الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنكمل شيئاً مما يتعلق بأحاديث الصلاة التي تكلم عليها العلماء بشيء من الإعلال.
وأول هذه الأحاديث: هو حديث أبي سعيد الخدري عليه رضوان الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بالحمد في كل ركعة فريضة أو نافلة )، هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في كتابه السنن من حديث أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث حديث منكر، والنكارة فيه في الرواية التي في إسناده وهي في قوله: ( أن يقرأ بالحمد في كل ركعة )، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، هكذا جاء بإطلاق، وهذا الإطلاق نشأ عنه خلاف العلماء عليهم رحمة الله في هذا هل هي ركن في كل ركعة أو ركن في الصلاة كلها! فلو قرأها الإنسان في الركعة الأولى تحولت من ركن إلى مستحب أو واجب فيما يليها من الركعات.
ومن قال بأنها واجبة في كل ركعة استدل بعموم الحديث بأن المراد بالصلاة: هي الركعة، فقد يصلي الإنسان مثلاً: ركعة واحدة كالوتر فتجب عليه فيها، وكذلك أيضاً فإن الركعة الثانية منفكة عن الأولى من جهة أركانها وواجباتها فيؤدي ما أوجب الله عز وجل عليه.
ويستدلون كذلك أيضاً بهذه الرواية في قوله: ( في كل ركعة ، فريضة أو نافلة)، هذه الزيادة في قوله: ( في كل ركعة )، هي زيادة منكرة، والحديث بها منكر، وعلى ما تقدم أخرج الحديث ابن ماجه رحمه الله في كتابه السنن من حديث أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قد جاء من وجه آخر عند أبي داود في كتابه السنن، وكذلك عند الإمام أحمد في كتابه المسند جاء من حديث قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، فذكرها ولم يذكر ( في كل ركعة )، وهذا هو الصواب في لفظ الحديث، وأما ذكر ( في كل ركعة )، فليست بمحفوظة.
والذي تفرد بهذا الحديث هو أبو سفيان السعدي ويسمى طريف بن شهاب وقد ضعفه الأئمة عليهم رحمة الله، وضعفه يحيى بن معين و أبو حاتم وغيرهم من النقاد فهم على ضعفه، وقد تفرد بهذه الزيادة.
كذلك أيضاً فإن الحديث معلول أيضاً بعلة أخرى: أنه معلول بالوقف، أن هذا الحديث معلول بالوقف، فتارةً يروى مرفوعاً وتارةً يروى موقوفاً، رواه قتادة و أبو سفيان السعدي كلاهما عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء في حديث قتادة قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ القرآن أو نقرأ فاتحة الكتاب في الصلاة )، وهذا جاء عام، جاء الحديث موقوفاً على أبي سعيد الخدري خالفهما أبو مسلمة يرويه عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري موقوفاً عليه فلم يرفعه، رواه عن أبي مسلمة شعبة بن الحجاج ، يرويه شعبة بن الحجاج عن أبي مسلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري وجعل هذا الحديث موقوفاً عليه.
واختلف فيه على شعبة بن الحجاج فتارةً يروى مرفوعاً، وتارةً يروى موقوفاً، أكثر أصحاب شعبة بن الحجاج يروونه موقوفاً عنه، إلا رواية عثمان بن عمر عن شعبة بن الحجاج فيجعله مرفوعاً يوافق فيه رواية أبي سفيان السعدي و قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري ، وهذا الحديث على ما تقدم أن ذكر ( في كل ركعة )، ليس بمحفوظ وهي منكرة، ولو قيل أيضاً بالحديث كله بغير هذه الزيادة فالحديث أيضاً معلول بالوقف، وقد وقع خلاف عند العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذا من جهة قبول الحديث.
والعلماء عليهم رحمة الله عند الاختلاف بين الوقف والرفع فإنهم يميلون إلى ترجيح الوقف، فهم غالباً في طريقتهم أنهم يميلون إلى ترجيح الوقف، والسبب في ذلك هو الاحتياط أنهم يحتاطون في الرواية، فيقولون: إن قصره على الصحابي في هذا يقين، أما رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ظن، فيؤخذ باليقين ويترك الظن، وهذه قرينة يأخذونها في الأغلب ولكنهم لا يطردون فيها، وبهذا نعلم أن الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة الفاتحة في كل ركعة ضعيف، ويغني عنه ما جاء في العموم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وعلى هذا نقول: إن الاستدلال بهذه الزيادة استدلال ليس بصحيح، والزيادة منكرة في ذاتها، والحديث أيضاً معلول بين الرفع والوقف.
الحديث الثاني: هو حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف فصل السورتين ببسم الله الرحمن الرحيم )، يعني: إذا أنزل الله عز وجل عليه بسم الله الرحمن الرحيم يعرف أن السورة اكتملت ثم ابتدأت السورة الأخرى، هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتابه السنن، ورواه الإمام أحمد أيضاً في كتابه المسند من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان لا يعرف الفصل بين السورتين حتى ينزل الله عز وجل عليه بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا الحديث يرويه عن سفيان بن عيينة جماعة هكذا مرفوعاً مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرويه عنه قتيبة بن سعيد ، ويرويه كذلك أبو كريب ، و أحمد بن محمد الرازي يروونه هكذا جزماً فجعلوه مسنداً من حديث عبد الله بن عباس ، رواه أحمد بن عبدة وشك في رفعه فتارةً يجعله مرفوعاً، وتارةً يجعله موقوفاً على عبد الله بن عباس .
الحديث أيضاً أعل بغير الشك أعل بالإرسال، هذا الحديث أعل بالإرسال، وذلك أنه جاء في بعض وجوهه من رواية سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه أبو داود في كتابه المراسيل، وقال: أسند هذا الحديث وهذا أصح، يعني: المرسل، فـأبو داود رحمه الله أخرج الحديث مسنداً وأخرجه مرسلاً، مسنداً في السنن، ومرسلاً في المراسيل.
ومن القرائن في الترجيح: أن أبا داود رحمه الله إذا روى الحديث مسنداً في السنن ورواه مرسلاً في المراسيل فإن ترجيح المرسل عنده أقرب، وهذا أيضاً بالنسبة للنظرة الغالبة في طريقة العلماء عند الاختلاف بين الحديث الموصول المسند وبين المرسل إذا وقع خلاف متساو أو متقارب فإنهم يرجحون المرسل على المسند المتصل، وهذا على ما تقدم من باب الاحتياط، ويستثني العلماء من ذلك بعض الصور، وذلك لقرائن ربما تحتف بالمسند فيقومون بتقويته، وتحتف أيضاً بالمرسل فتدفع ترجيحه.
ومن هذه القرائن التي يذكرها العلماء في الترجيح أنه ربما يكون من عادة الراوي الإرسال، من عادته أنه يرسل، وهذا يوجد حتى عند بعض الحفاظ الكبار أنه ربما يروي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرسله وهو مسند، هذا يوجد عند بعض الكبار كالإمام مالك رحمه الله، وكذلك عند ابن شهاب الزهري ، فإنه ربما يروي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام ويرسله، سبب الإرسال عندهم أن شيوخه معروفون فلا حاجة إلى ذكرهم، فكأنه يحدث ناساً بإسناد معلوم فيرسل، فيرويه بعض أصحابه مرسلاً عنه، ولهذا تجد عند هؤلاء الأئمة كالإمام مالك رحمه الله يروى عنه الحديث مثلاً من وجه مرسل ومن وجه مسند، ولا يسمى هذا اضطراباً ما تقاربت في ذلك الوجوه.
ولهذا نقول: ينظر إلى حال الراوي من جهة إرساله وعادته وطريقته في الرواية، فإذا كان له منهج من جهة الإرسال ويغلب عليه أو مثلاً في بعض الأحيان يرسل فهو من عادته أن يرسل هذا، وذلك أن النفس ربما يتعلق همها في التحديث بالمتن لا بالإسناد، فتستثقل ذكر الإسناد لأنها تريد المتن فتختصر الطريق، خاصةً من يروي عن ثقات كبار في بلد يغلب فيهم الثقات كحال المدنيين، الإمام مالك رحمه الله شيوخه في هذا ثقات، أسانيده في هذا أيضاً يحدث عن الثقات فربما أسقط راوياً من الرواة أو أسقط الإسناد، ومراده في ذلك أن الإسناد في هذا معلوم.
ومن الوجوه أيضاً التي يروى بها هذا الحديث: أنه جعل مرسلاً من حديث عمرو بن دينار يرويه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا الوجوه الأربعة في هذا، ذكرنا أن الوجه الأول في هذا هو ما يرويه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس مجزوماً به، وذكرنا الوجه الآخر في هذا والوجه الثاني هو ما يرويه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس بالشك مرفوعاً أو موقوفاً عليه، وتارةً يرسله.
الوجه الثالث في هذا: هو ما يرويه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير مرسلاً.
والوجه الرابع في هذا: هو ما يرويه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ويسقط سعيد بن جبير و عبد الله بن عباس ، فهذا أيضاً من الوجوه.
ولهذا أخذ هذا الحديث على أنه مضطرب عند غير واحد من النقاد، وإن كان من جهة المعنى في هذا صحيح وإنما أوردناه في ذلك أن العلماء رحمهم الله يختلفون في ذكر البسملة لمن سرد السور، فهل الاستعاذة والبسملة تكون في المرة الأولى ثم يقرأ بعد ذلك ما شاء حتى لو كان من القصار، أم حتى في الفواصل يعيد ذلك؟ هذا من مواضع الخلاف وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله.
وكذلك أيضاً فرع عن هذا الخلاف اختلفوا أيضاً في المصلي عندما يقرأ في صلاته، فقرأ مثلاً: من القصار فهل في كل بداية سورة يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم أو تكفيه الجهرة الأولى؟ هذا أيضاً فرع عن هذا الخلاف في هذه المسألة ولها موضعها ومباحثها في أبواب الفقه.
الحديث الثالث في هذا: هو ما جاء عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا علي إني أرضى لك ما أرضى لنفسي، وأكره لك ما أكرهه لنفسي، أن لا تقرأ القرآن وأنت جنب، ولا وأنت راكع، ولا وأنت ساجد، وأن لا تدبح برأسك تدبيح الحمار وأنت راكع ).
هذا الحديث قد أخرجه الدارقطني في كتابه السنن من حديث أبي نعيم النخعي عن أبي مالك النخعي عن عبد الملك بن حسين عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث حديث منكر، أبو نعيم النخعي وهو عبد الرحمن بن سعيد الكوفي النخعي وهو سبط إبراهيم النخعي تفرد بهذا الحديث ورواه من غير وجه، فيرويه بهذا الإسناد أبو نعيم النخعي يرويه عن أبو مالك النخعي عن عبد الملك بن حسين عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب ، وهذا الإسناد هو الوجه الأول، ويرويه أيضاً عن عاصم بن كليب عن أبي بردة عن أبي موسى ، فجعله من حديث أبي موسى ، وجعل الحديث الأول من حديث علي بن أبي طالب ، وهذا الحديث حديث منكر بأسانيده باعتبار أن مداره على أبي نعيم النخعي ، و أبو نعيم النخعي متروك الحديث، وقد ضعفه عامة الأئمة كالإمام أحمد ، و ابن معين ، و علي بن المديني ، و النسائي ، وغيرهم على رد روايته.
وفي هذا الحديث تضمن مسألة من المسائل وهي صفة المصلي في ركوعه، وذلك أن الإنسان إذا وضع رأسه في الركوع فهو إذا طأطأه ولم يكن مساوياً لظهره يكون كحال الحمار الذي يتدلى رأسه إما ليأكل أو بين يديه، فنهى الشارع عن ذلك، وسمي: تدبيح الحمار، وهذا جاء فيه النهي هنا، ولكن نقول: إن النهي في ذلك لا يثبت، وإن كان من جهة المعنى والصفة تكره هذه الفعلة باعتبار أنها مخالفة لصفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.
ومن وجوه الإعلال في هذا الحديث: أن الراوي إذا كان ضعيفاً فروى الحديث الواحد من أكثر من وجه فإن هذا قرينة على ضعفه وضعف الرواية، وكيف يكون هذا قرينة على ضعف الرواية؟
الراوي إذا كان ضعيفاً هو في ذاته ثم يروي حديثاً من الأحاديث الكبار ثم يرويه بمخرجين وثلاثة بتحديث واحد هذا لا يقبل منه وإنما يقبل من الكبار، وعادة الأئمة في الرواية أنهم إذا رووا حديثاً ولو كان كبيراً يروون له إسناداً واحداً لا أن يروي له ثلاثة أسانيد وهو حديث واحد، والراوي في ذلك مثلاً هو ضعيف، ثم يتفنن بتعدد المخارج، وهذا الحديث مثلاً في هذا مثلاً: يرويه أبو نعيم النخعي عن أبي مالك النخعي عن عبد الملك بن حسين عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي بن أبي طالب ، وجاء أيضاً من حديث أبي مالك في روايته عن عاصم بن كليب عن أبي بردة عن عبد الله عن أبي موسى الأشعري وهذا أيضاً وجه لا يحتمل التفنن والتعدد في مثل هذا.
ولهذا نقول: من القرائن في رد الحديث أن الراوي إذا كان ضعيفاً في ذاته فتعددت مخارج الحديث عنده، فهذا اضطراب لا متابعة، وهي قرينة على عدم حفظه، هذا يقبل من الكبار الذين يروون سواءً كانوا من طبقة التابعين مثلاً كـسعيد بن المسيب أو مثلاً كـأبي سلمة أو المقبري أو غير هؤلاء الذي يروون الحديث عن الصحابي والصحابيين والثلاثة، أو ممن جاء بعدهم كـابن شهاب الزهري وأضرابه، أو كالكبار كـمالك و شعبة و سفيان وغيرهم.
ولكن إذا كان الراوي ضعيفاً في ذاته أو متوسطاً ويروي متناً واحداً بالتفنن بأكثر من وجه هذا قرينة على الضعف، لأن الراوي والناقل للحديث إذا كان من أهل العناية بالرواية فالأولى أن يروي الأحاديث الأخرى بأسانيد جديدة لا أن يروي حديثاً واحداً بثلاثة أو أربعة أسانيد وهي أولى بالضبط، فالذي يروي حديثاً واحداً بثلاثة أسانيد وليس له كبير حديث، فهذا دليل على أنه روى واحداً واضطرب فيه، بخلاف الذي لديه مئات أو آلاف الأحاديث يرويها ثم جاء بحديث ورواه على عدة أوجه يحتمل منه التفنن في الرواية وتعدد الأسانيد عليه، ولهذا نقول: لو كان أبو نعيم الكوفي النخعي في هذا من الرواة المتوسطين كأن يكون صدوقاً في روايته مثلاً لم يقبل منه هذا، والسبب في ذلك أن أبا نعيم أو من في طبقته لا يحتمل منه هذا التعدد.
كذلك أيضاً من وجوه الإعلال في هذا: أن هذا التفرد جاء في طبقة متأخرة، فطبقة أبي نعيم النخعي طبقة متأخرة، ومثلها لا يتفرد بمثل هذا الحديث، وينبغي أن يرويه غيره؛ لأن هذا من المنهيات ويحتاج إليه، وربما تعم به البلوى، والناس إذا صلوا ربما يقع من الإنسان حني لرأسه يحني رأسه فينظر إلى ركبتيه أو ينظر إلى قدميه أو ساقيه، فيقع هذا من الناس، وهي أولى بالنقل من كثير من المنهيات التي تكون في الصلاة، وذلك كالنهي عن إقعاء الكلب، وإقعاء الكلب من صوره أن يجلس الإنسان على إليتيه وينصب ساقيه، وهذا نادر أن يكون من الإنسان في الصلاة إلا بتكلف، وتلك الصورة أحوج إلى الدلالة على النهي، ولهذا نقول: إن مثل هذا ينبغي أن لا يتفرد به.
من وجوه الإعلال أيضاً: أن هذا الحديث مما يتفرد به من هذا الوجه الكوفيون، فيرويه أبو نعيم النخعي عن أبي مالك النخعي عن عبد الملك بن حسين عن أبي إسحاق عن الحارث ، وهذه سلسلة عراقية، والعلماء رحمهم الله في أبواب النقد يحترزون من الأسانيد التي تتسلسل في بلد ولا يكون مرد الحديث بلفظه أو قريباً منه في مواضع الوحي ومهابطه وهي مكة والمدينة، فيحترزون من مثل هذا.
كذلك أيضاً من علل الحديث: هو تفرد الحارث الأعور بروايته عن علي بن أبي طالب ، و الحارث الأعور ضعيف الحديث ومنهم من وصفه بالكذب كـعلي بن المديني رحمه الله وذلك لكثرة غلطه، ولا يظهر أن المراد بالكذب هو أنه يفتري ويختلق الأحاديث، فلا يظهر هذا وهو فقيه فرضي والأصل في أحاديثه الرد.
كذلك أيضاً من العلل: أن هذا الحديث يرويه أبو إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور ، و أبو إسحاق أيضاً في سماعه المرفوعات عن الحارث الأعور عند الأئمة نظر، وبهذا نعلم أن هذا الحديث مليء بالعلل الإسنادية وكذلك أيضاً المتنية، والغالب أيضاً في أسانيد العراقيين فيما يتفردون به عن أهل المدينة من أصول المسائل ومشهور وأعلام الأحكام أنهم يتفردون بالمناكير في مثل هذا الباب.
الحديث الرابع هو حديث أبي سعيد الخدري وهو بنحو النهي الذي جاء في حديث علي بن أبي طالب ، وقد جاء من حديث أبي سفيان السعدي طريف بن شهاب عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر النهي الذي جاء في حديث علي بن أبي طالب وهذا الحديث أيضاً مردود ووجه رده أن هذا الحديث تفرد به أبو سفيان طريف بن شهاب وهو ضعيف الحديث على ما تقدم ففي روايته عن أبي نضرة عن أبي سعيد أيضاً خلاف في الرفع والوقف، وهل جاء حديث بمعنى هذا؟ نقول: جاء في مخالفته من جهة الفعل لا النهي عن المخالفة، وذلك ما جاء في حديث أبي سعيد من حديث عائشة عليها رضوان الله في صحيح الإمام مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ركع هصر ظهره فلم يرفع رأسه ولم يطأطئه وصوبه، معنى ذلك: أنه يستوي ويستوي رأس الإنسان بظهره فلا يرفعه ولا يطأطئه، فهذا هو فعل النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا مع ثبوته هو في صحيح الإمام مسلم، فلماذا أوردنا الأحاديث الواردة السابقة في ذلك وهي في حني الإنسان لرأسه في ركوعه مع ثبوت فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ نقول: إن الفعل يختلف عن قصد النهي وذلك أن النهي قدر زائد في ذلك باعتبار أن العلماء رحمهم الله في الأحاديث التي ينهى عن فعلها في الصلاة فعل من الأفعال يقع في ذلك خلاف عند العلماء رحمهم الله، هل هذا المنهي عنه يبطل الصلاة أو لا يبطلها؟ وذلك كمسألة بسط الذراعين كبسط الكلب، وكذلك أيضاً الإقعاء، والنظر إلى السماء وإن كان جماهير العلماء وعامة السلف أو قال الأئمة الأربعة إلى أنها لا تبطل وإنما هي تنقص الأجر، بعض العلماء كما يذهب إليه بعض الفقهاء من الظاهرية إلى أن المنهيات في الصلاة تبطلها، وهذا قول ضعيف، ونفرق بين ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام من جهة فعله، وبين النهي عنه، فهذا أمر آخر، وذلك مثلاً كالإشارة بالإصبع، مثلاً: إذا كان ثبت عن النبي الإشارة بالإصبع في الصلاة ودل دليل عن النهي عن عدم الإشارة، هذا دليل على التغليظ، ومجرد الفعل يدل على السنية ولو لم يفعل الإنسان ذلك فإنه لا حرج عليه فالنهي هو قدر زائد في هذا، ولهذا نقول: إن هذه الأحاديث في النهي أحاديث منكرة، والثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام إنما هو الفعل.
الحديث الخامس هو: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد بسم الله الرحمن الرحيم آيةً من الفاتحة )، هذا الحديث أخرجه الدارقطني في كتابه السنن من حديث عمر بن هارون البلخي عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة .
وهذا الحديث أعل بـعمر بن هارون البلخي ، و عمر بن هارون البلخي هو ضعيف الحديث عند عامة العلماء، ومنهم من اتهمه كـابن معين وقد ضعفه الإمام أحمد رحمه الله و أبو داود و النسائي وغيره، وكذلك أيضاً فإن تفرده بهذا الحديث وهو في طبقة متأخرة أيضاً أمارة على رد الحديث الذي جاء به فإنه في طبقة متأخرة، كذلك أيضاً فإن عمر بن هارون البلخي في إيراده لهذا الحديث تفرد به عن ابن جريج ، وهذا التفرد هل يحمل منه أو لا يحمل؟ نقول: إن التفرد بهذا الحديث الأصل عدم قبوله من عمر بن هارون إلا إذا كان ثمة قرينة تدعوا إلى قبول التفرد، وثمة قرينة هنا، وهذه القرينة هي أن عمر بن هارون البلخي يروي هذا الحديث عن ابن جريج و ابن جريج بينه وبينه مصاهرة وذلك أنه قيل: إنه زوج أمه، أن ابن جريج زوج أم عمر بن هارون البلخي ، وقيل: إنه زوج أخته، اختلف العلماء رحمهم الله في هذا، وهذا يدل على القرابة، ولهذا أكثر بالرواية عنه، وهل هذا يغتفر فيه التفرد؟ نقول: يغتفر التفرد لو كان عمر بن هارون ثقة أو دون ذلك من المتوسطين، ولكن لما كان ضعيفاً أو متروكاً لا يقبل منه ذلك خاصةً أن ابن جريج من أئمة الرواية ومثل مروياته لا تخفى ولا يتركها خاصة أصحابه خاصةً في مثل هذه المسألة المحسومة، ومعلوم أن القراء قد اختلفوا في قراءتهم بالبسملة هل هي آية من الفاتحة أم لا! ولهذا يختلفون تبعاً لذلك فيمن ترك بسم الله الرحمن الرحيم هل صلاته صحيحة أو ليست بصحيحة!
وقد ذكر غير واحد من العلماء كـالقرطبي وكذلك ابن العربي وغيرهم إلى أن من تركها ولو كان متعمداً لا تبطل صلاته، قالوا: لأن القرآن لا يختلف فيه، فلما اختلف في البسملة هل هي آية أو ليست بآية دل على أنها ليست بآية لأن القرآن محفوظ فلا يوجد آية مختلف فيها، وهذا دليل على أن من تركها لا تبطل بذلك صلاته، وإنما ترك شيئاً مستحباً، ولهذا من شك في آية من القرآن هل هي قرآن أنزلها الله عز وجل وحياً أو لم ينزلها على سبيل التعيين فقد شك في أصل التنزيل وفي حفظه باعتبار أنه محفوظ، ولكن الخلاف عند العلماء رحمهم الله لا في بسم الله الرحمن الرحيم بذاتها لأنهم يقطعون بأنها من القرآن ووحي منزل في أوائل السور، لكن هل هي متداخلة مع هذه السورة متصلة بها معدودة منها أم لا؟
وهي أيضاً محل إجماع على أنها في سورة النمل، وأنها آية في أثنائها، وفي أوائل السور هي فاصل بين السورتين، وهل هي متصلة بالفاتحة باعتبار أنها آية منها أم منفصلة عنها؟ هذا هو موضع الخلاف، وعلى هذا نقول: إن كونها متصلة بالفاتحة ووقوع الخلاف في ذلك دليل على أنها ليست منها، ومن تركها متعمداً فصلاته صحيحة، وعلى هذا نحمل ما جاء في بعض القراءات أن البسملة من الفاتحة، نقول: إن قراءة البسملة في مقدمة الفاتحة أو في غيرها أمر مشروع لا خلاف عند العلماء في ذلك، وإنما الخلاف في هذا هل هي منها أم فاصلة أو مقدمة لها؟ فهذا هو موضع خلاف، فربما نقلت عن النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الأمر.
إذاً بحث هذه المسألة ليس بحثاً أنها من القرآن إذا سقطت من هذا الموضع سقط شيء من القرآن نقول: لا، القرآن تام بحروفه وهو كامل محفوظ حفظه الله سبحانه وتعالى، ولهذا نقول: إن الحديث في هذا هو حديث عمر بن هارون البلخي في تفرده بهذا الحديث، يرد العلماء روايته فيه خاصةً لضعفه.
ومن القرائن في هذا: أن عمر بن هارون له مفاريد يتفرد بأشياء مناكير تخالف الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، من ذلك ما أخرجه الترمذي رحمه الله في كتابه السنن من حديث عمر بن هارون البلخي عن أسامة بن زيد عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها، وهذا الحديث منكر، وقد تفرد به عمر بن هارون عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام، و عمر بن هارون على ما تقدم هو ضعيف الحديث جداً، وتفرده بهذا الحديث هو مخالف أيضاً لظواهر الأدلة التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا دليل على رده.
ثم أيضاً مثل هذا لو كان معروفاً عن النبي عليه الصلاة والسلام لنقل، ومفاريد الراوي إذا عرفه طالب العلم أو الناقد تدله على وهم الراوي في موضع آخر، ومعنى هذا: أن الراوي إذا جاء في موضع من المواضع أو في حديث من الأحاديث حتى لو كان مثلاً أحسن حالاً، لو لم يكن ثمة أحاديث أخرى له مناكير يرد بها الحديث لكن إذا وجد أحاديث مناكير تطرح الحديث ويجزم بها الإنسان، لأن له أحاديث أشد من هذا أو مثلها فيرد بذلك الحديث، لهذا نقول: إن مما ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن ينظر في حديث راو من الرواة أن ينظر في مروياته الأخرى هل فيها شيء مطروح، هل فيها مفاريد، هل فيها منكرات، إذا كان فيها شيء من ذلك فهذا قرينة على أنه ما حفظ هذا الموضع، وكلما كانت رواية الراوي من جهة العدد أكثر وأوفر من جهة الرواية وغلطه أندر شق على طالب العلم أن يرد روايته في الموضع الذي بين يديه كأن يكون لدى الراوي مائة حديث ولم يجد له حديثاً منكراً إلا واحد هذا قليل خاصةً إذا كانت النكارة ليست نكارة شديدة فضلاً أن يكون له خمسمائة حديث أو ألف حديث ولم يستنكر العلماء له إلا حرفاً أو حرفين أو حديثاً أو حديثين والبقية نقية ظاهرة، نقول: هذا يجعل طالب العلم يحترز، لكن لو زادت نسبة النكارة وجدنا له أحاديث واهية تفرد بها يعطي طالب العلم جسارة على رد حديثه الذي بين يديه إذا خالف غيره، وهذا يختلف بحسب الحال وبحسب الموضع وأيضاً نوع المتن.
عمر بن هارون في روايته لهذا الحديث جاء له متابع عند البويطي وهو من أصحاب الشافعي رحمه الله أنه قال: أخبرني غير واحد عن حفص بن غياث عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة فذكر الحديث بقوله: أخبرني غير واحد، هنا في هذا الإسناد جهالة لم يخبر عن شيوخه فيما حدث به عن حفص بن غياث ، هل مثل هذا يقبل عند العلماء إذا قال الراوي: حدثني غير واحد ثم أسند عن شيخ شيوخه؟
نقول: إن هذا لا يقبل في المرفوعات وقد يتسامح فيه فيما دون ذلك، إما مقاطيع أو نحوها فهذا يمكن أن يقبل، أما إذا حدث عن جماعات فقال: حدثنا شيوخنا، أو حدثني غير واحد من الرواة، فهذا لا يقبل، لاحتمال أنه يروي عن شيخين ضعيفين أو عن شيخين متروكين، فحينئذ يصدق عليه حدثني غير واحد، ومعلوم أن الراوي إذا كان ضعيف الحديث جداً أن المتابعة لا تقبل حينئذ، ووجود الرواية كعدمها، وبهذا نقول: إن الراوي إذا حدث بحديث واحد وهو ضعيف جداً ثم جاء له متابع مثله أو أحسن منه حال نقول: الإسناد الذي فيه ضعيف جداً ووجوده كعدمه.
ومن الطرق والوسائل التي يسلكها بعض المتأخرين من المخرجين ونحو ذلك إذا كان لديه مثلاً حديث واحد ووجد له طرقاً متعددة: خمساً أو سبعاً أو عشراً اغتر بها وبكثرتها وهي لا تخلو من مجاهيل العين، وكذلك أيضاً من ضعفاء جداً، أو من متروكين، ثم قام بتقوية الحديث بهذه الكثرة، لهذا نقول: ينبغي أن لا يغتر بكثرة الطرق ما دام فيها ضعفاء وضعفهم في ذلك شديد، لأن الواحد منهم لا يقوم بغيره فكيف يقوم بنفسه!
أسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم إلى رضاه وهداه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر