يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
إخوتي الكرام! لننظر إلى حالنا في هذه الأيام عند هذا الأمر الأول، ماذا يوجد عندنا من مصادر ومن قوانين ومن دساتير يزاحم كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى؟! أهواء وأعراف وتقاليد وأراجيز وخرافات تأتينا من المشرق والمغرب، ونعكف عليها، ونعرض عن كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وهذا أعظم اختلال حصل في حياة الأمة الإسلامية، أنها جعلت مصادر بشرية تزاحم كتاب رب البرية سبحانه وتعالى.
إن المثناة كتب الفلسفة، كتب علم الكلام، كتب علم النفس.
تدخل على الناس في هذا الوقت البلايا والنقص تحت ستار علم النفس، تحت ستار علم الفلسفة، تحت ستار علم الكلام، كتب الفن، تدخل على الناس الفتن التي لا تخطر ببال أحد، تحت عناوين الفن، رأيت من أيام كتاباً في الفن، لو جرد ما فيه من كفر كان الباقي هذياناً لا يرتفع حاله وقيمته عن هذيان المجانين، الكتاب اسمه: (الموجز في تاريخ الفن)، مؤلفه وكيل وزارة في التربية والتعليم في بعض البلاد.
وهذا الكتاب في نهايته ما يزيد على أربعين صفحة باسم الفن، صور نساء وبعضهن عاريات، لا يوجد على الجسم إلا خرقة يسيرة تستر العورة المغلظة فقط، والكتاب يدرس في المتوسطة في أبها، سبحان ربي العظيم! ندخل الفتن على أولادنا وعلى أنفسنا تحت اسم الفن؟! فتن تتلاحق هنا وهناك تحت اسم الأدب والشعر والأدب في هذا الوقت، يدخل الكذب ويحارب الرب سبحانه وتعالى تحت اسم الأدب.
اسمعوا إلى تشريع جديد يقوله هذا العاصي المريض: يقول: لم أر في الناس ذا مظلمة أحق بالرحمة من مسلمة منقوصة حتى بميراثها محجوبة حتى عن المكرمة!
يقول: أعظم الناس وأعظم المخلوقات ظلماً في هذه الحياة: المرأة المسلمة! لم يا عدو الله؟ يقول: لأمرين: نقصت حقوقها حتى جعلنا ميراثها نصف الذكر، ثم حجبناها، فما جعلناها تخالط الناس، إذا حجبنا نساءنا عن اعتدائك يا عاتي ويا مفسد، فهل افتتانك بهن عن طريق الحرام مكرمة؟! حتى تقول: إنها منقوصة حتى بميراثها، محجوبة حتى عن المكرمة؟!
ثم اخترع لنا شرعاً جديداً للحجاب، يقول هذا الشاعر الذي حجب الله قلبه عن فهم شريعته:
شرف المليحة أن تكون أبية وحجابها في الناس أن تتهذبا
الحجاب في المرأة أن تكون مهذبة، والشرف أن تكون أديبة كحال هذا تنظم القصائد والشعر:
والوجه إن كان الجمال حياءه أغنى فتاة الحي أن تتحجبا
سبحان ربي العظيم! ما رأيت خبيثاً يزين خبثه بألفاظ معسولة كهذا الشاعر الملحد!
طيب! إذا كان في الوجه حياء تدع الحجاب؟! سبحان ربي العظيم! يجعل قلة الحياء حياء! وهل تحجب المرأة إلا من حيائها، فيقول للفتاة: في وجهكِ لا داعي للحجاب.
إخوتي الكرام! وحال هذا اللعين يذكرنا بحادثة جرت في إحدى الجامعات في بعض البلدان التي حصل فيها اختلاط، وكما قلت: شهوات وشبهات، كانت المدرسة تأتي إلى المحاضرة في كلية مختلطة، وهذه المدرسة متهتكة تلبس إلى الركب فقط، فقام بعض الشباب في وسط المحاضرة وتحرش بها، الأمة عندما سقطت من عين الله يحصل فيها هذا وهذا، فلما عمل التحقيق مع هذه الخبيثة وقيل لها: هل لك شكاية عليه؟ قالت: لا، إنما كان أسلوبه خشناً فقط، لو فعل هذه الفاحشة عن طريق التهذيب، وعن طريق اللطافة لم يكن في الأمر شيء.
هذا الذي يدعو إليه اللعين معروف الرصافي وغيره.
هذه الزبالات، وهذه القاذورات ملئت بها سائر الجهات في هذا الوقت، وكنت وقفت من سنتين على كتاب خسيس خبيث في علم النفس، وكتبت إلى المسئولين، وصودر الكتاب، ومؤلفه عبد العزيز القوصي وكان مستشاراً فنياً أيضاً في وزارة المعارف ببعض البلاد، والكتاب كان مقرراً على أخواتنا البنات في كليات البنات.
يقول في هذا الكتاب: يجب الخلط بين الذكور والإناث حتى في السكن الداخلي، ليس في الكليات فقط، بل حتى في مكان النوم، نجعل في الحجرة ذكراً وأنثى، طالباً وطالبة، إننا نختار مشركين متزوجين، بينهم وبين زوجاتهم حياة سعيدة ومفاهمة، سبحان ربنا العظيم! أصبح الكفر البواح يقرر مع كتاب الله جل وعلا، ( يقرأ في القوم بالمثناة ليس فيهم من ينكرها أو يغيرها )، الغناء والموسيقى والبلاء هنا وهناك، تصد الناس عن كتاب الله جل وعلا، فكيف سيحصل لكتاب الله أثر؟!
اسمعوا كلام الإمام الشافعي عليه رحمة الله، يقول: خرجت من بغداد وخلفت فيها شيئاً ورائي أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن الله عز وجل ما هو التغبير يا إمام؟ هل يطبلون بها كالعود والكمان وكالطنج يضربون بها عندما يغنون؛ لتحدث في النفوس لذة مخبثة؟! يقول: أحدث هذه الآلة الزنادقة، لم؟ ليكدروا على الناس ذلك النبع الصافي، ليصدوا الناس عن هدى الله سبحانه وتعالى، يصدون به الناس عن كتاب الله سبحانه وتعالى.
إخوتي الكرام! (المثناة) قرئت هنا وهناك، فصار حال المسلمين في الذل والوضاعة ما يندى له الجبين، عندما يعتدى علينا لا نلجأ إلى ربنا في هذا الحين، إنما نلجأ إلى هيئة الأمم الملحدة، هيئة الأمم المتحدة، هيئة الأمم ستنصفك أيها المسلم؟! هيئة الأمم ستعطيك حقك أيها المسلم؟! وما أسست تلك الهيئة إلا للقضاء على الإسلام! سبحان ربي الرحمن! ما عندنا إله نلجأ إليه، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [محمد:11]، لكننا لما انسلخنا عن الإيمان انسلخنا عن مولانا، وبدأنا نلجأ إلى الولايات المتحدة لتعطينا حقوقنا، ولنسلم لها الشكاية، وأن يدخلوا القرية بعد ذلك بتنفيذ قراراتها، هيئة الأمم الملحدة، متى كان يخطر ببال مسلم أن يزاحم كتابهم كتاب الله؟!
قد أفسدوا في الأرض باسم صلاحها إذ بدلوا أحكامه بنظام
إخوتي الكرام! احرصوا على هذا النبع، دوروا حول كتاب الله جل وعلا في نهاركم وفي يومكم وفي ليلكم، ونشئوا على هذا أبنائكم، فعسى الله جل وعلا أن يلطف بنا، وأن يفرج كروبنا كما لطف بمن سبقنا وكما فرج كروبهم، إنه على كل شيء قدير.
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ، من أقبل عليه واستقى منه، لا يضل في الدنيا، بل هو على هداية، وعلى استقامة، وعلى نور الله، ولا يشقى في الآخرة.
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ، فالجزاء من جنس العمل، ففي هذه الحياة ضلال، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ، بلاء وكرب وهموم وأحزان، والأمر لو اقتصر على خسارة الدنيا لكان يسيراً، لكن وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].
فعندما نقبل على كتاب الله جل وعلا ينبغي أن يكون غرضنا هو العمل بكلام الله جل وعلا، ولذلك وصف الله جل وعلا عباده بأنهم يعلمون، فمن علم ولم يعمل فليس بعالم، يقول الله جل وعلا: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، هذا هو وصف الذين يعلمون بالقرآن.
وقد نعت الله جل وعلا عباده العلماء بالخشية فقال جل وعلا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، ونعتهم أيضاً بالخشية والخوف والبكاء فقال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا [الإسراء:107]، هذا وصف العلماء، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:108-109].
وكان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم عندما يقبلون على ذلك النبع، ويجعلونه المصدر الوحيد لحياتهم يعملون به، ثبت في مسند الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال: حدثنا الذين أقرءونا القرآن كـعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين: أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوها حتى يعرفوا معانيها، ويعملوا بما فيها، فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعاً.
فلابد من العمل بكتاب الله جل وعلا، والله جل وعلا أخبر أن الإيمان لا يتحقق بدون العمل بهذا القرآن، فيقول الله جل وعلا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36]، وأخبرنا أن المنافقين يقولون ويدعون الإيمان لكنهم لا يعملون، وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:47-50].
وكنت فرحت ببعض الإخوة الطيبين في المدينة المنورة في الروضة المشرفة، يجمع بيني وبينهم تعارف، أخ من باريس في فرنسا واسمه داود، وكان نصرانياً كاثوليكياً، ثم هداه الله للإسلام فأسلم هو وأسلمت أسرته، ولعل من يسلم الآن من دول الكفر أشد تمسكاً بالإسلام من المسلمين الذين نشئوا على الإسلام، فسألت الرجل عن أحوال بيته وعن أهله لأرى مقدار تمسكهم، حتى وصل بنا الحديث إلى صنعة والده، ماذا يعمل والده؟ فقال: كان والدي عندما كان نصرانياً نحاتاً ينحت التماثيل ويصنعها ويبيعها، قلت: وبعد أن أسلم؟ قال: هذا لا يجوز، قلت: فماذا فعل؟ قال: أعرض عن تلك الصنعة الخبيثة، وما عنده من تصاوير وتماثيل بعد أن قال: لا إله إلا الله محمداً رسول الله، كسرها، وبدأ يبيع زهوراً اصطناعية من صور الأشجار وصور الأعناب والفاكهة، فقلت له: لعله يحصل أرباحاً إن شاء الله كما كان يحصل من بيعه الأصنام عندما كان نصرانياً؟ قال: نحن لا زلنا حديثي عهد بالإسلام، وحتماً عندما ترك والدي تلك الصنعة، والأمور تغيرت، فإن الأرباح قليلة، لكننا في ستر وعافية، ثم قال: والدنيا يسيرة زائلة!
لا إله إلا الله! نصراني في فرنسا، في أخبث بلاد الأرض في باريس، عندما يعلم أن المقصود من لا إله إلا الله محمد رسول الله أن لا نعبد إلا الله، وأن نحكم شريعته في جميع شئون حياتنا، لما كان التصوير حراماً ينبغي أن نبتعد عنه، وهو في باريس، ونحن نصرخ صباح مساء للمسلمين: ابتعدوا عن هذا الأمر، واحذروا الله، فهذا من الكبائر المهلكة، فلا يسمع هذا الأمر أحد، ولا يستجيب له أحد، ولعلك ترى في بيوت المصلين من الصور التي تملأ الجدران، وهو يصلي .. أنت ساقط من عين الله، وقد غضب عليك الله، وأنت أشد الناس عذاباً عند الله، تخدع الله وما تخدع إلا نفسك ولا تدري، فلابد من العمل إخوتي الكرام.
الحجاب -إخوتي الكرام- لم يكن مفروضاً في أول الأمر، والنساء يخرجن على الحالة التي كن عليها، وبمجرد نزول آية واحدة ما خرجت امرأة مسلمة بعدها سافرة، بآية واحدة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59]، فيما مضى وسلف.
تقول أمنا عائشة وأمنا أم سلمة كما ثبت هذا في سنن أبي داود ، وهما يتحدثان عن نساء المهاجرين والأنصار: لما نزلت هذه الآية عمد النساء إلى مروطهن، أي: إلى أثخن وأخشن وأغلظ ثيابهن، ما عندهن من ملابس سميكة ثخينة ثكنة غليظة، فاختمرن بها، وضعتها على رأسها وأنزلتها على وجهها، وخرجن كأن على رءوسهن الغربان، اختمرن بهذه المروط السوداء، فخرجن النساء وكأن كل واحدة على رأسها غراب أسود.
هذا حال الصحابة عباد الله! وهذا حال سلفنا، أقبلوا على كتاب الله ليعملوا به، فمن يقبل عليه لمجرد الثقافة، لمجرد الاطلاع، لمجرد الترف الفكري، لا ثم لا.
ولا غرو في هذا -إخوتي الكرام- فالنبي عليه الصلاة والسلام يخبرنا عن حقيقة المؤمن بالله سبحانه وتعالى، ثبت في كتاب الأربعين لـأبي نعيم ، وقد شرط أن لا يودع فيه إلا حديثاً صحيحاً، والحديث أورده ابن أبي عاصم في كتاب السنة، وأورده البغوي في شرح السنة، ونص الإمام النووي على تصحيحه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )، ولا غرابة! إن تقل للمؤمنين: غضوا أبصاركم سيغضون أبصارهم مباشرة، ولا غرابة في هذا؛ لأن المؤمن لا يتحقق إيمانه حتى يكون هواه، ورغبته، وعواطفه، وميوله، وأفكاره، وآراؤه تابعة لشرع النبي عليه الصلاة والسلام.
هذا الأمر الثاني -إخوتي الكرام- حرص عليه سلفنا وقاموا به، وفرطنا فيه، فترى في هذا الوقت من هو متخصص في علم الحديث، ويحمل أعلى الشهادات، من اصطلاح الناس في هذا العصر الهابط، لكنه يشتغل بلهو الحديث، سبحان ربي العظيم! يحمل حديث النبي عليه الصلاة والسلام ويجلس في ليلته الحمراء السوداء على سماع الغناء والبغاء وما حرمه رب الأرض والسماء، فكيف تشتغل بحديث النبي عليه الصلاة والسلام؟! لماذا؟
ترى مدرس الحديث في هذا الوقت الذي هو متخصص في السنة صاحب بدعة، وهو متخصص في السنة، ويأتي ليشرح للطلاب عند الصبح في الكلية: ( عشر من الفطرة: إعفاء اللحية )، وقد حلق لحيته، للأسف في تلك الليلة، أما تستحي أيها الإنسان؟ أما تخشى الرحمن؟ تقرر أن من الفطرة إعفاء اللحية، ومن أحب النبي عليه الصلاة والسلام فليستن بسنته، ثم تحلق لحيتك! صار هذا الدين متاجرة، صار هذا الدين ثرثرة، أم هو رسائل جاءتنا من الله لنفقهها في الليل ولنعمل بها في النهار؟! هذا حال الأمة الإسلامية إخوتي الكرام!
إذا علموا لا يعملون، وهم عندما يعلمون يخلطون مع ذلك المصدر ألف مصدر من المصادر الخبيثة، ومن المصادر التعيسة، خلطوا النبع بغيره، بعد أن علموا به لم يعملوا به، إذاً كيف سيحصل لنا سعادة في الدنيا وعز؟ بل كيف سيرضى الله عنا؟!
وكما قلت إخوتي الكرام! عفا الله عما سلف، وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4]، لنعاهد الله على السير على هذه الخطوات، واعكفوا على كتاب الله جل وعلا، ولنعمل بما فيه، ونعرض عما سواه.
فالسعادة أن تعمل، وأن تحافظ على ما عملت، وأما أن تعمل ثم يضيع منك، فهذا هو الشقاء الذي قال الله في حق أصحابه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، فهم بمقتضى بشريتهم وطبيعتهم الإنسانية قد يصدر منهم هفوات وزلات، فلابد من الاحتراس، ومن مداواة النفس ومراقبتها من الانتكاسة والوقوع فيما يغضب الله خشية هبوط العمل وبطلانه، فكانوا يحترسون من خصال الجاهلية غاية الاحتراس؛ فبذلك ذاقوا حلاوة الإيمان.
ولذلك كانوا يحذرون من عادات الجاهلية، ففي الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ).
امتن الله عليك بالخلاص من الجاهلية فاحذر الرجوع إليها؛ فلذلك نهانا النبي صلى الله عليه وسلم، وحذرنا غاية التحذير من التشبه بخصال أهل الجاهلية فقال: ( ومن تشبه بقوم فهو منهم )، كما ثبت هذا في سنن أبي داود بسند جيد نص على ذلك الإمام ابن تيمية ، والحديث ذكره الحافظ في الفتح وحسنه عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، والحديث رواه الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تشبه بقوم فهو منهم ).
فإذا قرأت كتاب الله وعملت بما فيه، فيجب أن يحصل بينك وبين الجاهلية والجاهليين مفارقة ومتاركة وعلامات فارقة، إذا نظر إلى وجهك يقال: هذا مؤمن، وإذا نظر إلى وجه الفاسق قال: هذا فاسق، وإذا نظر إلى وجه الجاهلي يقال: هذا جاهلي، لابد من علامات، وللمؤمن علامات، ( ومن تشبه بقوم فهو منهم ).
فالذي يحب النبي صلى الله عليه وسلم يتشبه به، والذي يحب من غضب الله عليهم يتشبه بهم، فالله سيحشر كل صنف مع شكله: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22]، أي: أصنافهم، يحشرون مع بعضهم، و( المرء مع من أحب )، كما تواتر هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم.
إذاً: احذر خصال الجاهلية وخصال الجاهليين، وميز نفسك عنهم يا عبد الله، فإنه من تشبه بقوم فهو منهم.
وورد في رواية البزار من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي ذر : ( يا
كانوا يحترسون من خصال الجاهلية إخوتي الكرام! ثبت في صحيح مسلم والحديث في مسند الإمام أحمد أيضاً عن عائذ بن عمرو رضي الله عنه، أن أبا سفيان بن حرب أتى على بلال وصهيب وسلمان ، وهم من المستضعفين المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين، وغيرهم، وكان مجيء أبي سفيان في صلح الحديبية عندما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليفاوضه، فلما مر بهؤلاء الثلاثة بـصهيب وبلال وسلمان ، قال هؤلاء الثلاثة: ما أخذت سيوف الله من رقبة عدو الله مأخذها؛ لأن أبا سفيان كان على شركه وعلى كفره إذ ذاك، فسمعهم أبو بكر فقال: أتقولون هذا لسيد قريش وشيخهم؟ ضعفاء مساكين أنتم، تقولون: ما أخذت سيوف الله من رقبة عدو الله مأخذها، يعني: كان ينبغي أن نحز رقبته في موقعة بدر، ولكن ما أمكننا الله منه، ثم جاء أبو بكر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وعرض عليه الأمر، جرى من سلمان وبلال وصهيب كذا وقلت لهم كذا، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( يا
هذا كان حال صحابة النبي عليه الصلاة والسلام إذا جرى من واحد منهم شيء من خصال الجاهلية، أو تلبس بها، ولننظر في حياتنا في هذه الأيام، لقد أعرضنا عن النبع الصافي، وزاحمه في أذهاننا ينابيع متعددة، أعرضنا عن العمل بما علمناه منه، أما الجاهلية فنغوص في جميع شئونها في جميع شئون حياتنا، مفاهيم الوطنية، مفاهيم التعالي بالأحساب والأنساب، واحتقار الناس، وهمزهم ولمزهم .. ونحو ذلك، هذا عماد حياتنا.
وقد بين لنا النبي عليه الصلاة والسلام أن من دعا إلى شيء من خصال الجاهلية فينبغي أن يرد عليه بكلام نحسم من نفسه ذلك الكلام العجيب، ففي مسند الإمام أحمد ، وصحيح ابن حبان وغيرهما، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا سمعتم أحداً يتعزى بعزاء الجاهلية )، يذكر هذه المفاهيم الرديئة، ( فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا )، قل له: اعضض متاع أبيك، باللفظ الصريح بلا كناية، امصص متاع أمك باللفظ الصريح بلا كناية؛ لأنه يريد منا أن نعود إلى الجاهلية بعد أن شرفنا الله بالإسلام.
(فبشر عباد)، أتى بالاسم الظاهر هنا ولم يقل: فبشرهم، إنما قال: فَبَشِّرْ عِبَادِ ، ليضيفهم إليه تشريفاً لمكانتهم ورفعة لقدرهم، وليكرر الله جل وعلا سبب استحقاقهم لهذا الأمر وهذا الوصف، فبشر عباد، هؤلاء عباد مقربون، هؤلاء عباد مكرمون، هم أولو الألباب، وهم المهتدون، وليخبرنا الله جل وعلا عن وصفهم أيضاً بأنهم عندما تتزاحم الفضائل يقتدون بأفضلها وأكملها: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18].
يستمعون القول ممن كان، ويأخذون بأحسنه وأفضله، إذا استمعوا إلى القرآن وغيره أخذوا القرآن وطرحوا ما عداه، إذا استمعوا أوامر القرآن وكان فيها تخيير بين أمرين: بين مباح ومستحب، بين مستحب وواجب، أخذوا بالواجب، وأخذوا بالمستحب وتركوا المباح، فإذا خيرهم الله بين العفو وبين الخصام يختارون العفو، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18].
إخوتي الكرام! فمن تحقق بهذه الصفات كان ولياً لله حقاً، وإذا كان الإنسان ولياً لله فسيتولى الله أمره، فلن يحزن في الدنيا ولن يخاف في الآخرة: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63].
وإذا تحقق الإنسان بهذا الوصف، سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً ولو كادته السماوات والأرض: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3].
فحقق يا عبد الله! ما أمرت به، وما كلفت به؛ ليحقق الله لك ما وعدك، ولن يخلف الله وعده سبحانه وتعالى.
وهذا الأمر -إخوتي الكرام- ينبغي أن نعيه تمام الوعي في هذه الأيام، وما أوتينا والله إلا من قبل تفريطنا، ولو حققنا الاستجابة لربنا فسيتغير حالنا، انظروا إلى حال نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه عندما عانى من قومه ما عانى، أذن الله له أن يخرج ببني إسرائيل، فخرج ومن معه من بني إسرائيل الذين آمنوا به، فتبعه فرعون وجنوده، وكان أمام موسى نبي الله على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه البحر، ووراءه فرعون وقومه: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، سيدركنا فرعون وقومه ويهلكوننا، ويقتلوننا شر قتلة، لكن موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه قام بما أمره الله به فلن يتخلى عنه، فقال لهم في ذلك الوقت الذي تتقطع فيه القلوب مقالة الرجل الواثق بنصر الله: كَلَّا [الشعراء:62]، يزجر ويردع عن هذا القول، فنحن ننفذ أمر الله ولن يتخلى عنا ربنا: إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، كيف سيهديك ويجعل لك فرجاً ومخرجاً؟! البحر أمامك والعدو وراءك، فأتى الله جل وعلا بالفاء التي تدل على الترتيب مع التعقيب بعد كلام موسى، فقال: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، فضرب البحر فجعل الله له في البحر اثني عشر طريقاً يبساً يمشي فيه، فلما دخل فرعون وقومه أطبق الله عليهم البحر وأهلكهم: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].
ذكر علماؤنا في ترجمة العلاء بن الحضرمي ، وقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم البحرين، فاستمر في الإمرة في عهد أبي بكر وعهد عمر ، وتوفي رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين للهجرة، والقصة واردة في كتب تراجم الصحابة في ترجمته، وقد ذكرها الإمام ابن تيمية في كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وذكرها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، وهي قصة ثابتة هادفة، كان العلاء بن الحضرمي مع المؤمنين يقاتلون في سبيل الله، فقربوا من البحر، فقال العلاء بن الحضرمي : يا عليم، يا حليم، يا عظيم، يا كريم، اللهم إنا نجاهد ونقاتل في سبيلك، ثم قال لمن معه: جيزوا معي، وبدءوا يسيرون على البحر، ما ابتلت حوافر دوابهم، كما أكرم الله نبيه موسى بهذا الأمر، فإذا حقق العباد ما طلبه الله منهم، واعترضهم مشكلة كما اعترضت نبي الله موسى، فسيجعل الله لهم فرجاً ومخرجاً.
أسأل الله جل وعلا أن يبصرنا بعواقب أمورنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل القرآن العظيم حجة لنا لا حجة علينا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وأستغفرك اللهم وأتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر