الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً عليناً فنضل، وبعد:
وصلنا إلى قول المؤلف: [ويجزئ في نجاسة أو في نجاسة غيرهما -أي: غير الكلب والخنزير- سبع غسلات بماء طهور]، وقلنا: إن هذا مذهب الحنابلة، واستدلوا بأثر ابن عمر أنه قال: (أمرنا أن نغسل النجاسة بسبع غسلات)، قلنا: إن هذا الحديث لا يصح، وليس له أصل، وأن الراجح هو أن النجاسة عين خبيثة متى ما زالت زال أثرها؛ استدلالًا بحديث أنس حينما ( أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يريقوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء ) من غير ذكر عدد معين.
على مذهب الحنابلة وتفريعاتهم أنه لا بد لإزالة النجاسة إذا كانت من غير الكلب والخنزير، وهي في غير الأرض من سبع غسلات بماء طهور ولو كان غير مباح، ومعنى لو كان غير مباح: أي لو كان هذا الماء طهوراً في نفسه، ولكنه لا يجوز لنا أن نستعمله، كالمغصوب مثلًا، فالمغصوب عند الحنابلة لا يرفع الحدث، لكنه يرفع طهارة الخبث.
فالمباح لا يستعمل في طهارة الحدث؛ لأن طهارة الحدث أو رفع الحدث يشترط فيها النية، أما طهارة الخبث؛ وهي إزالة النجاسة، فلو استعمل لإزالة النجاسة ماء طهور ولكنه مغصوب فإنه يرفع ويزيل هذه النجاسة؛ لأنه لا يشترط لإزالة النجاسة النية.
ولهذا لو جاء السيل والمطر على نجاسة فأزالها طهر المحل بالإجماع، وعلى هذا قالوا: (ولو غير مباح).
(إن أنقت) يعني: أنه لا بد من حصول سبع غسلات حتى تنقي، فإن غسلناه بسبع غسلات ولم تنق فلا بد أن نزيد ثامنة، فإن أنقت فالحمد لله، فإن لم تنق فتاسعة، لكنها لو أنقت بواحدة، فلا بد أن نزيد ستاً؛ لأن السبع شرط، كما قالوا في الاستجمار: لا يصح أقل من ثلاث ولو أنقى.
يقول المؤلف: (وإلا فحتى تنقي)، كل ذلك -يعني: السبع غسلات وما زاد بعدها- لا بد فيها من حت وقرص، ومعنى الحت: الحك والكشط لإزالة النجاسة، والقرص: هو الدلك بأطراف الأصابع والأظافر مع صب الماء عليه، استدلوا على ذلك بما جاء في الصحيحين من حديث أسماء : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن دم الحيض يصيب الثوب، قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تغسله، ثم تصلي فيه ).
المؤلف رحمه الله يقول: إن الحت والقرص لابد أن يكون لحاجة؛ لأن بعض النجاسة يبقى أجزاؤها، فيلزم من ذلك حت وقرص، وبعض النجاسة لا يبقى أجزاؤها، بل تكون رطبة، فبمجرد غمرها بالماء تزول أجزاؤها، وبالتالي لسنا بحاجة إلى حت وقرص، لكنه قال: (وعصر مع إمكان كل مرة خارج الماء)، يعني: لو أن الثوب النجس غمرناه في الماء، وحتيناه وقرصناه، فإن الحت والقرص للحاجة، لكن العصر عندهم لا بد منه، فيعصر، والعصر هنا إما أن يكون داخل الماء، وإما أن يؤخذ الثوب ويعصر خارج الماء.
والمؤلف يقول: (وعصر كل مرة خارج الماء)، يعني كل مرة من السبع لابد من العصر خارج الماء؛ لكي نضمن إزالة النجاسة ونتيقن.
وعلى القول الراجح، وهو اختيار ابن تيمية ومذهب أبي حنيفة أو الحنفية بناءً على أن النجاسة عين خبيثة متى زالت زال أثرها، فلا يلزم العصر، وتكفي الغسلة الواحدة، والله تبارك وتعالى أعلم.
والقول الثاني في المسألة: هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، ورواية عند الإمام أحمد : أنه يجوز إزالة النجاسة بالماء وغيره.
والقول الثالث: أن الأصل هو الماء ويجوز في غيره للحاجة وبما ورد فيه النص.
والراجح والله تبارك وتعالى أعلم أن يقال:
أولاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإزالة النجاسة بالماء أمرًا عامًا، بل أمر بذلك في قضايا معينة، فدل ذلك على أنه لا يلزم منه ألا تزال النجاسة إلا بالماء؛ لأن قضايا الأعيان لا عموم لها، كما يقول علماء الأصول.
ثانياً: لا شك أن للماء خاصية ليست كغيرها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم جوز إزالة النجاسة بغير الماء مع إمكانه ووجوده، مما يدل على أن خصوصية الإزالة بالماء محل توقف ونظر.
أعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإزالة النجاسة بغير الماء، مع إمكانية إزالته به ووجوده، مما يدل على أن تخصيص إزالته بالماء محل نظر، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم، كما عند أهل السنن من حديث أبي سعيد : ( فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن وجد بهما أذى فإن التراب لهما طهور )، ومن المعلوم أن الماء يمكن.
ومثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب لهما طهور )، وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستجمار بالحجارة ونحوها، مع إمكانية وجود الماء وخاصيته في الإزالة، ومع ذلك يجزئ بالإجماع الاستجمار من غير استنجاء، والأمثلة في هذا كثيرة جدًا.
فالراجح إذًا: أن النجاسة عين خبيثة متى ما زالت زال أثرها، ولا يقال: إن هذه الأمثلة دليل على جواز إزالتها بغير الماء في خصوصيتها، لأننا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمراً عاماً بألا تزال النجاسة إلا به، فخرجت هذه من باب الاستثناء، مما يدل على أن النجاسة عين خبيثة متى ما زالت زال أثرها، وهذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلم، وهو مذهب أبي حنيفة ، واختيار ابن تيمية رحمه الله.
إذًا: هذا معنى الدق والتقليب، فأحيانًا إذا وضع الثوب في الماء فإننا نجلس عليه كأنا نضربه، فإن لم يمكن دقه وتقليبه، يقولون: فإنه يثقل، ومعنى التثقيل عندهم: هو أنه إما أن يوضع في الماء، وإما أن يطأ عليه الإنسان، وإما أن يوضع فوقه شيء، بحيث يقل الماء الذي يشربه هذا الشيء المغسول، كأنه نوع من العصر، إذاً: نبدأ بالعصر والدق، فإن لم يمكن فتقليب، فإن لم يمكن فتثقيل، وذلك بأن يوضع شيء يطأ عليه الإنسان وهلم جرا.
والراجح أن نقول: لسنا بحاجة إلى عصر، ولا دق، ولا ضرب، القضية: أننا إذا تيقنا إزالة النجاسة، وذهب أجزاؤها، وليس ثمة رائحة ولا طعم، حكمنا بطهارته، كما مر معنا مرارًا وتكرارًا.
ولتعلم أن بقاء الطعم -يعني: طعم النجاسة- دالّ على بقاء العين؛ لأنه لا يمكن دعوى زوال النجاسة مع بقاء طعمها.
قال المؤلف رحمه الله: [ بلا تراب؛ لقول ابن عمر : ( أمرنا بغسل الأنجاس سبعاً ). فينصرف إلى أمره صلى اللـه عليه وسلم، قاله في المبدع ].
يعني: أن قول ابن عمر : (أمرنا)، دليل على أن الأمر لم يكن من عنده، ولا من عند الصحابة، وإنما هو من عند محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث قيل: إنه أورده ابن أبي موسى الهاشمي ، ولكن ليس له أصل؛ ولهذا ذهب ابن قدامة رحمه الله وهو اختيار ابن تيمية إلى أن النجاسة لا يلزم منها عدد، بل متى ما زالت زال أثرها، وهذا هو الراجح والله أعلم.
والغريب أن هذا القول هو المذهب، مع أنه ليس له أصل، يعني: بالعادة يقال: رواه ابن النجاد ، رواه ابن أبي موسى ، رواه الخلال ، رواه أبو عمر بن حفص ، لكن مثل هذا دليل على أن الإنسان ليس بمعصوم، ولو تفقه وأطال.
ورحم الله علماءنا، فقد حفظوا لنا من الفقه والعلم ما لا يخفى، ولكن لحكمة من الله سبحانه وتعالى أراد أن يخطئ البشر؛ لأجل عدم العصمة إلا لأنبيائه، نسأل الله سبحانه أن يعصمنا من مضلات الفتن، ومن الزلل، إنه على ذلك قدير.
قال المؤلف رحمه الله: (قاله في المبدع وغيره).
وعلى هذا فالحديث ليس له أصل، بل إن أبا داود روى حديثًا أحسن منه، من طريق عبد الله بن عصمة عن عبد الله بن عمر قال: ( كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرار، وغسل البول من الثوب سبع مرار، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسًا، والغسل من الجنابة مرة، وغسل البول من الثوب مرة )، وهذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده أيوب بن جابر ، ولكنه أحسن حالًا من الذي استدل به الحنابلة، ولكنا نقول: إن حديث ابن عمر وإن كان ضعيفًا، الذي هو ( كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبعًا وغسل البول سبعًا )، يقويه حديث أنس بن مالك : ( أريقوا على بوله سجلًا من ماء )، من غير ذكر عدد.
قول المؤلف: (وما تنجس بغسلة يغسل عدد ما بقي بعدها مع تراب في نحو نجاسة كلب إن لم يكن استعمل)، مثاله: مثل لو وقعت نجاسة في الغسلة الرابعة؛ فإنه يغسل ما تنجس ثلاث مرات إن أنقت، يعني: نحن غسلنا النجاسة الأولى سبع مرات، وفي الغسلة الرابعة وقعت فيه نجاسة فتنجس، فلا يلزم نعيد سبع مرات ثانية، بل يكفي ثلاث مرات؛ لأنهم يرون أن الغسل للسبع مقصود به التعبد، فإذا غسلناها بعد الرابعة، ثم وقعت نجاسة، ثم غسلنا ثلاث مرات، إن أنقت فالحمد لله، وإن لم تنق زدنا حتى يحصل الإنقاء.
فلو وقعت النجاسة أو تنجس بعد الغسلة السادسة، ثم غسلناه السابعة فأنقى؛ جاز على مذهب الحنابلة.
نكتفي بهذا، ونسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر