إخوتي الكرام! رابطة الإسلام هي الرابطة الحقة، وهي الجنسية العظيمة التي توحد بين البشر قاطبة، ولا يوجد رابطة على وجه الأرض توحد بين البشرية كما هو الحال في الرابطة الإسلامية، هناك روابط هزيلة رديئة جاهلية، كما ذكرت في الموعظة الماضية، وأكمل الكلام على ذلك في هذه الموعظة عليها وعلى ما بعدها من الروابط الخبيثة المنتنة.
هذه الرابطة -إخوتي الكرام- رابطة رديئة ليس في وسعها أن توحد بين القلوب، لا سلطان لها على القلوب على الإطلاق، بل أيضاً ليس في وسعها أن تحقق العدل على سبيل التمام والكمال، فالعدل غير مضمون فيها، مهما وُجد فيها من نزاهة ومساواة، فالبرلمان الذي ينوب عن الأمة، ويسن القوانين، فيه ميمنة وميسرة، وقلة وكثرة، على حسب ما يحصل في المجالس، فهل الذين لهم اتجاه معين وكثرة في البرلمان يسنون ما يسنون من قوانين لصالحهم أو لصالح غيرهم؟! حتماً لصالحهم، أول ما ينظرون إلى مصالحهم، مصالح جماعتهم، ثم بعد ذلك فتات موائدهم يرسلونه إلى الرعية، وهذا في كافة الأنظمة الوطنية؛ لأن هناك مصارعات على الحياة في هذه الأوقات، والذين هم في البرلمان اتجاهات شتى، فالذين هم من هذا الاتجاه يحاولون أن يشرعوا من القوانين ما ينفع إخوانهم، وأولئك كذلك، وأولئك كذلك، فهذه الرابطة مهما كان فيها من نزاهة، فلا يزال فيها تحيز، والعدل فيها غير مضمون، والتأليف بين القلوب لا يمكن أن يحصل فيها بحال من الأحوال، ومع هاتين المفسدتين فهذه الرابطة رابطة ملعونة؛ لأنها هي التي فرقت بين عباد الله، فهي تجعل الارتباط بين أناس معينين ولا علاقة لهم بالآخرين.
إذاً: الرابطة الوطنية هي أعظم عدو للإنسانية؛ لأنها تفرق بين جنس الإنسان وبين عباد الرحمن، فالذين هم في مكان ما بينهم رباط، ولهم حقوق متساوية، ومن عداهم حتى ولو كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه لا اعتبار له ولا وزن ولا شأن، هذه الحقوق لا يأخذها -على تعبيرهم- إلا من حمل التابعية والجنسية الوطنية، لمَ يا عباد الله؟ هذه بلاد الله، وهؤلاء عباد الله، وكل واحد يأخذ مكانه في كل مكان حسب كفاءته، لكن هذا لا يوجد في الأنظمة الوطنية، فمهما بُذل فيها من إنصاف لا تؤلف بين القلوب، ولا يزال الظلم فيها ظاهراً، هذا مهما بذل فيها من إنصاف، ثم بعد ذلك هي في نهاية الأمر تفرق بين عباد الله، وتجعل بعضهم لبعض عدواً، وهذا هو ما تعيشه البشرية في هذه الأيام.
إخوتي الكرام! عندما كانت الجنسية الإسلامية هي الجنسية الحقيقية كان المسلم يجوب الدنيا بلا جواز وبلا تابعية وبلا بطاقة وبلا صورة وبلا إقامة، يمشي أينما يريد، جوازه (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ولو أراد الإنسان في هذه الأيام أن يذهب إلى أي مكان فلا يستطيع على الإطلاق إلا بإجراءات، وليس له بعد ذلك اعتبارات كمن يسكنون في تلك الجهات، فنفوض أمرنا إلى رب الأرض والسموات، وبعد ذلك نسمع من يتشدق قائلاً: دول شقيقة ودول صديقة، هذا كله من باب المتاجرة والمصالح فقط، فإنه لا تعد الآن العدد إلا للكيد للدول التي يقال لها: شقيقة قبل الصديقة، وكل دولة تحترس من التي يقال عنها: شقيقة قبل الصديقة! هذا للمتاجرة بالكلام، لكن واقع الأمر أن هذه الجنسيات والوطنيات فرقت بين عباد الله جل وعلا، بعد أن كانت الجنسية الإسلامية (لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام)، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، هذه الأخوة الآن ما بقيت عندنا إلا للكلام الفارغ: شقيقة وصديقة، وبعد ذلك تطرد شقيقك، سبحان ربي العظيم! شقيقك وتطارده! هذا أمر عجيب حقيقة إخوتي الكرام! وهذا ما نعيشه في هذه الأيام.
لا يا عباد الله! هذا ضلال، كما أن الرابطة الوطنية خبيثة فالرابطة القومية كذلك أيضاً عدوة الإنسانية، وتفرق بين البشرية، وقد انتشرت هذه وتلك، والجاهليون يدعون إلى هذه وإلى هذه، وما قُضي على الدولة الإسلامية إلا بإثارة هذه الروابط الجاهلية، وقد وصل الأمر في البلاد العربية إلى أن يكتب حتى في المدارس:
لو مثلوا لي موطني وثناً لعبدت ذلك الوثنا
لو أنه وثن لعبدوه! ويقوم بعد ذلك الزنادقة الذين يحسبون أحياناً على أنهم من الدعاة، يقومون ويفترون على نبينا خير البريات عليه الصلاة والسلام لتقرير مفاهيمهم الوطنية، ويقولون: (حب الوطن من الإيمان!)، هذا من كلام الشيطان وليس من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، والمؤمن -إخوتي الكرام- يضحي بوطنه ويضحي بماله، بل يضحي بدمه في سبيل دينه، وأما أن نجعل بعد ذلك كل شيء من أجل الوطن، ويعشق الوطن، ويموت في سبيل الوطن، ومن هذه العبارات، والدين بعد ذلك لا وزن له ولا اعتبار فهذا لا يجوز، وواقع الأمر كذلك، فدين الله يمتهن في أرجاء الأرض ولا ناصر له، وإذا اعتُدي على الوطن على شبر منه تقوم قيامة الناس، سبحان ربي العظيم! يعتدى على حفنة تراب فتقاتلون، وأنتم تهينون بعد ذلك دين الحي القيوم! كيف يصير هذا؟! وكما قلت مراراً: نحن ندافع عن ديننا وليس معنى ذلك أننا نعطي بلادنا لغيرنا.
افهموا القضية إخوتي الكرام! نحن ندافع عن بلادنا وعن أرضنا، وهي بلاد الإسلام؛ لأنها هي مركز نور الرحمن، هذا لا بد منه، ليس معنى هذا أننا نتنازل عن بلادنا، لكن شتان بين أن نجعل الرابطة الوطنية هي محور الربط بيننا، وبين أن نجعل الجنسية الإسلامية هي محور الربط بيننا، فنحن لا نحب مكاناً ما إلا لوجود الإسلام فيه فقط، وما عدا هذا فلا قيمة لأي مكان عندنا، وأما إذا امتهن دين الله فلا نسأل، فإذا اعتدي على الوطن نثور! يا إخوتي! هذا هو الضلال، هذا هو الثبور، فالأصل أننا نحن ندافع عن الوطن من أجل أنه مكان لانتشار دين الإسلام، أما أن نمتهن الإسلام ثم ندافع عن حفنة تراب، فهذا ضلال في ضلال.
أخبرني مرة بعض الناس -انظروا للهمة الدنيئة عند بعض الناس، وظاهرهم من أهل الخير- أنه كان يوجد رجل كل من يراه في طريقه يحمله في سيارته، ويوصله إلى بيته أو إلى مكان عمله، فقال له بعض الناس: أنت أحياناً تتأخر عن عملك، وما أوجب الله عليك، ويوجد سيارات أجرة، يعني: أراك تهتم كثيراً بما يطلب منك الناس، لا مانع أحياناً إذا كنت في مكان وعرفت إنساناً، أو رأيت عليه سيماء الخير، أو كنت في مكان لا يتوقع وجود مواصلات فيه، فحملته، أما كل ما ترى أحداً تحمله، يعني هل أنت سيارة أجرة؟ فقال له: أنت تظن أنني أحملهم لله، قال: إذن لِمَ تحملهم؟ قال: يا عبد الله! الحياة فيها عسر ويسر، فأحملهم لأنه قد يأتي يوم من الأيام أحتاج إلى عمل في دائرة ونحوها، وهذا الذي حملته يعمل في ذلك المكان فيقضي حاجتي!
إذاً: هو يحمل ويتعب لاحتمال أنه في المستقبل تطرأ له حاجة عند من حمله، ويقدره ويقضي حاجته، إلى هذا الحد وصلت المصلحة عندنا! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يا عبد الله! ما عندنا كنهوت كما عند النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، عندنا دين ينظم حياتنا في جميع شئوننا، ويربط بيننا في جميع أحوالنا، وأما إذا دخلنا المسجد تعارفنا، وإذا خرجنا تخاصمنا، فلا ثم لا، هذه أيضاً رابطة كهنوتية، تجعل الدين ما له أثر إلا في ذلك المكان، شعور ديني يتعاطفون فيما بينهم، أما بعد ذلك فلا أثر لهذه الرابطة في الحياة، فليس لها نظام يربط بين عباد الرحمن، وهذا بخلاف الإسلام الذي وحد المشاعر والأفكار، وحد العقائد والأعمال، فجعل الناس صورة واحدة، وإن تعددت الذوات، واختلفت الأشكال.
هذا -إخوتي الكرام- لا بد من وعيه، فهناك توحيد، ولذلك عندما تنظر إلى هذا المسلم كأنك نظرت إلى ذاك المسلم؛ عمل، فكر، شعور، اعتقاد، هذا شيء واحد، ولذلك حصل بينهم تآلف وتحاب لتوحد أفكارهم ومشاعرهم.
إما أن تكون ربانية، وهي الرابطة الإسلامية، والجنسية الإسلامية، وإما أن تكون بشرية، وهذا موجود، فالرابطة الشيوعية رابطة فكرية، وهي أخطر الروابط والجنسيات على شريعة رب الأرض والسماوات، لكنها مع ذلك هزيلة خبيثة؛ لأنها من صنع بشر، فلا تربط بين قلوبهم رباطاً حقيقياً بحيث يؤثر الإنسان الشيوعي على نفسه، لا يمكن هذا؛ لأن منتهى آمالهم هي هذه الحياة، وأما نحن فلا ثم لا، نحن هذه الحياة ما تسوى عندنا جناح بعوضة ولا قشرة بصلة، ولذلك أقل ما يجب للمؤمن علينا أن نحب له ما نحب لأنفسنا، هذا أقل ما يجب، وإذا اكتمل الإيمان نؤثره على أنفسنا، ولو كنا محتاجين إلى ما نؤثره به علينا، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، أولئك ليس عندهم هذا، نعم، الأفكار تتوحد عند الشيوعية، فكرهم واحد، والأعمال تتوحد؛ لأنه عندهم نظام ينظم الحياة، ثم هي رابطة عامة، الرابطة الشيوعية كالرابطة الإسلامية، ليس لها عرق معين، ولا وطن محدد، ولا صنف معين، إنما هي رابطة مبدأ، وقد أذن الله بزوالها وهو على شيء قدير.
وهي كما قلت: أخبث الروابط الموجودة، والتي يمكن أن يصبح لها انتشار، وينتمي إليها من ينتمي من الأشرار، ويوجد سبب للربط بين من ينتمي إليها، وهو أن الفكر واحد، والعمل واحد، والمصير واحد في النظر إلى هذا الكون والإنسان والحياة، هذا له عند الشيوعيين فكر واحد، فيصبح بينهم قوة عندما ينتمون إلى هذا المبدأ. ثم هي ليس لها صنف معين، ولا جنس معين، ولا لون معين، عامة لمن ينتمي إليها، وقد أذِن الله بزوالها، وهي أخطر المبادئ على الإسلام، وزوالها إيذان بزوال ما هو أقل ضرراً منها، وهو النظام الرأسمالي النظام الغربي، وإذا زالت تلك من غير حيلة منا، إنما أزالها رب العالمين، وهي تتهاوى الآن، وجمهورياتها الواحدة تلو الأخرى تخرج، وبعضها يعود إلى حظيرة ودائرة ونور الإسلام، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32]، فمن عداها نسأل الله أن يزيلها، وأيضاً من غير جهد منا ولا حيلة، فنحن في زمن فيه قحط الرجال، وفي زمن انتشرت فيه العمالة بمختلف الأشكال.
وحقيقة لا قِبل لنا بها، إنما الله جل وعلا لا يعجزه أمر، فنسأله جل وعلا أن يهلكهم بالأعاصير الكبار، وبالأمطار، وأن يحرقهم بالنار، وهو على كل شيء قدير، نيران تشب في بلادهم، أمطار تغرقهم، أعاصير تدمرهم وهو على شيء قدير، أما نحن فحالنا كما ترون، قحط الرجال، وعمالة بمختلف الأشكال، ونشكو أمرنا إلى ذي العزة والجلال.
إخوتي الكرام! هذه هي المبادئ، رابطة فكرية لها نظام في الحياة، إما أن تكون بشرية أو ربانية، وشتان شتان بين الرابطتين، فهناك وإن ربطت بين بعض البشر، لكن في الحقيقة أُلِّه صنف من البشر وعُبدوا من دون الله عز وجل، وهنا تساوينا وصرنا عباداً لله إخوة متحابين في دين الله، وما عدا هذا من الروابط فكلها سخيف وهزيل، سواء كانت وطنية أو عرقية قومية أو مصلحية أو رابطة كهنوتية.
ويُروى عن سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، والأثر في مصنف ابن أبي شيبة، أنه قال: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه وأمصوه)، يعني: قل له: اعضض متاع أبيك، ومص بظر أمك، وأرحنا منك ومن هذه الدعوى الخبيثة التي تنشرها بين الناس، من آثار الوطنية والقومية والروابط الجاهلية، ينبغي أن يردع بهذا الرادع لأجل أن يقف عند حده، فقد منَّ الله علينا بجنسية إسلامية وجعلنا إخواناً متحابين، ثم يأتي بعد ذلك هؤلاء ويقولون: هذا وطني، وهذا قومي، وهذا عربي، دعونا من هذا إخوتي الكرام! لقد أكرمنا الله بهذه الجنسية العظيمة وهي الإسلام، ولن يقبل سواها، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].
وفي رواية: قال: (فإذا عليه حلة عليه منها ثوب وعلى غلامه منها ثوب). حلة من ثوبين، هو لبس ثوباً، وغلامه لبس ثوباً منها، وفي رواية: (فإذا عليه حلة وعلى غلامه حلة). كيف سيكون هذا؟ إذا كان على غلامه حلة إذن هو ثوب من قطعتين، وعليه حلة ثوب من قطعتين، وهناك برد وبرد، وهنا عليه منها ثوب وعليه منها ثوب، هذه الروايات الثلاث جمع بينها الحافظ رضي الله عنه في الفتح في الجزء الأول صفحة خمس وثمانين بما يزيل الإشكال، فقال: كل منهما كان يلبس حلة، الغلام كان يلبس حلة، وسيدنا أبو ذر كان يلبس حلة، لكن هاتان الحلتان فيهما حلة جديدة جميلة نفيسة، وفيهما حلة قديمة بالية، فسيدنا أبو ذر أخذ ثوباً من الحلة الجديدة فلبسه، وثوباً من الحلة القديمة البالية فلبسه، وأعطى غلامه ثوباً من الحلة الجديدة، وثوباً من الحلة القديمة البالية، وعليه فكل منهما عليه حلة.
فقالوا لـأبي ذر: أنت أمرك عجب، الثوب الذي من حلتك يلبسه هذا، والثوب الذي من حلة هذا تلبسه أنت، خذ الثوب الجديد ليصبح عندك ثوبان بلون واحد حلة كاملة وذاك عليه حلة، لكن أنت حلتك جديدة، وذاك حلته قديمة، لمَ لا تفعل هذا؟ أنت سيد، وأنت صحابي، وهذا غلام.. خادم.. عبد.. رقيق. فاستمع لهذا الدرس الذي سمعه من نبينا عليه الصلاة والسلام، فدعاه إلى ما دعاه إليه، قال رضي الله عنه: (ساببت رجلاً فعيرته بأمه)، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: رُوي أنه سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنهم وأرضاهم، بلال الحبشي رضي الله عنه وأرضاه، وقوله: (ساببت رجلاً)، من السب وهو القطع، فكأن الإنسان عندما يسب المسبوب يريد أن يقطعه، وأن يسكته، وأن يخرسه، قال الحافظ ابن حجر: وقيل: سببته من السبة، وهي حلقة الدبر، قال: سمي الفاحش من القول بالفاحش من البدن. يعني أن السب يقال له: سباً من السبة، وهي الفاحش من البدن حلقة الدبر، والإنسان يستحي من إبدائها وذكرها، فالسب يقال له: سباً من السبة؛ لأنه فاحش من القول، كالفاحش من البدن، فالسابُّ يقال له: ساب لأنه يريد إظهار عورة المسبوب، وهناك يريد أن يقطعه، وواقع الأمر من سب غيره يريد أن يسكته وأن يخرسه، ويريد أن يكشف عورته، وأن يفضحه، وأن يهتك ستره.
وهذا السب -إخوتي الكرام- جرى بينهما، ولذلك ورد في صحيح مسلم لما قال نبينا عليه الصلاة والسلام لسيدنا أبي ذر: (ساببته يا
قال: (ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا
ومعنى الحديث -إخوتي الكرام-: أن خدمكم -وهم الخَوَل- إخوان لكم، وإن كانوا أرقاء ومماليك، فهم إخوان لكم في دين الله مالك المالك سبحانه وتعالى، (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم).
لقد دخلنا الآن في الأعراق والقوميات المنتنة، التي هي أشد من قول أبي ذر : يا ابن السوداء! فأدبه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (إنك امرؤ فيك جاهلية).
هذه النعمة حقيقة من لم يعطها قدرها، ومن لم يعرف شرفها ومنزلتها، وخرج وتجرأ عليها، فينبغي أن يزجر من قِبل أفراد الأمة بما يفطم نفسه عن الرجوع إلى إثارة تلك النعرات الخبيثة المنتنة، ولذلك كان سيدنا أبو ذر بعد ذلك لئلا يتميز على غلامه، وعلى عبده، وعلى رقيقه، يسوي بينه وبين عبده في كل شيء، حتى في اللباس؛ لئلا يتميز على أحد، ما دام الأمر فيه خطورة، فأنت كبير السن، وأصدق هذه الأمة لهجة، وأنت وأنت، لكن في هذا الأمر زل قدمك.
وقد بوَّب البخاري على هذا حديث في كتاب الإيمان باباً فقال: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا الشرك، وضبط: ولا يَكفر -بالفتح-، قال البخاري : لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي ذر: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، ثم ساق الحديث، فهذا ليس بكفر، فهو لم يكفر، وما استحل هذا، ولو استحل الإنسان هذا فإنه يكفر، إنما هي طياشة بشرية خرجت من غير قصد، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، لكن هذه من خصال الجاهلية، المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يُكفر صاحبها، ولا يَكفر صاحبها بارتكابها إلا الشرك؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، وقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116].
إخوتي الكرام! هذا فيما يتعلق بهذه الجنسية التي هي جنسية حقيقية، وهي في الحقيقة تؤلف بين سائر أفراد البشرية الإنسانية.
هذا آخر الفروق بين شرع الخالق والمخلوق، وبقي أمر نتدارسه في المواعظ الآتية بعون الله، وهو: ما حكم من خرج عن هذه الشريعة الربانية إلى الشريعة البشرية الغوية؟ نتدارس هذا في الموعظة الآتية بعون الله وتوفيقه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر