وقلنا: بأن هذا هو قول الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة ، وأن الإمام مالك رحمه الله يرى أن عدد ركعاتها ست وثلاثون ركعة من غير الوتر، وأن بعض أهل العلم ذهب إلى أنها إحدى عشرة, وقيل: ثلاث عشرة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كل ذلك حسن فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام والسجود والقراءة وقصر ذلك.
وأيضاً تكلمنا عن صلاة الكسوف، وذكرنا حكمها، وما يتعلق بصفاتها… إلى آخره.
وأيضاً تكلمنا هل يصلى بآية أخرى غير الكسوف؟ وأن العلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: أنه يصلى للزلزلة، إذا حصلت زلزلة في الأرض فإنه يصلى كما يصلى للكسوف، وهذا قال به الإمام أحمد رحمه الله لورود ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
والرأي الثاني: أنه لا يصلى إلا للكسوف، وهذا قال به مالك والشافعي ؛ لأن شيئاً من هذه الآيات وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى إلا للكسوف.
والرأي الثالث: رأي أبي حنيفة رحمه الله واختار شيخ الإسلام : أنه يصلى لكل آية فيها تخويف؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، يخوف الله بهما عباده ) إلى آخره.
وبقي علينا من أحكام صلاة الكسوف: إذا تجلى الكسوف وهو في الصلاة فإنه يتمها خفيفة، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود : ( فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم ) أخرجاه في الصحيحين.
فإذا ذهب الكسوف وهو في الصلاة فإنه يتمها الإمام على صفتها خفيفةً.
كذلك أيضاً إذا انتهت الصلاة ولم يتجل الكسوف فإنه يستحب أن يكثر من الاستغفار والذكر من التهليل والتسبيح إلى آخره، يعني يستحب أن يستغفر الإنسان، يكثر من الاستغفار ومن الذكر والتهليل والتسبيح والتحميد حتى يتجلى الكسوف؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بذلك، فأمر بالفزع إلى ذكر الله واستغفاره.
وهل تكرر الصلاة مرةً أخرى أو لا تكرر؟
الصواب أنها لا تكرر، إذ لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى إلا مرةً واحدة.
ويستحب أيضاً في صلاة الكسوف التوبة، وكذلك أيضاً الصدقة، وكذلك أيضاً العتق لأمر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك.
هذا النوع الثالث مما تسن له الجماعة من صلاة التطوع: صلاة الاستسقاء، والاستسقاء استفعال بمعنى: طلب السقيا.
وأما في الاصطلاح: فهو التعبد لله عز وجل بطلب السقيا بالصلاة على وجه مخصوص، والأصل في الاستسقاء السنة، ففي حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي، فاستقبل القبلة يدعو، وحول رداءه، وصلى ركعتين )، وكذلك أيضاً حديث أبي هريرة وحديث عائشة وغير ذلك من الأحاديث.
الوجه الأول: الاستسقاء بالصلاة المعروفة، فيخرج الإمام إذا حصل سبب الاستسقاء من انقطاع الأمطار، وقحط الديار، وغور العيون والآبار، فإنه يخرج الإمام ويخرج معه الناس فيصلون صلاة الاستسقاء.
وهذا قال به جمهور أهل العلم رحمهم الله خلافاً لـأبي حنيفة ، فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يرى الصلاة، وإنما يرى أن يخرج الناس للدعاء فقط دون الصلاة، وهذا لا شك أنه ضعيف؛ لأن السنة ثابتة في ذلك كما في حديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه في الصحيحين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي، فاستقبل القبلة يدعو، وحول رداءه وصلى )، ولعل عذر أبي حنيفة رحمه الله أن الحديث لم يبلغه.
الوجه الثاني: الاستسقاء في صلاة الجمعة في الخطبة، فإنه يستحب للإمام أن يدعو الله عز وجل بنزول المطر إذا حصل سببه كما تقدم من جدب الديار، وانقطاع الأمطار، وغور مياه العيون والأنهار؛ ويدل لذلك ما ثبت أيضاً في الصحيحين من حديث أنس رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة، فدخل رجل فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، وجاع العيال، فادع الله أن يسقينا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا.. فلم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر إلا والمطر يتحدر من لحيته عليه الصلاة والسلام ).
الوجه الثالث من وجوه الاستسقاء: الدعاء المجرد، دون أن يرتبط بصلاة أو بخطبة، فيستحب للمسلمين عموماً إذا حصل سبب الاستسقاء أن يفزعوا إلى الله عز وجل بالدعاء، أن يدعوا الله عز وجل بنزول المطر في صلواتهم، وفي خلواتهم، وأن يبتهلوا إلى الله عز وجل صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً؛ لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فيستحب إذا انقطعت الأمطار أن يفزع المسلم، وأن يدعو الله عز وجل في صلاته وخارج الصلاة، وفي أوقات إجابة الدعاء: الرجال والنساء، الذكور والإناث الصغار والكبار، فإن هذا سنة.
ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في الاستسقاء متضرعاً متبذلاً متذللاً متخشعاً )، فيستحب للناس إذا خرجوا في الاستسقاء أن يخرجوا وعليهم الخشوع والذل.
وقول المؤلف رحمه الله: (متبذلين) يعني: يخرجون في ثيابهم العادية، فلا يلبسون أحسن ثيابهم وإنما يخرجون في الثياب البذلة، يعني: الثياب التي تبتذل، فيخرجون على هيئتهم وفي ثيابهم العادة، ولا يطلبون ثياباً جميلةً كما يطلب ذلك في صلاة العيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما خرج متبذلاً.
قال المؤلف رحمه الله: [فيصلي بهم ركعتين كصلاة العيد].
ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ( سنة الاستسقاء سنة العيدين )، فيصلي الإمام ركعتين كما يصلي في العيدين، وعلى هذا يكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات مع تكبيرة الإحرام، الزوائد تكون ستة، فيكبر تكبيرة الإحرام ويزيد على ذلك، سبع تكبيرات كما سيأتي بيانه إن شاء الله في صلاة العيدين.
وأما في الركعة الثانية فإنه يكبر خمس تكبيرات سوى تكبيرة الانتقال، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنه يكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، وعلى هذا يكبر في الركعة الأولى مع تكبيرة الإحرام ثمان ركعات، وأما الركعة لثانية فيكبر فيها خمس ركعات سوى تكبيرة الانتقال، وقيل: بأنها تكبيرات ثلاث، يكبر في الأولى ثلاث زوائد، وفي الثانية ثلاث كما ذهب إليه أبو حنيفة ، وقيل: أربع.. إلى آخره، وسيأتي إن شاء الله بيان هذه الأقوال في صلاة العيدين.
المهم أن سنة الاستسقاء كصلاة العيدين، ويقرأ في الركعة الأولى ما يقرأ الإمام في صلاة العيدين، والإمام يقرأ في صلاة العيدين إما بسبح والغاشية، أو يقرأ بسورة (ق) وسورة: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1] .
هنا صلاة الاستسقاء خالفت صلاة العيدين فيما يتعلق بالخطبة، فقال المؤلف رحمه الله: (خطبةً واحدة)، لا يخطب خطبتين في الاستسقاء وإنما يخطب خطبة واحدة؛ لأن هذا هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما بالنسبة لصلاة العيدين فإنه يخطب فيها خطبتين على المشهور من مذهب الحنابلة كما سيأتينا إن شاء الله، فصلاة الاستسقاء خطبة واحدة، وصلاة العيدين خطبتان على المشهور من مذهب الإمام أحمد ، كذلك أيضاً هنا قول المؤلف: (ثم يخطب بهم خطبةً واحدة) كصلاة العيدين، يبدأ أولاً بالصلاة، ثم بعد ذلك يخطب؛ لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( سنة الاستسقاء سنة العيدين ).
وقال بعض العلماء: بل يقدم الخطبة كصلاة الجمعة، قال بعض العلماء: صلاة الاستسقاء كصلاة الجمعة يبدأ الإمام أولاً بالخطبة، ثم بعد ذلك بالصلاة، فهذان رأيان:
الرأي الأول: ما ذهب إليه المؤلف: أنه يبدأ بالصلاة كصلاة العيدين، ثم يصلي، ثم يخطب؛ ودليله حديث ابن عباس : ( سنة الاستسقاء سنة العيدين )، والعيدان يبدأ بالصلاة أولاً ثم بعد ذلك بالخطبة هكذا ورد في السنة.
وقال بعض العلماء: بل الاستسقاء كصلاة الجمعة يبدأ أولاً بالخطبة، ثم بعد ذلك بالصلاة، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه، فإنه قال: ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فاستقبل القبلة يدعو، وحول رداءه، وصلى ركعتين )، فظاهر هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام بدأ بالخطبة قبل الصلاة، وأيضاً أصح من ذلك حديث عائشة في سنن أبي داود : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام لما طلعت الشمس خرج وقد وضع له المنبر فصعد المنبر وخطب ثم بعد ذلك صلى ).
والصحيح في هذه المسألة أن يقال: بأن السنة وردت بهذا وفي هذا، فيستحب للإمام أنه تارة يخطب قبل الصلاة، وتارةً يصلي ثم يخطب لكي يفعل السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها، فتارةً يصلي كهيئة الجمعة، وتارةً يصلي كهيئة العيدين لورود ذلك كله عن النبي عليه الصلاة والسلام.
يكثر في صلاة الاستسقاء من الاستغفار، وأيضاً الدعاء بطلب السقي، وتخويف العباد، وأمرهم بالرجوع، وتذكيرهم أن احتباس القطر إنما هو بسبب الذنوب والمعاصي.. إلى آخره.
وهذا أيضاً ما تفارق به خطبة العيدين خطبة الاستسقاء، فإن خطبة العيدين تخالف خطبة الاستسقاء، وخطبة العيدين يكون الموضوع فيها مناسباً لحال الناس، وأما بالنسبة لخطبة لاستسقاء فإنه يكثر فيها كما ذكر المؤلف رحمه الله من الاستغفار، وتلاوة الآيات التي فيها الأمر به.
تحويل الأردية اختلف أهل العلم رحمهم الله في موضعه، فقال بعض العلماء: يحول الرداء في أثناء الخطبة، في أثناء الخطبة يحول الإمام رداءه، ثم بعد ذلك يحول الناس أرديتهم.
وقال بعض العلماء: يكون تحويل الرداء بعد نهاية الخطبة.
والأمر في هذا واسع كله، المهم أن يحول المصلي رداءه، يسن له أن يحول رداءه، فإذا كان يلبس إزاراً ورداءً فإنه يحول الرداء بحيث يجعل الأيمن موضع الأيسر، والأيسر موضع الأيمن، وإن كان يلبس عباءةً فإنه يحول عباءته، وإن كان يلبس عمامةً أو غترةً يحول، والحكمة من ذلك التفاؤل بتحول الحال من القحط إلى الخصب، ومن انقطاع الأمطار والبركات إلى نزولها.
قال: (ويحول الناس أرديتهم). قلنا: بأن تحويل الرداء إما أن يكون في وسط الخطبة، وإما أن يكون في نهاية الخطبة، وفي نهاية الخطبة يستقبل الإمام القبلة ويدعو الله عز وجل سراً.
يعني: إذا خرج أهل الذمة للصلاة فإنهم لا يمنعون؛ لأن القطر هذا رحمة من الله عز وجل، وكل محتاج إلى رحمة الله عز وجل، والله عز وجل رحم الناس رحمةً عامة، الرحمة العامة هذه شملت كل الناس المؤمن والكافر، فحتى الكفار رحمهم الله عز وجل رحمةً عامة، فهيأ لهم أسباب الرزق والمعاش وما يكون به قوتهم، وحتى الحيوان رحمه الله عز وجل رحمةً عامة.
وأما الرحمة الخاصة فهذه خاصة بالمؤمنين، وهذه الرحمة تختلف، وكلما كان الإنسان أكثر تقىً وورعاً وفقهاً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كانت رحمته وأخذه من هذه الرحمة الخاصة أكثر.
المهم أنه إذا أراد أهل الذمة أن يخرجوا للاستسقاء فإنه لا بأس بذلك ويخرجون، لكن يمنعون من أمرين:
الأمر الأول: أن يكونوا مع المسلمين، يمنعون من الخروج مع المسلمين.
والأمر الثاني: يمنعوا من أن ينفردوا بيوم، فلا ينفردون بيوم مستقل، وإنما يكون خروجهم زمن خروج المسلمين، ويكون لهم مكان يجتمعون فيه يسألون الله عز وجل القطر، وأيضاً لا يكونون مع المسلمين.
قال العلماء رحمهم الله: يتركونه حتى ينزعوه، فنقول: بأن الإنسان إذا غير رداءه وحوله فإنه يتركه على هيئته إلى أن ينزعه، إلى أن يحتاج إلى نزعه، فإذا احتاج إلى نزعه فلا بأس، أو يحتاج إلى تغييره، فنقول: بأنه يبقى الرداء على هيئته إلى أن يحتاج إلى نزعه أو يحتاج إلى تغييره.
نقول: بأن لها وقتين: الوقت الأول: وقت الاستحباب. والوقت الثاني: وقت الجواز.
أما وقت الاستحباب فأن تصلى كصلاة العيد، بحيث تصلى بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، هذا هو وقت الاستحباب؛ لقول ابن عباس : ( سنة الاستسقاء سنة العيدين )، فنقول: بأنه يصلي كهيئة صلاة العيد بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح, هذا هو وقت الاستحباب.
وأما وقت الجواز فإنها تفعل في كل وقت إلا في أوقات النهي، في أوقات النهي لا تفعل فيها، فلو أن الإمام استسقى ضحىً، أو استسقى بعد الظهر، أو استسقى بعد المغرب أو بعد العشاء فإن هذا كله جائز ولا بأس به، فتبين لنا بالنسبة لوقت صلاة الاستسقاء أن لها وقت استحباب، وكذلك أيضاً وقت جواز.
سجود مضاف، والتلاوة مضاف إليه، والإضافة هنا من باب إضافة الشيء إلى سببه، فالسجود هنا أي: السجود الذي سببه التلاوة، أي: تلاوة آية السجدة.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أن سجود التلاوة سنة وليس واجباً؛ لأنه ذكره ضمن صلاة التطوع، وهذا قول جمهور أهل العلم، قول جمهور العلماء رحمهم الله: أن سجود التلاوة سنة وليس واجباً.
والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن سجود التلاوة واجب، ولكل منهما دليل.
أما الذين قالوا: بأنه سنة وليس واجباً؛ فاستدلوا بحديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه في صحيح البخاري ( أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم ولم يسجد فيها )، ولو كان السجود واجباً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً مما يدل لذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه كما في البخاري قرأ على المنبر السجدة في سورة النحل، فنزل وسجد وسجد الناس معه، فلما كانت الجمعة القادمة المقبلة قرأ نفس الآية فتهيأ الناس للسجود، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. وهذا قاله عمر رضي الله تعالى عنه بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأقره الصحابة على ذلك.
وأما الحنفية فقالوا: بوجوب سجود التلاوة، قالوا: بأن سجود التلاوة واجب، واستدلوا بما ورد من الآيات الآمرة بالسجود كما في قول الله عز وجل: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19] ، وأيضاً قول الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ [الانشقاق:21] فتبين أن سجود التلاوة مستحب وليس واجباً، فنقول: يستحب للإنسان ويسن له إذا قرأ آيةً أن يسجد.
وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأنه ليس صلاةً، وهذا قول ابن حزم ، الجمهور يرون أنه صلاة، وعند ابن حزم وشيخ الإسلام : أنه ليس صلاة، وإنما هو سجدة مجردة، ويأتينا إن شاء الله ما يترتب على هذا الكلام.
الذين قالوا: بأنه صلاة استدلوا بقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر. وهذا الأثر أخرجه البيهقي في سننه وهو صحيح، يعني قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر، فاشتراط الطهارة هنا يدل على أنه في حكم الصلاة.
والرأي الثاني: قالوا: بأنه ليس صلاةً وإنما هو سجدة مجردة، واستدلوا بحديث عبادة بن الصامت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وسجود التلاوة ليس فيه فاتحة، فدل على أنه ليس صلاةً، النبي عليه الصلاة والسلام حكم بأنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، انتفت الصلاة لمن لم يقرأ بالفاتحة، وسجود التلاوة ليس فيه فاتحة فانتفى عنه حكم الصلاة.
وكذلك أيضاً حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، وهذا أيضاً يدل على أنه ليس صلاةً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، فحكم النبي عليه الصلاة والسلام على أن صلاة الليل مثنى مثنى، ويستثنى من ذلك الوتر فإنه ركعة ما عدا ذلك ليس بصلاة، فسجود التلاوة ليس داخلاً في صلاة الليل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام حكم على أن صلاة الليل مثنى مثنى إلى آخره.
وأيضاً مما يدل لذلك ما أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه كان يسجد على غير وضوء.
وهذا القول هو الصواب، فنقول: الصواب: أن سجود التلاوة ليس صلاةً وإنما هو سجدة مجردة.
ماذا يترتب على هذا الخلاف؟
هذا الخلاف له ثمرة, فالذين قالوا: بأنه صلاة قالوا: تشترط له شروط الصلاة، لا بد أن تستقبل القبلة، لا بد أن تكون متوضئاً، لا بد أن تستر عورتك، لا بد أن تكون متنزهاً عن الخبث.. إلى آخره، يشترطون شروط الصلاة.
أما إذا قلنا: بأنه ليس صلاة فنقول: لا يشترط، يسجد الإنسان وهو غير متوضئ، وكذلك أيضاً لا يشترط استقبال القبلة، ولا يشترط ستر العورة إلى آخره، فلو أن المرأة قرأت وسجدت وهي لم تستر رأسها فنقول: بأن سجودها صحيح.
الركن الأول: السجود على الأعضاء السبعة.
والركن الثاني: الرفع من السجود.
والركن الثالث: التسليمة الأولى.
وأما واجباته، فهي:
الواجب الأول: تسبيحة السجود أن يقول: سبحان ربي الأعلى في السجود.
والواجب الثاني: تكبيرة السجود.
والواجب الثالث: تكبيرة الرفع.
والصواب في ذلك: أنه سجدة مجردة، ليس فيه تكبير لا في حال النزول ولا في حال الرفع؛ لأن الذي ورد في ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في سنن أبي داود : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا سجد كبر ) هذا الحديث ضعيف لا يثبت.
وعلى هذا نقول: إذا قرأ الإنسان السجدة فإنه يسجد سجدة مجردة، ويسبح الله عز وجل، ويذكر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما التكبير عند السجود والتكبير عند الرفع والتسليم فنقول: هذا كله لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الوارد أن الإنسان يسجد امتثالاً لما ورد.
كذلك أيضاً اشتراط شروط الصلاة، هذه كلها الصواب أنها لا تشترط؛ لأنه ليس صلاة، فلو أن الإنسان قرأ وهو على غير وضوء، أو لم يستتر، أو في ثيابه خبث ونحو ذلك فنقول: بأن هذا كله صحيح.
يقول المؤلف رحمه الله: بأن عدد سجود التلاوة أربع عشرة سجدة، ونص المؤلف رحمه الله على أن في الحج منها سجدتان لرد خلاف الحنفية، فإن الحنفية لا يرون السجدة الثانية في سورة الحج، سورة الحج فيها سجدتان، الحنفية يقولون بالسجدة الأولى ولا يقولون بالسجدة الثانية، خلافاً لجمهور أهل العلم رحمهم الله، فإن جمهور أهل العلم يثبتون في سورة الحج سجدتان: السجدة الأولى عند قول الله عز وجل: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18] ، والسجدة الثانية عند قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77] .
والصواب في هذه المسألة ثبوت السجدة الثانية في سورة الحج كما دل لذلك حديث عمرو بن العاص أنه قال: ( أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة، في الحج منها اثنتان )، وهذا الحديث رواه أبو داود .
وكذلك أيضاً ورود ذلك عن الصحابة أن في الحج سجدتين، وارد عن ابن عمر وابن عباس وعلي بن أبي طالب وأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهم، فوروده عن الصحابة هذا يدل على أن في الحج سجدتين، وهذا القول هو الصواب.
ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن سجدة (ص) ليست من عزائم السجود؛ لأنه قال: (أربع عشرة سجدة)، وفي حديث عمرو بن العاص : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة، ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره.
فيفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن سجدة (ص) ليست من عزائم السجود؛ لأنه اقتصر على أربع عشرة سجدة، ولو كان المؤلف يعتبر سجدة (ص) من عزائم السجود لكانت السجدات خمس عشرة سجدة، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله: هل سجدة (ص) من عزائم السجود أو أنها ليست من عزائم السجود إلى آخره؟
فالمشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب الشافعي : أنها ليست من عزائم السجود؛ لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: سجدة (ص) ليست من عزائم السجود. هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، وكذلك أيضاً مذهب الشافعي .
وكذلك أيضاً استدلوا بحديث أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سجدة (ص) على المنبر، ثم بعد ذلك نزل وسجد، فلما كان في المرة الثانية قرأها فتنتشر الناس للسجود، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما هي توبة نبي )، وهذا أخرجه الحاكم وأبو داود .
وعند الحنفية والمالكية: أن سجدة (ص) من عزائم السجود؛ لحديث أبي هريرة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسجد سجدة (ص) )، وهذا أخرجه الدارقطني ، ورجاله ثقات.
والصواب في هذه المسألة: أن سجدة (ص) من عزائم السجود، وكونها توبة نبي، وكون أيضاً داود عليه السلام سجدها، هذا لا يمنع كونها من عزائم السجود.
السجود يستحب للتالي والمستمع دون السامع، عندنا رجل يقرأ، ورجل يستمع، ورجل مستمع، فالذي يستحب له أن يسجد هو التالي، وكذلك أيضاً المستمع، المستمع هو الذي قصد الاستماع للتلاوة، هذا أيضاً يستحب له أن يسجد دون السامع، السامع هو الذي لم يقصد الاستماع، وإنما استمع للسجدة عرضاً، كأن مر مع شخص يقرأ ثم استمع إلى سجدته عرضاً، فنقول: هذا لا يستحب له أن يسجد، لكن من جلس إلى القارئ يستمع إليه فهذا نقول: بأنه يستحب له أن يسجد؛ لقول عثمان رضي الله تعالى عنه: إنما السجدة على من استمعها، فالتالي يستحب له، وكذلك أيضاً المستمع يستحب له، والسامع لا يستحب له.
وذكرنا الفرق بين المستمع والسامع: أن المستمع قصد الاستماع، وأما السامع فإنه لم يقصد الاستماع.
وهذا كما أسلفنا مبني على أن سجود التلاوة صلاة، وأن له تكبيرة السجود، تكبيرة الرفع، وأنه يسلم إلى آخره، وذكرنا أن هذا كله لا دليل عليه، وأن الذي ورد في حديث ابن عمر في سنن أبي داود في تكبيرة السجود أن هذا الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا نقول: سجود التلاوة سجدة مجردة يسجدها الإنسان، فيسجد ويأتي بالأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له شروط، لا تشترط له الشروط، وكذلك أيضاً ما ذكروه من الواجبات والأركان هذه فيها نظر.
وهي خمس].
شرع المؤلف رحمه الله تعالى في بيان أوقات النهي، والحكمة من أوقات النهي هي تجميم القلوب وتنشيطها وتقويتها على العبادة؛ لأن الإنسان إذا منع من الصلاة في هذه الأوقات يكون عنده من الرغبة والنشاط وإجمام القلب للصلاة عندما يحل وقتها.
فالشارع منع من الصلاة في هذه الأوقات لحكمة، والحكمة هي تنشيط النفوس، وإجمام القلوب، وتقويتها على فعل الصلاة، ولكي يكون لها رغبة على فعل الصلاة؛ لأنها إذا منعت ثم بعد ذلك أبيح لها كان عندها من الرغبة والشوق والقوة وحصل لها شيء من تجميم القلب.
قال المؤلف رحمه الله: (وهي خمس) يعني الساعات التي ينهى عن الصلاة فيها خمس ساعات، وهذه بالبسط، وأما بالاختصار فهي ثلاث ساعات، ففي البسط خمس ساعات، وأما في الاختصار فهي ثلاث ساعات.
الوقت الأول متى يبدأ؟ ومتى ينتهي؟
يقول المؤلف رحمه الله: (بعد الفجر)، وإذا قال العلماء رحمهم الله: الفجر فإنهم يريدون بذلك الفجر الثاني، الفجر الصادق، فإن هذا الفجر هو الذي تعلق عليه الأحكام، أما بالنسبة للفجر الكاذب فهذا لا تعلق عليه الأحكام.
والقول بأن وقت النهي يبدأ من بعد طلوع الفجر الثاني هذا قول جمهور العلم، جمهور أهل العلم يرون أن وقت النهي يبدأ من بعد طلوع الفجر الثاني، واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر )، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ، وحسنه جمع من أهل العلم.
والرأي الثاني رأي الشافعي رحمه الله قال: بأن النهي لا يبدأ بطلوع الفجر، وإنما يبدأ بالصلاة من بعد الفراغ من الصلاة؛ لحديث أبي سعيد في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس )، وهذا في الصحيحين، فعلق النبي عليه الصلاة والسلام النهي بالصلاة.
وعلى كل حال سواء قلنا: بأن النهي يبدأ من بعد طلوع الفجر، أو قلنا: بأن النهي يبدأ من بعد الصلاة فإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين، هذا هدي النبي عليه الصلاة والسلام، لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد طلوع الفجر إلا أنه يصلي ركعتين خفيفتين هما ركعتا الفجر.
فنقول: بأن الإنسان إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتي الفجر, هذا الذي حفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا جاء المسجد فإنه يصلي ركعتين ينوي بهما تحية المسجد، وينوي بهما السنة القبلية ويغنيه ذلك.
نهاية هذا الوقت إلى طلوع الشمس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( حتى تطلع الشمس )، فنقول: بأنه يبدأ سواء قلنا: من الفجر أو من بعد الصلاة ويستمر إلى طلوع الشمس، هذا هو الوقت الأول.
هذا الوقت الثاني، الوقت الثاني من بعد طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، يعني: قدر رمح في الأفق، وهذا في مرأى العين، يعني إذا طلعت الشمس من الأفق انتظر حتى ترتفع قدر رمح، وقدر رمح بما يقرب من مترين، وهذا في مرأى العين، وإلا في الواقع أنها ارتفعت آلاف الأمتار، لكن في مرأى العين إذا رأيتها تجد أنها ارتفعت قدر رمح، وهذا يقدره العلماء رحمهم الله بثنتي عشرة دقيقة، يعني إذا مضى بعد خروج الشمس من الأفق ما يقرب من ثنتي عشرة دقيقة يكون خرج وقت النهي الثاني.
ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز ).
وكذلك أيضاً حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنهما قال: ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع ).
وأيضاً حديث أبي سعيد فيه: ( حتى ترتفع )، وكذلك أيضاً حديث عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم .. إلى آخره.
المهم الوقت الثاني من طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح.
يعني: إذا توسطت الشمس في كبد السماء حتى تزول إلى جهة المغرب، فإن الشمس إذا خرجت من المشرق تسير حتى تتوسط في كبد السماء، ثم بعد ذلك إذا تحركت من جهة المشرق إلى جهة المغرب تكون زالت الشمس وخرج وقت النهي، ويقدر وقت النهي هذا بما يقرب من عشر دقائق.
فإذا توسطت الشمس في كبد السماء وقام قائم الظهيرة بحيث لا يكون هناك ظل إلا فيء الزوال, لا من جهة المشرق ولا من جهة المغرب إلا فيء الزوال, ثم بعد ذلك تحركت الشمس إلى جهة الغروب، نقول: خرج وقت النهي، لكن ما دام أنها في كبد السماء فإن هذا هو وقت النهي، ويقدر هذا قبل الزوال بما يقرب من عشر دقائق.
ودليله حديث عمرو بن عبسة في مسلم ، وكذلك أيضاً حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف للغروب حتى تغرب ).
والقول: بأن توسط الشمس في كبد السماء من أوقات النهي هذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وأبو حنيفة ، وهو الذي دل له حديث عمرو بن عبسة في صحيح مسلم .
وعند الشافعي رحمه الله واختاره شيخ الإسلام أن نصف النهار ليس وقتاً للنهي يوم الجمعة، واستدلوا على ذلك بحديث سلمان رضي الله تعالى عنه في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من اغتسل يوم الجمعة وتطهر ما استطاع من طهره، ومس من دهن بيته أو طيبه ثم راح إلى الجمعة، فصلى ما بدا له، فإذا خرج الإمام أنصت واستمع غفر له ما بينه وبين الجمعة القادمة )، وهذا الحديث في صحيح البخاري .
والشاهد منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فصلى ما بدا له، فإذا خرج الإمام استمع وأنصت غفر له ما بين وبين الجمعة الأخرى ). هنا قال: ( صلى ما بدا له، فإذا خرج الإمام )، وخروج الإمام بعد الزوال، فدل على أن الإنسان يشرع له أن يصلي إلى أن يخرج الإمام، وخروج الإمام بعد الزوال بعد ذهاب وقت النهي، الإمام يدخل الجمعة بعد الزوال، فدل ذلك على أنه ليس وقتاً للنهي، هذا ما ذهب إليه الشافعي وشيخ الإسلام واستدلوا بحديث سلمان رضي الله تعالى عنه.
قلنا: بأن مذهب الشافعي واختاره شيخ الإسلام : أن نصف النهار ليس وقتاً للنهي يوم الجمعة خاصة، واستدلوا على ذلك بحديث سلمان في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة وتطهر ما استطاع من طهره، ومس من دهن بيته أو طيبه، ثم راح إلى الجمعة فصلى ما بدا له، فإذا خرج الإمام استمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)، قلنا: استدلوا بهذا على أن يوم الجمعة ليس فيه وقت نهي؛ لقوله: ( فصلى ما بدا له فإذا خرج الإمام )، وخروج الإمام بعد الزوال، فيفهم منه أنه صلى في وقت الزوال.
ابن قدامة رحمه الله تعالى أجاب عن هذا الحديث في كتابه المغني، أجاب عنه وقال: بأنه يصلي ما بدا له ويتحرى، فإذا كان وقت النهي فإنه يتوقف عن الصلاة، وهذا هو الأحوط، الأحوط للإنسان يوم الجمعة يصلي ما بدا له ويتحرى، فإذا جاء وقت النهي فإنه يترك الصلاة.
وعند الإمام مالك رحمه الله: أن نصف النهار ليس وقتاً للنهي مطلقاً سواء كان في يوم الجمعة أو في غير يوم الجمعة، وقال: بأن عمل أهل المدينة على هذا.
والصواب في ذلك قلنا: الأقرب والأحوط مذهب أبي حنيفة وأحمد ، وأن نصف النهار وقت للنهي سواء كان في يوم الجمعة أو في غيره من الأيام، والإنسان يتحرى، فإذا جاء وقت النهي فإنه يقف عن الصلاة، هذا هو الصواب في هذه المسألة.
هذا هو الوقت الرابع، الوقت الرابع من بعد صلاة العصر، ودليله ما تقدم من حديث أبي سعيد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ).
فنقول الوقت الرابع: من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم، وذهب بعض السلف إلى أن ما بعد صلاة الفجر وما بعد صلاة العصر ليس وقتاً للنهي، ذهب إليه جمع من السلف كـعطاء وطاوس وعمرو بن دينار قالوا: ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، وما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس هذا ليس وقتاً للنهي، فالنهي عندهم في الأوقات المغلظة ما بعد الوقتين الطويلين هذا ليس وقتاً للنهي.
وهذا فيه نظر، فإن الأحاديث ثابتة في ذلك كحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه في الصحيحين، وكذلك أيضاً حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ( شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي
وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها )، هم استدلوا بهذا الحديث قالوا: إنه نهي عن الصلاة بعد صلاة العصر من أجل هذين الوقتين المغلظين، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها )، وهذا في الصحيحين.
نقول: وإن كان هذا الحديث يفهم منه أن ما عدا هذين الوقتين ليس وقتاً للنهي إلا أن هذا المفهوم لا يعارض منطوق حديث أبي سعيد وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
هذا هو الوقت الخامس، وهو: من تضيفها حتى تغرب، ومعنى تضيف الشمس يعني بدؤها في الغروب، من بدء الشمس في الغروب حتى تغرب، يعني إذا غاب حاجب الشمس حتى تغرب، هذا معنى تضيف الشمس للغروب، ودليله حديث عقبة بن عامر السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا.. إلى أن قال: وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب )، ومعنى تضيف الشمس للغروب: هو غياب حاجب الشمس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة )، هذا ما عليه أكثر أهل العلم.
وعند الشافعية تضيف الشمس للغروب هو اصفرارها، فإذا اصفرت دخل الوقت الخامس.
لكن الصواب في هذا ما دل له حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغرب )، ويستمر هذا الوقت إلى غروب الشمس، فإذا غربت الشمس خرج وقت النهي الخامس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد : ( ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس )، فإذا غربت الشمس خرج وقت النهي.
وعند الحنفية والمالكية أن وقت الغروب يمتد إلى إقامة صلاة المغرب، ولذلك تلاحظ بعض الذين يقلدون الحنفية يدخل المسجد بعد غروب الشمس ويجلس ولا يصلي؛ لأنهم يرون أن وقت النهي يمتد إلى إقامة صلاة المغرب، وهذا لا شك أنه ضعيف؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قيد النهي إلى غروب الشمس قال: ( حتى تغرب الشمس ).
وأيضاً حديث عبد الله بن مغفل الثابت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء ) كراهية أن تتخذ سنة.
فالصواب في ذلك أن وقت النهي ينتهي بغروب الشمس، وما بين غروب الشمس إلى إقامة صلاة المغرب هذا ليس وقتاً للنهي، بل النبي عليه الصلاة والسلام أمر بالصلاة فقال: ( صلوا قبل المغرب )، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم إذا غربت الشمس وأذن المغرب يبتدرون للسواري يصلون حتى يظن الرجل الغريب أن الصلاة قد أقيمت من كثرة من يصليها.
المؤلف رحمه الله استثنى بعض الصلوات، قال: بأنها تفعل في أوقات النهي، وذكر منها -أولاً- إعادة الجماعة، فلو أن الإنسان صلى في مسجد من المساجد، ثم أتى إلى مسجد آخر لحضور درس أو لصلاة على جنازة، أو لطلب شخص ونحو ذلك فوجدهم يصلون فإنه يعيد معهم الصلاة.
فلو صلى العصر، ثم جاء إلى مسجد آخر وهم يصلون العصر فإنه يعيد معهم الصلاة، صلى الفجر ثم جاء إلى مسجد آخر ووجدهم يصلون فإنه يعيد معهم الصلاة، مع أن وقت النهي في حقه قد دخل، لكنه يستثنى من ذلك؛ ودليله على استثنائه حديث يزيد بن الأسود رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح، فوجد رجلين لم يصليا، فدعا بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا قد صلينا في رحالنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيما مسجد الجماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ).
وأيضاً حديث أبي ذر رضي الله تعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا أقيمت وأنت في المسجد فصل، ولا تقل: إني صليت فلا أصلي )، هذا رواه مسلم في صحيحه.
فنقول: إعادة الجماعة هذا جائز ولا بأس به، وإعادة الجماعة هذه سنة لأمر النبي عليه الصلاة والسلام بها، بشرط ألا تكون الإعادة مقصودة؛ لأن هذا ليس من هدي السلف، بأن يتتبع الإنسان المساجد التي لم تصل ويذهب ويصلي معهم، لكن إذا كانت الإعادة ليست بمقصودة، ذهب لغرض من الأغراض ووجدهم يصلون فإنه يصلي معهم، أما الإعادة المقصودة يعني يقصد الإنسان إعادة الجماعة فهذا فيه نظر، وهذا ليس مشروعاً وليس من هدي السلف.
قال المؤلف رحمه الله: [وإذا أقيمت وهو في المسجد].
أيضاً استثنى المؤلف قال: إذا أقيمت الصلاة وأنت في المسجد، يعني صلى العصر ثم أتى ثم أقيمت وهو في المسجد، أو صلى الفجر ثم أتى ثم أقيمت وهو في المسجد، فإنه يصلي مع الناس، وتقدم حديث أبي ذر في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقيمت وأنت في المسجد فصل، ولا تقل: إني صليت فلا أصلي ).
قال المؤلف رحمه الله: ( وركعتي الطواف بعده ).
أيضاً ولو كان في أوقات النهي إذا طاف الإنسان فإنه يستحب له أن يصلي ركعتين لحديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى في أية ساعة شاء من ليل أو نهار )، وهذا الحديث صححه الترمذي .
قال المؤلف رحمه الله: [والصلاة على الجنازة].
الصلاة على الجنازة أيضاً، يصلى على الجنازة في الوقتين الطويلين، وقد حكي الإجماع على ذلك، يعني يصلى على الجنازة بعد العصر، ويصلى على الجنازة بعد الفجر، وقد حكي الإجماع على ذلك كما حكى ابن المنذر أنه لا خلاف في هذا.
ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن الصلاة على الجنازة مطلقاً، سواء كان في الوقتين الطويلين، أو في الأوقات الثلاثة المغلظة فإنه يصلى على الجنازة، وذكرت أن ابن المنذر رحمه الله قال: إنه لا خلاف بأنه يصلى على الجنازة في أوقات النهي.
قضاء السنن الرواتب، قضاء سنة الفجر بعد صلاة الفجر هذا دل له حديث قيس بن قهد رضي الله تعالى عنه: ( رآه النبي عليه الصلاة والسلام يصلي بعد صلاة الفجر فقال: آلصبح أربعاً؟ فذكر له أنه لم يركع ركعتي الفجر، فأقره النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك ).
كذلك أيضاً صلاة الظهر البعدية بعد العصر هذا لا بأس، ويدل لذلك حديث عائشة : ( أن وفد عبد القيس شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن سنة الظهر البعدية حتى دخل العصر، فقضاهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر ).
فنقول: السنن الرواتب سنة الفجر القبلية تقضى بعد صلاة الفجر، سنة الظهر البعدية إذا شغل الإنسان عنها فإنه لا بأس أن يصليها بعد العصر.
قال المؤلف رحمه الله: [وقضاء الفرائض].
أيضاً قضاء الفرائض يكون في كل أوقات النهي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها )، وهذا يشمل كل أوقات النهي.
الجواب: هذا الأثر رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم.
الجواب: نقول: لا، المأموم الذي يقوم ويقضي لا تكون سترته سترة الإمام؛ لأن الإمام انتهت الآن صلاته، وليس له سترة الآن.
الجواب: هذا السؤال جيد وأيضاً ما نبهنا على ذلك، نحن ذكرنا أن الإنسان لا يكبر لا في حال الرفع، ولا في حال الخفض، إلا في الصلاة، الصلاة يكبر في حال الرفع وفي حال الخفض؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه يكبر في كل خفض ورفع في الصلاة، وعلى هذا إذا سجد الإنسان سجدة التلاوة في الصلاة فإنه يكبر في الخفض وفي الرفع.
الجواب: المواضع الصحيحة للتورك: الصواب ما دلل له حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يتورك في كل صلاة فيها تشهدان في التشهد الأخير، ما عدا ذلك فإنه يفترش، مثل صلاة الفجر يفترش، صلاة السنة الراتبة يفترش.. إلى آخره، المغرب يتورك التشهد الأخير، الظهر إلى آخره؛ لأن هذه فيها تشهدان، هاتان الصلاتان فيهما تشهدان، هذا دل لهما حديث أبي حميد رضي الله تعالى عنه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر