواعد من أمور القياس أو ربما اتكاءً على شيء من الأثر، وهذا ربما يكون شبيه لبعض الفقهاء مما يتعلقون بعمل أهل المدينة، ولهذا نقول: إنه تفريق وجيه بين المدرستين: بين مدرسة أهل الحديث، وبين مدرسة أهل الرأي، أن مدرسة أهل الحديث يتوجه العلماء عليهم رحمة الله إلى جعل الأحاديث التي يروونها هي أحاديث مذهب يذهبون إليه، وأما من جهة الرأي فإنه لا يكون مذهباً صريحاً لهم باعتبار تمسكهم بالرأي والقياس وتقديمه كثيراً على بعض المعاني الصريحة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد والإعانة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
السؤال: هل التفرد في أمور الأحكام يلحق به ما يتعلق بتفرده من مسائل العقائد؟
الجواب: أمور العقائد كأمور الأحكام على قسمين: أمور أحكام وعقائد ظاهرة فهذه يشدد فيها، وأمور أحكام وعقائد ليست بظاهرة فهذه لا يشدد فيها، يعني: أن باب الأحكام وأمور العقائد باب متسع، فهناك من أمور الأحكام ما يتعلق بالسنن الخفية وهي داخلة في أمور الأحكام، وهناك مسائل في العقائد كبعض المسائل اليسيرة في مسائل الصفات فإن العلماء عليهم رحمة الله عادةً أنهم لا يشددون في ذلك، وأما الأصول الظاهرة العامة الكبيرة التي تتعلق مثلاً بالتشبيه، وتتعلق مثلاً بالتكييف، أو تتعلق مثلاً بأصل الإيمان بأمور القضاء والقدر، وتتعلق أيضاً بأمور البعث، والبرزخ، ونحو ذلك، مثل هذه الأمور العلماء يشددون فيها.
كذلك أيضاً في أمور الأحكام مما يكون من الأصول الظاهرة ما يتعلق بأمور الصلاة في شروطها، وأركانها، وواجباتها، وكذلك أيضاً ما يتعلق بالأمور الظاهرة من أمور الصيام، وأمور الزكاة، وكلما كانت الحاجة إلى النص أظهر كان التشديد فيه أقوى وأشد، وذلك أن الأحكام تتباين، وهذا وجه من وجوه الاعتبار.
وثمة وجه آخر: أنه كلما تلبس الإنسان بهذا الحكم ولو كان يسيراً في الشريعة كانت الحاجة إلى نقله أشد، وتقدم الكلام على التفريق بين المسائل التي تعم بها البلوى من الأحكام اليومية وبين ما هو أشد منها من الأحكام الحولية، ولا تمر على الإنسان إلا في الشهور أو في الفصل أو نحو ذلك فهذا يخفف فيها دونها ولو كانت تلك المسألة دون تلك المسألة، مثال ذلك: ما يتعلق مثلاً في الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية، هي من مسائل الفروع كتقييمها، حتى من أنكر هذه المسألة كلها لا يقال بتظليله، فالأئمة عليهم رحمة الله يشددون في مثل هذا؛ لأن الإنسان يسمعها كل يوم في الصلاة فلماذا لم تنقل؟ إذاً فالحاجة إليها ظاهرة، وقد يكون في مسألة بعيدة هي آكد منها فلا يشددون فيها، لماذا؟ لأنها تمر في الحول من أمور الأحكام الحولية، كبعض مثلاً أحكام صلاة العيد، أو نحو ذلك التي لا تأتي على الناس إلا في الحول، أو بعض أحكام الاستسقاء، ولو كانت هي من جهة حكمها في الشريعة تتعلق مثلاً بواجب في الصلاة أو بشرط فيها أو نحو ذلك فكيف إذا استويا!
ولهذا يفرق بين الشيء اليومي والأسبوعي، مثل أحكام الصلوات الخمس ولو كانت دون أحكام الجمعة ظهوراً يشدد فيها ما لا يشدد في الجمعة في بعض مسائل الجمعة وسننها باعتبار أنها أسبوعية، وما يتعلق أيضاً بالمسائل الشهرية من أحكام ما يتعلق برؤية الهلال وغير ذلك لا يشدد فيها كما يشدد في الأمور اليومية في المواقيت في طلوع الشمس وغيرها، وهذا أمر لازم، ولهذا تجد الأحاديث الواردة في طلوع الشمس وغروبها والأحكام المتعلقة فيها أكثر مما يتعلق بطلوع الهلال، باعتبار أنه كلما اتسع الزمن قل إيراد الحديث والحاجة إليه.
فثمة اعتبارات عند العلماء في هذا الباب ينظر إليه من هذه الوجوه، ولا يقال أن كل مسألة اعتقادية يشدد فيها لكونها اعتقادية، ربما تكون من مسائل الاعتقاد الخفية، أو من أمور الغيب، ولكن مثل هذا الأمر قد لا يشدد فيه من جهة الشريعة، وحفظ الواحد له أو ترك بلاغه هذا من الأمور التي يكون من الحكمة أن الإنسان لا يحدث العامة بكل شيء يعلمه من مسائل الصفات، ربما لا تعيها عقولهم، يتحدث الإنسان ببعض الصفات الدقيقة التي لم ترد في السنة إلا من طريق أو طريقين ونحو ذلك، ويتحدث الإنسان لكل أحد، مثل هذا الأمر ربما يلتبس على بعض الناس لضعف عقولهم عن إدراك مثل هذا الأمر، ولهذا يكون عند بعض العلماء عدم إيراد الأحاديث وحبسها تديناً في مثل هذا لأنها لا تعيها أمور الناس، وكذلك أيضاً ما يتعلق مما لا يحتاج إليه لا في اليوم ولا في الأسبوع ولا في الشهر ولا في السنة، ما لا يحتاج إليه من أمور الفتن من أحاديث الفتن التي تحدث في آخر الزمان، فالعلماء عليهم رحمة الله يتسامحون في ذلك؛ لأن العلماء لا يتناقلونها في المجالس ولا يتحدثون بها إلا نادراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر