فصل في أثر الإسلام على النكاح: وإن أسلم الزوجان معًا أو زوج كتابيةٍ بقي نكاحهما، فإن أسلمت هي أو أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل، فإن سبقته فلا مهر، وإن سبقها فلها نصفه، وإن أسلم أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة، وإن أسلم الآخر فيها دام النكاح، وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول، وإن كفرا أو أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة وقبله بطل.
باب الصداق: يسن تخفيفه وتسميته في العقد من أربعمائة درهم إلى خمسمائة، وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً وإن قل، وإن أصدقها تعليم قرآن لم يصح، بل فقه وأدب وشعر مباح معلوم وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح ومتى بطل المسمى وجب مهر المثل].
تقدم لنا بقية أحكام العيوب في النكاح، وذكرنا من ذلك ما إذا حدث العيب بعد العقد والدخول، هل يثبت الفسخ أو لا يثبت الفسخ؟ وهل تزوج الصغيرة، والمجنونة والأمة بمعيب، أو لا تزوج بمعيب؟ وكذلك تزويج الكبيرة من المجنون والمجذوم والأبرص، هل له أن يمنع موليته من تزوج واحدٍ منهم، إلى آخره؟
ثم بعد ذلك تعرضنا لأحكام أنكحة الكفار، وأن الأصل فيه الصحة، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم، وأنه يثبت فيها من الأحكام ما يثبت في أحكام أنكحة المسلمين، فيثبت فيها الطلاق والظهار والإيلاء والنفقات وغير ذلك من الأحكام كما سلف بيانه، وأنهم يقرون على فاسده بشرطين:
الشرط الأول: ألا يعتقدوا فساده في شريعتهم.
والشرط الثاني: ألا يترافعوا إلينا، فإن اعتقدوا صحته في شرعهم ولم يترافعوا إلينا فإنهم يقرون، وإن اعتقدوا فساده أو ترافعوا إلينا فإننا نحكم بينهم على شرعنا.
قال رحمه الله: (فإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا).
يعني: إذا أتانا الكفار قبل عقد النكاح فإننا نعقده على حكم المسلمين من أركان النكاح، ومن شروط صحة النكاح، فلا بد من الولي والشهادة وتعيين الزوجين والرضا والمهر إلى آخره، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [المائدة:42].
في هاتين الحالتين يقر الكفار على أنكحتهم:
الحالة الأولى: إذا أتونا بعد العقد، فلا نتعرض لعقدهم ولا نفتش فيه، هل صدر بشهادة أو بدون شهادة، وهل صدر بولي أو بدون ولي .. إلى آخره.
الحالة الثاني: إذا أسلم الزوجان، لا نفتش في أنكحتهم أيضًا؛ هل هناك مهر أو لم يكن هناك مهر.
ففي هاتين الحالتين؛ يقرون على أنكحتهم، ولا نفتش فيها، ويدل لذلك ما تقدم من أن الأصل هو صحة أنكحة الكفار ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتش في أنكحة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لكن يشترط أن تكون المرأة مباحة حين الترافع إلينا أو حين الإسلام، فإن كانت المرأة محرمة حين الترافع إلينا أو حين الإسلام، فإنهما لا يقران، فلو أنه تزوج امرأةً في عدتها ثم ترافعوا إلينا، وحتى الآن لم تنته عدة المرأة، فحينئذٍ لا يقرون، أو أسلم الزوجان وقد تزوجها في عدة زوجٍ آخر، فإنهم لا يقرون كذلك؛ لأن المرأة لا تباح، لكن لو أنه تزوجها في عدة زوج آخر وانتهت العدة، ثم بعد ذلك أسلما وترافعا إلينا، فإنهم يقرون على أنكحتهم، وكذلك أيضًا لو ترافعوا إلينا وقد تزوجها في عدتها، وانتهت العدة، فالمرأة حينئذٍ تباح ويقرون على أنكحتهم، لكن لو كانت العدة لم تنته حين الترافع أو حين الإسلام فإنهم لا يقرون، فنقول في هاتين الحالتين: إن أتونا بعد عقد النكاح أو أسلم الزوجان فنشترط أن تكون المرأة مباحة حين الإسلام أو حين الترافع إلينا، فإن كانت لا تباح فإنهم لا يقرون.
مثال آخر: تزوج أخت زوجته، ثم بعد ذلك ترافعوا إلينا، فالمرأة لا تباح ولا يقرون، وكذلك لو تزوج أخت زوجته ثم أسلما، فهذه الزوجة الثانية لا تباح فلا يقرون، لكن لو تزوج أخت زوجته ثم ماتت زوجته، ثم ترافعوا إلينا فإنهم يقرون، وكذلك لو أنه تزوج أخت زوجته ثم ماتت الزوجة ثم أسلما، فإنهم يقرون؛ لأن المرأة تباح حينئذٍ.
إذاً: الأحوال ثلاثة:
الأولى: إن أتونا قبل العقد عقدناه على شرعنا بالشروط والأركان التي سلفت.
الحالة الثانية: أن يأتونا بعد عقده.
والحالة الثالثة: أن يسلم الزوجان، فيقرون فيهما لكن بشرط: أن تكون المرأة مباحةً حين الترافع أو حين الإسلام، فإن كانت غير مباحة فإنهم لا يقرون.
قال رحمه الله: (وإن كانت ممن لا يجوز ابتداء نكاحها فرق بينهما).
يعني: كما لو تزوج معتدة لم تنته عدتها، أو تزوج أخت زوجته وزوجته لا تزال في عصمته الأولى، فنقول: يفرق بينهما ولا يقرون على ذلك.
قال رحمه الله: (وإن وطئ حربي حربيةً فأسلما وقد اعتقداه نكاحًا، أقرا وإلا فسخ).
الحربي: هو الذي بيننا وبينه حرب، أي: ليس معاهدًا ولا مستأمنًا ولا ذميًا، فإذا وطئ هذا الحربي هذه الحربية وهو يعتقد أن هذا هو النكاح، ثم أسلم فإنهما يقران على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتش في أنكحة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولأن الأصل في أنكحتهم الصحة، وعلى هذا؛ إذا وطأها وهو يعتقد أن هذا هو العقد وأن هذا هو النكاح فإنهما يقران على ذلك، لكن إذا وطأها وهو لا يعتقده نكاحًا، وإنما يراه سفاحًا فإنهما لا يقران على ذلك، ولهذا قال: (وإلا فسخ) أي: فرق بينهما.
هذا فيما يتعلق بالمهر، وقد ذكر المؤلف رحمه الله ثلاث حالات للمهر:
الحالة الأولى: أن يكون المهر صحيحًا وأخذته المرأة، والمهر الصحيح: هو المهر الذي تقره الشريعة الإسلامية، كما لو أصدقها ثيابًا أو برًا أو ذهبًا أو فضةً وأخذته المرأة، فإنه ليس لها إلا هذا المهر؛ لما تقدم من أن الأحكام المترتبة على أنكحة المسلمين تترتب أيضًا على أنكحة الكفار.
قال رحمه الله: (وإن كان فاسدًا وقبضته).
هذه هي الحالة الثانية: المهر الفاسد: هو الذي لا تقره الشريعة، كما لو أصدقها خمرًا، أو خنزيرًا ونحو ذلك وقبضته.
قال رحمه الله: (استقر).
أي: ليس لها إلا هذا المهر الذي قبضته؛ لأنهما تقابضا في حكم الشرك.
قال رحمه الله: (وإن لم تقبضه).
هذه الحالة الثالثة وهي: إذا فرض لها صداقًا فاسدًا كما لو أصدقها كذا وكذا من الخمر، أو أصدقها كذا وكذا من لحم الخنزير ولم تقبضه فيجب لها مهر المثل للقاعدة التي ستأتينا إن شاء الله في باب الصداق وهي: متى بطل المسمى وجب مهر المثل، ودليل هذه القاعدة حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ( أنه سئل في امرأةٍ توفي عنها زوجها ولم يفرض لها صداقًا ولم يدخل بها، فقال
فكذلك التي فرض لها فاسد وجوده كعدمه، وكأنه لم يفرض لها، فيفرض لها مثل مهر نسائها، يعني: ما تأخذه قريباتها من الأمهات والأخوات ممن تشابهها وتقرب منها، فقوله: (وإن لم تقبضه) معناه: ولم تقبض شيئاً منه، فإنه يفرض لها مهر المثل.
الحالة الرابعة: إذا كان المهر لم يسم -وهذا سيأتينا إن شاء الله في أحكام المفوضة في باب الصداق- فيجب لها مهر المثل، ويدل لذلك ما تقدم من حديث ابن مسعود ، حيث لم يسم لها مهرًا ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لها مهر نسائها ) ، فيفرض لها مهر المثل.
فأصبحت الأحوال بالنسبة للمهر أربع حالات: أن يكون صحيحًا وأخذته، وأن يكون فاسدًا وأخذته، وأن يكون فاسدًا ولم تأخذه، وألا يسمى لها مهر.
وأما لو كان صحيحًا ولم تأخذه فإنه لا يجب لها إلا هذا الصحيح.
هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله لبيان أثر الإسلام على النكاح، وكذلك أثر الردة على النكاح.
قال رحمه الله أولًا فيما يتعلق بالإسلام: (وإن أسلم الزوجان).
أثر الإسلام على النكاح، لا يخلو من حالات:
الحالة الأولى: أن يسلم الزوجان معًا، بأن يتلفظ الزوجان بالإسلام دفعةً واحدة بأن شهدا الشهادتين دفعةً واحدة، فإنهما يقران على نكاحهما مطلقًا، سواء كانا كتابيين أو كان أحدهما كتابيًا والآخر غير كتابي؛ لأنه لم يوجد بينهما اختلاف دين، فكلاهما دخل في الإسلام.
الحالة الثانية: أن يسلم زوج الكتابية، بأن تكون الزوجة كتابيةً، سواء كان الزوج كتابيًا أو كان غير كتابيٍ لكنه أسلم، فيقران على نكاحهما؛ لأن المسلم يجوز له أن يتزوج الكتابية، فلو فرض أن هذا نصراني وزوجته نصرانية، ثم أسلم النصراني فيقران على نكاحهما، أو هذا مجوسي وزوجته نصرانية، ثم أسلم المجوسي، فيقران على نكاحهما، ودليل ذلك قول الله عز وجل: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5].
الحالة الثالثة: أن تسلم الزوجة، والزوج لم يسلم سواء كان الزوج كتابياً أو غير كتابي؛ لأن المسلمة لا يجوز لها أن تتزوج غير المسلم، وهذه الحالة سيأتي بيان حكمها.
قال رحمه الله: (أو أحد الزوجين غير الكتابيين).
هذه الحالة الرابعة: أسلم أحد الزوجين غير الكتابيين، ولنفرض بأن الزوجين من المجوس، أسلم الزوج والزوجة مجوسية، أو دهرية، أو وثنية، أو العكس بأن أسلمت الزوجة والزوج مجوسي أو دهري أو وثني.
وهاتان الحالتان أعني: الحالة الثالثة والرابعة موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، وهذه المسألة تقع كثيرًا الآن بسبب الدخول في الإسلام والحمد الله.
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وهو مذهب الشافعية التفصيل، قالوا: إن كان قبل الدخول بطل النكاح، وإن كان بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة، فإذا انتهت العدة ولم يسلم الآخر تبينا أن الفرقة حصلت بين الزوجين منذ أسلم الأول، وإن أسلم الآخر في أثناء العدة فهما على نكاحهما.
مثال ذلك: هذا مجوسي تزوج مجوسيةً فأسلمت المجوسية، فإن كان قبل الدخول بطل النكاح، وإن حصل الإسلام بعد الدخول، فإن أسلم الزوج في عدة المرأة -لأنها لما أسلمت تحتاج إلى عدة لكي تحل للأزواج- فإن أسلم الزوج في أثناء العدة فهما على نكاحهما، وإن انتهت العدة ولم يسلم الزوج فيقولون: يتبين لنا أن الفرقة حصلت بينهما منذ أسلمت الزوجة، فنضرب للزوجة عدتها، وسيأتينا إن شاء الله في باب العدد: هل هي عدة أو استبراء؟ وعلى المذهب أنها عدة، فإذا كانت تحيض فعليها ثلاث حيض.
وتعليق الأمر في العدة -كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى- لم يثبت به حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما استدلوا بأن صفوان بن أمية كان بين إسلامه وإسلام زوجته بنت الوليد بن المغيرة نحو من شهر، فأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على نكاحهما، لكن هذا لا يلزم منه أن يعلق الأمر بالعدة، وكذلك عكرمة بن أبي جهل بينه وبين زوجته أيضًا فترة، حيث أسلمت ثم أسلم هو بعدها، ومع ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الأحاديث في اعتبار العدة، ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عندما يأتي الرجل وتسلم المرأة، أو تسلم المرأة ويأتي الرجل، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الزوجين: هل حصل إسلام الآخر في العدة، أو حصل بعد نهاية العدة؟
الرأي الثاني: أن الأمر لا يتوقف على العدة، فإذا أسلم أحد الزوجين ثم أسلم الآخر، سواء كان ذلك في العدة أو بعد العدة فهما على نكاحهما، لكن المرأة ليس لها أن تتزوج إذا أرادت أن تتزوج إلا بعد نهاية العدة، وهذا الرأي هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وفيه سعة، وقد انتصر له ابن القيم كثيرًا في كتابه: زاد المعاد.
فمثلًا: لو أن المرأة أسلمت والزوج لم يسلم، ثم أسلم في العدة، فهما على نكاحهما، وكذا إن أسلم بعد العدة، لكن لو أرادت المرأة أن تتزوج، فنقول: بعد نهاية العدة هي بالخيار، إن شاءت أن تنتظر الزوج لعله أن يسلم فلها ذلك، وإن شاءت أن تتزوج فلها ذلك.
لكن على رأي الحنابلة والشافعية فإذا انتهت العدة حصلت الفرقة، أما عند شيخ الإسلام فما تحصل الفرقة، إذا انتهت العدة، فهي بالخيار، إن شاءت أن تنتظر الزوج لعله أن يسلم فلها ذلك، وإن شاءت أن تتزوج فلها ذلك، وأيضًا شيخ الإسلام يقول: لا فرق، بين أن يكون الإسلام قبل الدخول أو بعد الدخول.
وهذا القول هو الصواب، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم ردها النبي عليه الصلاة والسلام على زوجها أبي العاص وكان بين إسلام زينب وإسلام أبي العاص أكثر من ثماني عشرة سنة، فـزينب رضي الله تعالى عنها أسلمت في أول البعثة، وأبو العاص لم يسلم إلا في الحديبية، وكان الصحابة -كما تقدم- يسلم الرجل وتسلم الزوجة، أو تسلم الزوجة ويسلم الرجل وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل هل حصل الإسلام في العدة أو بعد العدة؟ المهم نقول: إذا أسلمت المرأة مثلًا هي بالخيار: إن شاءت تنتظر الزوج، فلها أن تنتظره.. إذا لم يسلم الزوج حتى انتهت العدة، إن شاءت أن تنتظر فلها أن تنتظر، وإن شاءت أن تتزوج فلها أن تتزوج، هذا الصواب في هذه المسألة.
لكن المرأة في مدة الانتظار ليس لها أن تمكنه من نفسها؛ لأنه أجنبي منها، والله عز وجل يقول: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10].
بقينا في المهر، يقول رحمه الله: (فإن سبقته فلا مهر، وإن سبقها فلها نصفه).
أي: إن كان الإسلام بعد الدخول فلها المهر بما استحل من فرجها كما جاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وإن كان قبل الدخول فقال رحمه الله: (إن سبقته فلا مهر) لأن الفرقة جاءت من قبلها، وسيأتينا إن شاء الله في باب الصداق: أن الفرقة إذا جاءت من قبل الزوجة وكان ذلك قبل الدخول، فإنه ليس لها شيء من المهر، فيقولون: الفرقة جاءت من قبل الزوجة؛ لأنها أسلمت.
وقال بعض العلماء: لا، بل لها نصف المهر؛ لأن الفرقة جاءت من قبل الزوج؛ لأن الزوج يجب عليه أن يسلم، لكن يظهر أن الصواب ما ذكر المؤلف رحمه الله وأنه لا مهر لها.
قال رحمه الله: (إن سبقته فلا مهر، وإن سبقها فلها نصفه).
أي: إذا كان هو الذي أسلم فالفرقة جاءت من قبله، وسيأتينا إن شاء الله في باب الصداق: أن الفرقة إذا جاءت من قبل الزوج وكان ذلك قبل الدخول، فإن المسمى يتنصف، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237] وهنا جاءت الفرقة من قبل الزوج؛ لأنه هو الذي أسلم، وبعض أهل العلم أيضًا يرى أن الفرقة كانت من قبل الزوجة؛ لأنه يجب عليها أن تبادر بالإسلام، فإذا قلنا بأن الفرقة من قبل الزوجة فلا شيء لها كما سلف.
أي: إذا حصلت الردة -نسأل الله السلامة- فالمشهور من المذهب أن هذا لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون ذلك قبل الدخول، بأن عقد عليها ثم بعد ذلك ارتد الزوج أو ارتدت الزوجة حتى ولو تنصرت؛ لأنها لا تقر، فإذا كان ذلك قبل الدخول بطل النكاح.
الأمر الثاني: أن يكون ذلك بعد الدخول، فالحكم كما سلف: يوقف الأمر على انقضاء العدة، فمثلًا: لو أن المرأة تنصرت -نسأل الله السلامة- فيوقف الأمر على انقضاء العدة، فإن رجعت في العدة فهما على نكاحهما، وإن انتهت العدة ولم ترجع تبين فسخه منذ ارتدت، وهذا هو المشهور من المذهب.
الرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا اعتبار للعدة فيما يتعلق بالإسلام، سواء كان ذلك قبل الدخول، أو كان بعد الدخول، فإذا ارتد أحد الزوجين فللآخر أن ينتظره، والمرأة إن أرادت أن تتزوج فلها ذلك بعد نهاية العدة، فمثلًا: لو أن الزوج ارتد فنقول للمرأة: أنت بالخيار، إن شئت أن تنتظري فانتظري؛ لعله أن يرجع سواء كان ذلك في العدة أو بعد العدة، وإن شئت أن تتزوجي فلك أن تتزوجي بعد نهاية العدة.
وهذا القول هو الصواب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما سلف الدليل على ذلك من عدم تجديد النبي صلى الله عليه وسلم العقد لابنته زينب رضي الله تعالى عنها.
أما ابن حزم رحمه الله تعالى فلا يرى أن الإسلام له أثر على عقد النكاح، وأن عقد النكاح لا يزال باقيًا، لكن كما أسلفنا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن العقد لا يزال باقيًا.
الصداق: هو المهر الذي تعطاه المرأة، أو نقول: العوض الذي تعطاه المرأة، وسمي صداقًا لصدق الزوج في النكاح، وأما في الاصطلاح فعرف بتعاريف، فقيل: بأنه المال الذي يجب في عقد النكاح في مقابلة البضع، وقيل في تعريف الحنفية والمالكية بأنه ما يعطى للزوجة في مقابل الاستمتاع بها، فالخلاصة في ذلك: أن الصداق هو العوض الذي يجب للمرأة مقابل العقد عليها.
والأصل فيه: القرآن والسنة والإجماع، أما القرآن فقول الله عز وجل: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4] ، وأيضًا السنة كما سيأتينا إن شاء الله كثير من الأحاديث، والإجماع قائم على ذلك، وحكم الصداق الوجوب؛ لقول الله عز وجل: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ [النساء:24] فالله سبحانه وتعالى اشترط للحل أن يبتغي بماله.
وإذا شرط نفيه كما تقدم لنا، فعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه شرط فاسد مفسد.. إذا شرط نفيه، يعني لو قال: أتزوج دون صداق، وعند أكثر أهل العلم أنه يجب لها مهر المثل.
قد جاء في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في مسند أحمد وسنن النسائي الكبرى وفي البيهقي وصححه الحاكم والسيوطي وغير ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة ).
ويدل لذلك أيضًا حديث سهل في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( التمس ولو خاتمًا من حديد ) وهذا فيه تسهيل، فلما لم يجد قال: ( ما تحفظ من القرآن؟ قال: أحفظ سورة كذا وكذا، قال: زوجتك بما معك من القرآن ) فأصدقها النبي صلى الله عليه وسلم منفعة التعليم، فهذا يدل على أنه يشرع تخفيف الصداق.
قال رحمه الله: (وتسميته في العقد).
هذا هو السنة أن يسمى، فلا يقال: زوجتك على مهر، ولا يسمى، بل يذكر فيقول: زوجتك على ألف ريال، أو على ألفي ريال إلى آخره، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ملكتكها بما معك من القرآن ) النبي صلى الله عليه وسلم سمى، والتسمية أيضًا قطع للنزاع.
لكن لو تركت التسمية فالعقد صحيح، وسيأتينا إن شاء الله في أحكام المفوضة، وأن المفوضة: هي التي لم يسم لها صداق، ويدل لذلك قول الله عز وجل: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236] فدل ذلك على أنه لا بأس أن تترك التسمية، لكن السنة أن تسمى لقطع النزاع.
يقول: من أربعمائة درهم، وهذا صداق بنات النبي صلى الله عليه وسلم إلى خمسمائة، وهذا صداق زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في الحديث: ( أن
وعند تحويل أربعمائة درهم إلى مثاقيل، يقولون: كل عشرة دراهم تساوي سبعة مثاقيل، فأربعمائة درهم تساوي مائتين وثمانين مثقالاً من الفضة، ومثقال الفضة وزنه أربع جرامات وربع، وعليه فأربعمائة درهم تساوي ألفاً ومائة وتسعين جراماً من الفضة، فإذا قلنا بأن قيمة الجرام الفضة اليوم نصف ريال، فيصير صداق بنات النبي صلى الله عليه وسلم مساوياً ستمائة ريال.
وإذا قلنا بأن جرام الفضة يساوي ريالاً، فيكون الصداق مساوياً ألفاً ومائة وتسعين ريالًا، فهذا صداق بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأضف مائة درهم بنفس الطريقة.
هذا ضابط المهر، أي: كل ما صح أن يكون ثمنًا أو أجرةً من المنافع والأعيان صح أن يكون مهرًا؛ وعلى هذا فعشرة ريالات يصح أن تكون ثمنًا فيصح أن تكون مهرًا، وتصح أن تكون أجرةً تستأجر بها، فيصح أن تكون مهرًا.
وهذا الضابط هو ما ذهب إليه الحنابلة والشافعية؛ لأن أقل الصداق لم يتقدر، يعني أن الشارع ما قدر أقل الصداق، ولم يقدر أكثره، وعند الحنفية: أقل الصداق عشرة دراهم، وعند المالكية: ثلاثة دراهم أو ربع دينار، والصواب في ذلك ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة وأنه لا يتقدر، وأن كل ما صح أن يكون ثمنًا أو أجرةً صح أن يكون مهرًا من المنافع والأعيان.
وكذلك أيضًا أكثره لا يتقدر، لقول الله عز وجل: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا [النساء:20] والقنطار قيل: بأنه: ألف مثقال ذهب، وقيل: بأنه: ملء جلد الثور من الذهب.
قال رحمه الله: (وإن أصدقها تعليم قرآنٍ لم يصح، بل فقهٍ وأدبٍ وشعرٍ مباح).
أي: إذا أصدقها تعليم قرآن فلا يصح، وهذا رأي أكثر أهل العلم، ويستدلون على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الواهبة قال: ( لا تكون لأحدٍ بعدك مهرًا ) وقالوا: بأن الفروج تستباح بالأموال؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ [النساء:24] .
والرأي الثاني رأي الشافعية: أنه يصح أن يصدقها تعليم قرآن، وهذا هو الذي دل له حديث الواهبة: ( ملكتكها بما معك من القرآن ) ، وأما القول بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تكون لأحدٍ بعدك مهرًا ) فهذا غير ثابت، ولو ثبت فالخصوصية هنا خصوصية وصف وليست خصوصية عين، وهذا هو الصواب، وأما قولهم: بأن الفروج لا تستباح إلا بالأموال، فنقول: هنا التعليم منفعة يؤخذ عليها المال.
قال رحمه الله: (بل فقهٍ وأدبٍ وشعرٍ مباحٍ معلوم).
يعني: يصح أن يصدقها تعليم كتاب الطهارة من زاد المستقنع مثلاً من الفقه، أو الأدب أو العقيدة أو الحديث أو أصول الفقه إلى آخره، فيصح أن يصدقها مثل هذه الأشياء وهذا جيد، ومثله أيضًا قال المؤلف رحمه الله: (شعر مباح وأدب) كما لو أصدقها تعليم اللغة والبيان ونحو ذلك، والشعر المباح، فهذا جائز، وهذا مما يؤيد ما تقدم: أنه يصح أن تصدق تعليم القرآن من باب أولى.
قال رحمه الله: (وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح).
دليل ذلك ما تقدم من حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها) فإذا أصدقها طلاق ضرتها، فهذه تسمية باطلة، وسيأتينا إن شاء الله: أنه إذا بطل المسمى يجب لها مهر المثل، ولهذا قال: ولها مهر مثلها.
يعني: متى بطل المسمى لكونه سمي أمراً محرماً كخمر أو خنزير، يعني: تسمية فاسدة عند المسلمين، أو كان مجهولًا جهالةً فاحشة، فمتى بطل المسمى وجب مهر المثل، ويدل لذلك ما أسلفنا من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ( أنه سئل عن رجلٍ توفي عن امرأةٍ ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقًا، فقال: عليها العدة، وترث، ولها مهر نسائها، فقام
كذلك أيضًا إذا كان المفروض محرمًا، فالمحرم شرعًا كالمعدوم حسًا، كأنه لم يفرض، فيجب لها مهر المثل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر