بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى أراد بحكمته البالغة استمرار الصراع بين الحق والباطل في هذه الدار التي هي الدار الدنيا، وبدأ ذلك من إهباط آدم وحواء وإبليس إلى هذه الأرض، فقد أراد الله بحكمته البالغة أن يبقى على هذه الأرض حزبان هما: حزب الله، وحزب الشيطان، وأن تكون هذه الدار مسرحاً للصراع بينهما، ولن يقضي أحدهما على الآخر فيها، بل مصلحة الدنيا في بقاء تدافعهما؛ فكل واحد منهما يدفع الآخر ما استطاع، ويعين الله سبحانه وتعالى أولياءه وحزبه فتكون العاقبة لهم، ولكن لا يمكن أن يقضى على الباطل بالكلية على هذه الأرض، ولهذا قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251].
ووجه ذلك: أنه لو تمحض الحق على الأرض فلم يبق للباطل وجود لاستحق أهل الأرض أن ينتقلوا إلى الجنة، فهذه الدار دار الكدر والأذى، ومن نجح في الامتحان يستحق الجزاء، والجزاء جنات النعيم، ولو تمحض الباطل على الأرض فلم يبق للحق وجود لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته، وقد ورد في الحديث: ( إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله )، وذلك حين لا يبقى على الأرض من يقول: الله، فأراد الله بقاء هذا الصراع.
ولو شاء ما خلق إبليس، ولا خلق الضلال، ولكنه ذو الحكمة البالغة، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وقد قال في محكم التنزيل: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100].
ولو شاء لانتقم من أعدائه في طرفة عين، فما أهون الأرض وأهلها على الله إذا عصوه، فريشة واحدة من أجنحة جبريل عليه السلام تقضي على الأرض وأهلها، ولله جنود لا يمكن أن نستحضرها، فكثير من جنود الله لا يعلمها إلا هو جل جلاله، كما قال: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].
وقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قيوم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور -وفي رواية: حجابه النار- لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه ).
وقد قال الله تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، وبهذا يعلم أن هذه الحياة هي مدة امتحان فقط، وقد بدأت الأقلام تعمل، والملائكة يكتبون أعمال العباد فيها، والنتائج تعلن عندما ينادي المنادي: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59]، فهذه الدار دار امتحان، كما قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2].
وقد ابتلى الله الآخرين بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقام الحجة، وأنار به المحجة، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فما من خير إلا دلنا عليه، وما من شر إلا حذرنا منه، وقد قام أصحابه رضوان الله عليهم بنقل ما جاء به من هذا الدين، وحملوه إلى التابعين، ثم حمله التابعون بجدارة وإحسان إلى من وراءهم، حتى وصل إلينا نقياً كما أنزل، فنحن نشهد أن القرآن كما أنزل، وأن الدين كما شرع، وأن الله هو الحي القيوم، فبذلك كان لابد لكل إنسان أن يعرف من أي هذين الحزبين هو، هل هو من حزب الله أو من حزب الشيطان؟ فإن كان راضياً أن يكون من حزب الشيطان فليعلم أن له متاعاً قليلاً في هذه الدار لن ينال منه إلا ما كتب له، ثم بعد ذلك العذاب المقيم الذي لا انقطاع فيه ولا زوال في الدار الآخرة، وهذا الحزب الذي اختار الانتساب إليه محكوم عليه بالخسران: إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19]، والخسران مناف للربح بالكلية، فمعناه: أن صاحبه فاشل في الامتحان الدنيوي، خاسر في الجزاء يوم القيامة.
وإن اختار أن يكون من حزب الله فليعلم أن لذلك تبعات كثيرة، فحزب الله لا ينال الانتساب إليه بمجرد الجنسية، ولا بالاسم، ولا بالنسب، وإنما ينال الانتساب إليه بالعمل، فمن أراد أن يكون من حزب الله، فليعمل بعمل حزب الله، وكل من عمل بعمل حزب الله التحق بهذا الحزب وكان منه، ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:54-56].
وعمل هذا الحزب مناف لحزب الشيطان، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، وإذا عرف الإنسان أنه من حزب الله، واختار هذا الطريق، فليتذكر ما عليه من التبعات، فأول تبعة تواجهه، وأول تحد يلقاه هو أنه وقع على صفقة وبيعة مؤكدة مع الرب جل جلاله الغني الحميد، الذي ليس محتاجاً إلى أحد من خلقه، لو شاء ما خلق آدم ولا من دونه، ولا يحتاج إلى العرش، ولا إلى حملته، ولا إلى أحد من خلقه جل جلاله، وقد وقعنا معه عهداً أكده في التوراة والإنجيل والقرآن، وهذا العهد لا يستطيع أحد منكم الآن أن يقول: أنا لست داخلاً فيه، أو أن يقول: أريد الاستقالة منه، فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].
لكن الله أخبر أن الناس في سبيل هذه البيعة انقسموا إلى قسمين: صادقين, ومنافقين، فالصادقون هم الذين وفوا لله بما بايعوه عليه، والمنافقون هم الذين أخلفوا الله ما وعدوه، قال الله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:23-24], وقال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77].
فلابد إذاً يا أخي! إذا كنت تعلم أنك من حزب الله، وقد وقعت على اتفاقية مع الله جل جلاله أن يأخذ الوفاء بهذه الاتفاقية حيزاً من وقتك وتفكيرك، فأي واحد منكم إذا كان صاحب دين وأمانة ومروءة إذا أخذ ديناً أحسن به عليه إنسان وساعده به، فلابد أن يفكر في سداد هذا الدين إذا حان أجله، يقتضي ذلك الدين، وتقتضيه الأمانة والمروءة، فكيف يا أخي! يكون بينك وبين الله دين ببيعة مؤكدة، ولا تفكر في الوفاء به أبداً، فتعيش ما أنعم الله به عليك من العمر، ولم يخطر ببالك أن عليك ديناً لله جل جلاله وهو الغني الحميد، ولا تسعى لقضاء هذا الدين ولا أدائه، ولا تفكر فيه أي تفكير، أهذا ممكن؟! هذا لا يمكن أن يقع من عاقل شريف؛ لأن العاقل الشريف إذا وعد وعداً -مجرد الوعد فقط- أو أمل منه أمل ولو لم يعد به، فمن المناسب جداً أن يبالغ في الوفاء به، وأن يؤديه على أحسن الوجوه، فكيف بما التزمه، ووقع عليه، وعاهد عليه.
ثم بعد ذلك لا شك أن من التحديات الجسام التي تواجه حزب الله في طريق الحق: ما يعرض من الشهوات, فهي من جنود إبليس، وهذه الشهوات تنقسم إلى قسمين: شهوات مادية، وشهوات معنوية، فالشهوات المادية مثل: شهوتي البطن, والفرج، والشهوات المعنوية مثل: حب الرئاسة والظهور، وحب الانتقام، ونحو ذلك، فهذه الشهوات جند من جنود إبليس، وهي تحد يواجه السائر في طريق الجنة، والسالك لطريق الحق، ولابد أن يدرك الإنسان أن الجنة محفوفة بالمكاره، وأن النار محفوفة بالشهوات، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات )، وقد صح عنه كذلك: ( أن الله عز وجل لما خلق الجنة، وبارك فيها، أرسل جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم خلق النار، فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم أمر بالجنة فحجبت بالمكاره، فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد، ثم أمر بالنار فحجبت بالشهوات، فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد ).
لذلك لابد أن يحرص المؤمن السالك لطريق الحق على الاستقامة، والحذر من هذه الشهوات، وأن يعلم أن من نهى نفسه عن هواها فقد سما بها وارتفع إلى عداد الملائكة الكرام؛ لأن الإنسان بين عنصرين: عنصر أسمى منه وهو الملائكة، وعنصر أدنى منه وهو الحيوان البهيمي، فالملائكة كلفهم الله بالتكاليف، ولم يمتحنهم بالشهوات، والحيوان لم يكلفه الله بالتكاليف، وسلط عليه الشهوات، والإنسان جمع الله له بين الخاصيتين وبين الأمرين، فهو مكلف بالتكاليف، ممتحن بالشهوات، فإذا هو أدى التكاليف ولم يتبع الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهم الملائكة، وإذا هو ضيع التكاليف وتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو البهائم، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، فلذلك يحتاج الإنسان إلى الحذر كل الحذر من هذه الشهوات.
ثم بعد ذلك عنصر آخر من جنود إبليس وهو تحد واضح في وجه حزب الله، وهو: الشبهات، وهذه الشبهات أنواع كثيرة، ومن حكمة الله فيها أن يصرف بها الذين لا يرتضي خدمتهم للدين، فالله خلق للجنة أهلها، وخلق للنار أهلها، كما قال الله تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119]، أي: خلقهم لرحمته، وقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179]، فأولئك خلقوا للجنة، وأولئك خلقوا للنار، ولما مسح الله ظهر آدم ببطن نعمان بيده الشريفة أخرج منه ذرية، فقال آدم: (أي رب من هؤلاء؟ قال: خلقاً من ذريتك خلقتهم للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية، فقال آدم: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلطهم حتى ما يتميزون، فناداهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى)، قالها مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، لم يبق أحد منهم إلا قالها.
ثم بعد ذلك حبست الأرواح في سماء الدنيا، وهي عند آدم الآن، كما ثبت في حديث المعراج: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة عرج به إلى سماء الدنيا، رأى آدم فإذا عن يمينه أسودة، وعن شماله أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فسألت جبريل ما هذه الأسودة؟ فقال: نسم بنيه، أي: نسمات بني آدم، أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، إذا نظر إليهم ضحك لكثرتهم، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة، إذا نظر إليهم بكى لكثرتهم)، وهم محبوسون في سماء الدنيا، تنزل الأرواح عندما يبلغ الجنين أربعة أشهر ببطن أمه، تنزل إليه روحه من تلك الأرواح في السماء، وقد ميزت هل هي شقية أو سعيدة؟ فتنفخ فيه، وكل على سابق قدر الله سبحانه وتعالى سائر، إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101-103].
ثم بعد ذلك لله تعالى حكم في صرف الناس عن طريق الاستقامة، فمن هذه الحكم: أنه لو سار الناس جميعاً على ما خلقوا من أجله، ونجحوا جميعاً في الامتحان، لم يكن للنار أهل، وقد تعهد الله للنار بملئها فقال: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]، وهذا تعهد رباني لا يخلف، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9].
وكذلك فإن من حكمة الله تعالى في هذه الشبهات: أنها -أيضاً- امتحان ليبين به تفاضل الناس وتفاوتهم، والله أعلم بمآلاتهم وما هم صائرون إليه، ألا إلى الله تصير الأمور.
وكذلك من فوائد هذه الشبهات ومن حكمها: أنها سبب لرفع درجات أقوام اختارهم الله سبحانه وتعالى للدرجات العلى، ولم يبلغوا ذلك بأعمالهم، فمرت بهم هذه الشبهات فأنقذهم الله منها، وثبتهم يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]، وهذه الشبهات هي صرف عن هذا الطريق، كما قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف:146]، وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
وهذه الشبهات منها ما يتعلق بجانب الله جل جلاله؛ فبعض الناس تقع عليه الشبهة في مجال العقائد، فيبتلى في هذا الباب، وبعضهم تقع عليه الشبهة في مجال العبادات، فيبتلى بالوساوس، وبعضهم تقع عليه الشبهة في مجال المعاملات؛ فيستبيح بالحيل ما حرم الله عليه، وكل ذلك من باب الشبهات في التعامل مع الله. ثم كذلك من هذه الشبهات ما يكون في التعامل مع الناس.
ومن الشبهات في ذلك: ما يتعلق بالغلو والإفراط، وهذه شبهة باقية في البشرية إلى يوم القيامة، فالإفراط هو: تجاوز الحد، والمبالغة في القصد، والإسراع بأقوى مما يقدر عليه الإنسان، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغلو، فقد أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر، قال: حدثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الدين يسر, ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة )، وكذلك قال: ( إن الدين يسر, فأوغلوا فيه برفق )، وقال: ( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون )، وقال: ( إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى ).
وهذا الغلو يشمل: الغلو في العقائد، ومن هذا الباب ما حصل من الشبهات في تاريخ الأمة، فهو إما غلو في التنزيه، كما حصل للمعتزلة الذين أنكروا صفات الله، وعطلوا كل ذلك غلواً في التنزيه؛ لأنهم يرون أن القديم لا يمكن أن يتعدد مطلقاً، فغلوا في التنزيه حتى ضلوا في الاعتقاد، وكذلك القدرية الذين نفوا القدر غلوا كذلك في التنزيه عن الظلم حتى أوصلوا الإنسان إلى أن يكون خالقاً لأفعاله, تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكذلك من الغلو في التنزيه أيضاً: القول بخلق القرآن, ونحو ذلك من الشبهات العقدية الخطيرة التي شاعت في تاريخ هذه الأمة، كلها من الغلو في التنزيه؛ لأنهم أرادوا أن ينزهوا الله عما لا يليق به فغلوا, فنزهوه عن بعض ما لا يليق به.
وفي مقابل ذلك أيضاً الغلو في الإثبات، فما حصل من شبهة التجسيم، وإثبات ما لا يليق بالله جل جلاله، كلها غلو في الإثبات، فلما رأوا النصوص مصرحة بصفات الله جل جلاله، وهي الصفات الكمال في حقه، ولا تشبه صفات المخلوقين بالغوا في الإثبات حتى أثبتوها على نحو ما يعرفونه في المخلوقين، فكان هذا ضلالاً كبيراً؛ لأن فيه تجسيماً وتشبيهاً لله بخلقه، وقد قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
وكذلك من هذا القبيل -أي: من قبيل الغلو- ما يتعلق بالغلو في العبادة، فما يحصل من بعض الناس من الانقطاع عن الدنيا بالكلية والرهبانية في الإسلام هو من الغلو في العبادة الذي لم يشرع، وقد ( جاء قوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون أهل بيته عن عبادته، فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب غضباً شديداً، وقال: أنا أخشاكم لله وأتقاكم لله، فإني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني )، فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الغلو والمبالغة في العبادة, حتى في الإنفاق والصدقة؛ فقد بالغ ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وهو من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتصدق بكل جذاذ نخله، ولم يترك لأهل بيته نفقة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقد قال كثير من المفسرين: كان ذلك سبب نزول قول الله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، فإذا كان هذا السرف في العبادة، فما بالكم في السرف فيما دون ذلك؟!
كذلك الغلو في استحلال الحلال؛ فإن كثيراً من الناس يبالغ فيه حتى لا يبقى أي حلال إلا أخذ به، وحينئذ يوشك أن يصل إلى الشبهة أو الحرام؛ لأن لذلك حداً إذا وصل إليه الإنسان من اتباع النفس هواها فلابد أن يصل إلى المحرم، وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).
فلذلك لابد أن يدرك الإنسان أنه يمكن أن يترك بعض الحلال، فأنبياء الله وهم خيرة الله من خلقه كانوا أهل تزهد، وتقلل من هذه الدنيا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة الصالحة- خُير بين أن يكون نبياً ملكاً، أو أن يكون نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وكان يمضي عليه ثلاثة أشهر بأهلتها لا توقد نار في بيوته، وكان ينام على حصير فيبقى أثر عيدانه في جنبه، وكان يقول عن نفسه: ( ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ).
وكذلك من هذا القبيل: الغلو في استعمال طاقات الإنسان البدنية، فالغلو في كثرة الكلام هو من الغلو غير المحمود، ولذلك عقد مالك في الموطأ باباً لما يكره من الكلام، أي: ما كرهه السلف من كثرة الكلام، وقال فيه مالك: أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله، فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
وقد ترك رحمه الله الحديث عن بعض الشيوخ من التابعين، فسئل: لم تركت الحديث عنهم؟ فقال: رأيته يتكلم كلام الجمعة في اليوم، أي: يتكلم كلاماً كثيراً، ومن أكثر الكلام لا يمكن أن يوثق بضبطه؛ لأنه كل من كثر لغطه كثر سقطه، فيقع منه الخطأ في كثير من الأمور، فلذلك اجتنب مالك الرواية عنهم، وقد حدث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أصحابه من السابقين الأولين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أنهم كانوا يكثرون الصمت والفكر، فهم يفكرون كثيراً، ولذلك فقد قال العلامة ابن متالي رحمه الله:
وليك أكثر ما تسمعه أكثر من ما أنت قائل له تكن فطن
لذلك لا ازدواج للسان وازدوج العينان والأذنان
فمن حكمة الله: أن جعل للإنسان أذنين وعينين، وجعل له لساناً واحداً، فهذا يدل أنه يمكن أن يتلقى كثيراً عن طريق السمع، وكثيراً عن طريق البصر، ولكن ينبغي أن يخرج عن طريق اللسان اليسير فقط، ولذلك قال الشافعي رحمه الله: الأدب أن تكتب أحسن ما سمعت، وتحفظ أحسن ما كتبت، وتحدث بأحسن ما حفظت، فيقع الانتقاء في مراحل، حتى يقل عمل اللسان فيها، واللسان مشكلته أنه سلطان الجوارح، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من يوم إلا والجوارح كلها تؤثم اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإننا بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ).
والإسراف في الكلام يدل على نقص في العقل، وكذلك الإسراف في عمل الجوارح الأخرى، كالنظر ونحوه، فعلى الإنسان أن يقتصد فيه، فلابد أن يغض بعض بصره، ولنتذكر وصية لقمان لابنه، وفيها من الحكم في التعامل مع الله، وفي التعامل مع الناس الشيء الكثير، وقد ارتضاها الله حين أثبتها في كتابه، فقد قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فبدأ أولاً بعمل القلب، ثم بعد ذلك قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17]، فأتى بعمل الجوارح، ثم خلص إلى اللسان بقوله: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17]، دعا إلى عمل القلب، وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:17-19]، فخلص إلى الأخلاق، واستغلال هذه الطاقات التي جعل الله للبدن.
كذلك من الغلو: الغلو في التعامل مع الناس، وهو بالمبالغة في التقدير، حتى يصل به الإنسان إلى حيز التقديس، فكل من دون الأنبياء غير معصومين، يؤخذ من قولهم ويرد، وكل من ادعى عصمة لغير نبي فقد غلا فيه، وبالغ حتى تجاوز به حده، فـأبو بكر الصديق ومن دونه من هذه الأمة جميعاً غير معصومين، فلا معصوم في هذه الأمة إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وكل من دونه يؤخذ من أقوالهم ويرد عليهم، كما قال مالك رحمه الله: ما منا أحد إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر.
وليس في الرد لقول بعض الناس تنقصاً لهم، ولا عدم إنزال لهم منازلهم، فأهل العلم من أهل السنة خالفوا كثيراً من الصحابة في مسائل كثيرة، فخالفوا عثمان رضي الله عنه في بعض اجتهاداته، وخالفوا عمر في بعض اجتهاداته، وخالفوا علياً في بعض اجتهاداته، وخالفوا زيد بن ثابت في بعض اجتهاداته، وخالفوا ابن عباس في بعض اجتهاداته، حتى قال المنصور لـمالك: اكتب لي كتاباً تجنبني فيه شواذ ابن مسعود، وتشديدات ابن عمر، ورخص ابن عباس، ولا يقصد هو الطعن في هؤلاء الصحابة الفضلاء رضوان الله عليهم، فهم يجب الإيمان بأنهم من أهل الجنة رضي الله عنهم وأرضاهم.
فـابن مسعود شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة بالتعيين، وكذلك ابن عمر، وكذلك ابن عباس شهد له ودعا له، فكل هؤلاء من أهل الجنة، وكلهم من أئمة الهدى، ولكن أراد أن يعلمنا ألا نغلو في الناس، وأن نعلم أنهم جميعاً يؤخذ من أقوالهم ويرد، فما عرفت دليله وترجح لديك من أقوالهم فقل به، وما لم تعرف دليله، أو لم ترجح لديك فدعه، فلست مكلفاً بأخذ قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لن تسأل في قبرك عن غير النبي صلى الله عليه وسلم من الناس.
ثم بعد هذا الغلو في البشر يقتضي من الإنسان الاستلاخ من شخصيته وحياته، فالإنسان لا ينبغي أن يكون مقلداً تقليداً أعمى؛ لأن ذلك خطر عليه عندما يسأل في قبره، فأنتم تعرفون أن المنافقين أو المرتابين في قبورهم إذا سئلوا كل واحد منهم يقول: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فعلى الإنسان ألا يكون هكذا إمعة يسمع الناس يقولون شيئاً فقاله، بل عليه أن يتثبت، وأن يتبين، وأن يأخذ بالبرهان والدليل، كما قال الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] .
كذلك من الغلو في الأشخاص: ما يتعلق بالمبالغة في إعطائهم حقوقاً هي أكثر مما لهم، فكثير من الناس -وبالأخص في العصور المتأخرة- يرى أهل الدنيا من السلاطين، والحكام والوجهاء، والتجار وغيرهم، فيبالغ في التقرب إليهم رجاء وطمعاً في بعض ما في أيديهم، أو خوفاً من بأسهم، فيصفهم بما ليسوا أهلاً له، وهم يعلمون أنه مبطل في قوله، وكاذب فيما يقول، فيثني الإنسان بما يعلم بطلانه، ويعلم المخاطب به أيضاً بطلانه وكذبه، وهذا النوع هو من النفاق البين، ولذلك فإن أهل مصر يقولون: إن بعض الناس ملك أشد من الملك، أي: كانوا ملكيين أكثر من الملك، فلذلك يدعون لملكهم ما ليس له، وما لا يدعيه هو لنفسه، فيزعمون له أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لم يدع ذلك، ويزعمون أنه إمام مبايع، وهو قال: إنما أتيت بانقلاب عسكري، أو أتيت بانتخابات، أو أتيت بأية وسيلة أخرى، وشتان بين الأمرين وهذا القياس، ومنه قياس الخمر باللبن، وأحكامها متفاوتة متباينة.
فهذا النوع هو من السرف والغلو الذي لا ينبغي، وعلى الإنسان أن يقصد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتاه أهل اليمن فأثنوا عليه وبالغوا، قال: ( قولوا مثل قولكم أو أقل من قولكم، فإنما أنا عبد الله ورسوله )، وكان يقول: ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم )، وهذا الإطراء والمبالغة في المدح سبب للتجبر والتكبر، ففرعون إنما تجبر حين استخف قومه فأطاعوه.
وكذلك هذا الإسراف في الناس والغلو فيهم هو الذي يقتضي كثيراً من المظاهر الشركية بالناس أحياء وأمواتًا، فالتماس ما لا يقدر عليه الناس من الناس هو من الغلو فيهم، فالإنسان الواحد حتى وهو ميت تسمع من يدعوه ويناديه في مشارق الأرض، ومن يدعوه ويناديه في مغاربها، ومن يدعوه في جنوبها، ومن يدعوه في شمالها، وهو لا علم له بشيء من ذلك، وقد قال الله تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14].
والقسم الثاني من هذه الشبهات: هو- أيضاً - ما يتعلق بالتفريط، والتفريط كثير، وهو ضد هذا الغلو، فنجد كثيراً من الناس مفرطين في جنب الله، في مجال الاعتقاد لا يصححون اعتقاداتهم، ولا يهتمون بفهم ما جاء عن الله تعالى فيما أمروا باعتقاده، ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجعلون ذلك من أولوياتهم واهتماماتهم، فهم مفرطون مقصرون في هذا الباب.
وكذلك في مجال العبادات: تجد كثيراً من الناس يقصرون فيها، والغريب في ذلك أن بعضهم يظن أنه من المحسنين، فإذا صلى كانت صلاته عجيبة جداً، كانت كنقر الديك، وكبروك الكلب، وكغير ذلك من أنواع البهائم التي حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضاهاتها في الصلاة، وهذه الأمور كلها تفريط في صلاة الإنسان التي هي صلته بربه، وهي عمود دينه، وهي أشرف أحواله، وأقربها من ربه جل جلاله.
وتجد كثيراً من الناس وهو يقدر على شروط الصلاة، ويقدر على الاغتسال، ويقدر على الوضوء، وهو يفرط في ذلك، فيتمم شتاء وصيفاً في كل مكان، وفي كل بلد، وتجد كثيراً من الناس كذلك يسمع النداء: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، وهو يعلم أن الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، وأن المشائين في ظلم الليل إلى المساجد يبشرون يوم القيامة بالنور التام، فيتخلف ولا يأتي، ونعلم أن كثيراً من الناس هم جيران المساجد، يسمعون التكبير بالأذان خمس مرات في اليوم والليلة، ويسمعون الإمام يصلي الصلوات الخمس، ومع ذلك لم ير أحد منهم قط في المسجد، ينبغي أن يفكر هذا الإنسان لو مات: أين سيذهب أهله بجنازته؟ هل سيذهبون بها إلى المسجد؟ وهل سيقبل أهل المسجد أن يصلوا عليه، وما رأوه قط في المسجد؟ وما عرفوه فيه، إن هذه مشكلة كبيرة من مشكلات التفريط، ولابد من تجاوزها، لابد أن نعلم أننا فرطنا في جنب الله كثيراً، وأن نراجع تعاملنا مع الله.
وكذلك في الزكاة، فإن كثيراً من الناس يفرطون في زكاة أموالهم ولا يعدونها، وهذا تحد سافر فيما يتعلق بالتفريط، فالله تعالى يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]، ويقول تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ َ[فصلت:6-7]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاته، إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر ليس فيها عقصاء ولا عرجاء، لا يفقد منها صغيرة ولا كبيرة، كل ما مر عليه آخرها رد إليه أولها، فتنهشه بأسنانها، وتطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، حتى يفصل بين الناس، وما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا أحمي عليها في نار جهنم، ثم تجدف أشداقه بمجاديف، فلا يوضع دينار فوق دينار، ولا درهم فوق درهم ).
ليتذكر الذين لا يؤدون زكاة أموالهم ويفرطون فيها أنهم ستبسط أشداقهم، فلا توضع الخمس فوق العشر، ولا العشر فوق العشرين، ولا المائتان فوق المائة، ولا الألف فوق الخمسمائة، بل يبسط الشدق حتى يتسع لكل ذلك، وقد أحمي عليها في نار جهنم.
كذلك من هذا التفريط: التفريط في الصيام، فأنتم تعرفون أن كثيراً من الناس يأتي رمضان، ويفتح هذا الموسم العظيم التي تفتح فيه أبواب السماء، وتصفد فيه مردة الشياطين، وتوصد فيه أبواب النار، وتتنزل فيه رحمات الله جل جلاله على عباده، ويقع فيه التسابق في الخير، فيدبرون على الله سبحانه وتعالى، ويولون أبوابه ظهورهم، فلا يصومون، ويتذرعون بالأعذار التي هي غير مقبولة بأي معيار من المعايير، منهم من يقول: كانت قد لسعتني حية، أو لسعت أبي أو أمي قبل عشر سنين، أو قبل عشرين سنة، هل هذا عذر مبيح للفطر في رمضان؟ ومنهم من يقول: ليس لدي ما أتسحر به, وأنا أعجب من ذلك! فهذا الذي يقول: إنه ليس لديه ما يتسحر به، بماذا يفطر إذاً؟! على أي شيء سيفطر؟! إذا كان لا يجد ما يتسحر به في الليل، وهكذا فالتقصير في الصيام كثير منتشر.
وكذلك التقصير في الحج، فهو تفريط، والله تعالى يقول: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، وقد صح عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى أهل هؤلاء الأمصار، فلينظروا من فيهم ممن استطاع الحج فلم يحج، فليفرضوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. وكذلك عن علي رضي الله عنه أنه قال على المنبر: من استطاع الحج فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، فقد قال الله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
وكذلك التفريط في الدعوة، وهي حق الله جل جلاله، وقد وصف الله بها نفسه، فقال: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، وقال: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، ووصف بها محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:46]، وأمره بها فقال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص:87]، وقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل:125].
وأمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأن سبيلهم الدعوة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، وأخبر أنها أرضى الأقوال وأحسنه، فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
مع ذلك نجد أقواماً يفرطون فيها، فهم فصحاء بلغاء لا يعيى أحدهم بجواب في أي قول يوجه إليه، ومع ذلك إذا اعتدي على أرضه، أو بيته، أو قبيلته، أو ذكر بسوء دافع عن نفسه دفاعاً مستميتاً، لكن إذا اعتدي على حرمات الله لم تتحرك فيه غيرة، ولم يتمعر وجهه لله عز وجل يوماً من الأيام، وهؤلاء المفرطون بعضهم يفرط في أقرب الناس إليه، فيضل أهل بيته، ويكون هو من المصلين الذين يشهدون الصلاة في المساجد، ومع ذلك يعلم زوجه وأولاده وبناته يفرطون في الصلاة، وهم أول من يخاصمه يوم القيامة، فيقولون: يا رب وليت علينا عبدك هذا، فرآنا نقصر في حقك، فلم ينهنا، ورآنا نترك صلاة فلم يأمرنا بها، فهم أول من يخاصمه، وسيفر منهم يوم القيامة: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
وهذا التفريط والتقصير عجيب جداً، فلو أن أحد أولاده أصابته شوكة لسهر، أو أصيب بمرض أياً كان فسينفق كل ما يملكه من أجل راحة ولده وشفائه، فإذا كنت يا أخي تخاف عليه مرضاً أو ألماً يمكن أن يسهر به ليلة واحدة، أو ساعة، أو ساعتين، فلماذا لا تخاف عليه عذاب الله، ونار جهنم التي عذابها مستمر لا انقطاع فيه؟
والغريب أن القبيلة إذا سجن منها رجل بسبب دين أو غيره تحركت لإنقاذه، وقضاء ما عليه من الديون، وإخراجه من السجن، لكن إذا عصى الله، وكان عرضة لعذاب الله، لم تتحرك لذلك، ولم تحاول إنقاذه، ونحن نعلم جميعاً أن مهمة إنقاذ الناس من النار هي مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وكلها إلينا، فأصبحت أمانة في أعناقنا جميعاً، فقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها، وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده، وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار)، أي: مكان الحزام من الإنسان، فهذه وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مهمتنا جميعاً، وأمانة في أعناقنا.
ومن المؤسف: أن يرضى الجار لجاره أن يكون من أهل النار، أو أن يرضى له أن يكون عاصياً لله لا تدخل الملائكة بيته، أو أن يرضى له أن يكون على غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجار له حق عظيم، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( ما زال جبريل يحضني على الجار حتى ظننت أنه سيورثه )، وقال: ( جار الدار أحق بدار الجار )، وقال: ( الجار أحق بصقبه )، فالجار له حق عظيم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للأشعريين في ما أخرجه الطبراني وغيره: ( ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم، ولا يذكرونهم، فليعلمن قوم جيرانهم، وليذكرنهم، أو ليعاجلنهم بالعقوبة، قالوا: ومن تعني يا رسول الله؟ قال: الأشعريين ).
وكذلك من التفريط في حق الناس: غمطهم حقوقهم، فازدراء الناس، وعدم اعتقاد الفضل في أهل الفضل، وعدم توقير كبار السن، وعدم رحمة الصغار، كل هذا من شبهة التفريط، فعلى الإنسان أن يكون مقدراً لكل أهل الفضل، محترماً لهم جميعاً، فمن كان من أهل الفضل والعلم، والصلاح والعبادة، يسجد لله سبحانه وتعالى، ويعفر له وجهه، فهو أهل للاحترام والتقدير، وحبه من حبك لله؛ لأنك تحب الله حباً شديداً فتحب كل من عبده، ولذلك نحن نحب الآن جبريل وإسرافيل وميكائيل حباً شديداً؛ لأنهم عبدوا الله العبادة التي عجزنا عنها، وهو أهل لها، فنحن نحب الله حباً شديداً، فيقتضي منا ذلك أن نحب كل من أحب الله، وكل من عبد الله عز وجل، فلذلك لابد من محبة الصالحين، ومن محبة العلماء، ومن تقديرهم واحترامهم.
وهؤلاء عكس الطرف السابق الذي هو أهل للإفراط، الذين يبالغون في احترامهم حتى يوصلونهم إلى ما ليس لهم، نجد في مقابلهم آخرين أيضاً يزدرون بهم، ويخرجونهم عن مقامهم الذي يستحقونه، وهذا غلط، وكلا الطائفتين غير مصيب، فلابد أن نعلم أن أهل الفضل يستحقون مكانهم الذي اختارهم الله له، وقد أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وكل من له سابقة في الإسلام، وفضل فيه، فيستحق علينا الاحترام والتقدير، ويستحق كذلك أن يعترف له بما قدم من الخير، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته بالأنصار: ( واستوصوا بالأنصار خيراً )، فأوصى أن يقبل من محسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، فإنهم أدوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم.
وهذا يقتضي منا أن نعرف لذي الفضل فضله، وأن نحترم الكبير احتراماً كبيراً، فكل كبير السن من المسلمين هو بمثابة والدك، فعليك أن تحترمه وتقدره وتوقره، وبالأخص إذا زاد على ذلك علماً، أو عبادة، أو تقوى، أو ورعاً، فهذه منازل من منازل المتقين، ومن درجات أهل الجنة، ومن كان بهذه المثابة هو أهل لأن يحترم، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لن تزال أمتي بخير ما دام صغيرها يوقر كبيرها، وكبيرها يرحم صغيرها )، وقد بين أن من التعظيم توقير ذي الشيبة المسلم، فكل من شاب في الإسلام فشيبته يلزم توقيرها؛ لأن توقيرها من إجلال الله جل جلاله.
كذلك فإن من التفريط في الناس ما يحصل من التحكم فيهم، كما يشيع -وبالأخص في عصور المتأخرين- من التكفير، والتفسيق، والتبديع، والطعن في عقائد الناس، والطعن في عباداتهم، والطعن في معاملاتهم، وتحكيم أن يجعل الإنسان نفسه قاضياً يحكم في رقابهم، كل هذا من الإفراط في الناس، ولا شك أنه مناف لطريق الحق، فمن لم يبتليه الله بالقضاء فليس له أن ينصب نفسه قاضياً عن الناس، ونحن نعلم أن كل إنسان معه ملائكة يكتبون عليه أعماله، ولسنا نحن من كلف بإحصاء زلاته وأخطائه، فلسنا مكلفين بإحصاء زلات الناس وأخطائهم وذنوبهم، فعليهم ملائكة يكتبون عليهم، والرب جل جلاله لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يشهد عليهم بأعمالهم، وكل إنسان منهم يشهد على نفسه، بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14].
فلا يحتاج إذاً إلى تتبع زلات الناس وعوراتهم وإحصائها، وبالأخص إذا عرفنا أن كثيراً من تلك الأقاويل ليست دقيقة ولا صحيحة، بل إن كثيراً من تلك الأقاويل إنما هو ناشئ عن احتكار الحق وادخاره، فبعض الناس يرى أن مذهبه وأن الذي هو عليه هو الحق الذي لا مرية فيه ولا جدال، وأن كل من ناقشه أو خالفه في رأيه ينبغي أن يذهب إلى النار مباشرة، فيحكم على كل مخالف له بالكفر أو بالعصيان أو بالتفسيق أو بالتبديع أو بغير ذلك، وهذا خطر عظيم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا قال مسلم لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه )، وفي رواية: ( وإلا حارت عليه )، أي: رجعت عليه، والحور هو: الدوران، فتدور هذه الكلمة عليه، فهي حكم يعود إليه هو، نسأل الله السلامة والعافية!
وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( تكفير المسلم كقتله )، فكثير من العزل الذين لا يملكون سلاحاً، ولا يقدرون على أي دفاع، ومع ذلك يأتي في كفة سيئاتهم يوم القيامة أرواح عدد كثير من المسلمين؛ لأنهم يكفرونهم، وتكفيرهم كقتلهم، فيأتون يحملون تلك الأرواح، وإن كانوا عاجزين عن قتلها، وليس لهم سلاح، ولا وسيلة دفع، لكن مع ذلك يكتب عليهم كأنما قتلوا المسلمين بسبب تكفيرهم لهم، ومثل ذلك: المبالغة التي تصل إلى حيز الكذب، فهي نظير ما ذكر، فإن كثيراً من الناس يصاب بكفران العشير الذي وصف النبي صلى الله عليه وسلم به بعض النساء، فذكر أنهن يكفرن العشير: ( لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط )، وهذا مع الأسف أصبح خلقاً منتشراً في كثير من الرجال، فبدل أن كان وصفاً في الأصل لبعض النساء نجد أنه انتشر في كثير من الرجال، فأصبح كثير منهم إذا رأى زلة واحدة محت كل ما سبقها من الخير، واعتبر هذا الإنسان عدواً لله ورسوله بمجرد أنه خالفه في أمر أو وقعت منه زلة واحدة.
وقد قال ابن القيم رحمه الله: زلات العلماء أقذار، وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، وقد حدثني بعض الناس أن العلامة محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي رحمة الله عليه كان في مجلسه، فكان يقرأ عليه كتاب فتح الباري للحافظ ابن حجر، وكان بعض طلابه من هذا النوع أي: من أهل الغلو والتشدد، فقرئ الكتاب مدة طويلة من الزمن، وذلك الطالب يستمع، فلما وصل إلى تأويل صفة من صفات الباري جل جلاله صاح ذلك الطالب وشغب، وقال: هذا خلل في العقيدة, فدعاه الشيخ، فقال: اسكت فما أنت إلا كالذبابة لا تقع إلا على القذر، سمعت العلم الصحيح النافع طيلة اليوم، فما تنتبه له، حتى إذا جاء غلط واحد صحت به وشغبت، وهذا النوع من الناس الذين يحاكون الذباب كثر، يفرحون بالأخطاء والزلات، وهذا وصف قديم من صفات المنافقين، فهم الذين يفرحون بالزلات والأخطاء.
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحاً عني وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وكما قال الآخر:
إن يعلموا الخير أخفوه وإن علموا شراً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا
فهذا النوع من الرجال اتصف بهذه المبالغة، وهي تحد في وجه هذه الدعوة، وفي وجه حزب الله السائرين إلى الله جل جلاله، وكل هؤلاء مشكلتهم أنهم يصرفون أقواماً عن طريق الحق، فالأصل أننا جميعاً نجاهد الشيطان؛ بأن نسعى لهداية الناس، وإدخالهم الجنة، وحزب الله إذا رأى عدداً من الناس في أي مكان، ورأى تجمهراً من البشر تذكر أن الجنة تتسع لهؤلاء، وأن علينا أن نفتح لهم باباً يدخلون منه الجنة، وحزب الشيطان إذا رأى تجمعاً من البشر رأى أنهم لابد أن تتحقق عليهم يمين إبليس بالإغواء، فسعوا لإضلالهم بكل وسيلة.
فلذلك لابد يا إخواني! أن نعلم أن الجنة واسعة، وأن علينا أن نسعى لهداية الناس إليها، لا لقطع الطريق دونها، فقطاع الطرق ليسوا الذين يقفون أمام المارة فيأخذون أموالهم بالغصب، وإنما هم الذين يقطعون طريق الهداية عن الناس، فيبالغون في التشدد في الدين، فينفر ذلك أقواماً من الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فشكا إليه أحد أصحابه أنه ما كاد يشهد صلاة الفجر مع الناس من شدة ما يطول بهم فلان، فدعاه فغضب غضباً شديداً, قال أنس بن مالك: فما رأيت في موعظة أشد منه غضباً من يومئذ، فقال: ( أيها الناس! إن منكم منفرين )، فبين أن هذا من التنفير عن الدين، فبدل ما تكون داعياً إليه وجالباً للناس إليه تنفرهم منه.
ونظير ذلك أيضاً: ما يقع من التساهل والتراجع عن كثير من السنن، فهو أيضاً منفر لأقوام آخرين من الدين، والقصد الوسط هو في الاعتدال بين ذلك والتوسط، فقد أرشد الله إلى ذلك في كل الأمور، فقد قال الله تعالى في الإنفاق: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، فلا شك أن من التحديات البارزة ما يحصل من التنفير عن هذا الدين ودعوته وأهله، وهذا التنفير إنما تزداد إشكاليته في هذا العصر الذي أقبل فيه كثير من الناس على هذا الدين، وفتحت فيه الدنيا أبوابها لهذه الصحوة المباركة الواسعة الشاسعة، فأقبل كثير من شباب المسلمين على الدين، وبدأوا يدرسون ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطبقون منه ما استطاعوا، فكان هذا مؤشر خير، ولكنه يسوء الشيطان، فالشيطان لا يرضى أبداً بفلاح هذا الجنس البشري، ولا يمكن أن تتخيل منه لحظة واحدة ينصح فيها البشر؛ لأنه عدو لهم، فإذا سجد أحد سجدة لله غاظ ذلك إبليس غيظاً شديداً، يدبر وله ضراط يقول: يا ويلتاه دعيت للسجود فامتنعت، ودعي ابن آدم فسجد فأفلح، لا يريد من ابن آدم أن يفلح بوجه من الوجوه، فلذلك تشيع هذه الشبهات، وهي تحديات جسام تعرض في كل زمان ومكان.
كذلك من هذه التحديات الجسام التي تعترض طريق الحق: ما يحصل من التهافت على حطام الدنيا في آخر الزمان، فإن القلوب جميعاً تعرض عليها الفتن كأعواد الحصير عوداً عوداً، وحصف الناس على الدنيا, وإعجاب كل ذي رأي برأيه من عشر علامات عدها النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، ستنتشر حتى تصبح ظاهرة: أن يعجب كل ذي رأي برأيه، وأن يقبل الناس على حب الدنيا حباً شديداً، وهذا التهافت على الدنيا مقتض من كثير من الناس أن يغيروا حالهم وما كانوا عليه، ونحن نشهد كثيراً من الشباب الذين كانوا على التزام وصلاح يبدءون في الانحراف بسبب التهافت على الدنيا، ومحبة الوصول إلى بعض ما وصل إليه نظراؤهم من حطامها، الذي هو فتنة عليهم، وامتحان لهم، وهذا التحدي هو من إلقاء الشيطان، ولابد من التنبيه دائماً لمخاطر هذه الدنيا، وأن يدرك الإنسان أنها لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وأن الحرص عليها وعلى جمعها لا يأت بخير، فهي ضرة الآخرة.
كذلك من التحديات في سبيل هذه الدعوة: أن كثيراً من الناس يرون أن كل من دعا إلى سبيل الله، وكل من دعا إلى الإسلام، أنهم جميعاً يأخذون بجريرة واحدة، وأنهم على قلب واحد، وأنهم مجموعة واحدة، ولا شك أن المسلمين جميعاً ينبغي أن يكونوا داعين إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن لا يؤخذ بعضهم بجريرة بعض، وكلٌ إنما هو مسئول عن نفسه وعمله، وكثير من الناس يظنون أن الذين يدعون إلى الله هم شريحة من شرائح المجتمع، فيجعلونهم مثل أصحاب الحرف والصنائع وغير ذلك، وهذا ربط فيه تحد واقعي؛ لأن الدعوة إلى الله في الأصل مهمة لا يحتاج فيها الإنسان إلى تعيين رسمي، ولا يحتاج إلى قرار من الوظيفة العمومية، لكن مع ذلك لابد أن يكون أهلاً لها، فكثير من الناس يدعو وهو ما زال في بداية الطلب، وهو محتاج إلى من يصحح له اعتقاده، ويصحح له تصوره، وما يكلم الناس به من الكتاب والسنة يحتاج إلى تصحيح، فعليه أن يبدأ أولاً بتصحيح ما لديه, ثم بعد ذلك يبلغ ولو آية واحدة إذا صحت لديه، وفهمها واستوعبها وأدرك معانيها، فلا مانع أن يدعو إليها، لكن لا يتجاوز إلى ما لا يعلمه، فقد أحسن من انتهى إلى ما علم، ومن تعدى إلى ما لا يعلم فقد وصل إلى خطر كبير، فقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا في القرآن العظيم، وأن ينفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأن يجعل ما نسمعه ونقوله حجة لنا لا علينا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أذكر الإخوة الذين قدموا أسئلة بأن مجرد تقديم السؤال هو مشاركة في طلب العلم، ولكن قد لا يجد الإنسان جواباً؛ لأن الوقت لا يتسع لإجابة جميع الأسئلة، وأيضاً قد يسمع جواباً غير صحيح، فما ذكرناه من قبل ينطبق على كل هذه الأقوال التي تسمعونها، فليس كل جواب يكون صحيحاً مقنعاً.
السؤال: ذكرتم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر لا يصلي النوافل، نطلب منكم تفصيله؟
الجواب: لا لم أذكر هذا، بل قد ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك نافلة الليل في السفر، بل كان يصليها على راحلته أنى توجهت به، وفي حديث أنس: ( أنه كان يصلي نافلة الليل على حماره، مستدبر القبلة، مستقبل الشام )، وكذلك في حديث ابن عمر: ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يوتر على بعيره متجهاً إلى نجد )، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل -وهي قيام الليل- في السفر، ولا يتركها.
أما النوافل النهارية كراتبة الظهر القبلية والبعدية، وراتبة العصر، وهي قبلية، فهذه التي لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها بالسفر، وقد اختلف أصحابه فيها، فذهب بعضهم إلى أنها مطلوبة في الحضر والسفر، وقد قال ابن عباس: لو كنت مسبحاً لأتممت، أي: لو كنت متنفلاً لأتممت، فالمسافر حط عنه شطر الفريضة أي: الظهر والعصر، فينبغي أن يسقط ما معها من النافلة.
وبقي من ذلك الضحى، فقد جاء في حديث أم هانئ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثماني ركعات في وقت الضحى بمكة، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم مسافر في مكة، ولا يحل له المقام فيها، قد كان ذلك بعد الفتح، فمنذ هاجر منها حرم عليه المقام فيها؛ لأنه باعها لله جل جلاله.
السؤال: رجل تزوج بامرأة وولدت له أولاداً، وماتت أو فارقها، ثم تزوج بامرأة أخرى، فهل أحفاده من أبناء الأولى يكونون محارم لتلك المرأة الثانية؟
الجواب: نعم، فكل من له عليك ولادة، أي: كان أباً لك، سواء كان أباً لك، أو جداً من جهة الأب، أو من جهة الأم، إذا تزوج أية امرأة، فقد أصبحت محرماً لك؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]، ومعنى (إلا ما قد سلف) أي: ما كان من عمل أهل الجاهلية، فإن الله أقر بعض أهل الجاهلية على عصمهم، وأثبت الأنساب بها، فما كان من ذلك قبل نزول الآية فالنسب يثبت به، أما ما بعد ذلك فلا يقر، وقد تزوج رجل من بني فزارة اسمه: منظور بن زبان امرأة كانت تسمى: مليكة، وهي زوجة أبيه، فعلم بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل إليه، فلما جيء به أراد أن يقيم عليه الحد، فسأله هل سمع سورة النساء؟ فقال: ما سمعتها، فقال: ما قرئ عليك فيها قول الله تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]؟ قال: اللهم لا، فحدثه خمسين يميناً ما سمع هذه الآية، فلما حلفها درأ عنه الحد، ولم يقم عليه الحد بذلك.
السؤال: ما تعليقكم على من يزعم أن المسيح الدجال الآن يقيم في قلعة تحت البحر في مثلث برمودا، وأن لديه تكنولوجيا متطورة تفوق ما توصل إليه البشر اليوم، ما هو تعليقكم على ما سبق ذكره؟
الجواب: المسيح الدجال يجب الإيمان بأنه سيخرج في آخر الزمان، وسيخرج من خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً، وعاث شمالاً، وإلى جهة المشرق ما هو؟ فليس في مثلث برمودا؛ لأنه إلى جهة المشرق ما هو؟ أي: هو في جهة المشرق محبوس في جزيرة من جزائر البحر هنالك، وسيخرج من خلة بين الشام والعراق، ويعيث يميناً، ويعيث شمالاً، ويمكث في الأرض أربعين يوماً، فيوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، وفي آخر أيامه ( ينزل المسيح بن مريم عليه السلام وقت صلاة الفجر عند المنارة البيضاء شرقي دمشق يمينه على ملك، وشماله على ملك، كأنما خرج من ديماس، إذا رفع رأسه تحدر منه مثل اللؤلؤ, وإذا طأطأ رأسه تقاطر, لا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره، فيقتله في باب لد )، وباب لد هو الآن مطار تل أبيب، هذا المكان يسمى الآن: إيربورت اللد، وإيربورت معناها: الباب الجوي، أو المنفذ الجوي، فهو يسمى باباً باللغة الإنجليزية أيضاً، هو الآن اسمه بالإنجليزية: إيربورت اللد معناه باللغة الإنجليزية: باب الجو اللد، فهذا المكان هو الذي سيقتل فيه المسيح بن مريم عليه السلام المسيح الدجال .
ودعوى أن لديه تكنولوجيا أو غير ذلك فهو لديه أمور خوارق للعادة، فلا يحتاج إلى هذه التكنولوجيا بل يأمر الأرض فتخرج خيراتها، ويأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، وهذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، وهو دليل على أن الدجل والخرافة من الأمور التي لا ينبغي أن يستسلم لها الإنسان، حتى لو رأى فيها خوارق عادة كبيرة، إذا كان صاحبها غير مستقيم، فعلى الإنسان أن يعلم أنه من الدجاجلة الذين هم قبل المسيح الدجال.
السؤال: هناك جمعية تعرف بجمعية العفاف لتسهيل الزواج وتشييعه، فما رأيكم في هذا النوع من المبادرات، وقد رخصت لها السلطات حديثاً؟
الجواب: إذا كان ذلك من التعاون على البر والتقوى، فلا شك أنه مطلوب، وقد قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، ولا يوجد اليوم بلد من البلدان الإسلامية إلا وفيه جمعية من هذا القبيل، وتأخر وجودها في بلدنا، فينبغي أن تشجع؛ لأن هذا من العفاف، وإعانة الناس عليه، ومنع انتشار الفاحشة، وإعانة الشباب على الزواج، وهي حكمة طالب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح عنه أنه قال: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، وإلا فعليه بالصوم، فإنه له وجاء )، ولا شك أن هذا النوع هو من التعاون على البر والتقوى، والمشاريع من هذا القبيل في العالم كله منتشرة كثيرة في العالم الإسلامي كله.
السؤال: ما حكم من هو في مجتمع فاسد، ويحب أن يكون ملتزماً؟
الجواب: إذا كان لا يستطيع إصلاح ذلك المجتمع، فعليه أن يعتزلهم، كما اعتزل إبراهيم عليه السلام، ويذهب إلى مجتمع آخر صالح يتعلم فيه دينه، ويمارس فيه عبادته، قد أخرج البخاري في الصحيح، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن ).
السؤال: هل يجوز لي أن أصافح زوجة جدي لأبي؟
الجواب: كل من له عليه ولادة إذا تزوج بأية امرأة فقد أصبحت محرماً لك؛ للآية التي ذكرنا في سورة النساء، فتعريف المحارم التي تجوز مصافحتها هي: كل من يحرم نكاحها بالتأبيد بسبب مباح، فكل من حرم نكاحها أبداً بسبب مباح فهي المحرم، فيدخل في ذلك المحارم من النسب، والمحارم من الرضاع، والمحارم من المصاهرة، فهذه الثلاثة الأقسام هي أقسام المحارم.
السؤال: ما حكم من لزمته عشرة أيمان وهو قادر على الإطعام، فهل يطعم؟ وما هي طريقة الإطعام؟
الجواب: يقول الله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89]، فأول ما عليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى من الحلف والحنث، فعلى الإنسان أن يعظم الله جل جلاله، وألا يحلف باسمه على الكذب، ثم بعد ذلك عليه الكفارة؛ فيطعم عشرة مساكين، والأفضل ألا يباشر هو الإطعام بنفسه، بل يقدم ذلك لجمعية من الجمعيات التي ترعى الفقراء، فمثلاً: إذا قدم مائة كيلو من الأرز لجمعية نسوية -مثلاً- لمكافحة الفقر والأمية، أو لأية جمعية من الجمعيات الخيرية التي هي محل ثقة، فبين لهم أن هذه عشر كفارات، الكفارة عشرة كيلو، كل كيلو يدفعه لفقير؛ لأن المد يندب بغير مد المدينة زيادته، فهذا مجزئ عنه إن شاء الله.
السؤال: (إن الله يحب البصر النافذ عن ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عن حلول الشبهات), هل هذا حديث؟
الجواب: لا أعرف هذا حديثاً.
السؤال: سمعت أحد العلماء يقول: بأن الانتخابات ودخول البرلمانات قد تحقق فيها المصلحة الشرعية في بلد، ولا تحقق في بلد آخر، أو أن على المسلمين في كل بلد الموازنة بين المصالح والمفاسد، وترجيح ما يرونه مناسباً، ونحن اليوم في بلدنا أحوج ما نكون لتلك الموازنة خاصة وأن العلماء المتبصرين الذين يفهمون الواقع نادر.
الجواب: الموجود الآن في العالم كله أحد احتمالين: إما الاستبداد والقهر، وإما المشاركة، ولا شك أن الاستبداد والقهر مردود بالعقل وبالفطرة، وهو مردود بالشرك كذلك، فلم يبق إلا المشاركة، لكن تلك المشاركة لابد أن تضبط بالضوابط الشرعية، فالله تعالى جعل أمر المسلمين شورى بينهم، فقال: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، وهم يختارون من يمثلهم، ويختارون من يحكمهم، ويكون ذلك على أساس الدين، وليس على أساس الدنيا والمصالح، وفي الأثر: (من ولى على عصابة رجلاً وفيهم من هو خير منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)، فلابد أن يكون الاختيار واضحاً، وأنا لا أرى ما ذكره هنا من أن البلدان تتفاوت في ذلك، بل البلدان الإسلامية كلها ملت الآن من حكم الاستبداد والقهر والجبروت، وأصبحت الآن تتطلع إلى المشاركة في مصالحها، وفي ما يحقق أمورها، وأن يكون أمرها شورى بين أفرادها.
السؤال: الدخول إلى هذه البرلمانات، والمجالس البلدية إذا كان بنية تحقيق الحق، وتخفيف الباطل، أو نقصه، هو جائز عند العلماء، لكن نحن رأينا بالتجربة أن الأشخاص الذين يدخلون هذا البيئة في أحيان كثيرة، بل في الغالب يتغيرون، وأحياناً يقرون باطلاً، ألا يعد هذا سبباً كافياً لهجران هذه المؤسسات؟
الجواب: الهجران ليس فيه مصلحة ولا منفعة، بل الهجران إنما هو انهزام، ورضى بحكم أهل الباطل، وتمكين لهم، ورضاً بالكفر أصلاً، فالهجران معناه: الرضا بإشاعة الكفر والفجور، والظلم والبغي، فلذلك على الإنسان إذا استطاع أن ينصر الحق، وأن يبالغ ويبادر إلى نصره، وليس له أن يتراجع عن ذلك أبداً، وإذا استطاع أن يرفع ظلماً أو أن ينشر عدلاً فيجب عليه ذلك، ولا يحل له التأخر فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، وأما ما ذكر أنه يحصل لبعض الناس من التغير، فهذا من الفتن التي تحدثنا عنها، والناس يفتنون، ولكن هذه الفتن لا تختص بمثل هذه الوظائف، بل قد يفتون كذلك في ديارهم وأهليهم، فالفتنة موجودة على كل الاحتمالات.
السؤال: هل إعطاء الزوجة لمالها بدون إذن زوجها ماض؟
الجواب: الزوجة إذا كانت رشيدة مكلفة فهي مالكة لمالها، ومالكة للتصرف فيه، ولكن المالكية وحدهم رأوا أنها لا تتبرع بما زاد على الثلث، وإذا كان التبرع بأقل من ثلث مالها فهو ماض عند جميع المذاهب، وإذا كان بالمعاملة ليس بالتبرع فهو ماض أيضاً عند جميع المذاهب.
السؤال: ما حكم تطبيق القراءات في الحديث؟ فمثالاً: ترقيق الراء مرة، القراءة بالإمالة مرة، والمد مرة أخرى، فما الحكم في ذلك؟
الجواب: هذا من لغات العرب، ويجوز أن يقرأ بها الحديث، فإذا كانت لغة ثابتة ثبتت في القرآن فلا ضير في قراءة الحديث بها، ولا حرج في ذلك، لكن على الإنسان ألا يقرأ أي كلام من كلام الناس كما يقرأ كلام الله؛ لأن ذلك من سنة اليهود، وقد كانوا يرددون الكلام ويجودونه ليزعم الناس أنه من الكتاب المنزل إليهم، وليس منهم.
السؤال: ما حكم إسبال الثياب؟ وهل قوله: ( لا يقبل الله صلاة مسبل ) حديث صحيح؟
الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إسبال الثياب، وقد جاء عنه في ذلك عدد من الأحاديث، منها: ( لا ينظر الله إلى من أسبل ثوبه خيلاء ) ومنها: ( ما أسفل من الكعبين ففي النار )، وهذه الأحاديث صحيحة، ولكن أهل العلم اختلفوا، فقالت طائفة منهم: يحمل المطلق على المقيد، وقال بعضهم: بل يبقى المطلق على إطلاقه، والمقيد على قيده، فالحديث الذي فيه التقييد ذكر الخيلاء فقال: ( لا ينظر الله إلى من أسبل ثوبه خيلاء )، فمن أسبل ثوبه من غير خيلاء لا يدخل في هذا الحديث، ولكن الحديث الآخر الذي فيه: ( ما أسفل من الكعبين ففي النار )، مطلق، فهو يشمل من فعل ذلك خيلاء، ومن لم يفعله خيلاء.
فالذين يرون أن المطلق يحمل على المقيد يقولون: النهي إنما هو منصب على الخيلاء، فإذا حصل إسبال من غير خيلاء ومن غير قصد لذلك فلا حرج فيه، والآخرون يرون أن المطلق يبقى على إطلاقه، وأن المقيد يبقى على قيده، فيرون أن من أسبل ثوبه خيلاء فقد عصى مرتين: عصى من أجل الإسبال، وعصى من أجل الخيلاء، ومن أسبل ثوبه من غير خيلاء، فقد عصى مرة واحدة، وهي بالإسبال، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر برفع الثوب، فقد مر ابن عمر أمام بيت حفصة، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( ارفع ثوبك، فرفعه، فقال: زد، فزاد، فقال: زد، فزاد، فلما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح ابن عمر ساقه في ذلك المكان؛ ليتذكر المكان الذي ينبغي أن يصل إليه إزاره، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
وكذلك فإن عمر رضي الله عنه بعد أن طعن رأى شاباً من الأنصار يجر ثوبه، فدعاه فقال: ارفع ثوبك، فإنه أتقى وأنقى وأبقى. أتقى أي: لله، وأنقى أي: للثوب، وأبقى له أي: أمنع له من الاحتكاك، وعوامل التعرية، فلذلك علينا أن نرفع ثيابنا
نحن نعلم أن البلدية محتاجة إلى المساعدة في التنظيف، لكن مع ذلك علينا أن نرفع ثيابنا، وبالأخص أن كثيراً من الإخوة تعودوا على هذه البرابيع الضافية جداً، فينبغي للإنسان أن يتقلل من ذلك ما استطاع، وأن يعلم أن الإسراف لا خير فيه، والذي يحمله الإنسان فوق منكبه هكذا، ويبقى حاملاً له دائماً، أو في يديه يشغله في الصلاة، أو في غير ذلك، الأفضل ألا يشتغل به، فإذا لبس ثوباً مقتصداً يصل عرضه إلى إبهامه فقط كما كان ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فهذا كاف، وإذا وصل إلى عرض الإبهام فكذلك هو كاف.
وفي الطول ينبغي للإزار أن يتجاوز به نصف الساق، والإزار هو: السراويل، والثياب الأخرى يمكن أن تصل إلى أسفل من ذلك، لكن لا تصل إلى الكعب، فالكعب نفسه شبهة، وما أسفل من الكعب الراجح فيه الحرمة، فعلينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى في هذا.
السؤال: ما حكم من أكره على الطلاق؟
الجواب: بالنسبة للذي أكره على الطلاق بأن رفع عليه السيف أو حمل عليه المسدس- مثلاً - هذا الإكراه الملجئ لا يلزمه، والطلاق إذا ثبت أنه فعله بالإكراه، أما مجرد أن تقول الزوجة لزوجها: لا أفارقك حتى تطلقني، أو أن تمسك ثوبه فليس هذا إكراهاً؛ لأن الإكراه من شرطه أن يكون بخوف مؤلم، وأن يكون المهدد به قادراً على إنفاذه، فإذاً الإكراه يشترط له هذان الأمران: أن يكون بالتهديد بمؤلم في نفس أو مال، وأن يكون الذي يهدد به قادراً على إيقاعه.
أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر