إخوتي الكرام! لقد استعرضنا فيما سبق أقسام الأصدقاء والأعداء، وقد تكلمنا عن الأصدقاء، وقلنا بأنهم قسمان: ظاهري وباطني، وقد فصلنا القول في كل قسم، وذكرنا أيضاً أن الأعداء على قسمين ظاهري وباطني، وشرحنا العدو الظاهري، وماذا يجب علينا نحوه، وبقي الكلام على العدو الباطني، وهو الذي قلت سأخص الحديث حوله، وأرى أن الكلام قد طال، فسأحاول أن أتكلم على معاقده الأساسية وهو محور موضوعنا؛ لأنه أخبث الأعداء، ومن انهزم أمامه فسينهزم أمام الأعداء الظاهرين، فالعدو الباطني هو الذي يقابل الملك، فإن الملك يأمر بالخير وهذا يأمر بالشر وهو الشيطان الرجيم، وهذا العدو الباطني لا أريد أن أتكلم عليه من ناحية أصله وفصله ومعدنه وما شاكل هذا، لا ثم لا، فلا أريد أن أتكلم أنه مخلوق من نار وأنه يفعل كذا، وأنهم يتناكحون، ويمكن أن يتناكح الإنسي مع الجني أو لا يمكن، والبحث في هذا، لا أريد أن أدخل في هذا، فمثالنا الآن مثال رجل دخلت تحت ثيابه حية، فإن كان عاقلاً فينبغي أن يقتلها قبل كل شيء، وإن كان مهوساً -كما هو حالنا الآن- فإنه يبحث في شكلها وفي طولها ومن أين جاءت، وما ثخنها، وما الأضرار المترتبة عليها؟
هل اطلعت عليهم يا عبد الله؟ أنت الآن تقول: لا ينبغي أن نبحث فيهم لأنهم غير معلومين لنا، فكيف إذاً أنت علمت أنهم ليسوا بذكور ولا إناث؟ من أين علمت؟ والله جل وعلا يقول في محكم كتابه: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:74]، ويقول: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50]، أي: كما أن لآدم ذرية فللشيطان ذرية عن طريق التناسل، ولذلك أدلة كثيرة لا أريد أن أخوض فيها، إنما أريد أن أقول: هذه الأيدي المنكرة -ليست الأقلام- ينبغي أن تقطع، والإسلام ليس بكلأ مباح لكل سائمة يأتي يتكلم فيه كما يريد، فإذا أردت أن تبحث الأمر فقرر ما تقول بكلام سلفنا إن كنت رشيداً، وأما أن تأتينا بهوسك، وتكتب أمام اسمك دالاً لتدجل على العباد فاتق الله في نفسك يا عبد الله!
الإسلام -إخوتي الكرام- لا يوجد من يغار عليه في هذا الزمان، ولذلك صار كلأً مباحاً لكل سائمة، يفتي باسم الإسلام بما يريد، سبحان الله العظيم! أي كتاب من كتب الفقه قرأت حتى أفتيت بما أفتيت، وكنت قد قررت على إخواني الطلاب في محاضرتين مسألة التزاوج بين الإنس والجن والأدلة التي تمنع أو تبيح، وما هو دليل كل، وكما قلت لا أريد أن أبحث في هذا، وإنما أريد أن أنبه على بلاء تتطاير به الصحف في هذه الأحيان من قبل مهوسين متفرنجين يريدون أن يضعوا أنفسهم حكماً في شريعة رب العالمين.
أولاً: كما أن الملك ولي لك وصديق فهذا عدو لك، يقول الله جل وعلا: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، وهذا العدو هو أخبث الأعداء على الإطلاق، كيف لا وقد اتصف بأربعة أمور لا توجد في عدو من الأعداء:
وفي سورة الأعراف يقول الله جل وعلا: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف:27]، كاد لأصلكم فسيكيد للفرع أيضاً.
وفي سورة الكهف: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]، ولذلك كان رسل الله الأطهار عليهم صلوات الله وسلامه يحذرون من هذا العدو الغدار، والأخبار عنهم في ذلك كثيرة، ففي كتاب ربنا العزيز الغفار عندما قص نبي الله يوسف على والده يعقوب -على نبينا وعليهما الصلاة والسلام- رؤياه، وأنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون له، قال الله: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:5].
إذاً: هو عدو للأصل، وإذا عادى الأصل فسيعادي الفرع قطعاً.
فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يبعث إبليس سراياه ) أي: يرسل جنوده كل يوم، ليطغوا الناس ( فأعظمهم فتنة أعظمهم عنده منزلة )، قوله: (أعظمهم فتنة) أي: فالذي يغوي البشر ويطغيهم أكثر من غيره هذا هو المقرب عند هذا اللعين الماكر.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا خلق عباده حنفاء والشياطين اجتالتهم عن دينهم وغيرت لهم شرع ربهم، ففي صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حمار المجاشعي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم في يومي هذا، قال الله تعالى: كل مال نحلته عبداً فهو له حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ).
إذاً: العداوة بيننا وبين هذا العدو بسبب الدين، فهو يريد أن يغيرنا عن الفطرة التي فطرنا ربنا جل وعلا عليها، ويريد أن يحولنا عنها.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يقعد لابن آدم بكل طريق من طرق الخير بلا استثناء، ففي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي بسند صحيح عن سبرة بن أبي فاكه ، ويقال: ابن الفاكه رضي الله عنه وهو من الصحابة الأطهار رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها ) أي: بجميع الطرق، قال: ( فقعد له في طريق الإسلام فقال له: أتسلم وتترك دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فخالفه -أي: ابن آدم- وأسلم، ثم قعد له في طريق الهجرة فقال: أتهاجر وتترك أرضك وسماءك؟ ) أي: ما يطنطن به في هذا الوقت العملاء من أننا سنحافظ على أرض الوطن وسمائها، دعوة إبليسية شيطانية، تشابهت القلوب فتشابه الكلام والألسن.
قال عنه صلى الله عليه وسلم: ( ثم جاءه بطريق الجهاد فقال: أتريد أن تجاهد؟ فإذا جاهدت قتلت فتنكح المرأة ويقسم المال، فخالفه وجاهد )، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن فعل ذلك منهم -أي: من بني آدم- أسلم وهاجر وجاهد ولم يصغ للشيطان فمات دخل الجنة، وإن قتل دخل الجنة، وإن غرق دخل الجنة، وإن وقصته دابته -أي: رمته وألقته- فأماتته دخل الجنة )، والشاهد: ( قعد له بأطرق الخير كلها ).
وقد كان الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه يحذرون من عداوة هذا اللعين بسبب الدين، ويخبرون أنه عدو لله رب العالمين، ولن يهدأ إلا بإغوائهم وإطغائهم، ففي سورة مريم يقول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:41-45].
فالعداوة بيننا وبينه بسبب الدين، ولذلك أخبرنا رب العالمين أن الشيطان يحرص على إيقاعنا في كل فعل أثيم: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91].
فإذاً: العداوة بيننا وبينه بسبب الدين، فلا يمكن أن تنقضي إلا إذا كفرنا فصرنا موالين له، وما دمنا مؤمنين والروح فينا فالحرب بيننا وبينه قائمة.
اللهم يا رب العالمين نسألك بلطفك ورحمتك يا أرحم الراحمين، كما سلطت هذا العدو علينا فهو يرانا ولا نراه، فإنا نسلطك عليه فأنت تراه وهو لا يراك، اللهم إنا نسألك برحمتك كما قنطته من رحمتك أن تقنطه منا إنك على كل شيء قدير.
أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد جاء في الحديث عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (أوقد جاءك شيطانك؟ قالت: يا رسول الله! أو معي شيطان؟ قال: نعم. قلت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم. قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: نعم. لكن الله أعانني عليه فأسلم). (فأسلم) ضبطت من حيث الحركة الظاهرية بوجهين: بالرفع، فأسلمُ، أي: فأسلم من شره، وهذا الذي اختاره ابن عيينة من أئمة الحديث الكبار ووافقه عليه الخطابي ، وقال: إن الشيطان لا يسلِم، وقد ادعى شارح الطحاوية عليه رحمة الله: أن هذا تحريف لفظي للحديث.
والكلام فيه خشونة؛ لأن الإمام سفيان بن عيينة من أئمة الحديث وقد ضبط هذا، فلعله صدر من النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، فنقول: ضبط بالرفع، وهذا ثابت عند رواة الحديث ولا داعي للقول بأن هذا تحريف لفظي.
واختلف العلماء في تأويل معنى النصب على قولين:
الأول: فأسلم، أي: فاستسلم الشيطان وانقاد لي، ولم يدخل في الإيمان حقيقة، وهذا الذي اختاره شارح الطحاوية.
والأمر الثاني: فأسلم، أي: دخل في الإسلام وصار مؤمناً.
قال شارح الطحاوية: وهذا تحريف معنوي كما أن ذاك تحريف لفظي.
وأنا أخالفه في الأمرين، فالضبط الأول بالرفع منقول عن أئمة الحديث، والتأويل الثاني وهو أن شيطان النبي صلى الله عليه وسلم أسلم حقيقة منقول عن جمهور أهل الحديث، قرره الإمام عياض عليه رحمة الله، وقرره ابن حبان في صحيحه، وانتصر له الإمام ابن الجوزي ونصره أتم نصر، ومال إليه الطحاوي صاحب المتن وقرره وقواه وارتضاه.
وقال الإمام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشبلي المتوفى سنة تسع وستين وسبعمائة، وهو صاحب كتاب آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان، وكان من تلاميذ الشيخ ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، قال في هذا الكتاب: وقد ثبت صراحة إسلام قرين النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب دلائل النبوة لـأبي نعيم .
وإذا كان هذا المعنى هو المعتمد فأجمع بين الأمرين فأقول: فأسلمُ بالرفع أي: فأسلم من شره؛ لأن الشيطان أسلمَ أي: صار مؤمناً، وعلى هذا فالضبط بالرفع صحيح والنصب صحيح، والمعنى بينهما متآخٍ وليس بمفترق، أسلمُ من شره؛ لأنه صار مؤمناً مسلماً، وهذه خصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم، وكم حباه الله من خصائص وفضائل، فشيطانه صار مسلماً فلا يأمره إلا بخير، فإذا كان مستسلماً فقط ولم يؤمن إذاً لا يأمره بخير، وقد جاء في نص الحديث: ( فأسلم فلا يأمرني إلا بخير )، فأسلمُ أي: فأسلم منه لأنه صار مؤمناً فلا يأمرني إلا بخير.
الشاهد من هذا: أن الشيطان قد وكل بكل واحد من بني الإنسان: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم).
إذاً: هذه الأمور الأربعة مجتمعة في هذا العدو اللعين، عادى أصلنا وسيعادي الفرع، عداوته لنا بسبب الدين، يرانا ولا نراه، يجري فينا مجرى الدم في ذرات جسمنا، فلا حيلة لنا من التخلص منه إلا بالالتجاء إلى ربنا جل وعلا، قال الله: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200] كما سيأتينا هذا في الطرق التي نحارب بها الشيطان ونحترس بها منه.
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا [الأعراف:21-22] أي: عن منزلتهما، بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:22-23]، أي: اعترفا بخطيئتهما فتاب عليهما ربنا جل وعلا وهداهما الصراط المستقيم.
وهكذا يقرر ربنا جل وعلا هذا المعنى في سورة طه فينقل عن إبليس قوله: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120]، فإذاً يسلك هذا المسلك وهو المخادعة والتلبيس، وكما سلك هذا المسلك مع أصلنا يسلكه مع الفرع، ففي سورة الإسراء: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:61-62]، أحتنكن أي: أستولين عليهم كما يستولي الجراد على الزرع، يقال: احتنك الجراد الزرع إذا استولى عليه وقضمه فلم يترك منه شيئاً، ولأقودنهم حيث شئت، ومنه: حنك الإنسان الفرس إذا بدأ يقوده ذات اليمين وذات الشمال، يستولي عليهم ثم يقودهم كما يريد، يلعب الشيطان بنا كما يلعب الصبيان بالكرة.
قال تعالى: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ [الإسراء:62-64] وهذا هو التلبيس والمخادعة، وقوله: وَاسْتَفْزِزْ [الإسراء:64] أي: استنهض، مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ [الإسراء:64] أي: ينادي على من استطاع منهم بِصَوْتِكَ [الإسراء:64] أي: بما تزينه لهم من المعاصي، قال المفسرون: صوته كل داع إلى معصية الله، ورأس ذلك الغناء الذي عم في بيوتنا، ومن استمع الغناء فليعلم أنه ممن احتنكه الشيطان.
قال: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء:64] أي: كل راكب وماش في معصية الله.
وقوله: وَرَجِلِكَ [الإسراء:64]، وقرأ التسعة ومعهم شعبة: (وَرَجْلِكَ) بسكون الجيم، وهو جمع راجل كتجر جمع تاجر، وصحب جمع صاحب، (وَرَجْلِكَ) هو لغة في رَجْلِكَ، وَرَجِلِكَ [الإسراء:64] بكسر الجيم قراءة حفص، وهي لغة في رَجِلِك التي هي جمع راجل، أي: ورَجْلك ورجِلك.
ثم قال تعالى: وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [الإسراء:64]، ولذلك من أسمائه أنه غرور، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5] وهو الشيطان الرجيم، يلبس مكره بالمخادعة ويزين للناس الباطل على أنه ناصح.
قال: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [الحشر:16-17].
وهذا الأثر روي أيضاً عن عدة من الصحابة، روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما، وروي عن طاوس من أئمة التابعين في كتب كثيرة، تراجع في الدر المنثور لمن أراد أن يقف على هذه الروايات.
وحاصل ما روي في هذه الآية وفي معناها كما قال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير وغيره: اتفقت الروايات على أنه حصل من هذا الرجل الذي تحدثت عنه هذه الآية ثلاثة أمور: الزنا والقتل والكفر.
وحاصلها: أن رجلاً كان يقال له: برصيصا من الأمم السابقة -والأثر كما قلت إذا نقل عن النبي عليه الصلاة والسلام وهو منقول فليس من أخبار أهل الكتاب المروية عنهم، إنما هو من أحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم الذي يخبرنا بها عما مضى- كان عابداً راهباً يتعبد في صومعة فأراد الشيطان أن يغويه فأيس منه، وما أيس إبليس من أحد إلا أتاه من قبل النساء، وأول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، وفتنة هذه الأمة ستكون في النساء. وكان سعيد بن المسيب عليه رحمة الله في آخر حياته لا يبصر بإحدى عينيه وبالأخرى يعشو، يقول: والله لا يوجد شيء أخافه في المدينة إلا النساء، فماذا يقول سعيد بن المسيب لو أدرك أسواقنا في هذه الأيام ماذا يقول؟ إنه من الدياثة في الرجل أن يترك زوجته تنزل تتجول في الأسواق كأنها شرطي، هذا من الدياثة، فاتقوا الله في نسائكم، فأنت المسئول عنها، فما يلزمها أحضره إلى بيتها.
إن النساء في الأسواق أكثر من الرجال ويعلم الله أنني أقف في بعض الأحيان على بعض الدكاكين التي تبيع الملابس فأحصي النساء أنهن أكثر من الرجال، فأنا أستحي وأنصرف، وكل واحدة واقفة كأنها.. ماذا يقول الإنسان.. لا أريد أن أعبر عنها بوصفها، فالرجل يستحي وهي واقفة متبذلة متهتكة، هل هؤلاء زوجات نصارى أم يهود؟ لا والله، بل زوجات مسلمين ولعلهن من زوجات طلبة العلم، فاتقوا الله في أنفسكم يا عباد الله! ألا تستحيون؟! ألا تغارون؟! تتركون نساءكم تختلط بالرجال! هل هذا هو هدي الإسلام في النساء؟
ما أيس إبليس من أحد إلا أتاه من قبل النساء، فكانت هناك امرأة تصرع، ولعل الذي كان يتولى صرعها هذا الجني، ودخول الجني في بدن المصروع متواتر بالأحاديث والأخبار، وأما هوس الفلاسفة فهذا له مجال آخر.
فجاء هذا الجني وصرع هذه المرأة ثم وسوس إلى إخوتها الثلاثة بأن شفاءها يحصل عند هذا العابد، فجاءوا إليه وقالوا: إن أختنا تصرع فنريد منك أن تقرأ عليها، ولا مانع أن يقرأ الإنسان على المصروع ذكراً أو أنثى بآيات القرآن، فإن كانت أنثى لا يرى جسمها فليلها ظهره وليقرأ عليها مع وجود محارمها، ولعل الله جل وعلا يبارك في هذه القراءة ويصرف عنها ما بها، أما أنه يخلو بها في حجرة مظلمة فلا يجوز هذا ولو صدر من صحابي أو من راهب عابد، وكما قال ابن الجوزي عليه رحمة الله: والله عندنا شريعة لو رام أبو بكر أن يخرج عنها لما أقررناه. وحاشاه أن يخرج، عندنا شريعة عندما قال عمر بن الخطاب : ما تقولون لو قلت هكذا، فقام أعرابي وسل سيفه قال: نقول به هكذا، فقال: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من إذا رأى اعوجاجاً في عمر قومه بسيفه. ما عندنا أحد يسلم له حاله ويقتدى بفعاله إلا النبي عليه الصلاة والسلام، ومرد أفعال الكبير والصغير إلى هدي البشير النذير صلى الله عليه وسلم، فعفة مصطنعة لا يجوز أن ندجل بها، وأن هذا صالح يجوز أن يخلو بالمرأة وهو كوالدها، اتقوا الله في هذه الخرافات والضلالات التي تنتشر هنا وهناك.
فجاءوا إليه وطلبوا منه أن يقرأ عليها، فامتنع وقال: أنا مشغول بوردي مع ربي، ثم ألحوا عليه فقال: لا بأس بشرط أن تطرحوها عند باب الحجرة، فإذا شرح الله صدري بعد ذلك خرجت وقرأت عليها، فإذا شفيت تأتيكم وإلا فلتأخذوها، فلما صارت على باب حجرته وذهب إخوتها عنها، ( ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما )، وإذا خلا الإنسان بامرأة فالرسول بينهما هو الشيطان، فهو رسوله إليها وهو رسولها إليه، يأتي يوسوس لهذا ولهذا.
فقال له: اقرأ على هذه المسكينة ولعلها تشفى، ثم بعد ذلك عندما جاء ليقرأ عليها ذهب الصرع الذي فيها بواسطة الجني الذي تلبسها، فلما قامت انكشف شيء من ثيابها عنها، فأطغى الشيطان هذا الراهب فيها فأدخلها الصومعة وزنى بها، ثم بعد أن وقع في الجريمة قال له: أيها الراهب! إنك قد زنيت بهذه المرأة، والناس قد أحسنوا الظن بك لتقرأ عليها، ولن ينجيك الآن من هذه الورطة إلا أن تقتلها، فإذا جاءوا قل: قرأت عليها وذهبت إليكم، أو جاء شيطانها وأخذها وليس عندي علم بحالها، وكان كذلك، فقتلها ثم دفنها بجوار الصومعة، فجاء أهلها بعد فترة يسألون عنها فقال: إنها شفيت وذهبت إليكم، أو لعل شيطانها جاء وأخذها، وهو عندهم رجل صالح ثقة فانصرفوا.
ثم جاءهم الشيطان بعد ذلك في الرؤيا، جاء إلى الولد الأكبر فقال: أتدري أين مصير أختك؟ ماذا فعل بها؟ إن الراهب زنى بها وقتلها وقبرها بجوار صومعته، فاستيقظ الرجل وقال: سبحان الله! رجل صالح لا يشك فيه، وما أخبر أحداً من إخوته، فجاء في الليلة الثانية للأوسط وأخبره بمثل الخبر، فما أخبر أحداً، فجاء للأصغر وهو الولد الثالث فأخبره، ففي اليوم الثالث قال الولد الصغير: رأيت كذا، وقال الأوسط: وأنا رأيت مثله، وقال الكبير: وأنا رأيت مثله، فبعد ذلك قالوا: لنبحث عن الأمر، فذهبوا إلى هناك وقالوا: أين أختنا؟ فقال: أما تصدقوني؟ إنها إما شفيت وجاءت إليكم أو أخذها شيطانها، فنظروا بجوار الصومعة فرأوا طرف ثيابها بادية من القبر، ولما دفنها ما أعمق في القبر، فظهر شيء من طرف الثياب، فحفروا فوجدوا أختهم ونظروا لحالتها فعلموا ما بها، فجاءه الشيطان بعد ذلك وقال: ويحك يا برصيصا ، زنيت وقتلت نفساً، لا ينجيك مما أنت فيه إلا أن تسجد لي؟ وهذه الطامة الكبرى، فسجد له فقتله الإخوة، فقال: أين أنت؟ تعهدت لي بالنجاة، فقال: إني بريء منك، قال سبحانه: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16]، سبحان الله العظيم! يوقعنا في الورطات ثم يتخلى عنا.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره والإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان: لا تختص هذه القصة بالذي ذكرت عنه، أي: بـبرصيصا ، إنما هذا هو حال الشيطان مع كل فرد منا، فمن أراد أن يوالي الشيطان فليعلم أن الشيطان سيتبرأ منه في كل زمان عندما يقع في ورطة، بخلاف الملائكة فذاك صديق يحفظ الود، وهذا عدو ماكر يتنكر لك بعد أن يطغيك ويوقعك، ولذلك قال الله جل وعلا في حق الشيطان وكيف يزين ضلاله فقال: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:48]، والآية إخوتي الكرام! نزلت في موقعة بدر كما روى هذا ابن إسحاق في السيرة، عندما أجمعت قريش أن تذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتذكرت ما بينها وبين بني بكر من خصومة، ولعل هذه القبيلة بعد ذلك ستغتنم هذه الفرصة لتقاتل مع النبي عليه الصلاة والسلام ضد قريش، فجاء الشيطان في صورة سراقة بن مالك ، فجاءهم بهذه الصورة وقال: أنا أجيركم من هذه القبيلة، وكان سيداً في قبيلته وقومه، فذهبت قريش لقتال النبي صلى الله عليه وسلم ويرون سراقة معهم في كل مرحلة، والآية بنص القرآن: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ [الأنفال:48].
فلما التقى الصفان: جيش التوحيد وعدده بحدود ثلاثمائة، وجيش الشرك وعدده بحدود ألف في موقعة بدر، قال الله: فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ [الأنفال:48] أي: رجع القهقرى، قال: وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ [الأنفال:48] أي: نزلت الملائكة، والشيطان لا يمكن أن يثبت أمام جند الرحمن، قال: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12].
وقوله: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ [الأنفال:48] ليس فيه دليل على خوفه من الله وخشيته؛ لأن هذا من باب الخوف الدنيوي، أي: خشية أن يحل العذاب العاجل عليّ، فلما نزل هذا العذاب خاف من نزوله ومن حلوله به فلذلك هرب، قال: إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:48]، أي: زين لهم الشيطان أعمالهم وقادهم مرحلة مرحلة، فلما حقت الحقيقة نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم، يتبرأ منهم.
روى الإمام البخاري في كتاب الأدب من صحيحه وبوب عليه: باب إذا تثاءب فليضع يده على فيه، ثم روى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، فإنه إذا تثاءب يضحك الشيطان منه )، سبحان الله العظيم! والتثاؤب منه، ( إن الله يكره التثاؤب ويحب العطاس ) والتثاؤب من الشيطان، يزين لك هذه البطالة، فإذا تثاءبت يضحك.
وورد في سنن ابن ماجه : ( فليضع يده على فيه ولا يعو ) أي: كما يعوي الكلب: ها، كما يجري هذا، ويعوي الآن أكثر المصلين في الصلاة كالكلاب، سبحان الله العظيم! هم يصلون والشيطان يضحك منهم، والله لو كشف لنا عن بصيرتنا لرأينا الشيطان يقهقه منا عندما يرجمه الناس عند جمرة العقبة؛ لأن هذا يريد أن يضربه بسطل، وهذا يريد أن يضربه بحذاء، وهذا يريد أن يضربه بشبشب، وهذا بعصا، إنه يضحك من هذه الأفعال، ثم ما بالك يا عبد الله! كنت في حال الإحرام تاركاً لحيتك، ثم بعد ذلك جئت لتتحلل فمسخت خلقتك؟ أتظن أن الشيطان في ذاك الوقت حزين أم فرح؟ إنه يطير فرحاً من حالك وأنت لا زلت في مشاعر الله، لا زلت في الطاعة وهو يقهقه منك، وهكذا نحن بين يدي الرحمن، ( فليضع يده على فيه ولا يعو ) أي: كما يعوي الكلب، فيضحك الشيطان منه بعد ذلك.
ولذلك إذا كان الإنسان يقظاً لا يمكن أن يتثاءب، وهذا حال نبينا صلى الله عليه وسلم، فما تثاءب في حياته قط، فليس للشيطان عليه سبيل.
روى ابن أبي شيبة في المصنف والبخاري في كتاب التاريخ بسند مرسل عن يزيد بن الأصم قال: ( ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط )، هذا لا يمكن أن يصدر من يقظ، وإنما يصدر من مغفل استولى عليه الشيطان، وهذا الأمر -أعني عدم التثاؤب- ليس خاصاً بنبينا عليه صلوات الله وسلامه، فما تثاءب نبي قط كما روى هذا الإمام الخطابي بسند مرسل عن مسلمة بن عبد الملك : ما تثاءب نبي قط.
فهذا حاله يزين لنا الباطل ثم يتبرأ منا ويضحك.
والجواب عن هذا: أن السلطان هو التسلط ويكون بأمرين:
الأول: بالحجة العلمية وإقناع من يوسوس لهم أن طريقه على حق، وأن طريق الإيمان على باطل، وهذا منفي عن الشيطان في حق كل أحد، فليس له سلطان على المؤمنين، أي: حجة، ولا على الكافرين.
إنما السلطان الثاني ثابت لفريق ومنفي عن فريق، وهو التسلط بالإغواء والوسوسة، فهذا منفي عن المؤمنين، فالشيطان ليس له حجة عليهم وليس له قدرة على الوسوسة إليهم، قال الله: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [النحل:99] لا عن طريق الحجة ولا عن طريق الوسوسة والإغواء، لا يقدر على هذا ولا هذا، أما في حق الكفار، فقال: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [النحل:100] أي: سلطان الإغواء، وهذا السلطان هم الذين مكنوا الشيطان منه، فهم الذين أعطوه قيادهم وزمامهم فقادهم، فهم لما أعطوه هذا الزمام أزهم أزاً، أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83] أي تزعجهم وتحركهم إلى المعاصي إزعاجاً، لم؟ لأنهم كافرون، استسلموا للشيطان في البداية فقادهم بعد ذلك كما يريد.
هذه الآية كقول الله تماماً: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، وأما إذا أعطى المؤمنون السبيل للكافرين عليهم هذه مسألة ثانية كما هو حالنا الآن، وأما إذا حققنا الإيمان وخشينا الرحمن، فلو اجتمعت قوى الطغيان بأجمعها لن يجعل الله لها علينا سبيلاً، إلا إذا أعطيناهم السبيل من أنفسنا، وهنا كذلك: الشيطان ليس له حجة وليس له قدرة على الإغواء إلا إذا كان الناس يعطون هذا القياد للشيطان ليقودهم كما يريد، ولذلك قوله: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إبراهيم:22] أي: من حجة ظاهرة، وأما هنا فسلطان الإغواء والتصرف فهذا هم الذين تسببوا به، قال: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].
فهذه الطرق مرتبة على النحو التالي:
أولاً الكفر، فإن عجز أوقعهم في البدعة، فإن عجز أوقعهم في الكبيرة، فإن عجز أوقعهم في الصغيرة، فإن عجز شغلهم بالمباح، فإن عجز شغلهم بالمفضول عن الفاضل.
هذه السبل الستة يسلكها الشيطان في إضلال الناس، ولا يسلم منها إلا الأنبياء والصديقون، والأمر السابع لا يسلم منه حتى الأنبياء، فإن عجز عن إيقاعهم في هذه الستة سلط جنده على من عجز عن إغوائه ليكيدوا له بأنواع الكيد، وهنا ستتحقق ولاية الله التامة للمؤمن عندما يراغم أولياء الشيطان، قال الله: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76] وهنا يتحقق الإيمان الكامل، فالإيمان هو الحب والبغض، حب لأولياء الله، ومعاداة لأعداء الله.
وفي أخبار نبي الله داود -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- قال: يا رب! كف ألسنة الناس عني؟ قال: هذا شيء ما ارتضيته لنفسي، إذاً: لا بد من معاداة الناس لك لتتحقق ولايتك وتغيظ أعداء الله جل وعلا، وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ [التوبة:120]، هذه الأمور الستة التي يسلكها الشيطان في إضلال الناس لا يسلم منها إلا الأنبياء والصديقون، والأمر السابع لا يسلم منه أحد، وبه تتحقق ولاية الله جل وعلا.
أولها: الاستعاذة بالله العزيز الغفور من الشيطان الغرور.
والأمر الثاني إلى السابع: المحافظة على قراءة سورة الإخلاص، والمعوذتين، وقراءة آية الكرسي، وسورة البقرة، وكل هذا له أدلة شرعية، والبيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ينفر منه الشيطان، والآيتان من آخر سورة البقرة، وأول سورة حم غافر إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:3]، ومائة مرة في اليوم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فمن جملة أجرها: تكون حرزاً له من الشيطان في ذلك اليوم.
والأمر الثامن الذي ينبغي: كثرة الدعاء والالتجاء إلى الله وخاصة بـ(سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، مع الدعاء الثاني: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، فأصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، من واظب على هذا أحيا الله قلبه، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء لبضعته فاطمة رضي الله عنها، وصلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها، وهذا سيأتينا مقرراً بأدلته ومخرجاً إن شاء الله إلى الكتب التي ذكرته.
والأمر التاسع: الوضوء.
والأمر العاشر: كثرة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أكثر من ذلك كفاه الله همه وغمه كما هو ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
هذا الأمر الأول يتعلق بأذكار وأدعية يفعلها العبد للتحصن من الشيطان.
فأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعل قلوبنا طاهرة، وأن يحفظنا من وساوس الشيطان، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر