الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنةً وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
إخوتي الكرام! أما الآداب التي ينبغي أن يتأدب بها المسلمون في زيارتهم لإخوانهم في الله جل وعلا، فسأجملها في أدبين: الأدب الأول: يدخل تحته سبعة أمور، والأدب الثاني: ثلاثة أمور نفصل الكلام على ذلك إن شاء الله.
الأدب الأول: يتعلق بالاستئذان، يقول الله جل وعلا في سورة النور: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النور:27]، خاطبهم وناداهم بوصف الإيمان ليمتثلوا هذا التوجيه الرباني الشريف، فهم مؤمنون، وهم أولى الناس بطاعة الحي القيوم سبحانه وتعالى الذي يشرع لهم ما يسعدهم في العاجل والآجل.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27]، الإضافة في بيوتكم -كما قال أئمتنا- تحتمل أمرين اثنين: إما أن تكون الإضافة هنا تفيد الملك، أي: غير بيوتكم التي تملكونها، قالوا: وعليه فالأمر جرى على حسب العادة الغالبة، لأنه في الغالب أن الإنسان يدخل في البيت الذي يتملكه.
وقيل: الإضافة هنا للسكنى، أي: غير بيوتكم التي تسكنونها ليخرج المؤجر والمعير، فلا يجوز للمؤجر أن يدخل بيته الذي يملكه بعد أن أجره، ولا يجوز للمعير أن يدخل البيت الذي أعاره لأخيه إلا بإذنه، وعليه غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ، أي: غير البيوت التي تسكنونها، وهذه البيوت إن لم تكن ملكاً لكم فالسكنى إذاً هي مبررٌ لدخولها من قبلكم بغير استئذان، فهي بيوتكم وخاصة بكم، ولا يترتب على هذا سابقة، فقلنا: إذا كانت الإضافة تفيد التملك فالغالب أن الإنسان يسكن في البيت الذي يملكه، فجرت الإضافة على حسب العادة الغالبة، وإذا كانت الإضافة هنا تفيد السكنى أي: غير بيوتكم التي تسكنونها فالكلام على ظاهره ولا إشكال فيه، وعلى الأمر الأول قلنا من باب العادة الغالبة، لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم، ويفهم من هذا أن البيت الذي يسكنه الإنسان لا يجب عليه أن يستأذن إذا جاء إلى بيته، وعليه إذا لم يكن في البيت إلا زوجه لا يلزمه ولا يجب عليه الاستئذان، فيدخل على زوجه بغير استئذان، والسبب في هذا كما قال أئمتنا: لا حشمة بين الزوجين، فلا محظور من وقوع نظره على شيء منها من رأسها إلى رجليها، وعليه فلا يجب على الإنسان أن يستأذن إذا جاء إلى بيته.
ثبت في تفسير ابن جرير بسند صحيح عن ابن جريج قال: قلت لـعطاء رضي الله عنه: أيستأذن الرجل على زوجته؟ قال: لا.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: وهذا محمول على نفي الوجوب، أي: لا يجب عليه أن يستأذن، لكن يستحب له إذا أتى إلى بيته وزوجته في داخل البيت أن يستأذن، وأن يعلمها بدخوله، كأن يفتح الباب وينادي بأعلى صوته: بسم الله الرحمن الرحيم، أو أن يتنحنح، أو أن يذكر الله، أو أن يضرب برجله؛ لتعلم زوجته أنه زوجها قد دخل عليها، فإذا كانت في حالة لا تحب أن يراها زوجها عليها توارت عنه في هذه الحالة.
يستحب له ذلك لما ثبت بسند صحيح عن زينب بنت معاوية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، قالت: كان عبد الله بن مسعود إذا أتى بيته تنحنح وذكر الله، يتنحنح ثم يقول: بسم الله.. لا إله إلا الله.. الله أكبر، يذكر الله بصيغة من الصيغ ليعلم أهل البيت أن الزوج جاء، وحتى إذا كان في البيت زائرة من الجيران تأخذ احتياطها. إذاً: لا يجب على الإنسان أن يستأذن إذا دخل إلى بيته لكن يستحب له، وهذا كله كما قلت: إذا كان في بيت زوجته فقط.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: فإذا طرأ ما يستدعي وجوب الاستئذان وجب على صاحب البيت -على الزوج.. على الأب- أن يستأذن، كما لو كان في البيت بنات كبار بالغات، أو بنون كبار، أو في البيت إخوة وما شاكل هذا، فلابد من الاستئذان، إنما بيتك الذي تسكنه وفيه زوجتك فقط لا تستأذن، أما عندك بنت بالغة لا يجوز أن يقع نظرك عليها فيجب أن تستأذن إذا دخلت ليأخذ من في البيت احتياطهم: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27]، وعليه فيجب على الإنسان أن يستأذن على محارمه إذا دخل، كما هو الحال في حال الابن مع الأم، فإذا دخل إلى البيت الذي يسكنه مع أمه يستأذن عليها، وهكذا كما قلنا في حال صاحب البيت إذا كان في البيت من لا يجوز أن يرى عورته، فإذا لم يكن هناك إلا الزوجة فلا يجب عليه الاستئذان، وإلا فالاستئذان واجب.
ثبت في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري بسند صحيح عن نافع ، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين لا يسمح لأحد من بنيه إذا بلغ أن يدخل عليه إلا باستئذان، إذا بلغ الولد فيجب عليه أن يستأذن إذا أراد أن يدخل البيت.
وثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً سأله فقال: أأستأذن على أمي؟ فقال: ما على جميع أحيانها تحب أن تراها، فالأم لا تريد أن تراها على جميع أحيانها، فقد تكون أحياناً طارحة لثيابها، فيجب عليك أن تستأذن عليها؛ لئلا تراها بتلك الحالة التي لا تحب أن تُرى فيه.
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: إن لم يستأذن على محارمه رأى ما يكره.
وثبت عن موسى بن طلحة بن عبيد الله ، وطلحة هو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم أجمعين، يقول: دخل أبي على أمي فتبعته فضرب في صدري -أي: طلحة ضرب صدر ولده موسى - فقال: أتدخل بغير استئذان؟ أنا أدخل هذه أمك وهي زوجتي، وأما أنت فيجب عليك أن تستأذن على أمك، أتدخل بغير استئذان؟!
وثبت عن عطاء رضي الله عنه قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين فقلت: أأستأذن على أختي وأنا أخدمها وليس لها من يعولها غيري؟ قال: نعم، فأعدت عليه فقلت: لا خادم لها غيري؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا، قال: فاستأذن، فلابد من الاستئذان.
ونقل عن طاوس رضي الله عنه قال: ما من امرأة أكره إلي من أن أرى عورتها من امرأة ذات محرم.
هذه الآثار أوردها الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح وقال: كلها ثابتة بأسانيد صحيحة عن هؤلاء الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
قال شيخنا الشنقيطي عليه رحمة الله في أضواء البيان: الأظهر الذي لا ينبغي العدول عنه أنه يجب الاستئذان على المحارم، إذا أردت أن تدخل على المحارم فيجب عليك أن تستأذن.
إذاً: الاستئذان إذا أردت أن تدخل بيت غيرك وبيتاً غير بيتك فيه محارم، أو أناس أجانب عنك من ناحية النسب، يجب عليك أن تستأذن.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح نقلاً عن الإمام الطحاوي : والاستئناس هو الاستئذان في لغة اليمن، أي: عند اليمنيين الاستئناس بمعنى الاستئذان، وعليه حتى تستأنسوا، أي: حتى تستأذنوا، قال شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان معللاً هذا القول: وهذا القول مبناه على أن قارع الباب مستوحش، عندما يقرع الباب يستوحش هل يؤذن له أم لا؟ فإن أُذن له حصل له الاستئناس وزال عنه الاستيحاش، وعليه فالاستئناس ملازم للاستئذان، فعبر بالملزوم وأراد اللازم، أي: عبر بالاستئناس، لكنه أراد الاستئذان؛ لأن الاستئناس لازم للاستئذان، فإذا استأذن وأذن له فقد حصل له الأُنس.
قال شيخنا عليه رحمة الله: ويدل على هذا قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب:53]، وقول الله جل وعلا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [النور:28]، هذا مما يبين على أن المراد بالاستئناس: الاستئذان.
قال الإمام ابن جرير عليه رحمة الله: والمراد من الاستئناس هنا، أي: حتى يحصل الأُنس للمستأذن ولصاحب البيت.
وعليه فقوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، أي: حتى تؤنسوا أهل البيت باستئذانكم وحتى يحصل لكم الأُنس بحصول الإذن لكم، فلا تدخلون على غرةٍ وغفلةٍ وتفاجئوا أهل البيت، ولا تفاجئوا أيضاً بدخولكم من غير استئذان، فيحصل لهم ولكم الأُنس بالاستئذان لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، من الأُنس.
والقول الثاني: من الإِنس الذي هو من الناس الذين هم ضد الجن: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، أي: حتى تعلموا من فيها من الإِنس من بني آدم، فإذا لم يكن فيها أحد فلا يجوز دخولها كما قال الله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ [النور:28]، وهذا القول ضعفه بعض أئمة التفسير، وسبب التضعيف: أن معرفة وجود الإِنس في البيت غير كافية في دخول هذا البيت فلا تحتاج إلى استئذان، فلابد من معرفة من فيها، ثم موافقتهم على الدخول على بيوتهم.
والقول الثالث: مال إليه شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان فقال: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ، هو استفعال من آنس إذا أبصر الشيء ورآه ظاهراً مكشوفا، وإذا استعلن الشيء على وجه التمام والحقيقة، وعليه حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ، المراد من الاستئناس: الاستعلام، ومنه قول الله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6]، أي: ظهر لكم هذا، ومنه قول الله حكاية عن نبيه موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه:10]، أبصرت وظهرت لي على وجه التمام، وعليه حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي: حتى تستعلموا وحتى تستكشفوا الحال هل يؤذن لكم أم لا؟ فإن أذن لكم دخلتم وإلا رجعتم.
وأنا أقول: المعاني الثلاثة يحتملها هذا اللفظ الكريم، لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، حتى يستأنس الإِنس الذين يستأذنون على الإِنس الذين هم في البيوت، فيحصل الأُنس للطرفين عندما يأذن من في البيت من الإِنس لمن يطرق البيت من الإِنس، وعليه فحصل الأُنس للمستأذنين ولأهل البيت، وحصل الاستعلام وزال الخفاء والجهالة على وجه التمام.
قال تعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، فلابد لدخول البيت من أمرين: استئناس.. استئذان وسلام.
قال الإمام النووي عليه رحمة الله في شرحه لصحيح مسلم : دلت السنة الثابتة الصحيحة، ومال إليه المحققون وقالوا به. أي: أن السلام يقدم على الاستئذان.
قال شيخنا في أضواء البيان: وما دلت عليه السنة وثبت به حديثان صحيحان كما قال الإمام النووي ينبغي الأخذ به ويحرم العدول عنه، وعليه فينبغي أن تقدم السلام فتقول: السلام عليكم، أأدخل؟ وهذا عندما لم يكن لبيوت الصحابة في الصدر الأول أبواب، إنما أحياناً يوضع عليها الستور.. ستارات من خرق وقماش، وأحياناً لا يوضع عليها شيء، فيقف المستأذن من الجانب الأيمن أو الأيسر فيقول: السلام عليكم، أأدخل؟ أألج؟ أتأذنون بالدخول؟ فيقدم السلام.
وفي وقتنا الحاضر يطرق الباب: السلام عليكم، أأدخل؟ هذا هو الاستئذان الشرعي، يطرق الباب فيسلم ثم يستأذن في الدخول: السلام عليكم، أأدخل؟ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27].
إذاً: لابد من أمرين من استئناس وسلام، ولا يقال: إن الله قدم الاستئناس الذي هو الاستئذان، فكيف نحن نقول بتقديم السلام؟ نقول: لا إشكال لأن الواو في لغة العرب تفيد مطلق التشريك في الحكم بين المعطوف والمعطوف عليه، فالله يطلب منا إذا أردنا أن ندخل بيوت غيرنا أمرين اثنين: استئذان وسلام، فأيهما سيقع قبل الثاني؟ ما حددته آيات القرآن، إنما ينبغي أن يقع هذا وهذا، تقول: جاء زيد وعمرو، وقد يكون عمرو سبق بالمجيء وجاء قبل زيد، والواو لا تفيد ترتيباً وإنما مطلق التشريك في الحكم بين المعطوف والمعطوف عليه، لا يجوز أن تدخل بيت غيرك إلا باستئذان وسلام، أيهما قبل الآخر؟ بينته سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، ولهذا نظائر في القرآن، يقول الله جل وعلا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]، فقال: ومنك ومن نوح، مع أن الميثاق الذي أخذ على نبي الله نوح وعلى من بعده أخذ قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، مع أن النبي قدم في الذكر، فالواو لا تفيد الترتيب، وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأحزاب:7]، الواو لا تفيد ترتيباً، إنما تفيد مطلق التشريك في الحكم، هذا إذا تجردت عن القرائن الخارجية، ولذلك عندما قال الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، هل نبدأ بالصفا أو بالمروة؟ لا تفيد الآية وجوب البدء بواحد منهما، لكن النبي عليه الصلاة والسلام حدد فقال: ( نبدأ بما بدأ الله به )، كما ثبت بالصحيح، وعليه فيجب البدء بالصفا في السعي قبل المروة، ولا يجوز أن نبدأ بالمروة قبل الصفا، وهنا الواو لا تفيد ترتيباً، لكن وجدت قرينة خارجية تحدد أن الترتيب هنا مطلوب، والله جل وعلا يقول في كتابه: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، الركوع قبل السجود، وقد قدم السجود عليه: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، الواو لا تفيد الترتيب بل مطلق التشريك في الحكم بين المعطوف والمعطوف عليه، أي: ينبغي أن يحصل منك قنوت وصلاة وخشوع لله فيها ركوع وسجود، وكون السجود قبل الركوع أو الركوع قبل السجود، هذا يبحث بعد ذلك في موضع آخر وتقام الأدلة عليه، وهنا كذلك، لابد من أمرين لدخول بيت الغير: لابد من استئذان وسلام، فأيهما نقدم؟ نقدم السلام، فنطرق الباب ثم نقول: السلام عليكم، أأدخل؟ أألج؟ أتأذنون لي بالدخول؟ وهذا كما قال الإمام النووي عليه رحمة الله: ثبت به حديثان صحيحان.
ووقفت على أربعة أحاديث ثبتت في الكتب الستة تبين وجوب تقديم السلام على الاستئذان، وأن السلام ينبغي أن يقع قبل الاستئذان.
منها: ما ثبت في سنن أبي داود ، وتفسير الطبري ، وكتاب الأدب المفرد للإمام البخاري ، والحديث صحيح، عن ربعي بن حراش قال: ( جاء رجل من بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن فوقف بجانب الباب وقال: أأدخل؟ ولم يسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لخادم عنده ) وفي رواية الطبراني : ( قال النبي عليه الصلاة والسلام لأمة عنده تدعى
وثبت في سنن أبي داود وكتاب الأدب المفرد للبخاري ، والحديث في مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومعجم الطبراني الكبير، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره: سنده جيد، وأشار الحافظ في الفتح إلى أنه حديث صحيح ثابت، ولذلك قال شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان: إنه حديث ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، روي عن قيس بن سعد بن عبادة وعن أنس بن مالك وعن أم طارق مولاة سعد بن عبادة رضي الله عنهم أجمعين، وفيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى ثم لما أراد الانصراف عليه صلوات الله وسلامه تبعه سعد وقدم له حماراً ليركب عليه عليه صلوات الله وسلامه، وقال لولده قيس : اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: فصحبت النبي عليه الصلاة والسلام ليعود إلى بيته، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اركب يا قيس . قلت: لا أركب، قال : إما أن تركب وإما أن ترجع، فقلت: بل أرجع يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فرجع قيس وذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته
إذاً: السلام قبل الاستئذان: السلام عليكم ورحمة الله، أأدخل؟.
والحديث الثالث ثبت في الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي وموطأ مالك عن ثلاثة من الصحابة: أبي موسى الأشعري وأبي بن كعب وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين، والحديث فيه قصة ظريفة يرويها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، يقول: جئت فاستأذنت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيام خلافته، فقلت: السلام عليكم، أأدخل؟ فقال عمر لمن في البيت: هذا عبد الله بن قيس يستأذن -كان عمر مشغولاً فما رد عليه ولا أهله، لكن عرفه بصوته- ثم كرر أبو موسى مرةً ثانية: السلام عليكم، أأدخل؟ وكرر مرةً ثالثة: السلام عليكم، أأدخل؟ وكلها كما ترون تقديم السلام فيها على الاستئذان، فانصرف أبو موسى ، فلما انقطع صوته تبعه عمر بن الخطاب وقال: علام انصرفت؟ فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( الاستئذان ثلاثاً؛ فإن أذن لأحدكم وإلا فلينصرف )، فقال: لتقيمنّ بينةً على هذا أو لأجعلنك نكالة.
والحديث الرابع رواه الإمام الترمذي وأبو داود والنسائي والبخاري في الأدب المفرد عن كلدة بن حنبل ، وهو أخو صفوان بن أمية لأمه رضي الله عنهم أجمعين، يقول: ( أرسلني
وفي رواية الترمذي : ( بلبن ولبأ وضغابيس )، واللبأ معروف وهو اللبن الذي يخرج من الشاة عندما تلد، أرسل صفوان بن أمية بهدية إلى النبي عليه الصلاة والسلام بلبن ولبأ وضعابيس، وهي كما قلنا: القثاء الصغيرة.
والشاهد في هذه الأحاديث الأربعة كما تقدم: تقديم السلام على الاستئذان، فإذا طرقت الباب فقل: السلام عليكم ورحمة الله، أأدخل؟ تكرر هذا الثانية، تكرر هذا ثالثة، وسيأتينا الحكم بعد ذلك ماذا سيكون؟
هذا الأدب الثاني: لابد من استئناس، ولابد من سلام، استئذان وسلام، فالسلام وضح لنا كيفيته، والاستئذان وضح لنا صورته.
لا يحل له أن يقف أمام الباب وتلقاء الباب ومواجهاً للباب، خشية أن يكون في الباب شقوق فيرى بعينيه ما يكرهه أهل البيت، وإنما شرع الاستئذان من أجل النظر، وخشية أن يفتح الباب، فتكون أمامه امرأة فيراها، وجعل الاستئذان من أجل النظر، فلذلك ينبغي عليه أن يقف في الجانب الأيمن أو الجانب الأيسر، ويطرق ثم يستأذن: السلام عليكم، أأدخل.
ثبت في سنن أبي داود بسند صحيح عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى قوماً يريد أن يزورهم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، إنما كان يقف على جانبه الأيمن أو جانبه الأيسر ثم يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ويستأذن؛ فإن أذن له دخل وإلا انصرف عليه صلوات الله وسلامه. قال: وهذا قبل أن يكون للبيوت ستور )، لم يكن عليها ستور، أي: أبواب. الباب لا يوجد عليه ما يستره، فيقف على الجانب الأيمن أو الجانب الأيسر، ونحن الآن نقول: يوجد باب أيضاً فلا يقف تلقاء الوجه خشية أن يفتح الباب، فيرى بعينيه ما يكرهه أهل البيت.
وثبت في سنن أبي داود أيضاً بسند حسن عن هزيل بن شرحبيل ، قال: ( جاء رجل يستأذن على النبي عليه الصلاة والسلام فوقف على باب النبي عليه الصلاة والسلام من تلقاء الباب -وجهه للباب- فرآه النبي عليه الصلاة والسلام من بعض شقوق الباب، فقال: هكذا عنك -أي: ابتعد إما لجهة اليمين أو الشمال- فإنما جعل الاستئذان من أجل النظر ).
وإذا ترخص الإنسان في النظر من شقوق البيت وتجاوز حدود الله في ذلك فلصاحب البيت حق أن يضربه بحصاة أو برمح، فإذا فقأ عينه أو عينيه أو قتله فلا إثم ولا دية ولا قصاص، هذه حرمة البيوت، وهذا ثابت في الصحيحين عن ثلاثة من الصحابة الكرام: عن أنس بن مالك وعن سهل بن سعد وعن أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث بوب عليه البخاري في كتاب الديات باباً بهذا الخصوص فقال: من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية ولا قصاص.
ولفظ الحديث -حديث أبي هريرة- في الصحيحين كما قلت عن نبينا عليه الصلاة والسلام: ( من اطلع في بيت قوم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه )، وفي رواية: ( لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذنك فحذفته بحصاة ما كان عليك إثم ولا جناح )، ليس عليك حرج في ذلك على الإطلاق.
وفي حديث سهل : ( كان النبي عليه الصلاة والسلام بيده مدراة -قطعة من حديد- يفلي بها رأسه -كالمشط الذي يكون الآن من حديد أو أمشاط خشبية أعوادها كبيرة يفلي رأسه وشعره الطويل عليه صلوات الله وسلامه- فجاء رجل يستأذن على النبي عليه الصلاة والسلام فنظر من شقوق البيت، فقال: لو أعلم أنك نظرت لضربتك في عينيك ).
وفي رواية أنس : ( كان بيد النبي عليه الصلاة والسلام مشقص، وهو سهم له نصل عريض، وجاء رجل يستأذن فبدأ ينظر من شقوق البيت، يقول
وهذا الأمر قال شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان: لا ينبغي أن يختلف فيه، وهو الذي ثبتت فيه السنة، وما حكيت أقوال من خالفه. أي: خالف هذا القول لسقوطها عنده، والذين خالفوا في هذه المسألة المالكية فيقولون: هذا الحديث ورد من باب الزجر والتغليظ، لا يجوز أن ندفع المرء بما فيه معصية.
نقول: ليست هذه معصية، إنما من باب إقامة الحد على من تجاوز حدود الله، أما أننا ندفع المعصية بمعصية، ليست هذه معصية، إنما هذا من باب معاقبة من تجاوز حدود الله، كما أن الإنسان إذا زنى وكان بكراً نجلده مائة جلدة ثم نغربه عاماً، فليست هنا دفع المعصية بمعصية، إنما هذه إقامة عقوبة شرعها لنا الشارع، وعليه إذا أراد الإنسان أن يستأذن لا يقف تلقاء الباب، وإذا رأى شقوقاً فلا يجوز أن ينظر بل يقف عن الجانب الأيمن أو الأيسر ثم يسلم ويستأذن ثلاثاً، فإن أذن له وإلا انصرف.
ثبت في معجم الطبراني الكبير بسند جيد عند عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تأتوا البيوت من أبوابها )، أي: تلقاء الباب يقف وجهك وجه الباب ( ولكن من جوانبها )، أي: الجانب الأيمن أو الأيسر، ( فاستأذنوا؛ فإن أُذن لكم وإلا فانصرفوا )، هذا الأدب الثالث.
إذاً: لابد من سلام واستئذان، وأن لا يقف تلقاء الباب.
إذا طرق الباب وقيل له: مَن؟ يقول: أنا فلان بن فلان، السلام عليكم، أأدخل؟ فإذا حصل عندهم ارتياح قالوا: وعليك السلام ادخل، وإذا ما حصل عندهم ارتياح قالوا: إما ارجع أو سكتوا فترجع بعد أن تستأذن وتسلم ثلاثاً دون أن تزيد على هذا، فإذا قيل: مَن أنت؟ فينبغي أن تبين أمرك بما يعرفه أهل البيت إن كانوا يعرفونك إذا حصل منك البيان.
ثبت في الصحيحين وسنن الترمذي وأبي داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي -أي: ليساعده في الدين الذي بقي على أبيه- فطرقت الباب واستأذنت فقال: مَن؟ قلت: أنا، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام يقول: أنا أنا كأنه كاره )، يعني من أنا؟! أنا تشمل الذكر والأنثى، تشمل العدو والصديق.
مَن أنت؟ والمقصود مَن أنت؟ مَن الذي يستأذن؟ وحذاري حذاري أن تنادي صاحب البيت باسمه كما يفعل من لا خلاق له في هذه الأيام، والبلية أنهم يدعون الالتزام، يأتي إلى البيت يا شيخ أخرج، يا أبا فلان أخرج، لم تنادي هذا يا عبد الله؟! هذا استئذان شرعي؟ هذا استئذان جاهلي فعله أناس في الزمن الأول فأدبهم ربنا جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4]، هذا استئذان الجاهليين، يا محمد اخرج إلينا، يا شيخ نريدك، يا أبا فلان أخرج، هذا استئذان جاهلي، وفاعله يرتكب إثماً عند الله جل وعلا، فإذا أردت أن تزور في الله فتأدب بآداب الزيارة: السلام عليكم ورحمة الله، أأدخل؟ وأما أن تنادي صاحب البيت فهذا حرامٌ حرام، فلا يجوز أن تناديه ولا أن ترفع صوتك، وهذا نهى الله من فعله في العصر الأول.
ثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ( قام رجل على باب النبي عليه الصلاة والسلام وحجرته فنادى: يا محمد! أخرج إليّ فإن حمدي زين، وذمي شين، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ذاك هو الله )، الذي إذا حمد فالمحمود يصبح له قدر، وإذا ذم فيكون لا قدر له على الوزر، هذا هو الله.
وثبت في مسند الإمام أحمد وتفسير ابن جرير ومعجم الطبراني الكبير بسند صحيح عن الأقرع بن حابس والآية نزلت فيه وفي أصحابه الذين قدموا من بني تميم، وكانوا قرابة سبعين ويترأسهم الأقرع بن حابس فوقفوا على حجر النبي عليه الصلاة والسلام وبدؤوا ينادون: يا محمد! اخرج إلينا مدحنا زين وذمنا شين، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:4-5]، لولا أن الله غفر لهم ورحمهم لخسف بهم الأرض من أجل ارتكابهم تلك البلية مع خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، ولكن الذي اقتضى رفع العقوبة عنهم مغفرة الله ورحمته: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:5]، لا زالوا في بداية الإسلام فلابد من تأليفهم، وبيان أحكام الشرع لهم.
وثبت في معجم الطبراني الكبير عن زيد بن أرقم ، قال: ( جاء أناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا: إن كان نبياً سعدنا به، وإن كان ملكاً من الملوك عشنا في كنفه وتحت ظله، فلما وصلوا إلى بيته قالوا: يا محمد! اخرج إلينا مدحنا زين وذمنا شين، فقال: ذاك هو الله، وأنزل الله هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] ).
فحذاري أن تنادي صاحب البيت باسمه، إنما أنت تخبر باسمك، أما هو فأمير، هو أمير ما أحد يذهب إلى الأمير ويقول له: ما اسمك أيها الأمير، إنما أنت عندما تذهب إليه ممكن يقول لك الأمير: ما اسمك؟ تقول: اسمي فلان، أتقول له: أنت ما اسمك؟ ولو قلت هذا لعاقبك، هذا صاحب بيت، هذا في بيته أمير أعطاه الله إمرة، وجعله آمناً في هذا البيت حصانة ومكانة، فالزم حدود الأدب إذا أردت الزيارة الشرعية، وأما أنك ستزور صاحبك على حسب مزاجك، وعلى حسب رأيك، فهذا حرام ولا يجوز، إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4].
هذا خلق المسلمين؟ امرأة نائمة وطرق الباب حتى ملّت يداه ثم جاء إلى النافذة: يا فلان.. يا شيخ.. يا أبا فلان.. يا عبد الله. يعني ستدخل -على تعبير إخواننا المصريين- بالعافية؟ لا إله إلا الله، وستدخل بالقوة، وستدخل غصباً عن أهل البيت. هذا لا يجوز، طرقت الباب حتى ملّ، ثم دار بعد ذلك على جميع أحوال البيت، لا يترك نافذة إلا ويطرقها، يا فلان يا فلان.
يا عبد الله! اتق الله في نفسك, اتق الله في نفسك، اتق الله في نفسك واجلس في بيتك، ولا تؤذ عباد الله، ولا تشوش على الجيران.
ثم بعد أن ضرب ربع ساعة وما وجده يذهب إلى البيت الثاني للجيران يؤذيهم كذلك، يذهب للبيت الثالث! يا عبد الله جئت لتستأذن وأقمت القيامة، هذا حرام.
وهذه أحوالنا، وهذه من يفعلها؟ يفعلها شباب الصحوة في هذا الوقت، ولذلك إخوتي الكرام نحن في بلوة ما بعدها بلوة، نحن لا نعرف أحكام الاستئذان، فكيف سنعرف أحكام الجهاد في سبيل الرحمن، الواحد منا لا يعرف يستأذن على أخيه فكيف بعد ذلك سيعرف الأحكام الأخرى؟! هذا لابد منه، ( الاستئذان ثلاثاً؛ فإن أذن لأحدكم وإلا فلينصرف ).
يا عبد الله! إذا جئت لتستأذن لك منّة في الدخول على صاحب البيت؟! سبحان الله العظيم!
من الذي دعاك وأرسل لك برقية مطرزة بالذهب حتى تأتي إلى البيت؟ ثم تتكلم في عرض صاحب البيت: هذا أزينهم أو أشينهم، ومن طلب منك المدح أو الذم؟ إنما هذا حالنا اليوم، هذا حال العباد، يأتي إذا ما فتحت له قذفك، هذا يزور في الله؟! والله ليست زيارته إلا للشيطان الرجيم.
دعا مرة بعض الصالحين -والقصة في إحياء علوم الدين للغزالي - دعا صاحبه إلى طعام وأراد أن يختبر إجابته هل هي لله أو حسب الرسوم التي نتعامل بها في هذه الأيام؟ فقال له: لكن من الساعة الثانية، فجاء الرجل على الموعد، فقال: تأخرت، كان في الليل ينبغي أن أخبرك أنه ينبغي تقديمها إلى الساعة الواحدة، فحضر الضيوف وأكلوا وانتهوا، والآن يعني انتهت الوليمة، وأنا أخطأت في الدعوة، والمخطئ صاحب البيت، قال: طيب، أدخل بما أنني جئت لآكل الفضلة، قال: بل الأجر عند الله، قال: ما بقي شيء، قال: ما بقي شيء، قال: ألحس القصعة ألعقها؟ قال: ما بقي شيء، فاستأذن وعاد، لعل هذه لو فعلت في هذا الوقت مع واحد منا لنشرها في الجرائد.
وفي اليوم الثاني ذهب وقال: يا عبد الله على كل حال جرى البارحة خطأ في التقدير، اليوم تزورنا إن شاء الله للغداء مرةً ثانية.
إخوتي الكرام! لم يزور المسلم صاحبه؟ لطلب الأجر عند الله، إن فتح له الباب حصل الأجر، وإن أغلق الباب حصل الأجر، هذا إذا كنت تريد الأجر، وإذا كنت تريد بعد ذلك القيل والقال فهذا موضوع آخر. فدعاه قال: سآتي أيضاً في موعد كذا، فلما جاء قال: ما تيسر لنا اليوم أن نقيم الطعام واعتذرت للضيوف، ولكن نسيت أن أعتذر لك، فارجع بسلام، قال: آكل مما في البيت يعني ما أريد طعام جيداً ولا متكلفاً، قال: أقول لك: ما عندنا شيء، فسلم وانصرف.
في اليوم الثالث عمل له نفس ما حصل في اليومين السابقين، ثم دعاه في الرابع وعمل طعاماً شقيقياً، فلما جاء قال: قال أسألك بالله ثلاثة أيام أدعوك وأنا أحتال عليك وأتكلم خلاف الواقع وأنت تذهب، ثم كيف أجبتني في اليوم الرابع؟! قال: والله لو بقيت تدعوني الدهر كله على هذه الحالة لما تأخرت، أنا ما جئت من أجلك جئت من أجل ربك، أنا ما جئت لآكل، أنا ما جئت لقيل وقال، جئت لله.
يقول الغزالي عليه رحمة الله: وثبت أن أستاذ الجنيد بن محمد القواريري دعاه تلميذه لحضور الطعام فذهب فما أذن والد التلميذ لشيخ الإمام الجنيد بالدخول فعاد، فدعاه التلميذ في اليوم الثاني فجاء شيخ الإمام الجنيد جبراً لخاطر هذا التلميذ فما أذن الوالد فعاد أربعة أيام وما دخل البيت، ثم استحى بعد ذلك التلميذ من دعوة شيخه.
أما الآن يأتي بلا موعد، وإذا ما فتح له بعد ثلاثين طرقة وليس ثلاثاً تكلم بما يكبه على وجهه في نار جهنم.
أهذا استئذان؟ أهذا استئذان يا عباد الله؟! هذا حرام، أنت تريد أن تزور لتدخل السرور لا لتعمل الشرور، فاتق الله في نفسك وتعلم أدب الاستئذان في الله، إذا زرت أخاً في الله كيف تزروه؟ ثلاث طرقات مع سلام بلا زيادة مهما كان الأمر.
أنت جئت لتستأذن أو جئت لتعتقل؟ هذا الذي يستأذن بهذه الأصوات، هذا صوت من يريد الاعتقال لا من يريد الاستئذان والزيارة في الله.
إذاً: الثابت من حال الصحابة عندما كانوا يستأذنون على النبي عليه الصلاة والسلام أنهم يطرقون الباب بأطراف الأظافر.
ثبت في كتاب المعرفة في علوم الحديث للإمام الحاكم ، وكتاب المدخل للإمام البيهقي عن المغيرة بن شعبة ، والحديث رواه الخطيب البغدادي في كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، ورواه البخاري في الأدب المفرد والبزار في مسنده عن أنس ، والحديث في درجة الحسن، عن المغيرة بن شعبة وأنس قالا: ( كان الصحابة يقرعون باب النبي صلى الله عليه وسلم بالأظافير )، وهذا الحديث الذي فيه هذا الإخبار هل هو من قبيل المرفوع أو من قبيل الموقوف؟ أورده أئمتنا في كتب المصطلح، يقول الإمام زين الدين عبد الرحيم العراقي شيخ الإسلام عليه رحمة الله:
لكن حديث كان باب المصطفى يقرع بالأظفار مما وقفا
حكماً لدى الحاكم والخطيب والرفع عند الشيخ ذو تصويب
هذا الحديث (كان الصحابة يقرعون بابه بالأظافير) مما وقفا، أي: حديث موقوف حكماً، عند الحاكم صاحب المستدرك، والخطيب البغدادي ، يرون أن هذا الحديث موقوف، والرفع عند الشيخ، ويقصد به الإمام ابن الصلاح صاحب علوم الحديث.
(ذو تصويب) رأى أن هذا من قبيل المرفوع، قال الإمام السخاوي في فتح المغيث في شرحه لألفية الحديث: قال شيخنا -يعني به الإمام ابن حجر شيخ الإسلام عليهم جميعاً رحمات ربنا الرحمن- وهذا الفعل له جهتان: جهة من فعل الصحابة، أنهم يقرعون الأبواب بالأظافير، فهي على هذا موقوفة عليهم، وجهة إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وعلمه بذلك، فهذا مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فالفعل موقوف، وإقرار النبي عليه الصلاة والسلام على هذا له حكم الرفع، فهو من ناحية الموقوف، ومن ناحية المرفوع، وقد علم النبي عليه الصلاة والسلام بهذا وأقرّ هذا.
والأدب أن تقرع الباب بالأظافير، فإذا حصل لك إذن بالدخول دخلت، وإلا انصرفت وأنت تدعو لصاحب البيت، وتحتسب خطاك عند من لا يضيع عنده مثقال ذرة.
هذه الآداب في الزيارة لابد منها، وهذا الأدب قال ربنا عنه في كتابه: إنه خير وهو أزكى لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:27] وهذا هو الخير وما عداه شره وبلاء.
وقيل هنا: هذا خير لكم من تحية الجاهلية ودخولهم بغير استئذان، هذا وعليه أفعل التفضيل على بابها، أي: على حسب ما سواها من الناس، من أن الانتظار على الباب مذلة، وأن الذهاب من غير دخول فيه نقص في مروءة الإنسان، فإذا كان هذا في اعتباركم الوقوف مذلة، والذهاب من غير دخول فيه نقص، إذا كان هذا في اعتباركم فأولى من ذلك وأفضل وأحسن وما يترتب عليه من خيرات في العاجل والآجل الذهاب، إذا كان هذا في اعتباركم أننا ندخل بغير استئذان، وندخل بتحية الجاهلية لأن لا يمتهن الإنسان، ويقف على الباب، إن كان هذا في اختياركم ورأيكم ووهمكم فيه مصلحة، وفيه خير لكم، فالأحسن منه الأول، الذي قال عنه ربنا: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27].
ثم قال: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28]، قوله: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا [النور:28]، إن قيل لك: ارجع فارجع.
وقوله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا [النور:28]، لم يقل ربنا: فإن لم يوجد فيها أحد، لأن المعتبر وجداننا لا كون ذلك في بيته أم لا، قد يوجد في البيت أناس، لكن على حسب استئذاننا ظهر لنا أنه لا يوجد أحد، ولا يريدون الإذن بالدخول للمستأذن، فننصرف على حسب علمنا، لم يقل: فإن لم يوجد فيها أحد، قال: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا [النور:28]، أي: ما علمت وجود أحد، وما أذن لكم، والبيت ما كان في أهله، فانصرفوا، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28].
وقد فصل بين ما المراد بهذه البيوت، والمراد من النسخ في عرف سلفنا الصالح ما يشمل النسخ في الاصطلاح: رفع الشارع حكماً منه متقدم بحكم منه متأخر، وما يشمل التخصيص، وما يشمل الاستثناء والمراد هنا الاستثناء، أي: تلك البيوت استأذن فيها إلا هذه البيوت التي لها شأن خاص فلا داعي بإذن ولا سلام، وسنبين ما المراد بهذه البيوت.
وثبت في تفسير ابن أبي حاتم ( عن
البيوت التي ليست مسكونة يجوز الدخول عليها بلا إذن ولا سلام.. البيوت العامة، كما لو أن إنساناً أوقف بيتاً للضيافة، يدخله من شاء، يفتح ويدخل، بيت وقف لمن يأتيه ضيف كما هو حال الفنادق، كما هو حال البيوت العامة التي تكون منازل عامة في طرق المسافرين من مقاهي يستريحون فيها، ومن أماكن الاستراحات، لا يلزم الإنسان أن يستأذن فيه إذا دخل، كما هو الحال في الخرب التي تكون للتخلي وقضاء الحاجة، لا يسكنها أحد، ولا يختص بها أحد، فلا يلزمك إذا أردت أن تدخل خلاء وتقضي حاجة في مكان ما أن تستأذن، ولا أن تسلم، فهذه ليست معدة لسكنى أحد.
وثبت عن محمد بن الحنفية أنه قال: المراد من البيوت التي ندخلها بغير استئذان: بيوت مكة. وهذا في الحقيقة يبنى على حكم شرعي أوجز الكلام فيه، ثم أنتقل للأدب الثاني.
بيوت مكة عند الإمام أبي حنيفة والإمام مالك لا يجوز بيعها ولا شرائها. أي: لا تباع العرصة، أي: الأرض، ولا تكرى البيوت، وهي وقف عام يسكنها من شاء، حكمها كحكم الفنادق وحكمها كحكم الأماكن التي توقف لمن ينتفع بها، لا يختص بها أحد، ثبت هذا عن أبي حنيفة وعن الإمام مالك ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله.
وهذا الحكم الذي مال إليه هؤلاء الأئمة قرروه بأمرين اثنين معتبرين:
الأمر الأول: الآثار، ثبت عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والحديث في درجة الحسن ومرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا تباع رباع مكة، ولا تكرى بيوتها ). وثبت في سنن سعيد بن منصور عن مجاهد مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مكة حرام بيع رباعها، حرام كراء بيوتها ).
وثبت في مسند مسدد قال: كانت تدعى بيوت مكة: السوائب. وسائبة أي: وقف لله لا يتملكها أحد.
والأمر الثاني: قالوا: القاعدة الشرعية تنطبق على بيوت مكة وعلى عرصتها وبقعتها، أي: فهي أرض فتحت عنوة في فتح مكة ولم تقسم بين المجاهدين ولا عليهم، فصارت وقفاً إلى يوم القيامة، لا يجوز لأحد أن يتملك بقعة، ولا أن يختص بمنزل دون صاحبه، فهي بيوت عامة تفتح كل بيت وتدخل فيه، ويجب على من في البيت أن يحتاط كما لو كان في الشارع، أن لا يكشف عن عورته، وأن لا يكشف عما لا يحل له الكشف عنه، هذا القول الأول.
والقول الثاني ذهب إليه الإمام الشافعي وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وقال الإمام ابن قدامة في المغني: إنه الأقوى من حيث الدليل، وهو الأثبت، وبعد أن نذكر أدلته ننظر في القولين إن شاء الله.
يقول: يجوز تملك رباع مكة، ويجوز كراء بيوتها، وعللوا هذا وقرروه بثلاثة أمور:
أولاً: قالوا: الأحاديث الصحيحة الثابتة، تقدم منها حديث صحيح مسلم وغيره: ( من دخل دار
إذاً: كانت الدار كبقية الدور، ثم قال أيضاً: ( ومن أغلق بابه )، أي: في داره، (فهو آمن )، دخل داره. إذاً: دار خاصة به لا يدخلها غيره.
وثبت في الصحيحين وغيرهما أنه قيل للنبي عليه الصلاة والسلام في فتح مكة: أين تنزل؟ تنزل في بيتك في مكة؟ فقال: ( وهل ترك لنا
إذاً: لو كان هذا البيع غير صحيح لأعاده النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: هذه موقوفة فلا يجوز لأحد أن يتملك منها شيئاً، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: قالوا: فعل الصحابة، ثبت أن حكيم بن حزام باع دار الندوة، فقيل له: إنك بعت مكرمة قريش، هذه كانت دار المؤامرات كما هي دار المؤتمرات في هذه الأيام، يخطط فيها لذبح النبي عليه الصلاة والسلام كما يخطط الآن لذبح الإسلام، هذه دار الندوة التي اجتمعوا فيها على ذبح النبي عليه الصلاة والسلام، وليخرج من كل قبيلة فتى ويعطى سيفاً صلتاً ليضرب النبي عليه الصلاة والسلام ليتفرق دمه في القبائل، وكانت دار الندوة لا يبرم أمر ولا ينقض إلا فيها، فباعها الحكيم بن حزام فقيل له: بعت مكرمة قريش؟ قال: ذهب الإسلام بالمكارم. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، لا قريش ولا غيرها.
وثبت أن عمر بن الخطاب اشترى داراً يسكنه في مكة من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، والصحابة أقروا هذا فكان فيه مع الخصوصية.
الأمر الثالث: قالوا: أرض مكة أرضٌ ميتة وحكمها كحكم غيرها، قالوا: وأما ما ذكرتموه من الأمرين نقول: الآثار مع ما ذكرتم وأنها ثابتة، نقول: آثارنا أقوى وأصح ولا شك في ذلك، فهذه الآثار التي أوردها في الصحيحين وغيرهما.
الأمر الثاني الذي استدلوا به، وأن أرض مكة فتحت عنوة ولم تقسم فصارت وقفاً إلى يوم القيامة، قالوا: نعم، فتحت عنوة، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ما وقفها، أقر أهلها على تملكهم لها، ومنّ عليهم بذلك كما منّ على هوازن عندما انتصر عليهم النبي عليه الصلاة والسلام بأموالهم وأولادهم، منّ عليهم النبي عليه الصلاة والسلام بالنساء والذرية، وأخذ منهم الأموال فقط.
إذاً كونه امتنّ عليهم بأنه ما جعلهم أسرى وجعلهم أحراراً، هذا ولي الأمر، وهو خير خلق الله عليه الصلاة والسلام يفعل ما يراه مصلحة للإسلام والمسلمين، وهنا هي ينبغي أن تقسم على المجاهدين، فلما لم تقسم ما وقفها النبي عليه الصلاة والسلام، إنما أقرّ أهلها على تملكها.
إخوتي الكرام! وهذا الخلاف بين أئمتنا يستثنى منه بإجماع أماكن المشاعر، فتلك لا يتملكها أحد من خلق الله إلى يوم القيامة، كالحرم المكي، والصفا والمروة، ومنى، وعرفات، فإنه لا يجوز لأحد أن يتملك فيها شيئاً، أما بقعة مكة فلا حرج من تملكها على هذا القول.
والذي يظهر والعلم عند الله أن الأحوط عدم تملك شيء من أرض مكة، وعدم شراء شيء من بيوتها، وإذا كان العباد جرّوا إلى ضيافة الله لزيارة بيته عن طريق الحج والعمرة، فينبغي أن تفتح لهم تلك البقعة، وأن لا يختص بشيء منها أحد من خلق الله، لينزل من يريد في أي مكان يريد، وأما أن يضيق الأمر على الحجاج بحيث لا ينزل الإنسان في بيتٍ إلا بألف أو بخمسة آلاف فهذا في الحقيقة فيه مشقة، ولذلك الأنفع للمسلين والأحوط في الدين أن يمنع تملك شيء من بقعة مكة، وكراء شيء من بيوتها، فهي وقف لمن يريد أن يسكن ولا يختص بشيء، إذا كان له بيت أنا آتي أفتح وأدخل عليه، حكمه هو حكم السوائب، أما أنه يستأثر بهذا البيت لا، هذا مكان موقوف لمن يريد أن يزور هذا البيت.
وعليه، فمن يريد أن يبني ويعمل بعد ذلك مصلحة دنيوية فلتكن خارج حدود الحرم، في منطقة التنعيم فما بعدها، أما مكة هذه فتفرغ لحجاج وزوار بيت الله الحرام؛ لئلا يحصل عليهم شيء من الضيق والزحام.
وقد ثبت عن سفيان الثوري أنه استأجر بيتاً في مكة، وهو يرى أن كراء البيوت حرام، فبعد أن انتهت مدة الأجرة شرد ولم يدفع لأهل البيوت شيئاً، فتبعه أصحاب البيت في سفره وأرغموه على الدفع، فذكر هذا للإمام أحمد فتبسم تبسم المعجب، حقاً إذا كان هذا ظلم، فمن استأجر فله حق أن لا يدفع، لا إله إلا الله! وهذا فعله كما قلت هذا العبد الصالح رضي الله عنه وأرضاه.
وعلى كل حال إخوتي الكرام! القول بالتملك -كما قلت- قول صحيح ثابت، وتبناه أئمة من أئمة الإسلام الشافعي وأحد الروايتين عن الإمام أحمد ، وأدلته قوية، فمراعاة لقول من يقول بجواز التملك وكراء البيوت إذا كان رأيه ذلك فهذا معتبر فلا يقال: هذه بدعة، إنما يبقى -كما قلنا- رأي يطرحه المسلم لولي الأمر إن رأى أن يمنع التملك وأن ينهى عن الكراء فله ذلك، أما أنا وأنت فلا نملك هذا، إنما أرى أن نتداولها لبيان الحكم الشرعي في هذه المسألة.
ونقل عن محمد بن الحنفية بن علي رضي الله عنهم أجمعين، قال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ [النور:29]، قال: هي بيوت مكة؛ لأنه لا يستأثر ولا يختص بسكناها أحد من خلق الله، فافتح أي بيت، وانزل في أي بيت.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر