الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32] اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام! فإن الله عز وجل قد أقام هذا الكون على سنن لا تتخلف، ومن هذه السنن: أن الجزاء من جنس العمل، وهذا نجده في القرآن كثيراً كقول الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] ، وكقول الله عز وجل: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7] ، وكقوله سبحانه: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا [الطارق:15] ، وقوله سبحانه: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50] ، وكذلك نجده في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ( من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه )، وكقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة ) ، وغير ذلك من النصوص الكثيرة المتواترة في سنته صلوات ربي وسلامه عليه.
ونجد هذا أيضاً في قصص القرآن، فيقص الله عز وجل دائماً علينا أخبار الطغاة المتكبرين المستبدين، الذين سعوا في الأرض بالفساد، ولم يتقوا الله عز وجل في عباده، يقص علينا ربنا جل جلاله كيف أنه أخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأنزل بهم بأسه، وأظهر فيهم آياته، وانتقم للمستضعفين من أولئك الجبابرة المستكبرين، نقرأ قول ربنا جل جلاله، بسم الله الرحمن الرحيم طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:1-6]، هذا الفرعون اللئيم الذي طغى وبغى وتكبر حتى بلغ به عرام الكفر أن يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وأن يقول للناس: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وأن يقول لهم: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] وأن يسخر من نبي الله موسى عليه السلام فيقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:51-53] ، فرعون أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وهذه الأنهار التي كان يفخر بأنها تجري من تحته، جعلها الله عز وجل بقدرته تجري من فوقه، وقال له: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92] .
كذلك قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] ، قال الله عز وجل: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81] .
و النمرود بن كنعان الذي قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] ، وتكبر على الاستجابة لدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام، سلط الله عليه دويبة من دواب الأرض دخلت في أنفه، وما زالت تطن في رأسه، فهذا المتكبر المتغطرس ما كان يقر له قرار إلا إذا ضرب بالنعال على رأسه.
وكذلك عقبة بن أبي معيط هذا الذي آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رآه مرة ساجداً عند الكعبة، فوضع رجله على عنق النبي عليه الصلاة والسلام، وغمزها، حتى كادت عيناه صلى الله عليه وسلم تندران، كادت عيناه تخرجان من محجريهما، ثم بعد ذلك يوم بدر أُخذ في الأسرى، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بينهم ذليلاً حسيراً ناكس الرأس خاشع الطرف، وأسلمه إلى عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح رضي الله عنه، وأمره أن يضرب عنقه، فقال: ( أنا من بين الناس يا محمد؟ قال: نعم. قال: ولمَ؟ قال: بعداوتك لله ورسوله ) ، وبدأ يستعطف الرسول عليه الصلاة والسلام يقول له: ( من للصبية يا محمد؟ قال: النار ).
كذلك أبو لهب ، هذا الذي كان يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام، فيطرح الأذى في طريقه، ويتبعه أينما ذهب، يقول للناس: لا تصدقوه فإنه كذاب، فإنه ساحر؛ سلط الله عليه بعد غزوة بدر بأيام داء يقال له: العدسة، وكان داء معدياً، فقضى عليه، وما استطاع أبناؤه أن يغسلوه ولا أن يدفنوه حذراً من العدوى، فحملوه من طرف فراشه، وأسندوه إلى جدار، ثم ما زالوا يرجمونه بالحجارة حتى غيبوه، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127]، وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا ).
وكذلك من كانت تعذب زنيرة ، تلك الجارية الرومية رضي الله عنها التي أسلمت وتابعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، كانت سيدتها تعذبها، وتأمر جواريها بأن يضربنها على رأسها حتى ذهب بصرها رضي الله عنها، ثم بعد ذلك كانت رضي الله عنها تعطش، فإذا طلبت الماء وقد ذهب بصرها، يقولون لها: الماء أمامك، فتذهب فتتعثر، وتسقط، وسيدتها الكافرة ومن معها يضحكن منها ويهزئن بها، ثم قالت لها: إن كان ربك حقاً فادعيه لعله يرد عليك بصرك، فقد أذهب بصرك اللات والعزى، قالت: كذبت وبيت الله، ما تنفع اللات والعزى ولا تضر، ما أذهب بصري إلا الله، وهو قادر على أن يرده علي، فرد الله عليها بصرها، ثم هذه السيدة الكافرة الفاجرة التي كانت تأمر بتعذيبها، ابتلاها الله عز وجل بصداع دائم، يلازمها، ولا ترتاح إلا بعد أن يضربها جواريها على رأسها، والجزاء من جنس العمل، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:123-124].
هذه السنة المطردة -أيها الإخوة الكرام- رأيناها قبل أيام حين فرَّ ذلك الطاغية المشئوم، الغادر الجبان، الذي طغى في البلاد، فأكثر فيها الفساد، بلاد تونس التي فتحها عقبة بن نافع رحمه الله أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وخرَّجت العلماء والنجباء والفضلاء من أمثال أسد بن الفرات و سحنون بن سعيد و ابن أبي زيد القيرواني ، وغيرهم مئات، بل ألوف خرجوا من تلك البلاد الطيبة المباركة يدعون إلى الله وينشرون العلم، حولها ذلك المشئوم إلى قاع صفصف، حارب فيها الدعوة، وحارب فيها الحجاب، وحارب فيها القرآن، وابتدع سياسة سماها: تجفيف المنابع، أي: أنه لا يُعنى بمحاربة العنف أو الإرهاب - كما يسمونه -، بل يحارب الدين في أصله، فمنع تدريس الدين في المدارس، وحول جامعة الزيتونة التي خرَّجت أمثال الطاهر بن عاشور و ابن عزوز وأمثالهم، حولها إلى مكان يختلط فيه الفتية بالفتيات، وجعل فيها حتى حمامات سباحة مشتركة، هذه الكلية الزيتونية التي تعنى بتدريس الشريعة، فيها يسبح الذكور والإناث في مسبح واحد، هذه كلية الشريعة.
وأتى فيها بأناس لا خلاق لهم، يقولون للطلبة والطالبات: تعلموا كيف تنقدون دين محمد صلى الله عليه وسلم، كيف تنتقدون الدين.
وكل من رفع صوته من الدعاة إلى الله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فمصيره إلى السجن، حيث العذاب الجسدي، من ضرب بالسياط، وكي بالكهرباء، ونزع للأظافر، ثم بعد ذلك الحبس في الزنازين الانفرادية بالمدد الطويلة، وأقسى من هذا وأعظم العذاب النفسي، يسلط على الداعية بعدما يحبسه في سجونه التي هي أقسى من سجون فرعون، يسلط على زوجته بعض زبانيته، يأتي عبيد العبيد فيدخلون على زوجته ويغتصبونها وينتهكون عرضها، ويُصوَر ذلك بالكاميرات، ثم يُنشر الشريط بين الناس، فهذا الداعية في سجنه إما أن يصاب بالجنون، وإما على أحسن الأحوال يصاب بالضغط والسكري، ويبقى في سجنه يشكو إلى الله عز وجل ظلم العباد، لكن ربنا جل جلاله بالمرصاد، الله جل جلاله يمهل ولا يهمل، وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42] ، ودعوة المظلوم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، فيقول الله عز وجل: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ) .
واحد من الحكام أيام دولة بني العباس، كان يقال له: خالد بن عبد الله البرمكي ، بعدما كان في عز وسلطان، وبعدما كان وزير هارون ، والبرامكة عاثوا في الأرض فساداً، وفجأة انقلب عليهم هارون وألقى بهم في غياهب السجون، فولده يسأله - ولد خالد بن عبد الله البرمكي - يقول له: يا أبت! بعد العز والسلطان صرنا في السجن والذل! قال له: يا بني! لعلها دعوة مظلوم في جوف الليل غفلنا عنها، ولم يغفل الله عنها. الله جل جلاله ليس بغافل، سبحانه وتعالى وهو قادر على أن ينتقم.
أقول -أيها الإخوة الكرام- لعل سائلاً يقول: ما بالنا نتحدث في هذا الأمر وقد مضت عليه أيام، لمَ نتحدث عنه الآن؟
نقول: أيها الإخوان! من أجل أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أن ذلك الطاغية الفاجر الذي عاث في الأرض فساداً، وحارب دين الله عز وجل، في كل واد له أمثال ونظراء في بلاد المسلمين، درس كهذا الدرس الذي نجلس فيه آمنين مطمئنين لا يتأتى في كثير من البلاد، هو من الممنوعات والمحظورات، في بعض بلاد الله التي تحكم بأسماء إسلامية، الشاب الذي يتردد على المسجد يُراقب، ولعله يُقبض عليه، ثم يكتب أمامه ضُبط متلبساً بصلاة الفجر، أو ضبط متلبساً بالقراءة في المصحف، أما هذه المظاهر، من إعفاء اللحية وما إلى ذلك فهي من المحرمات الكبار، التي لا يجرؤ عليها كثير من الناس؛ لأنهم يحاربون ويضيق عليهم، فأقول: الكلام عن هذا الطاغية وأنه فرَّ فرار المذعور، وكان بعض عباد الله الصالحين من أهل تلك البلاد يسمونه: زين العابثين، والآن يسمى: زين الهاربين، أقول: هذا الرجل أطاع سادته وكبراءه من الصليبيين واليهود، ومدَّ معهم حبال المودة، وتحصن بهم، وامتنع بعساكره ودساكره وجيوشه، وظن أن هؤلاء سيمنعونه من قدر الله، فلما فر كالفأر مذعوراً، يمم وجهه شطر تلك البلاد التي طالما احتضنته ومجدته واستقبلته بالورود والرياحين، وكان أهل العلمنة يعدون تجربته فخر التجارب في بلاد العرب والمسلمين، لما أراد أن يلجأ إليهم لفظوه، وأعلنوا أنه غير مرحب به، ثم أراد أن يلجأ إلى أخرى من تلك البلاد فلفظوه، وهكذا صار يجوب الآفاق، وفي ذلك عظة وعبرة، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111] ، فلو بقي من هؤلاء من أولي الألباب فليتعظ؛ لأن الدساكر والعساكر والجيوش والقصور والحصون لا تمنع من قدر الله عز وجل، وشتان شتان بين حاكم ينام قرير العين، والأيدي ترفع بالدعاء له، والثناء عليه، وآخر - والعياذ بالله - يمشي في الأرض بالفساد، والقلوب المؤمنة والأيدي المتوضئة ترتفع في جوف الليل بالدعاء عليه بأن يخلص الله منه البلاد والعباد، فإذا خرج وخلص الله البلاد والعباد منه لا يجد من يترحم على أيامه، ولا من يثني عليه، بل تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب.
فنقول: أيها الإخوة الكرام! القرآن الكريم حين يبدئ ويعيد في قصة فرعون ويكرره باسمه في القرآن أربعاً وسبعين مرة؛ لأنه ما أكثر الفراعنة والجبابرة والطواغيت، وشياطين الإنس ممن يسعون بالفساد في الأرض.
الأمر الثاني: نقول: -أيها الإخوة الكرام-! نذكر هذا الأمر من أجل التنبيه على جملة من السنن التي لا بد للناس أن يفطنوا إليها، وأن يتأملوا فيها، ومن هذه السنن:
أولاً: أن المؤمن يتفاءل مهما اشتد الظلام، ومهما عظم الخطب، ومهما اشتد الكرب، ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن )، وكان يكره التشاؤم عليه الصلاة والسلام، أبداً ما يتشاءم؛ ولذلك في غزوة الأحزاب حين يحيط به الخطر ويبلغه أن يهود قد نقضوا العهد، يقول: ( الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين ) ، وحين يحفر الخندق عليه الصلاة والسلام يقول: ( الله أكبر، أوتيت مفاتيح فارس، والذي نفسي بيده إني لأرى قصر المدائن أبيض، ثم يقول: الله أكبر، أوتيت مفاتيح الروم، ولله إني لأرى قصورها الحمراء ساعتي هذه، الله أكبر أوتيت مفاتيح اليمن، والله إني لأرى قصور صنعاء )، يتفاءل صلوات الله وسلامه عليه، لا يكذب على الناس، لكنه يعلم أن الله عز وجل عند ظن عبده به: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني ) .
فنقول بأن الطواغيت ممن يحاربون دين الله عز وجل قد اشتد بأسهم، وعظمت قوتهم، وأولياؤهم من اليهود والنصارى يمدونهم بكل وسيلة يستطيعون بها قمع الشعوب، ووأد إرادتهم، لكن مع ذلك نقول: نتفاءل إن شاء الله بأن التغيير ممكن، وأن العزيمة الصادقة إذا وجدت فإن النصر حليف الشعوب.
ثانياً: تسلط الظالمين فيه حكم، وفيه ابتلاء، نحن نوقن بسنة الله الكونية أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا ارتفع إلا بتوبة من أين أخذناها؟ من قول ربنا جل جلاله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وأخذناها من قول ربنا جل وجلاله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44] ، فلذلك نقول بأن الشعوب والجماعات مطلوب منها أن ترجع إلى الله عز وجل، وأن تتوب إليه، ولا يغرنا وجود أفراد صالحين، فإن الله عز وجل قال: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]، والفتنة تسلطت أول ما تسلطت على الصالحين، فإن الناس الذين ثاروا وفاروا وغضبوا إنما كان غضب أغلبهم لدنياه؛ لأن الأسعار قد غلت، والمعايش ضاقت، والأمور تعسرت، كثير من الناس غضب من أجل الدنيا، من أجل المعايش - كما يقال -، ولما سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ( يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث ) ، فالبدار البدار بالتوبة إلى الله جل جلاله.
ثالثاً -أيها الإخوة الكرام-: فرار الطاغية، وذهاب المشئوم لا يعني بالضرورة أن يخلفه من هو خير منه، إن لم يرجع الناس إلى الله عز وجل، ويجعلوا غضبهم لله، فإنه قد يُستبدل شر بشر، أو قد يستبدل بمن هو شر منه، كما في الحديث: ( لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه ) ، والخلاص من ذلك بالتوبة الصادقة وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96] .
الأمر الثالث: -أيها الإخوة الكرام- الشريعة الإسلامية جاءت لحفظ الأنفس، وصيانة الدماء، وحفظ الأعراض والأموال، فالشريعة الإسلامية لا تقر الفوضى، ولا تشجع العبث بانتهاك الحرمات، والتعدي على الأملاك، وما إلى ذلك، فـ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]، والشر لا يعالج بالشر، والمنكر لا يُغير بالمنكر، فإن الله عز وجل لا يمحو الخبيث بالخبيث، ولكن يمحو الخبيث بالطيب، فليحرص الناس على طيب أقوالهم، وطيب أعمالهم، وعدم الإخلال بالأمن، وعلى الحكام كذلك أن يرجعوا إلى الله عز وجل، ويديروا حواراً صادقاً مع الرعية، والحكم فيه الكتاب والسنة، كما قال ربنا جل جلاله: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10] ، وقال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59] .
أيها الإخوة! نقول: إن واجباً على كل مسلم أن يقف مع إخوانه المسلمين حيثما كانوا، يعني: الآن حين نسمع بأن قضية المسلمين المركزية - كما تسمى -: قضية فلسطين، قد عرضت للبيع مراراً، وتظهر الوثائق التي تفضح أولئك الذين دندنوا وطنطنوا بأنهم يمثلونها، ويحفظونها، ويفاوضون باسمها، فإذا هم خونة غشاشون كذابون، نقول: لا بد لكل مسلم أن يهتم بهذا الأمر؛ لأن ( المسلمين أمة واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم )، والمنطق الذي يعيش فيه كثير من الناس الآن: نفسي نفسي، وأنه إذا سلمت معايشي، وطاب مجلسي، فلا شأن لي بما يدور في أرض الله، سفكت دماء المسلمين، أو انتهكت أعراضهم، أو احتلت أرضهم، أو انتهبت أموالهم، هذا أمر لا يعنيني، نسأل الله العافية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته ) .
يا أيها الإخوة الكرام! من المواعظ البليغة التي نستفيدها من هذا الحدث: أن من يحارب الله فهو مخذول، الذي يظن بأنه يستطيع أن يحارب دين الله، وأن يؤذي الدعاة إلى الله، وأن يسعى بالفساد في الأرض، لا بد أن يخذله الله عز وجل، انظروا إلى هذا الطاغية المشئوم، أبقاه الله حياً، وفي ذلك عبرة من أجل أن يتجرع الذل، ومن أجل أن ينام ويصحو على الكوابيس والأوهام، فهو مهدد بالمطاردة، مهدد بمصادرة الأموال التي انتهبها من ذلك الشعب المظلوم، مهدد بالمحاكمات والمساءلات، وما إلى ذلك، فلا يهنأ بعيش، ولا يقر له قرار؛ ولذلك كما قيل:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب
من ظن أنه قادر على أن يغلب الله فهو واهم، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، من حارب الله فهو مخذول.
أيها الإخوة الكرام! نتناول هذا الحدث بالتعليق؛ لأنه نبتت في هذه البلاد وفي غيرها نابتة، هذه النابتة تستطيل بألسنتها في أعراض الدعاة إلى الله عز وجل، وتتكلم عنهم بسوء، فكل من يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، ويتناول شئون المسلمين العامة على المنبر؛ فإنهم ينبزونه بتلك الألقاب السيئة بأنه من الخوارج، وأنه من دعاة الفتنة، وأنه من المحرضين على خلاف السنة، وأنه وأنه، إلى غير ذلك من النعوت التي يتمسحون بها في السلف ونهج السلف، وغير ذلك من العبارات الطنانة التي يصيحون بها، وقد سئل عبد الله بن المبارك رحمه الله قيل له: من الملوك؟ فقال: الزهاد. قيل له: فمن السفلة؟ قال: الذي يأكل بدينه. وأحمق الناس من باع دينه بدنياه، يعني: اشترى الدنيا وباع الدين، وأحمق منه من باع دينه بدنيا غيره، يبيع دينه وما عنده إلا الفتات مما يلقى إليه، لكنه يصبح ويمسي وهو يسبح بحمد الطغاة والجبابرة، ويدعو الناس إلى الإذعان لهم، والخضوع لأحكامهم، والرضا بما هم فيه من ذل وفقر واستعباد، وغير ذلك من الشرور.
يا أيها الإخوة الكرام! هذا الضلال الذي يدندن حوله هؤلاء، ويزعمونه هدى، هو داء قديم، ليس داء جديداً، فرعون لما قال: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى [غافر:29] ما وجد من قومه من يقول له: اتق الله، إنما أنت بشر مثلنا، قال الله عز وجل: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54].
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاء ليعلم الناس العزة، ليعلم الناس بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن المؤمن لا يُستذل، ولا يُستعبد، أقول: هذا الداء في الأمة قديم، قالوا: لما تولى يزيد بن عبد الملك بعد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وأراد أن يسير بسيرة عمر، ذلك الإمام العادل، والخليفة الراشد، الذي ما دام حكمه سوى سنتين وبضعة أشهر، لما أراد يزيد أن يسير بسيرة عمر ، وقد سمع ثناء الناس عليه، وترضيهم عنه، وحنينهم إلى دوام حكمه رحمه الله، جاء بعض أهل الضلال من شيوخ بني أمية، فحلفوا لـيزيد بالله الذي لا إله إلا هو أنه إذا ولى الله على الناس إماماً، فإن الله يقبل منه الحسنات، ويتجاوز له عن السيئات، قالوا له: من اليوم حسناتك مكتوبة، وسيئاتك كأن لم تكن. هذا الضلال أذاعوه في الناس باسم الدين، يقول أبو العباس ابن تيمية رحمة الله عليه في منهاج السنة: كثير من أتباع بني أمية أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب، وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام؛ بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء، والله أمرهم بذلك، وتجدون هذا الصنف من الناس دائماً يدندن حول قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] ، يدندن حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني ) ، ويغفلون عن بدهية يعلمها المسلمون جميعاً أن هذه الطاعة مقيدة بأن تكون في طاعة الله، ليست طاعة عمياء، لكن بني أمية زرعوا في الناس أن الطاعة مطلوبة بإطلاق، حتى كان يقال: هذه طاعة شامية. لأن بني أمية كان مركزهم وعاصمة دولتهم في بلاد الشام، يقولون: طاعة شامية. بل كما يقول ابن الجوزي : إن الخصوم قد أدركوا ذلك، حتى قال داعي الدولة العباسية: أما أهل الشام فلا يعرفون إلا طاعة بني مروان.
والحجاج بن يوسف الثقفي الطاغية السفاح، الذي تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( يخرج في ثقيف كذاب ومبير ) ، فخرج الكذاب وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي ، وأما المبير بمعنى السفاح الذي يسفك الدماء فهو الحجاج بن يوسف ، هذا الحجاج كان يطيع سيده أمير المؤمنين طاعة عمياء، وبلغ به الحال - نسأل الله العافية - أن يحاصر مكة بلد الله الحرام، وأن يرمي الكعبة بالمنجنيق، ويقتل عبد الله بن الزبير ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يصيح في الجيش: يا أهل الشام! الله الله في الطاعة. يسفك الدم الحرام في بلد الله الحرام، ويسعى في الأرض بالفساد، ويقول: يا أهل الشام! الله الله في الطاعة.
وكان الحجاج ومعه سيده عبد الملك بن مروان ويروي هذا ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية، يقولان: ننهى عن ذكر عمر بن الخطاب ، فإنه مرارة للأمراء، مفسدة للرعية. انظر إلى هذه السياسة، يقول: لا تحدثوا بسيرة عمر ؛ لأن الأمراء حين يسمعون سيرة عمر يشعرون بمرارة؛ لأن عمر كان مطعمه كذا وكذا، وأنا كيف الآن توسعت! عمر كان يلبس ثوباً فيه سبع عشرة رقعة، والآن أنا ثيابي تملأ الخزانات، عمر كان لا ينام بالليل ولا بالنهار، يقول: (أنا إن نمت بالليل ضيعت حق ربي، وإن نمت بالنهار ضيعت حق رعيتي)، ونحن بالليل والنهار في النعيم مقيمون، يقول: مرارة للأمراء، وبعد ذلك، مفسدة للرعية؛ لأن الرعية حين يسمعون سيرة عمر يقارنونه بأمرائهم وحكامهم.
ومن خطب الحجاج كما في سنن أبي داود : اسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية، لأمير المؤمنين عبد الملك ، واستمر على هذه الطاعة - نسأل الله العافية - حتى هلك، وجاء في وصيته أنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك عليها يحيا، وعليها يموت، وعليها يبعث. يعني: كان يطيع عبد الملك ، فلما هلك عبد الملك خلفه الوليد ابنه، واستمر الحجاج يحكم بلاد العراق، وقد جمع له العراقان البصرة والكوفة، كتب في وصيته: لا أعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك عليها أحيا، وعليها أموت، وعليها أبعث، نسأل الله العافية؛ لذلك كان عمر بن عبد العزيز يقول: لو جاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج لرجحناهم. يعني: بني أمية فهم قومه، يقول: لو جئنا بالحجاج سنغلبهم، ونفوز عليهم.
يا أيها الإخوة الكرام! هذه الطاعة العمياء أبداً ما كانت ديناً ولا ديدناً لعلماء الأمة الصالحين، وأبرارها الطيبين، بل كان جمهور المسلمين يعرفون بأن هذا زور، وأنه كذب، وأنه ضلال؛ ولذلك لما سأل الوليد بن عبد الملك الإمام المحدث ابن شهاب الزهري رحمه الله عن حديث: ( إن الله إذا استرعى عبداً الخلافة كتب له الحسنات، ولم يكتب عليه السيئات )، قال له ابن شهاب الزهري : هذا كذب. أبداً ما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، ثم تلا عليه: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] ، وابن شهاب الزهري هذا كان شامة في جبين العلماء، وفي مرة أخرى الوليد بن عبد الملك قرأ قول الله عز وجل: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11] ، قال له: من الذي تولى كبره؟ قال له ابن شهاب : هو عبد الله بن أبي ابن سلول . فقال له الوليد : كذبت هو علي بن أبي طالب . فقال له ابن شهاب : أنا أكذب لا أم لك. يعني: الله يخرب بيتك أنا أكذب! والله لو نادى مناد من السماء: إن الله قد أحل الكذب. ما كذبت؛ لأن الكذب يتنافى مع أخلاق الرجال، قال له: أنا أكذب.
فانظروا -أيها الإخوة الكرام-! إلى صنيع هذا الإمام رحمه الله، قال له: هذا كذب. وتلا عليه هذه الآية: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى [ص:26] والكلام موجه لمن أيها الإخوان؟ لنبي من أنبياء الله وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26] ، قال: أيهما أكرم على الله نبي الله أم الخليفة؟ ابن شهاب يسأل الوليد يقول له: إذا كان الله يقول هذا الكلام لنبي من أنبيائه، فما بالك بغيره؟! فقال له الوليد : إن الناس ليغروننا عن ديننا. يعني: هناك أناس يكذبون علينا، ويقولون على الله زوراً، وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: سيأتي أمراء يدعون الناس إلى مخالفة السنة، فتطيعهم الرعية خوفاً على دنياهم، فعندها سلبهم الله الإيمان، وأورثهم الفقر، ونزع منهم الصبر، ولم يأجرهم عليه.
يا أيها الإخوة الكرام! إننا نرى في زماننا نماذج أكثر نفاقاً - والعياذ بالله - وتملقاً من شيوخ بني أمية، فإن خلفاء بني أمية على ما كان فيهم فإنهم رحمهم الله وغفر لهم كانوا يحكِّمون شريعة الله، وكانوا يجاهدون في سبيل الله، وكانوا يفتحون الفتوح، وينشرون دين الله في الآفاق، وكان المسلمون على أيامهم في عز، ما تسلط عليهم اليهود ولا الصليبيون ولا الملاحدة، بل كان دين الله عز وجل في علو، وكلمة الله في ظهور، لكن الآن - نسأل الله العافية - ابتليت بلاد المسلمين في الأعم الأغلب بحكام لا يرجون لله وقاراً، ولا يعرفون من دين الله قليلاً ولا كثيراً، وهم في ذلك متفاوتون، وهذا الذي أخذه الله أخذ عزيز مقتدر كان أشأمهم وأقبحهم، حتى بلغ به الحال - والعياذ بالله - أن يقيد الصلاة في بيوت الله. يذكر لي أحد الناس بأنه ذهب إلى تونس، فسمع أذان الظهر في الواحدة إلا ربعاً، قال: بينما أنا أجول في السوق رأيت أقرب مسجد، فذهبت إليه فإذا الأبواب مغلقة، فسألت الحارس: أريد أن أصلي. قال لي: لن تفتح الأبواب إلا في الثالثة إلا ربعاً أي: بعد الأذان بساعتين. قال: وفي الثالثة إلا ربعاً فُتح الباب، فدخل الناس، فأقيمت صلاة الظهر في الثالثة إلا عشر دقائق، وفي الثالثة إلا خمس سلم الإمام، وفي الثالثة رفع أذان العصر، وأقيمت الصلاة في الثالثة وخمس دقائق، وسلم الإمام في الثالثة وعشر دقائق، ثم غلقت الأبواب في الثالثة والربع، معناها: أن الإمام ذاته مقيد بخمس دقائق، أربع ركعات، ويا ويلك لو قرأت مثلاً سورة البروج بدل سورة التكاثر أو سورة الفيل، يراقب بيوت الله عز وجل، وفي الوقت نفسه تفتح الأبواب على مصاريعها للخمور والزنا والخنا وأفلام الخلاعة والمجون ونشر الفساد.
يا أيها الإخوة الكرام! كان عامر الشعبي رحمه الله يقول: يأتي على الناس زمان يصلون للحجاج . يعني: يدعون للحجاج . ويذكر أحد العلماء الصالحين أنه دخل في بعض مساجد الشام، فوجد بعض الناس يسبون علي بن أبي طالب ، قال: فضاق صدري، ورأيت شيخاً كبير السن، عظيم اللحية، يصلي، فظننت به خيراً، فقلت له: سبحان الله! إن هؤلاء الناس يسبون علياً ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمه، فبكى ذلك الشيخ، وقال له: والله ما سلم منهم أحد، حتى أبو محمد . فقلت له: من أبو محمد ؟ قال: الحجاج بن يوسف . قال: فقلت: والله ما هذه بلاد يبقى فيها عاقل. قال: فخرجت.
يسبون علياً وهذا المسكين يبكي من أجل أبي محمد . يأتي على الناس زمان يصلون للحجاج ، هذا الصنف من الناس مصاب بالوله والهيام للحكام والأمراء، فلا يزال لسانه رطباً بذكرهم، يستهل الحديث ويختمه بتعداد مناقبهم، وتعداد مآثرهم.
يا أيها الإخوة الكرام! الحكم ليس مقصوداً لذاته، وإنما الحكم موضوع لتتحقق به غايتان: الغاية الأولى: حراسة الدين. والغاية الثانية: سياسة الدنيا به. الحاكم يحرس دين الله عز وجل لئلا يعلق به تحريف، أو يتعرض إلى تغيير أو تبديل، وفي الوقت نفسه يسوس الدنيا بالدين، فيحل ما أحل الله، ويحرم ما حرم الله عز وجل؛ ولذلك الآن تجد حكاماً مجاهرين بالعلمانية، محاربين لدين الله عز وجل، ولهم علاقات لا أقول سرية بل علنية مع اليهود، ويضيقون على المسلمين، ويساهمون في حصار غزة مثلاً، ثم بعد ذلك تجد ممن ينتسب إلى الدين، ومن يسمي نفسه شيخاً، من يسميه إمام المسلمين وأمير المؤمنين، ويدعو الناس إلى طاعته، في السراء والضراء، والمنشط والمكره، والعسر واليسر، ويرى أن مجرد المشاركة في الانتخابات تعد خروجاً على هذا الإمام، وافتئاتاً على حق هذا الأمير في الطاعة، ولا شك بأن هذه من البلاهة والحماقة والشماتة، نسأل الله العافية.
ولذلك نقول - أيها الإخوة الكرام -: لا تلازم ألبتة بين الدعوة إلى عزة المؤمن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتنبيه على جور الحكام.
وليس الحديث عن مفسدة خاصة ارتكبها الحاكم خلف الستور المرخاة، والأبواب المغلقة، وإنما الحديث عن منكر قد صبغ المسلمين، يعني: لا يمكن أن نقول: حصار مليون وخمسمائة ألف مسلم في قطاع غزة، وتجويعهم، وهدم الأنفاق عليهم، هذا شأن خاص لا يجوز الكلام عنه على المنبر، ولا يمكن أن نقول بأن تحكيم القوانين الوضعية، وتغييب شريعة الله عز وجل لا ينبغي الحديث عنه؛ لأن هذا أمر خاص، إما أن تسر به إلى الحاكم في أذنه فيما بينك وبينه، وإما أن تسكت، لكن أقول: هؤلاء قلبوا الحقائق، وزوروا التعاليم، ثم إنهم يرهبون الناس ويخوفونهم بكلمات: المنهج والسلف والسنة وكذا، ويهوشون بها تهويشاً عظيماً، لكن قانون ربنا السرمدي الباقي فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ [الرعد:17] .
أسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن ينصر من نصر دينه، وأن يخذل من خذل دينه، وأن يولي على عباده المؤمنين خيارهم، وأن ينزع الولاية من شرارهم، وأن يجعل يومنا خيراً من أمسنا، وغدنا خيراً من يومنا، وأن يختم لنا بالحسنى، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى جميع المرسلين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر