الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً، وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: معشر الإخوة المؤمنين! أشرف بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد؛ فهي بيوته وفيها نوره وهداه، وإليها يأوي الموحدون المهتدون في هذه الحياة، وقد نعت الله الرجال الذين يعمرون بيوته في الأرض بأربع صفات تدل على أنهم بلغوا رتبة الكمال: لا تلهيهم التجارات ولا البيوع عن الغاية التي خلقوا من أجلها، يسبحون الله ويصلون له ويعظمونه، يحسنون إلى العباد ويشفقون عليهم ويساعدونهم، يبذلون ما في وسعهم استعداداً للقاء ربهم، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37] .
إخوتي الكرام! وهذه الصفات الأربع التي نعت الله بها هؤلاء الرجال قد مضى الكلام على ثلاث منها فيما مضى، وشرعنا في مدارسة الصفة الرابعة لهؤلاء الرجال: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] ، وقلت: تحت هذه الصفة أمران ينبغي أن نتدارسهما.
الأمر الأول: خوف هؤلاء الرجال من ذي العزة والجلال.
الأمر الثاني: إثبات يوم المعاد، واستحضاره دائماً في أذهان هؤلاء العباد: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] .
أما الأمر الأول من هذين الأمرين: ألا وهو خوف هؤلاء الرجال من الكبير المتعال، فقلت: سأجمل الكلام عليه ضمن أربعة أمور نتدارس فيها: تعريف الخوف، ومنزلة الخوف، وثمرة الخوف، والأسباب التي تدعو المكلفين للخوف من رب العالمين. وقد تدارسنا ما يتعلق بالأمر الأول والثاني، وألخص ما تقدم باختصار فأقول:
الخوف هو: تألم القلب واحتراقه لتوقع مكروه في المستقبل.
ومنزلة الخوف في شريعة الله عز وجل منزلة عظيمة، كيف لا وهو أحد الأركان الثلاثة التي تقوم عليها عبادة الله جل وعلا -حبه ورجاؤه، والخوف منه-.
إخوتي الكرام! وهؤلاء الرجال بذلوا ما في وسعهم في طاعة ربهم، والإحسان إلى الخلق، وما ألهتهم الدنيا عن الواجب الذي خلقوا من أجله، ومع ذلك هم خائفون وجلون.
نعم هذا هو شكل المؤمن، ورحمة الله على العبد الصالح شقيق بن إبراهيم أبي علي البلخي عندما يقول: مثل المؤمن كمثل رجل زرع نخلة، وهو يخشى أن يخرج شوكا، ومثل المنافق كمثل رجل زرع شوكا وهو يطمع أن يثمر ثمراً، هيهات هيهات! زرع النخل، وأحسن عبادة الله عز وجل ومع ذلك يخاف يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] .
وأما ذاك فأساء العمل وما أطاع الله عز وجل، وأساء إلى العباد، ثم بعد ذلك يتمنى على الله الأماني!
إخوتي الكرام! إن الخوف من الله جل وعلا ضروري لعباد الله في هذه الحياة.
روى الإمام الحاكم في مستدركه بسند صحيح على شرط الشيخين أقره عليه الذهبي ، والأثر في الحلية أيضاً، وفي كتاب الزهد للإمام هناد بن السري ، وفي كتاب الزهد أيضاً للإمام وكيع رحمة الله عليهم جميعاً، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة وهو من التابعين الأبرار، أكرمه الله جل وعلا بالتبرك برؤية ثلاثين صحابياً من أصحاب نبينا المختار عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وتوفي هذا العبد الصالح سنة سبعة عشر ومائة للهجرة، وحديثه مخرج في الكتب الستة، وهو ثقة فقيه إمام عدل رضا، يقول هذا الذي أدرك ثلاثين من أصحاب نبينا الرسول عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه: جلسنا في الحجر إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين، فقال لنا هذا الصحابي الكريم عبد الله بن عمرو بن العاص : ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، والذي نفسي بيده لو تعلمون العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره، ولبكى حتى ينقطع صوته.
والجملة الأولى: رويت عن صديق هذه الأمة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في كتاب الزهد للإمام أحمد ، وفي كتاب الزهد لشيخ الإسلام عبد الله بن المبارك ، ورواها ابن أبي شيبة في المصنف عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا؛ أي: استدعوا البكاء وتكلفوه من خشية رب الأرض والسماء.
الملائكة تسجد أيضاً للحي القيوم، ثم قال في نعتهم جل وعلا: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50] ، وهم الكرام المطهرون الذين لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ومع ذلك يتصفون بالخوف والوجل من الله عز وجل!
كما قال الله جل وعلا أيضاً في سورة الأنبياء على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:26-28]، وجلون خائفون.
قال شيخ الإسلام الإمام زين الدين عبد الرحيم الأثري : وقد ورد هذا الوصف في حق جبريل وإسرافيل على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، روى الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك أيضاً رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن إسرافيل لم يضحك قط منذ أن خلق الله النار ).
وهذا الوصف أيضاً ثابت لجبريل، روى ذلك الإمام ابن أبي الدنيا أيضاً في كتاب الخائفين، وهؤلاء الملائكة الكرام على نبينا وعليهم الصلاة والسلام أفضل الملأ الأعلى، ومع ذلك يخافون هذا الخوف! وما ضحك واحد منهم قط، ولهم شأن عظيم.
وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يتوسل إلى الله جل وعلا بربوبيته لهؤلاء أن يحيي الله قلبه، وفي ذلك تعليم لنا أن ندعو بهذا الدعاء، والحديث ثابت في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربع، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي يفتتح صلاته فيقول: اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )، اللهم رب جبريل الموكل بحياة القلوب، وميكائيل الموكل بحياة الأبدان والحيوان، وإسرافيل الموكل بحياة العالم بأسره عندما ينفخ في الصور، يا من جعلت هذه القدرة لهؤلاء المخلوقات، أسألك أن تحيي قلبي فأنت على كل شيء قدير.
وتقدم معنا إخوتي الكرام في مباحث النبوة أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان يتوسل بربوبية الله لهؤلاء الملائكة العظام في أدعية كثيرة.
إذاً هذا الوصف -أعني صفة الخوف من الله عز وجل- هو وصف عباد الله المقربين في الدنيا في الأرض وفي السماء، هذا وصف المؤمنين من الإنس والجن، وهذا هو وصف ملائكة الله الكرام الطيبين.
أما ثمرة الخوف؛ فثماره كثيرة وفيرة سأجملها في ثمرتين اثنتين لعل الله ييسر الكلام عليهما في هذه الموعظة المباركة إن شاء الله.
الثمرة الأولى: ثمرة يحصلها الخائف من الله عز وجل في هذه الحياة.
والثمرة الثانية: يحصلها الخائف من الله عز وجل بعد الممات.
أما ثمرة الخوف في هذه الحياة؛ فالخائف من الله عز وجل الذي أفرد ربه بخوفه فلا يخاف سواه، له العز والتمكين في هذه الحياة، وله من الله النصر المبين، والله سيؤيده ويسدده في كل حين، فمن خاف الله كفاه الله ما عداه، وقد أشارت آيات القرآن إلى هذا ووضحته غاية الإيضاح، وبينه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم، فلنقف عند ذلك وقفةً لنعلم حقيقة الأمر، ولنعلم سبب ضياعنا في هذا الوقت.
فقوله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا [إبراهيم:13]. كما هي عادة الطغاة في جميع الأوقات طرد من البلاد أو قتل أو سجن وظلم وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
وقوله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ [إبراهيم:13]، والوحي إعلام في خفية وسرية، فالله طمأن رسله وقال: أنتم تخافوني فلا خوف عليكم لا في الدنيا ولا في الآخرة.
فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [إبراهيم:13-14]، هذا الجزاء وهذه الثمرة ينالها من خاف من الله عز وجل ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14].
ولفظ المقام هنا إما أنه مضاف إلى الفاعل ويصبح معنى الكلام: ذلك لمن خاف قيام الله عليه، ومراقبته له، وإحاطته به، فلا يخرج شيء في هذا الكون من عرشه إلى فرشه عن قبضة الله عز وجل، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ذلك لمن خاف قيام الله عليه، وعلم أنه وغيره من عباد الله لا يملك كل واحد من المهدد والمهدَّد لنفسه نفعاً ولا ضراً، ذلك لمن خاف قيام الله عليه بالمراقبة والإحاطة والاطلاع كما قال الله جل وعلا: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد:33] .
لا يوجد أحد في هذا العالم يحفظ المخلوقات ويراقبها، وهي في قبضته إلا الحي القيوم سبحانه وتعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد:33] انعتوهم بالصفات التي تقتضي أن يكونوا آلهةً مدبرين قيومين: قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد:33]، وهنا: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي [إبراهيم:14]، لمن خاف قيامي عليه بالمراقبة والإحاطة والاطلاع، إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الملك:12] يعلمون أن الله معهم أينما كانوا؛ فيخافون منه، فمن خاف الله لن يتخلى الله عنه ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14] أبشروا يا معشر الرسل، ويا أتباع الرسل أنه ليس للظالمين عليكم سبيل! لأهلكنهم ولأسكننكم الأرض من بعدهم، فلا راد لحكمي، ولا معقب لقضائي، لا أسئل عما أفعل وهم يسألون، لكن حققوا هذا الوصف فيكم لتنالوا تلك الثمرة: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14].
والمعنى الثاني: المصدر مضاف إلى المفعول، ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي [إبراهيم:14] أي: لمن خاف قيامه بين يدي، وعلم أنه عبد ذليل منكسر حقير، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فهو خاف قيامه بين يدي؛ لأنني سأجمعه ليوم تشخص فيه الأبصار، وتتقلب فيه القلوب، فمن خاف قيامه في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه، وأعد لذلك اليوم عدته لن يتسلط عليه متسلط مهما كان شأن ذلك الجبار، ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي [إبراهيم:14] لمن خاف قيامه بين يدي فاتقاني: وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14] .
وقد رجح الإمام ابن القيم عليه رحمة الله المعنى الثاني، وقال: إنه أليق بالآية! ولا داعي للترجيح فالآية تحتمل القولين وهما متلازمان، فمن علم أن الله حي قيوم قائم على جميع أمور العباد ومدبر لها، سيخاف قيامه بين يديه عندما يؤول إليه، وعليه فالأمران متلازمان، ولا يخاف الإنسان القيام بين يدي الله إلا بعد معرفته بأن الله قيوم مدبر لأمور عباده في الدنيا وفي الآخرة، فالمعنيان متلازمان ثابتان: لمن خاف قيام الله عليه وخاف قيامه بين يديه، وهذان المعنيان يقالان في نظير هذه الآية من ذلك قول الله في سورة الرحمن: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] ، خاف قيام الله عليه وقيامه بين يديه، ومن ذلك قول الله جل وعلا في سورة النازعات: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] ، خاف قيام الله عليه ومراقبته وإحاطته به، وخاف قيامه بين يديه في يوم لا ريب فيه.
وقد ذكر لنا الله نماذج لهؤلاء الرسل بعد أن أجملهم في هذه السورة فاسمعوا لهذا النموذج:
النموذج الأول في سورة الأنعام عندما يخبر الله عن خليله إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام، بعد أن حاج قومه في بطلان آلهتهم وعبادتهم الكواكب من دون ربهم، فقال في آخر المحاجة: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:78-83].
انتبهوا لدلالة الآيات إلى هذا الأمر إخوتي الكرام.
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ [الأنعام:81] في الدنيا وفي الآخرة، من خاف من الله ولم يخف من سواه، أو من خاف من سواه ولم يخف من مولاه، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]، وقبلها في الآية يقول: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام:80].
والاستثناء هنا كما قال أئمتنا الكرام في كتب التفسير: استثناء منقطع بمعنى لكن، ولا أخاف ما تشركون به، ولكن إذا شاء ربي أن ينزل بي مصيبةً في هذه الحياة فهو الذي يدبر أمور عباده وهو أعلم بهم، وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام:80]، إلا أن يشاء ربي، لكن إذا شاء ربي أن ينزل بي مصيبةً ليطهرني ويرفع من درجاتي، هذا هو مولاي وربي لا يسأل عما يفعل.
يروي الإمام أبو نعيم في كتاب الحلية عن إبراهيم بن الوليد أنه دخل على الشيخ الصالح إبراهيم المغربي وقد رفسته بغلة فكسرت رجله، فقال: ما هذا؟ قال: سبحان الله! لولا المصائب لقدمنا على الله مفاليس، فإذا قدر الله على خليله -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- وعلى موحد من الموحدين مصيبةً في هذه الحياة ليس هذا بسبب آلهتكم المزيفة التي تعبدونها من دون رب الأرض والسموات، وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام:80]، لكن إذا شاء ربي أن ينزل بي مصيبةً فهو الذي لا يسأل عما يفعل، وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:80-82] كانت النتيجة أن نجى الله خليله إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ونصره من كيد الكافرين الملعونين، ومثل هذا كثير إخوتي الكرام.
قال أئمتنا الكرام كما ذكر هذا الإمام ابن القيم في مدارج السالكين في الجزء الثالث صفحة خمس وستين وأربعمائة، وهكذا ذكر أئمتنا المفسرون عند تفسير هذه الآيات فقالوا: إن أخفى آيات الرسل آية نبي الله هود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، أي: أيد الرسل الكرام -على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه- بمعجزات واضحة ظاهرة خارقة للعادة كانفلاق البحر، وانشقاق القمر، وغير ذلك من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، أما هذا النبي المبارك فحجته وبرهانه من أخفى الحجج والبراهين، ومن تأمله فهو في أسطع وأقوى وأظهر الحجج والبراهين، ولخفاء حجته قال له قومه: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود:53] .
وتأمل في هذه البينة التي قامت على أمور أربعة في هذه القصة:
البينة الأولى: قال لهم هذا الفرد الوحيد الذي ليس في العالم موحد غيره، غير جزع، ولا فزع، ولا هياب، ولا خائف، قال لهم: اعلموا أنني أشهد الله جل وعلا وأشهدكم ثانية أنني بريء منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها، والتي تبذلون في عبادتها ونصرتها أموالكم وأرواحكم وأولادكم، ثم أعلمكم ثالثة أنني أتحداكم أهل الأرض جميعاً أن تبذلوا ما في وسعكم، وأن تكيدوني، وأن تنالوا مني ضراً إن قدرتم عليه، ثم بعد ذلك وضح دعوته فقال: ناصيتي ونواصيكم ونواصي العباد بأسرهم في قبضة الله جل وعلا، فأنتم أحقر وأذل من أن تصلوا إلي بمكروه، فربي على صراط مستقيم، وهو العدل، وسينصر من خافه، وسيخذل وينتقم ممن لجأ إلى غيره وخاف من سواه، ثم بعد ذلك لا يتمكن أحد من أن ينال منه ضراً وهو فرد وحيد، يخاطب أهل الأرض قاطبةً بهذا الكلام المحكم الصريح، فأي حجة أقوى من هذه الحجة، وأي برهان أسطع من هذا البرهان! يشهد الله ثم يشهدهم ثم يطلب منهم أن يجتمعوا عليه ثم يقول لهم مطمئناً لهم مبيناً لهم أنهم لن يصلوا إليه بضر ولا مكروه؛ لأن نواصيهم ولأن ناصيته أيضاً بيد الله، والله على صراط مستقيم، لا يمكن أن يؤيد الكافرين الملعونين، ولا يمكن أن ينصرهم على من خافوا من رب العالمين.
ومثل هذا كان يقوله جميع أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فهذا نبي الله نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يقول أيضاً لقومه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71] ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [يونس:71] ، لا يكن هذا الأمر سبباً لغمكم وهمكم، ولا يكن هذا الأمر غمةً عليكم خفيةً بينكم! لا، أنا أتحداكم على رءوس الأشهاد بأنكم لن تصلوا إلي بضر، فسيحفظني منكم رب العباد، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71].
وهكذا يقول الله جل وعلا في حق نبينا عليه الصلاة والسلام عندما بين أحوال المشركين نحوه في سورة الطور فقال لنبينا ورسولنا وحبيبنا عليه الصلاة والسلام: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور:42].
إخوتي الكرام! هذا المعنى الذي قررته آيات القرآن؛ تواترت في الدلالة عليه أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، فاستمعوا لإيضاح هذه القضية: إذا كان من خاف من الله لم يخف من سواه، والله سيكفيه من عداه، إذا كانت هذه القضية حقيقةً ثابتة فلهذه الأمة من هذا الجزاء القدر الأكبر؛ لكمال توحيدهم، وتمام خوفهم من ربهم، ولإتمام الله نعمته عليهم، إذا كان من خاف الله لا يخاف من سواه، ولا يتسلط عليه من عداه، وهذه قضية ثابتة في جميع الحياة في هذه الأمة وفي الأمم السابقات؛ فإن ثبوتها في هذه الأمة من باب أولى؛ لأن خوفهم من الله أتم، وتحقيقهم للتوحيد أكمل، ولأن الله أكرمهم بما لم يكرم به الأمم السابقة، فاستمعوا لتقرير هذا، ولنعلم بعد ذلك أننا عندما يعترينا الهلع والفزع فهو لعدم خوفنا من ربنا جل وعلا.
ثبت في المسند والصحيحين وسنن النسائي ، والحديث رواه الإمام الدارمي والبيهقي أيضاً، وهو في أعلى درجات الصحة -فهو في الصحيحين- حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي ) هذا من إكرام الله لهذه الأمة لتحقيقها لتوحيد ربها أكمل مما حصل في الأمم السابقة، ولإكرام الله لها بما لم يكرم به الأمم السابقة، ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصةً، وبعثت إلى الناس عامة ).
وتخصيص النبي عليه الصلاة والسلام هذه المسافة بالذكر لا للتحديد، فالنصر على العدو مطلقاً بالرعب حتى لو كان بينه وبينهم ألف شهر، إنما خص هذه المسافة لأنه لم يكن في ذلك الوقت بينه وبين أعدائه أكثر من هذه المسافة كما قرر أئمتنا في شروح سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وإلا حقيقة حاله وحال أمته النصر بالرعب مهما كانت المسافة بينهم وبين أعدائهم، وهل هذا خاص به عليه صلوات الله وسلامه -وفداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا- أو يسري لأمته، أورد أئمتنا القولين، وكلاهما محتمل مقبول، وأظهرهما الذي يتناسب مع مكانة نبينا عليه الصلاة والسلام، ورفعة قدر هذه الأمة عند ذي الجلال والإكرام؛ أن هذا ثابت له ولأمته عليه الصلاة والسلام إذا كانوا على مسلكه -كما سيأتينا بإذن ربنا الرحمن-.
فقوله: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )، وردت عن عدة من الصحابة الكرام، وهي ثابتة ثبوتاً متواتراً عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أقطع بذلك وأسأل عنه أمامه ذي الجلال والإكرام.
روى هذه الجملة ضمن أحاديث متعددة الإمام أحمد ومسلم في صحيحه والترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ورواها البيهقي من رواية علي رضي الله عنه، ورواها الإمام أحمد في المسند من رواية عبد الله بن عباس ، ورواها الإمام أحمد في المسند، والدارمي في السنن من رواية أبي ذر ، ورواها الإمام أحمد والبيهقي من رواية أبي أمامة الباهلي ، ورواها الإمام أحمد في المسند من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، وفي بعض روايات الحديث المتقدمة: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر يسير بين يدي ) أي: هذا الرعب يسير بين يدي، وفي آخر رواية من الروايات المتقدمة رواية عبد الله بن عمرو : ( نصرت على العدو بالرعب حتى ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر لامتلأ قلبه رعباً ).
إذاً: الثابت له ولأمته عليه صلوات الله وسلامه أن ينصر على العدو بالرعب مهما كانت المسافة، فلو قدر أن المسافة بينه وبين من سيذهب إليه بمقدار شهر أو أكثر لامتلأ قلبه رعباً.
نعم إخوتي الكرام! هذه الأمة عندما خافت من ربها الرحمن، وحققت التوحيد على التمام أعطاها الله الهيبة والمهابة في هذه الحياة، فإذا أعلن الجهاد الإسلامي من قبل الموحدين لله جل وعلا فزع وهلع أعداؤهم وهم في ديارهم، هذا شأن المسلمين، وهذا شأن الموحدين، فإذا خلطوا وكدروا فمن أنفسهم أتوا: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
فلنفتش عن أحوالنا إخوتي الكرام، واستمع لتقرير هذا من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم من فعل الصحابة الكرام؛ لنرى وضعنا في هذه الحياة كيف نتخبط في الظلام!
روى الإمام أحمد في المسند، والإمام الترمذي وأبو داود في السنن، والحديث رواه الإمام الدارمي في مسنده أيضاً، ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في الصحاح والمستدرك بالنسبة للحاكم ، ورواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وإسناد الحديث صحيح كالشمس، نعم رواه الإمام ابن ماجه أيضاً من رواية أنس بن مالك لكن في رواية ابن ماجه ضعف، ورواية عبد الله بن عباس كما قلت: صحيحة ثابتة كالشمس في رابعة النهار، ولفظ الحديث عن نبينا المختار عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة ).
قوله: (خير الصحابة أربعة)، الصاحب يجمع على صحابة، ولا نظير لهذا في اللغة -كما قال أئمتنا-: فاعل يجمع على فعاله هذا خاص بصاحب وصحابة، فإذا كانوا في سفر فما ينبغي أن يقلوا عن هذا المقدار، ووجه ذلك: أن المسافرين بحاجة إلى حفظ متاعهم، وبحاجة إلى قضاء حوائجهم، فإذا كانوا ثلاثةً فجلس اثنان عند المتاع وذهب واحد لقضاء الحاجة يستوحش، وإذا ذهب اثنان وبقي واحد عند المتاع يستوحش، فإذا كانوا أربعةً يبقى اثنان ويذهب اثنان ويستأنس كل واحد منهما بصحابه والله يؤنس الجميع، ولفظ الأربعة كما قال أئمتنا: فيه تفاؤل بمعنى القوة والدعامة والإحكام كالأعمدة الأربعة التي يقوم عليها البنيان والسقوف، فهؤلاء الأربعة خير الصحابة، وكلما كثر الجمع فهو أحب إلى الله عز وجل.
قوله: (وخير السرايا)، وهي القطعة من الجيش التي تصطفى منه؛ من الشيء السري النفيس القوي مثل جيش تختار منه قطعة من أجل أن تقوم بأعمال حربية خاصة ومناوشات وقتال، والجيش العرمرم جالس مكانه، فإذا صارت الحرب الكبرى تحرك.
إذاً: (خير السرايا أربعمائة)، وهي ضعف الأربعة -كما قال أئمتنا- مائة أربعة أربعمائة أيضاً العدد مضاعف.
قال: (وخير الجيوش أربعة آلاف)، ضاعف الأربعة بألف، وإذا كان الجيش اثني عشر ألف مقاتل لن يغلب من قلة، ووجه ذلك: أن الأربعة آلاف الأولى جيش كامل خير الجيوش، والأربعة الآلاف الثانية خير الجيوش، والأربعة الآلاف الثالثة خير الجيوش.
إذاً: عندهم ثلاثة جيوش هي خير الجيوش، والقتال يكون في ميمنة وميسرة وقلب، فعندهم خير الجيوش للميمنة، وخير الجيوش للميسرة، وخير الجيوش للقلب، فهم اثنا عشر ألفاً، لن يغلبوا من قلة، فمعهم ثلاث خيريات في ثلاثة جيوش كاملات، كيف سيغلبون؟! وإذا غلبوا فليفتشوا عن أنفسهم وليعلموا أنهم لا يخافون ربهم.
روى الإمام أحمد في المسند بسند رجاله رجال الصحيح كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع، والحديث رواه ابن حبان أيضاً، عن عياض الأشعري رحمه الله ورضي عنه قال: ( كنت مع المسلمين في موقعة اليرموك ) وموقعة اليرموك جرت في عهد الخليفة العابد الراشد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ووقعت في العام الخامس عشر للهجرة في بلاد الشام، في واد من قرية حواران جنوبي الشام، وكانت هذه الموقعة بين المسلمين الكرام وبين النصارى اللئام، وكان عدد المسلمين يزيد على العشرين ألفاً قليلاً، وعدد النصارى مائة ألف وعشرون ألفاً، وهؤلاء المسلمون خرجوا من جزيرة العرب إلى ذلك المكان وأولئك في أمكنتهم.
يقول عياض الأشعري : كنت مع المسلمين في موقعة اليرموك والأمراء يومئذ خمسة: أبو عبيدة عامر بن الجراح ، ويزيد بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة ، وخالد بن الوليد ، وعياض بن غنم الفهري ، وقد توفي هذا العبد الصالح عياض بن غنم الفهري في خلافة عمر سنة عشرين للهجرة، وبعد وفاة أبي عبيدة بالطاعون رضوان الله عليهم أجمعين ولاه على بلاد الشام، وقال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب : ما كنت لأبدل أميراً ولاه أبو عبيدة وهو غير عياض بن زهير الفهري ، وكل منهما يكنى بأبي سعد، وكل منهما فهري، وكل منهما عياض، لكن هذا ابن غنم وذاك ابن زهير ، وعياض بن زهير بدري كبير القدر، وهو عم عياض بن غنم الفهري ، لكنه توفي سنة ثلاثين في خلافة عثمان رضوان الله عليهم أجمعين، وعياض بن غنم الفهري توفي سنة عشرين في خلافة عمر رضوان الله عليهم أجمعين.
هؤلاء الأمراء الخمسة قال عمر رضي الله عنهم لهم: إذا كان قتال فأميركم أبو عبيدة . فلما وقعت المعركة يقول عياض الأشعري : جاش القتل إلينا، أي: كثر وأتانا من كل جهة، فكتبنا إلى عمر رضي الله عنهم أجمعين نطلب منه العون والمدد فأجابنا، فقال: إنه قد جاء من كتابكم تطلبون فيه المدد والعون، وإني أدلكم على من هو أعز نصراً وأحضر جنداً -جنوده حاضرة، لا تغيب في أي مكان، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] ، والنصر يطلب منه لا من سواه، وإني أدلكم على من هو أعز نصراً، وأحضر جنداً- الله عز وجل، فاستنصروه ينصركم، فإن الله قد نصر نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام في موقعة بدر في أقل من عددكم، فإذا وصلكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تكتبوا إلي، لن أرسل إليكم فرداً واحداً مدداً، أنتم تزيدون على اثني عشر ألفاً، والله قد نصر نبيه عليه الصلاة والسلام في أقل من هذا العدد، فالجئوا إلى الله؛ فجنوده حاضرة، والنصر منه سبحانه وتعالى.
قال عياض الأشعري رضوان الله عليهم أجمعين: فلما وصل الكتاب قاتلناهم واستعنا بالله، فغلبناهم وقتلناهم، فلما انتهت الموقعة قال أبو عبيدة رضوان الله عليهم أجمعين: من يراهنني؟ ويقصد من يسابقني، وكأنه يستعد للقتال مرةً أخرى، فقال له شاب من التابعين: أنا أراهنك أيها الأمير بشرط ألا تغضب! فتراهنا في المسابقة على الخيول، يقول عياض الأشعري : فلقد رأيت عقيصتي أبي عبيدة تنقذان خلفه وهو على فرس عربي خلف الفتى وقد سبق الفتى رضوان الله عليهم أجمعين، والعقيصتين مفرد عقيصة وهي الضفيرة، وكانت هذه عادة المسلمين يضفرون شعرهم عندما يطول، والأصل فيهم أنهم يطيلون الشعور رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا طال جعلوه في ضفائر، فكان أبو عبيدة يجعل لشعره ضفيرتين، فيرد فروع الشعر إلى أصوله من أجل أن ينكمش عند رأسه وأن يثبت، يقول: وقد رأيت عقيصتيه أي: ضفيرتيه تنقذانه تضطربان وتتحركان حوله وهو على فرس عربي، وقد سبقه الفتى.
فتأمل أخي الكريم في هذا الإرشاد من الخليفة الراشد الثاني: تطلبون العون والمدد، وإني أدلكم على ما هو خير من ذلك، أدلكم على الاستنصار بمن هو أعز نصراً وأحضر جنداً وهو الله عز وجل، فإذا جاءكم الكتاب فقاتلوهم ولا تكاتبوني، وقد فتحت بلاد الشام، وتهاوت عروش الرومان، وفي تلك السنة أيضاً فتحت بلاد الفرس في موقعة القادسية في العام الخامس عشر للهجرة.
إخوتي الكرام! وهم قلة رضوان الله عليهم أجمعين، لكن الله معهم، وهذا لا بد من تحقيقه والتحقق به لننال هذه الثمرة: عز وتمكين، ونصر مبين، وتأييد من رب العالمين.
هذه رسالة الأمير إلى قائده، الشدائد التي تأتي ستزول إذا كنا عبيداً الله حقاً، ولن يغلب عسر يسرين، يا أيها الذين آمنوا اصبروا على الطاعات، وعن المعاصي، وعلى المقدورات، وصابروا أعداءكم عند اللقاء وفي الحروب، ورابطوا على الحدود والثغور، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] .
وقوله: (لن يغلب عسر يسرين)، هذا الكلام ثابت عن عمر رضي الله عنه في الموطأ لكن كما قال أئمتنا: بسند منقطع؛ فـزيد بن أسلم لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين.
وقال الحاكم في المستدرك: ثبت هذا الأثر عن عمر وعن علي رضوان الله عليهم أجمعين، نعم ثبت هذا الأثر عن غيرهما من الصحابة أيضاً، رواه عبد بن حميد في تفسيره بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود ، ورواه الإمام الفراء في تفسيره بسند ضعيف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، بل روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام متصلاً مرفوعاً في تفسير ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وروي مرسلاً عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق الحسن البصري في تفسير الطبري ، ورواه أيضاً الإمام عبد الرزاق في مصنفه، وروي أيضاً مرسلاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام من طريق قتادة في تفسير الطبري وعبد بن حميد رضي الله عنهم أجمعين.
وخلاصة الكلام: أنه روي متصلاً مرفوعاً من طريق جابر بن عبد الله بسند فيه ضعف، وثبت عن عبد الله بن مسعود بسند صحيح، وروي في الموطأ عن مالك ، وروي عن علي وعن ابن عباس ، وثبت من طريقين مرسلين صحيحين، وعليه فالأثر ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، لما نزلت سورة الانشراح وفيها: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6] خرج النبي عليه الصلاة والسلام ووجهه يتهلل وقال: ( لن يغلب عسر يسرين )، ووجه ذلك أن العسر معرف، وإذا كرر الثاني هو الأول، وأما اليسر فهو منكر، وإذا كرر فالثاني غير الأول، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6] ، وإن مع العسر الأول يسراً آخر.
وقوله: (لن يغلب عسر يسرين)، هذا المعنى هو أحد احتمالين لهذه الجملة الكريمة المباركة، وقد نقل الإمام البخاري عليه وعلى جميع المسلمين رحمات رب العالمين في صحيحه عند تفسير هذه الآية عن أبي محمد سفيان بن عيينة رضوان الله عليهم أجمعين، قال: لن يغلب عسر يسرين، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6] ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6] ، قال: يسر آخر ولن يغلب عسر يسرين. فإذاً العسر واحد، ومعه يسران، قال الإمام البخاري : وهذا كقوله تعالى: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52] قال الحافظ ابن حجر رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين: كما جعل الله للمسلمين الحسنيين جعل لهم في عسرهم يسرين إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6] ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6] ، ثم قال: ويحتمل أن البخاري عليه رحمة الله يريد من هذا القول أن المؤمن إذا أصيب بعسر لن يخلو حاله من أحد أمرين: إما من الأجر، وإما من الفرج والظفر والنصر. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6] ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6] .
إخوتي الكرام! والأمر يحتاج إلى شيء من الزيادة والبسط في هذه القضية، وأما ما يتعلق بثمرة الخوف التي يجنيها الإنسان بعد موته في آخرته أتكلم عليها مع تعليق على الأمر الأول في أول الموعظة الآتية إن شاء الله.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، أقول هذا القول وأستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، اللهم أصلح أحوالنا، واجعل الجنة دارنا، اللهم لا تجعل إلى النار مصيرنا يا أرحم الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن لمن أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، ولمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر